الأبحاث الموسيقية
(١) الموسيقى في مصر
لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من الضروريات عند كل الطبقات، وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية، وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية والرقي.
الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له؛ لأن كثيرًا من الحالات النفسية العميقة لا يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