الروايات التمثيلية
(١) برليوز «رواية تمثيلية جديدة ذات أربعة فصول وتسعة عشر منظرًا للكاتب الشهير شارل ميريه»
مُثِّلت لأول مرة بمسرح بورت سان مرتان في ٢٢ يناير سنة ١٩٢٧.
بزغ «الرومانتيسم» في أفق فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر على يد ثلاثة من كبار الزعماء، فتملك فكتور هوجو دولة الشعر، وهكتور برليوز دولة الموسيقى، وأوجين دولاكروا دولة التصوير، وقد جعل التاريخ برليوز مساويًا تقريبًا لفكتور هوجو في الشهرة، وما زال ليومنا هذا صاحب التاج والصولجان للموسيقى الفرنسية، ولقد عبر عنه بعض النقاد بأنه «الرومانتيسم» المجسم، وصوَّره آخر بأنه «روسو» المستيئس الذي يقوده إلهام عنيف صوب المدركات الموسيقية، وكان عنده الخيال أقوى من روح النقد، وحماسة الخيال الشعري أجود من السيادة الفنية.
ترى في برليوز أن الفن والرجل ليسا إلا وحدة لا تتجزأ، لا تختلف ولا تتنافر، إذ كانت حياته النفسية في اشتعال وتوهج وخياله معذبًا وحساسيته مرهفة، وكانت له مزية خاصة، إذ يشعر ويتألم في الموسيقى، له ذوق يميل دائمًا للعظمة، وفؤاد عميق قلق مضطرب يعرف منتهى الحنان وأقصى الشقاء، ولقد ذاقت نفسه الأمرين بصبر جميل وشمم عظيم.
ومن مميزات برليوز أنه أنشأ فن توزيع الموسيقى على الآلات ونظم له قواعد وأصولًا، وقد وضع فيه كتابًا عظيمًا سماه: «كتاب الفن العصري لتوزيع الموسيقى على الآلات».
وقد ذاعت شهرة برليوز في النقد وكان من أقدر كتاب عصره، وما فتئت مؤلفاته في النقد والتحليل تشهد له بالفضل الخالد، وكان يحرر في عدة جرائد منها: «جازيت موزيكال» و«جورنال دي ديبا» وغيرهما، وكان ظريف الأسلوب خفيف الروح، وتقع مؤلفاته في عشرة مجلدات تقريبًا منها رسائله ومذكراته و«خلال الغناء» و«الموسيقى والموسيقيون» و«ليالي الأوركستر» و«سخفاء الموسيقى» وغيرها.
كان لبرليوز كثير من الأصدقاء وأغلبهم من نوابغ عصره، مثل: فكتورهوجو، والكونت ألفريد دوفيني، وليزت، وشوبان، وباجانيني، وإيميل، وأنتوني ديشان، ولوجوفيه، وبريزو، وأوجين سو وغيرهم، وكان له أعداء يمقتونه مثل: كيروبيني، وكان مديرًا لكونسرفاتوار باريس، وكان يتصنع له صداقة ملؤها اللؤم والخسة، وفيتيس الذي كان وقتئذ مدرسًا بالكونسرفاتوار ثم عيِّن في سنة ١٨٣٢ مديرًا للكونسرفاتوار ببروكسيل ورئيسًا لكنيسة ملك بلجيكا لم يكن أقل عداء له من كيروبيني.
لا ينكر أحد أن فتيس كان عالمًا نِحْريرًا في الموسيقى، ولكنه لم يفلح في التلحين رغمًا من كثرة مؤلفاته من أوبيرات وقطع متنوعة، وقد قُضي على جميع مؤلفاته في وقتها، ولو أن هذا الرجل كان بلجيكيًّا لكنه تلقى دروسه الموسيقية في كونسرفاتوار باريس وحاول أن ينال جائزة روما الأولى فلم يفلح، إذ دخل في المسابقة سنة ١٨٠٦ فأخذ الجائزة الثانية من الدرجة الثانية، وفي سنة ١٩٠٧ أعاد الكرة فلم يفلح أيضًا وأخذ نفس الجائزة؛ أي الثانية من الدرجة الثانية.
أما برليوز فإنه أخذ سنة ١٨٢٨ الجائزة الثانية من الدرجة الأولى، ولكنه دخل في مسابقة سنة ١٨٣٠ فنال جائزة روما الأولى التي تُعطي الحق لحاملها في أخذ مرتب مدى أربعة أعوام، كما أنه يُعطى مصاريف السفر إلى روما ذهابًا وإيابًا، أكل الحسد صدر فيتيس، إذ رأى برليوز سائرًا في سبيل الرقي والشهرة بخطوات واسعات، فأخذ يحمل عليه حملات عنيفة ملؤها الحقد والجبن حتى إنه انتقد السانفوني «فانتاستيك» في جريدة الطان بعنوان يدل على سخافته وهو: «ليس برليوز بموسيقي».
ولكن هذا الهراء قُوبل بالسخرية من أغلب القراء بعدما سحرتهم القطعة بنغماتها الشجية وتعبيرها البليغ.
ومن المدهش أنه حضر الحفلة الأولى التي وقعت فيها السانفوني فافتتن وطفق يصفق بكل قوته حتى أنساه الشجو حسدًا وضغنًا طالما نهشاه في فؤاده.
إن بيكسيس وسبونتيني ومييربير وفيتيس كانوا يصفقون بكل عنف كالهائجين، وصاح سبونتيني عندما سمع «الذهاب إلى العذاب» وهي من ضمن السانفوني المذكورة: «لا يستطيع أن يعمل أحد مثل هذه القطعة إلا إذا كان في منتهى القدرة، فإن هذا شيء خارق للعادة.» ثم عانقني بيكسيس بعد الانتهاء هو وخمسون غيره، ولقد أكرهني ليزت الشهير على تناول الغداء معه ولم يترك تعبيرًا للثناء والإطراء إلا غمرني به.
نذكر على سبيل التفكهة حكمًا من أحكام فيتيس يدل على منتهى السخافة والغباوة، إذ قال في كتابه «تراجم الموسيقيين» عن جان سباستيان باخ إنه أعظم الموسيقيين الألمان على الإطلاق، ثم قال في موضع آخر حينما تكلم عن مميزاته: «له أرموني جريئة لكنها ليست دائمًا صحيحة.» فكيف به يرفعه إلى أعلى عليين ثم يخفضه إلى أسفل سافلين، وكيف يكون أعظم موسيقيي الألمان ويلحن في الأرموني!
الحديث ذو شجون ولو استرسلنا في سخافات فيتيس لخرجنا عن الموضوع، ولكن سكوتنا أمام هذه المسألة الدقيقة يترك القارئ في شيء من الشك والريب، فإتمامًا للفائدة نقول كلمة مختصرة تصور لنا حقيقة باخ وتحلل لنا نفسيته.
مضى على باخ أكثر من قرنين تطورت فيهما الموسيقى والأذواق والنقد، فبذلك تغيرت أكثر الأحكام القديمة وظهر خطؤها جليًّا.
لا يختلف اثنان في أن باخ يعد أعظم علماء الموسيقى في ألمانيا بل في جميع أقطار العالم، وكان في عصره يقدرون الموسيقيين بدرجة تعمقهم في العلم وأصوله وقواعده، ولكن أصبحت هذه المزية لا قيمة لها الآن في عصرنا الحاضر.
يتطلب عصرنا الحاضر أن يكون الموسيقي شاعرًا مبدعًا بمعنى الكلمة، يعبر عن عواطفه ومشاعره بأصوات، ويصف ويصور ما حوله من جمال الطبيعة تصويرًا صادقًا، ويكفيه من القواعد ما يعصمه من الخطأ في التلحين.
عاش باخ طول حياته موظفًا عند بعض أمراء الألمان، وكان همه أن يكون قدوة حسنة للموظفين، وأن يحافظ على وظيفته بالمواظبة وإرضاء رؤسائه، وكان يلحن قطعًا من موسيقى الغرف أو القطع الدينية، ولم تحدثه نفسه أن يكتب شيئًا للجمهور أو يسافر وينتقل كغيره من الموسيقيين لتسعده الأسفار بشيء من النفحات الشعرية، ولم يتجشم حتى الذهاب إلى غابات ألمانيا البديعة القريبة منه ليرى فيها آيات الجمال من أشجار باسقة وخمائل ملتفة وطيور مغردة وأيائل راتعة.
لم يحب قط طول حياته ولم ينكب بفادحة، وكان ضخمًا قوي البنية رزق عشرين ولدًا وبنتًا؛ منهم عشرة من زوجه الأولى وعشرة من الثانية، ولم يعرف شيئًا من الآلام ومتاعب النفس ولم يعضه الفقر بنابه، ينام ملء جفنيه على جنب واحد، وقد أجمع الثقات من النقاد العصريين على أن باخ لم يكن مفكرًا في موسيقاه قبل كل شيء كمن خلف من بعده من كبار الموسيقيين مثل: بيتهوفن وفاجنر وبرليوز، لم يعبر في موسيقاه عن مسراته وهمومه وآلامه في حياته الخاصة، ولذلك كان الرجل لا يمتاز عن غيره إذا أخرجنا منه الفن حتى شبهه أحد النقاد الظرفاء بكاهن القرية.
لنرجع إلى شاتنا كما يقول الفرنسيون، ونعود إلى برليوز ونذكر شيئًا من مؤلفاته وعدتها ٢٨ «أوبوس» مؤلف من فاتحات وسانفوني وقطع دينية وأناشيد وأوبيرات وغيرها، ونكتفي بذكر صفوة مؤلفاته الخالدة مثل: «روميو وجولييت» وهي سانفوني دراماتيك كبيرة وبها «كور» و«سولو» للغناء و«برولوج» بشكل «كور»، وقد أثنى عليها «فاجنر» ثناءً عظيمًا وانتقد منها بعض مواضع، قال: إنها ليست في مستوى القطعة، وقال عنها كاميل سان صانس الشهير: «إنها أرقى ما كتبه برليوز، ولم يترك تعبيرًا في الإطراء إلا ذكره.»
وهي في الحقيقة معجزة فنية تلتهب بالعواطف والنفحات الشعرية وأبلغ التعبيرات الصادقة الصادرة من أعماق النفس، وهذه الموهبة لم يبلغ أعظم شأو فيها غير بيتهوفن وبرليوز، وإن فاجنر نفسه لم يلحق غبار برليوز من هذه الوجهة، ولا ننكر أن فاجنر صاحب مذهب عظيم، وأنه رقى بالتمثيل الغنائي ونهض بفن الأوركستراسيون، وعمل انقلابًا عظيمًا في الموسيقى.
كلنا نعرف باجاتيني وهو عطارد الكمنجة وملحن قدير لم يأتِ قبله ولا بعده من استطاع تقليده، ومن قال عنه ليزت: «من المستحيل أن يخلف باجاتيني أحد، إذ كل من حاول ذلك، ولو أوتي جميع الوسائل المؤهلة فإنه يفتضح أمره ويظهر بمظهر المقلد الكاذب.» وكان باجاتيني هذا حاضر في إحدى حفلات برليوز الموسيقية وبعد الانتهاء ركع أمام برليوز وقال له: «إنك أعظم من بيتهوفن.» ثم أهداه بمبلغ ٢٥٠٠٠ فرنك.
«وطفولة المسيح» وهي من أعظم مؤلفاته الدينية، «وخلود فوست في العذاب» وقد مُثِّلت كثيرًا بالأوبرا المصرية، و«أهل طروادة»، ولم تمثل بمصر مع أنها من المعجزات، و«السانفوني فانتاستيك» وهي من أروع ما أخرجته الموسيقى الفرنسية، وهو الذي هذب نشيد المرسلييز والنشيد المجري ووضع لهما الأوركستراسيون الحاضر.
وقد عُيِّن مديرًا لمكتبة الكونسرفاتوار، وانتخب عضوًا في المجمع العلمي الموسيقي، ومنح وسام اللجيون دونور من درجة أوفيسيه، ونال عدة أوسمة من الممالك الكبيرة، وكان ميلاده في سنة ١٨٠٣ ووفاته سنة ١٨٦٩، ولنكتفِ بهذه الكلمة والرواية فيها الكفاية لتاريخ حياة برليوز.
(١-١) الرواية
لا مراء في أن شارل ميريه مؤلف «اللهب» و«الدوار» و«الأميرجان» و«الإغواء» و«سرير العرس» يعد من أقدر كُتَّاب المسارح الفرنسيين، وهو يعرف جيدًا كيف تركب الرواية التمثيلية، ويعرف كيف ينفذ إلى قلوب الجمهور ويهيمن عليهم، وقد وهب نفحات نادرة في فن المسرح ومناظره اللائقة به.
ابتدأ روايته في عام ١٨٢٧، وكان برليوز في ذاك الوقت طالبًا في الكونسرفاتوار وعمره أربع وعشرون سنة، واختتمها في سنة ١٨٦٩ بموت برليوز، فتكون المدة التي تدور فيها الرواية اثنين وأربعين سنة، وإنها لقدرة نادرة أن يسرد لك في بضع ساعات حياة نصف قرن تقريبًا تشعبت فيه الحوادث وتطورت فيه الأحوال وتغير فيه الزمان، وأظهر لك كل طور في جوه الطبيعي دون أن تشعر بتفكك في أجزاء الرواية أو تناقض تشمئز منه، ولقد وضح لنا حياة برليوز وكفاحه مع البؤس ونضاله مع معاصريه الذين ما فتئوا يتحدونه في كل فرصة حسدًا وبغيًا، وهرولته الدائمة حول خيال الحب، ومن المناظر التي تلفت النظر وتستهوي النفوس؛ منظر القصر الملكي «اللوفر» سنة ١٨٣٠، والكونسرفاتوار سنة ١٨٣٥، وقهوة كاردينال، وقد أظهرت تلك المناظر نوابغ الكتاب والروائيين والموسيقيين مثل: بلزاك، وإسكندر دوماس، وتييوفيل جوتييه، وألفونس كار، وجانان، وفاجنر، وليزت، وأدولف أدان.
ومن ظرفه وسلامة ذوقه أن ربط العصر الماضي بالحاضر، إذ نشاهد برليوز وهو على سرير الموت محاطًا بسان صانس وربير، وقد مات الأول منذ بضع سنين والثاني سنة ١٩٠٩ وكان عضوًا في المجمع العلمي الموسيقي مع سان صانس.
ومما زاد في طلاوة الرواية أن أوركستر بادولو الشهير وقع بين فصول الرواية نخبة عظيمة من مؤلفات برليوز حتى تحمس الجمهور من السرور والإعجاب، وكانت الحفلة غاية في البهجة والرواء.
الفصل الأول
نشاهد حينما يُرفع الستار في الفصل الأول غرفة برليوز سنة ١٨٢٧ بالمنزل رقم ٩٦ بشارع ريشليو، وكانت حقيرة بها بعض أثاث قديم وسرير وبيانو ومائدة مكدسة بأوراق الموسيقى وبجانبها مصباح، وفي ركن آخر «كومود» وعليه قيثارة، ويشاهد أمام المدفأ كانون وبعض آنية للطبخ، وكل ما في الغرفة غير مرتب ولا منظم كعادة أغلب الطلاب، وكان الوقت بعد الظهيرة، وقبل فتح الستار تعزف الموسيقى جزءًا من القطعة الكنائسية المسماة «سان روك».
وكان يقطن مع برليوز في غرفة ثانية في نفس المسكن الطالب شاربونيل وكان يدرس الصيدلة، وهو صديق برليوز ومن البلد التي وُلِد فيها، وقد حضر دورتيج المحرر في جريدة «لاكوتيديين» وصديق برليوز لزيارته فلم يجده فانتظر قليلًا، فحضر شاربونيل قبل برليوز وجلس يحادث ضيف صديقه وأخبره في سياق الحديث أن الدكتور برليوز أراد أن يكون ابنه طبيبًا، وأرسله إلى مدرسة الطب ولكنه لم يستطع أن يستمر في مادة لا يميل إليها، وعكف على دراسة الموسيقى، ودخل الكونسرفاتوار، ولما تقدم لجائزة روما لأول مرة رفضت اللجنة أن تمنحها له؛ لأنهم كانوا يعبدون القديم ويكرهون كل حديث، فلذلك حرمه أبوه من المرتب الذي كان يعيش به، فاضطر أن يعطي دروسًا موسيقية بفرنك واحد للدرس ليستطيع أن يعيش، وما كان هذا البؤس ليثني عزيمته أو يفل من شجاعته فاستمر بصبره المعهود ونضاله حتى تغلب على جميع الصعاب، فقال له دورتيج:
إنني أريد أن أكتب عنه مقالة في «الكوتيديين» وقد أخبرني رفيقه في الكونسرفاتوار المسيو مونفور بأنه يكتب أوبيرا اسمها «القضاة الأحرار»، فدهش من قوله وقال له: إن برليوز قد اعتراه في هذه الأيام قلق واضطراب كبر كان يريد أن ينفجر، وقد حصل له هذا الانقلاب ليلة أن شاهد الممثلة الأرلندية التي تمثل مع الجوق الإنكليزي بمسرح الأودييون.
(دخل برليوز وجلس على كرسي مسندًا رأسه إلى يده دون أن يشاهد شاربونيل ودورتيج، ثم لمح أمامه موسيقى القطع السابقة وطفق يغني ويعمل إشارات التمثيل، ثم اكفهر وجهه وقال: إن هذا سيجعلك غبيًّا سخيفًا! … وفي هذا الوقت كان شاربونيل ودورتيج صامتين منصتين لغنائه وإشاراته، ولما انتهى أقبلا على أطراف أصابع أرجلهما وقدم دورتيج قائلًا: إنه محرر في «الكوتديين» فصافحه برليوز.)
(ثم وقف برليوز على كرسي وأطل من النافذة ليرى الطريق … وفي هذه الأثناء قال):
(ثم دخل عليهم مونفور وحيَّا دورتيج ثم دار الحديث بينهم على غرام برليوز، وبعد لحظة غنى برليوز وهو بجانب النافذة قطعته المسماة «مرثية» واصطحبه على البيانو مونفور ثم سكت فجأة، إذ لمح من النافذة هارييت سمتسون.)
(وأرادا أن يسدا الطريق أمامه.)
أستودعكما الله (ثم خرج حاسر الرأس كالمعتوه، ووقف الرجال الثلاثة هنيهة يشيعونه بنظرهم وهم باهتون).
(تقابل في يوم آخر دورتيج وبرليوز ومونفور في قهوة كاردينال ودار بينهما الحديث.)
(ثم قام برليوز قائلًا): كم الساعة؟
ننتقل بالقارئ إلى مسرح الأوبرا كوميك لنشاهد تحضير الحفلة التي سبق الكلام عليها فنرى الممثلين الإنكليز مع هارييت سمتسون يتمرنون على تحضير الحفلة، ونرى برليوز مع مونفور ودورتيج على مقربة منهم، وعندما تموت جولييت ويرفعها روميو بين ذراعيه يصيح برليوز: ماتت! هل هي التي ماتت! وكان يريد أن يرتمي عليها فمنعه مونفور ودورتيج، ثم حصل هرج بين الممثلين وأومأ «أبوت» الذي كان يمثل دور روميو إلى برليوز وقال: إنه مجنون … ثم قال مونفور لبرليوز: ماذا دهاك؟ قال له دورتيج: ألم تشهد تمثيل روميو وجولييت؟ فأجابه برليوز: حينما رأيتها بثيابها العادية ظننت أنه أُغمي عليها وماتت.
وبعد لحظة ذهب نحو هارييت وقال لها: مدموازيل هارييت سمتسون! إنني … فتقهقرت مذعورة وقالت له: هل توجه إليَّ الخطاب من هذا الشاب؟
ثم أقبل منظم المسرح وأبوت الممثل وأبعدا برليوز بعنف، وقال الأخير مشيرًا إلى برليوز: اطردوه.
ثم أخذ يتهكم منه صاحباه بعد هذا الخذلان، وبعد قليل اتجه صوب الموسيقيين وابتدءوا يوقعون فاتحته «فافرلي»، فأبدى لهم بعض ملاحظات.
ثم أقبل إليه المستر ترفر وقال له: إنني متعهد تمثيل مس هارييت سمتسون، وهي تقول: إنها ستسافر مع والدتها إلى أمستردام، وترجو منك أن تتركها بسلام إذا كنت حقيقة تحبها، فاضطرب من هذا الخبر وشحب لونه؛ فأقبل إليه صاحباه وقال له مونفور: لست في حالتك العادية، ويجب عليك بعد انتهاء مسابقة المجمع العلمي أن تسافر وتذهب إلى بلدك لتغيير الهواء والاستراحة.
حضرت هارييت سمتسون إلى حفلتي جاهلة أنني سأقود الموسيقى، وقد سمعت الفاتحة التي هي موضوعها وسببها الأصلي فبكت، وقد شاهدت بعينيها نجاحي الباهر، ونفذ هذا إلى فؤادها مباشرة ودلتني على ذلك حماستها بعد الحفلة، وقد قدموني إليها فأصغت إليَّ ودمعها ينحدر من مآقيها، وقد سردت عليها مثل عطيل جميع التقلبات التي انتابتني من يوم ما شغفت، فسألتني الصفح عنها لما سببته لي من آلام ومتاعب كانت تجهلها حق الجهل، وأخيرًا في ١٨ ديسمبر سنة ١٨٣٠ في حضرة أختها سمعت منها هاته الكلمات: «إنني أحبك يا برليوز.»
ومن هذا الوقت انحصرت جهودي في إطفاء بركان رأسي؛ لأني خيل إليَّ أني فقدت صوابي، إنها تحبني ولها قلب كقلب جولييت أو هي أوفيلي، وإذ لم أستطع مشاهدتها كنت أكتب لها كل يوم ثلاث رسائل، وكانت تكتب إليَّ بالإنجليزية وأرد عليها بالفرنسية، وهذا ما يدل على وجود العدل في السماء مع أني كنت لا أعتقد بوجوده، وإني مدين في ذلك لفني وفكري، وأما سانفونيتي العزيزة فإني أريد أن أضعها فوق مذبح ثم أحرق لها العطور.
وهذه السانفوني هي «حوادث حياة فني» وهي تشمل «الفانتاستيك» وملحقها «العودة إلى الحياة» مع تنقيح وإضافات من «كور» و«سولي»؛ أي أناشيد وقطع يغنيها فرد أو يوقعها فرد على آلة واحدة.
بعد أن تمت المسابقة الأولى وأخذ الجائزة الثانية من الدرجة الأولى ذهب إلى ميلان «فرنسا» في سبتمبر سنة ١٨٢٨ وهي بلد عائلته، وقد قابل هناك أخته ومدموازيل إيستيل صديقة طفولته، وقد أخبرته أخته «نانسي» أن أباه سر جدًّا حينما انتشر خبر نيله الجائزة الثانية، وقد عزم على الاستمرار على إعطائه مرتبه، ثم أقبلت إيستيل وجلست هنيهة مع برليوز وصارا يتجاذبان ذكريات الطفولة الحلوة وأخبرته في آخر الأمر أنها خُطبت منذ عامين، فكان لهذا الخبر وقع أليم في نفسه.
ننتقل بالقارئ إلى قصر اللوفر في سنة ١٨٣٠ والتاسع والعشرين من يوليه وكانت الساعة الخامسة بعد الظهر في إبَّان الثورة، إذ هجم الثوار على قصر اللوفر بعدما أصلوه نارًا حامية، وكانت باريس تموج بالجموع المحتشدة من فلاحين وجنود وعمال وطلبة والجميع ينشدون الأناشيد الحماسية والثورية، وقد اصطدم وقت الزحام بالمصادفة دورتيج مع برليوز فسأله عما فعل في المسابقة لجائزة روما، فقال له: لقد نجحت وأتممت «الكانتات» «حريق سردينال»، وحينما كنت في المجمع العالي أثناء المسابقة رأيت الحرب منتشبة في اللوفر، وقد نجوت بنفسي بأعجوبة، فهناه دورتيج وأخبره بأن اللوفر قد وقع في أيدي الثوار.
وبينما هما سائران إذ سمع برليوز جمعًا يغني نشيد «مور» من تأليف برليوز، فأسكت المنشدين وقال لهم: ليست السرعة بهذا الشكل، فسكتوا ونظر رئيس المحتشدين إلى برليوز شزرًا وقال له: وماذا يعنيك؟
ثم قال أحد الجنود وهو يحمل العلم الفرنسي: أنشدوا المرسييز.
هلموا أبناء الوطن!
الفصل الثاني
ننتقل إلى نزل «كونجريه» حيث تقيم هارييت في غرفة مؤثثة بأثاث ليس بالفاخر في أغسطس سنة ١٨٣٣، وكانت مستلقاة على كرسي طويل «شيزلونج» وقد أُصيبت رجلها بكسر، وكانت معها أمها وأختها تتمشيان في الغرفة وتتحادثان معها بلهجة الآمر الحانق وتتوعدان برليوز لو حضر إليها، فكانت الأم تقول: إنها ما دامت على قيد الحياة فلا يستطيع برليوز أن يضع قدميه في غرفتهن، وقالت الأخت: لو كنت مفتولة الذراعين لقذفت به من النافذة، فأجابتهما: إن منعتماه يأتي ولا يهاب شيئًا، فلما احتدم الجدال دار الحوار بينهما.
إذا كنت لا تريدين موتي ولو بدافع الرحمة؛ لأني لا أستطيع أن أقول بدافع الحب … أنبئيني متى أراكِ، إنني أسألك الصفح وأنا راكع باكٍ، وإني أنتظر جوابك كما أنتظر الحكم من القاضي.
فضحكت أمها بتهكم وقالت للخادم: مَنْ أحضر هذا الخطاب؟ فقالت: شاب أشقر، فقالت أختها: هو هو! ثم قالت الأم للخادم: قولي له: إن مس سمتسون لا تستطيع أن تقابلك، فاحتجت هارييت على والدتها وصرفت أمها الخادم بإشارة، ثم سمع صوت برليوز صائحًا هائجًا: «هل هي هنا؟ سأراها، اذهبي إلى الشيطان!» ثم فتح الباب ودخل برليوز وهو هائج، وقال لأمها وأختها: «إنكما لا تستطيعان أن تمنعاني من مشاهدتها، اغربا من أمامي وإلا أقتلكما.» وهجم عليهما ففرتا مذعورتين ودخل على هارييت وارتمى على قدميها.
•••
ننتقل بالقارئ إلى ضاحية مونمارتر في سبتمبر سنة ١٨٣٤ وهناك نرى بيت برليوز الصغير وبه حديقة جميلة، ونشاهد برليوز مع زوجته هارييت يتنعمان بالحب ويتناجيان في أسرار هواهما، وقد رُزقا غلامًا اسمه لويس، وقد لبى ليزت ودورتيج دعوة الغداء وأخذوا يتسامرون وقت الطعام بأطيب السمر، ولما شاهد صديقاه اشتغال باله بطفله في كل آونة، قال ليزت لدورتيج سرًّا: أصبح النسر أسيرًا في حظيرة الدجاج.
•••
وفي ٢٤ نوفمبر سنة ١٨٣٩ أقام برليوز حفلة كبيرة في الكونسرفاتوار لتوقيع سانفوني «روميو وجولييت» وقد غص البهو بالأمراء وعظماء الرجال.
(ثم يظهر برليوز على اليمين وأصدقاؤه ملتفون حوله ويسمع التصفيق الحاد والصياح «مرحى مرحى» ثم يعانق بلزاك برليوز.)
(وقد دخلت هارييت هي وابنها منذ هنيهة من الجهة اليسرى وكانت ممسكة بيد ابنها.)
أتعرف ما الذي أكسبه من دخل روميو وجولييت إذا أقمت ثلاث حفلات غير هذه؟ ألف ومائة فرنك.
الفصل الثالث
كانت هارييت بعد زواجها تساورها الغيرة على زوجها وتظن به الظنون؛ فكان ذلك مدعاة لاستمرار المشاحنة بينهما وسوء الظن به، وطفقت تدمن في الخمور حتى ساءت صحتها وتجهم وجهها وفقدت جمالها بعد ثمانية أعوام من زواجها فأصبحت معاشرتها لا تطاق، واضطر برليوز أن يخادن ماري ريتشو خفية ويصطحبها في أسفاره، وبلغ من شراسة هارييت أنها كانت تذهب إلى زوجها في مكتبة الكونسرفاتوار وتضايقه بمشاحنتها الصارخة.
وفي ذات يوم ذهبت إليه ماري ريتشو وكانت بالمصادفة هارييت وابنها هناك، فاضطرم الشجار بينهما بشكل مريع.
ومن كثرة إدمان هارييت على الخمر أصابها شلل واحتقان في الدماغ فكانت تتكلم بصعوبة، ثم عانت المرض والآلام أعوامًا طوالًا إلى أن ماتت في ٣ مارس سنة ١٨٥٤.
وفي شهر يونيه سنة ١٨٥٥ دعا المسيو سانتون العازف على الكمنجة الفرنسي الشهير وكان مقيمًا بلندرة برليوز وفاجنر، فلبيا دعوته، وكان بجانب سانتون صحفي يكتب مذكرات أثناء حديثه.
(وبعد قليل استأذنت مدام برليوز وانصرفت إلى الفندق الذي نزلت فيه هي وزوجها، ورجت من زوجها أن لا يأكل من الأطعمة التولوزية لئلا تتعبه، فلا يستطيع أن يقود الأوركستر في المساء.)
(ثم ضحك الاثنان.)
(ثم يتعانق الاثنان.)
الفصل الرابع
(ماتت ماري ريتشو زوجه الثانية في ١٣ يونيه سنة ١٨٦٢، وعاش برليوز وحده مع والدتها مدام سوتيرا دوفيلاس، وكان يفد إليه ابنه لويس وقت إجازته، وفي شهر يوليه من هذه السنة كان ابنه يتحادث معه ويسأله عما حل بالأوبيرا المشهورة «أهل طروادة»، فقال له: إنها تئن في محافظ الأوبيرا ولا أعلم متى يحضرونها، وبينما هما يتحادثان إذ دخلت عليهما الخادم وأعلنت قدوم فتاة، فسأل عن اسمها، فقالت: إنها رفضت أن تعلنه.)
•••
في شهر أكتوبر سنة ١٨٦٢ كان برليوز جالسًا على مقعد في منتزه مونسو فمر عليه لوجوفيه الكاتب الشهير، فجلس بجانبه يتجاذبان أطراف الحديث، ثم أخرج برليوز خطابًا من جيبه ناوله للوجوفيه.
ننتقل بالقارئ إلى مقبرة مونمارلتر في صيف سنة ١٨٦٤ وقد كسا الربيع المقبرة بحلله القشيبة السندسية المزهرة حتى أصبحت كالحديقة الغناء، وكان الحارس واللحاد يتحادثان، وفي هذه الآونة أقبل برليوز وهو مرتدٍ ثيابًا سوداء يمشي بخطوات ثقيلة كأنه طيف خيال، فحياه الرجلان بإجلال فرد عليهما التحية، ثم ذهب إلى قبر ووقف أمامه.
(سار برليوز في طريق آخر فلمح مقعدًا فجلس فوقع نظره على رمس جديد، فسأل الحارس: لمن هذا الرمس الذي لم أره قبل اليوم؛ لأني أمرُّ نادرًا في هذا الممر؟)
ننتقل إلى منزل برليوز في ٨ مارس سنة ١٨٦٩ وكانت مدام سوتيرا دوفيلاس حماة برليوز تهيئ مخدات على كرسي (فوتيل)، فأدخلت الخادم المسيو ريير الملحن الشهير.
(ثم اعتدل على كرسيه ورفع ذراعه، وطفق يضرب الوزن، فاقتربت منه الأموات وأحاطوا به ثم مالت ذراع برليوز وفارق الوجود.)
(٢) عنترة «مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم شكري غانم»
ينتمي هذ الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي، وله ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة ١٩٠٠، وروايتان مُثِّلتا بالأودييون سنة ١٩٠٥ في فصل واحد وهما «وردة» أو «زهرة الحب» و«ربع ساعة من ألف ليلة وليلة»، ورواية قصصية كبيرة تسمى «دعد»، وأهم رواياته التمثيلية عنترة، وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية، ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو، وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل دور العجائز، وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالأنفلوينزا منذ بضع سنين وقد قام بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص.
ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يومًا، وقد سحروا الجمهور بإبداعهم النادر، وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه.
اشتهر مورينو بحسن إلقائها ونبرات صوتها الموسيقي، وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد سارة برنار وتضيف إلى ذلك قدرًا كبيرًا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها الخالية من كل تكلف، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث، وقد مثلت دور ابن نابليون في النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك، وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة ١٩٠٩ إلى الآن.
مثِّلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية، ثم مثلها مسرح الأودييون بباريس في ١٢ فبراير سنة ١٩١٠، فلاقت إعجابًا شديدًا ونجاحًا باهرًا، وقرظتها أغلب الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والأكلير والدييا والطان والليبرتيه ومجلة التياتر المصورة والأوبنيون، كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ملحقها الشهري سنة ١٩١٠، وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة، وتفكيرها العميق، وتحليلها الأخلاقي، ومناقشتها الطلية، وعواطفها المشتعلة، ورقتها ومواقفها الفنية الرائعة.
ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن اقتراب ظهور النبي ﷺ وما سيكون له من شأن خطير، كما نوَّه بإعجابه الشديد ببلاغة القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي، فجزاه الله خيرًا ورحمه رحمة واسعة.
المنظر الثالث «من الفصل الرابع»
(عنترة، ثم شيبوب ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص يدخل عنترة في الحال.)
(يسمع صوت شيبوب من بعيد.)
ها هو ذا شيبوب، هل يقوده؛ لأني أرى شبحين(ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرًا من يده.)
لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع إذن الحياة.(مخاطبًا عنترة الذي يقترب منهم.)
لا جدال ولا ريب! فإنه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل.(يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة، وكان شيبوب يتكلم وهو سائر حتى يصل إلى عنترة.)
لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى إنني كدت أن أحمله.(ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه.)
آه! وزر!أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتًا وهم أحياء؟ كلا، ثم كلا، وأقسم بهذا الهلال الصدفي الذي بزغ في السماء، إنني لا أستطيع أن أقترف مثل هذا الإثم، إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة … فهل تثق بي إذن؟
(ثم يوجه الكلام إلى عنترة) وهذا ما أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه وموته في سبيل إنقاذ بلاد العرب.
اصغِ لي يا وزر: فإني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى أن يبلغا نفسك السوداء، وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى صديقًا للملك المنذر؟
(ينوه في هذه الفقرة عن اقتراب ظهور النبي ﷺ ونزول القرآن.)
(وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت عيناه على جثة وزر.)
ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه وأصبحت جثة بمثابة نذير، إلهي إنما أنا عبدك وخادمك، إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتني هذ الميتة بل على الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصاد، يا لهذه الجثة! إنني وَجِل، وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء، ما انتابني قط الخوف فكيف حلَّ بي الآن، وإذا كان الإنسان في الحروب مِقدامًا جريئًا فهل يكونه دائمًا في كل المواقف؟(ثم يسوق الكلام إلى شيبوب) هل تمكنت من مشاهدة عبلة وتطمينها؟
الفصل الخامس
(يأتيان من المعسكر والوهن بادٍ على عنترة وهو متوكئ على كتف شيبوب.)
أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسًا سقط عن جواده في ميدان المجد والفخار؟
عنترة! إنني كالسكرى من هذه الضحية وذلك الألم، فالوداع الوداع! وآمل أن لا تلين عَبَراتي من قناتك، ثم يتعانقان.
اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، إن نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا، وسأبذرها في الهواء لتكون ذرات حياتي هذه بمثابة حرس عظيم، ثم أحرسكم جميعًا فيما بعد من أعالي السماء.
(ثم يعود إليه شيبوب.)
(ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ويذهب.)
سأموت الآن بغير شهود ونعمَ ما فعلت، إنني أستطيع الآن أن أعبر عن آلامي ويتسنى لعينيَّ أن تبكيا دون أن تسيل عَبرات الآخرين، لقد خارت قواي ولكني ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفي وآلامي (ثم يخترف شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه عنترة).والشمس لا تفترق عنا، إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت، أيتها الشمس اذهبي إلى ذويِّ وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة وفي الممات، الوداع يا أماني الحب والمستقبل الزاهر، أواه! إنني أشعر أن البرد يغير عليَّ شيئًا فشيئًا، وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني؟! هل هذه وطأتك أيها الموت؟ مهلًا مهلًا، فإني أنا الذي أهاجمك وأشد عليك دون وَجَلٍ، لأمتطِ الجواد والرمح في يدي كما كنت من قبل، وسأجبرك أن تخضع لأمري وسيقود ذراعي سيرك الأعمى الأحمق.
(ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير) والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق، يخيل إليَّ أني أنام نومًا هادئًا وأرى سربًا من الطير آتيًا من المشرق، يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود، ولكنه حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها أيام الأمل والحب والحرب، إن الماضي يُعرض أمامي وأرى أول الكفن، أي أيام الطفولة، إن خيوطك لمن خز وعسجد وأنت وحدك اللامعة الزاهية، إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، وهذا كفني يطويه الموت بأصابعه وهو يدفنني في طيات حياتي، لا تتحرك يا عنترة، يجب أن يراك العدو حينما يقبل مستعدًّا للكفاح.
(ثم يسلم النفس الأخير ويميل برأسه ويبقى جسمه منتصبًا معتدلًا مستندًا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة، وفي هذه الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة، فلمع سلاحه وهو راكب جواده.)
(٣) الغادة ذات الكامليا
(٣-١) تحليل ونقد
ألكسندر دوما الصغير، علاقته بماري دوبليسي، فضله ومكانته في التأليف التمثيلي، الغادة ذات الكامليا، لاترافياتا، ترجمتها إلى العربية، تمثيلها بمسرح رمسيس، يوسف بك وهبي والسيدة روزاليوسف وعزيز أفندي عيد.
ولد هذا الكاتب الشهير بباريس سنة ١٨٢٤ وتوفي سنة ١٨٩٥، وكان ابنًا دعيًّا للروائي الشهير دوما الكبير، وكان جده الجنرال دوما هجينا دعيًّا أيضًا، إذ حملت به أمه وهي إحدى زنجيات جزيرة هاييتي من المركيز لابايتري بلا عقد بمدينة جيريمي بهاييتي وهي إحدى جزر الأنتيل، وما أردت سرد هذه الأسرار إلا لأبين نفحاتها على المؤلف وتأثيرها العظيم في رواية الغادة ذات الكامليا ودفاعه عن النساء الساقطات؛ لأن هذه المسألة هي «قضيته الشخصية».
يعد المترجم له من أقدر الكُتَّاب في الروايات القصصية والتمثيلية في القرن التاسع عشر، ومن مزاياه أن يهيمن احترامه على الجمهور في المسرح ويواجهه بصدماته ويسيطر عليه ويخضعه، تمثيله ذو نشاط وعمل وسرعة حماسية وروح جذابة في التعبير، لغته تنم عن القوة والثبات، ومحادثاته المسرحية ملأى بالحماسة وتبهر بنكاتها الأدبية.
ولع دوما بالنظام والظرف، واشتهر بطلاوة أسلوبه في المحادثة والقصص، كما أنه كان من المولعين بالفنون الجميلة، وكان رقيق الشعور يتألم من الرذائل والمساوئ ويحاربها بعزيمة ماضية لا تعرف الملل، وقد أعطى لغته شكلًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا عظيمًا، وكان غرضه الذي يرمي إليه تعضيد المجتمع الإنساني بإصلاح الأسرة التي يجب أن تؤسَّس على الحب لا على المال، وحينما كان يحارب الأوهام الفاسدة يشتبك مع الجمهور في حرب عوان، ولكنه لمهارته وجرأته وشدة عارضته وقوة أحكامه المنطقية وما وهب من الاستعداد أصبح واثقًا من الانتصار عليه والظفر به، حتى أصبح من أنبغ الروائيين في القرن التاسع عشر.
(٣-٢) ماري دوبليسي
كانت تُعرف أيضًا باسم الغادة ذات الكامليا؛ لأنها كانت مفتونة بأزهار الكامليا وتزين بها صدرها وآنيتها، واشتهرت بجمالها وعيشة البذخ والترف، وقد ولدت بمدينة «فوان» بمقاطعة «أرون» سنة ١٨٢٤، وماتت بالسل بباريس سنة ١٨٤٧ وهي في ربيعها الثالث والعشرين، وقد هام بها دوما الصغير واتخذها صاحبته وخلد ذكرها بروايته القصصية والتمثيلية.
(٣-٣) الروايتان القصصية والتمثيلية للغادة ذات الكامليا
كتب المؤلف روايته القصصية سنة ١٨٤٨، ولا حاجة لذكر الموضوع فقد سبقني كثيرون وذكروه في تقاريرهم بل أكتفي الآن بتحليلها.
يتساءل الناس: لِمَ حازت هذه الرواية هذا القبول والنجاح وأبكت السامعين مع أنها ليست بأعظم ما كتب المؤلف؟ فنجيب بأن هذه الرواية هي تاريخ حقيقي للمؤلف مع صاحبته ماري دوبليسي، ودفاع مجيد عن قضيته الشخصية وعن حبيبته، فهي تفتن بسرعة ارتباط الحوادث ببعضها، وإنشائه السهل الذي لا يشوبه تكلف، وعواطفه المتأججة.
وقد انتقد البعض المؤلف ولاموه على تعضيد نظرية فاسدة ضارة بالنظام الاجتماعي، وهي تجديد شرف الساقطات بحب الشريف من الرجال، ولكنه ليس بأول كاتب اتبع هذه النظرية وقد سبقه كثيرون من زمن مديد، ولم يعد دوما هذه النظرية بشكلها القديم ولكنه أتانا بشكل حديث مؤثر حتى استطاع أن يبكي العيون الجامدة، وما وسع الناس بعدئذ إلا أن يهنئوه ويفخروا به.
ثم استخرج روائينا من تلك الرواية رواية تمثيلية مُثِّلت لأول مرة بمسرح الفودفيل في ٢ فبراير سنة ١٨٥٢ وقد أحدثت انقلابًا عظيمًا في فن التمثيل، ولم تَكُ هذه الرواية جديدة بالنسبة لموضوعها أو فكرتها أو لأن الكاتب اختار موضوعًا جديدًا في مذهب «الرومانتسم» وهو استرداد اعتبار البغي وأعاد «ماريون دولورم»؛ بل لأنه أتي بشكل جديد وأظهر على المسرح مناظر وملابس الحياة الحاضرة، وأسس كوميديا الأخلاق الحديثة التي تشمل أخلاق العصر الحاضر في دائرتها وشكلها الحقيقي؛ ولذلك اقتفى أثره أغلب كتاب الروايات التمثيلية الذين انضموا في سلك مذهب «الريياليسم»؛ أي مذهب الحقائق.
كل هذه الظروف والاعتبارات التي شملت هذه الرواية جعلتها أكثر تداولًا من جميع روايات المؤلف ولو لم تكن أهمها؛ لأن روايته الأخيرة «فرنسيون» التي مُثِّلت لأول مرة سنة ١٨٩٧ تعد صفوة مؤلفاته التمثيلية، وقد مثلها الممثل الشهير «ألوبارجي» بالأوبرا الملكية من خمس عشرة سنة تقريبًا.
وكانت بعض روايات «دوما» يشوبها شيء طفيف من العيوب لتقليده للروائي الفرنسي «سكريب»، والخشونة في بعض المواضيع، والتكلف، والأحكام المنطقية التي تبعد من المعقول أحيانًا، ولكن هذه الشوائب تبررت بظهور «فرنسيون» ودلت على نفحات جديدة أتت من فج عميق وأسعدت كاتبنا بهذا الرقي الباهر.
(٣-٤) لاترافياتا
عزيزي لوكاردي
لم أكتب إليك بعد التمثيل الأول «للاترافياتا»، وإني أكتب إليك الآن بعد التمثيل الثاني، ولقد كانت النتيجة سقوطًا بل سقوطًا تامًّا ولا أدري على من يقع الخطأ؟ وأفضل الأمور السكوت، كما أني لا أريد أن أقول شيئًا عن الموسيقى ولا أتكلم عمن ساعدوني.
(٣-٥) ترجمة الرواية
ليت شعري! هل يجد الإنسان ما سردناه من المزايا النادرة من تلك البلاغة الساحرة، والتحاليل البسيكولوجية والأخلاقية، والفكاهات الرقيقة، والروح اللطيفة، والأبحاث الاجتماعية، والعواطف الملتهبة، والفن التمثيلي الذي يهيمن على السامعين بتأثيره ونظامه في الترجمة العربية؟
كلا ثم كلا، إذ لم يقدر المترجم شيئًا من تلك المزايا بل أبرز لنا شكلًا لا يزيد عن الهيكل العظمي للرواية بعبارة ركيكة.
(٣-٦) تمثيل الرواية بمسرح رمسيس
أول شيء لفت نظري حينما فتحت برنامج الحفلة هذه الجملة: «تفتتح الحفلة بمارش رمسيس تأليف وتلحين يوسف بك وهبي»، فقلت: هذا فضل جديد كنت أجهله وانتظرت على جمر الغضا توقيعه، ولكن سمعنا لحنًا غريبًا ضئيلًا مريضًا واستغرب منه صديقي أيضًا الذي كان بجانبي، وهو من المولعين بالموسيقى والتمثيل وله ذوق عظيم فيهما.
رفع الستار في الليلة الأولى في الساعة التاسعة والنصف، وانتهى التمثيل في الساعة الثانية صباحًا، وهذا حالنا دومًا نحن معشر المصريين لا نظام لنا ولا ترتيب.
رأيت المناظر والملابس جميلة ولكن ينقصها كثير من الذوق السليم لا سيما ملابس النساء وترتيب شعورهن، إذ كان يسود عليهن الشكل «البلدي» ونسين أنهن يمثلن نساء باريسيات!
إن ما رأيته في تمثيل هذا الجوق لا يمتاز بشيء محسوس عن الأجواق الأخرى التي تفككت أو الباقية إلا بالملابس والمناظر، ومن العيوب السائدة فيه عدم حفظ الأدوار والاستعانة بالملقن، كما أن الإشارات والحركات رديئة خصوصًا عند السيدات، وكانت السيدة فاطمة رشدي ذات حركات «بلدية»، وقد لفتت الأنظار بالضحك وقتما كانت تشرح كيف خسر زوجها المحامي قضيته، وحُكم على الذي دافع عنه بالأشغال الشاقة، إذ كانت تحرك كتفيها ويديها وتضرب على كفيها، وكان على مقربة مني أحد الشبان الراقين من المشتركين في الأوبرا الملكية، فقال: «أظن أن القضية كانت أمام محكمة الأزبكية.» فأغرق الحضور في الضحك لهذه النكتة الظريفة التي تناسب المقام.
أهم أدوار الرواية ثلاثة وهي: دور أرمان ليوسف بك وهبي، ومرجريت لروزاليوسف، ووالد أرمان لعزيز أفندي عيد، دخلت المسرح وكلي آمال واشتياق، ولكن ما لبثت أن خابت كل الظنون وشككت في أنه درس دراسة تامة ونال بعدها دبلومًا، رأيت فيه جمودًا في الجسم، إلقاؤه يكاد يكون على وتيرة واحدة خالٍ من العواطف، حتى إن تمثيله وسحنته لا يدلان على شيء منها، وربما كان أليق قليلًا في نوع آخر كالحزن أو الكلاسيك أو غيره، وهذا ما لا أستطيع الحكم به قبل مشاهدته.
وإذا قارنا بينه وبين عبد الرحمن أفندي رشدي وجدنا الأخير أميز بمراحل، ولو أنه لم يتلقَ التمثيل على أحد بل درسه من كثرة مشاهدة الأجواق الأجنبية المشهورة التي كانت تؤم البلاد، كانت روزاليوسف أمهر من باقي الممثلين في عدم التكلف في حركاتها وإشاراتها، وقد أبكت كثيرًا من الحاضرين واغرورقت عيني ولو أني لم أعجب بتمثيل الرواية بعدما شاهدتها من كثير من مشاهير فحول الكوميدي فرنسيز ممن زاروا مصر.
والذي ينقص الآن هذه الممثلة نشاط الحركات وقوة الصوت وسرعة الإلقاء، وقد سمعتها منذ اثنتي عشرة سنة في نادي الألعاب الرياضية هي وعزيز أفندي عيد تمثل «يا ست ما تمشيش كده عريانه»، وكانت وقتئذ نشيطة في الحركات رشيقتها رنانة الصوت، أما عزيز أفندي عيد فلا يليق إلا للنوع المضحك، وكان دوره في والد أرمان رديئًا جدًّا بعيدًا عن مهابة الآباء وحنوهم ورزانتهم بصوت خشن أبح وحركات مضحكة، وقد ترحمت على أبي العدل أفندي وقلت: حبذا لو كان حيًّا ومثَّل لنا هذا الدور الذي لا يحسنه غيره.
وأملنا أن يعطي وهبي بك لهذه الملاحظات عناية تامة ويحسن اختيار الروايات وتعربيها.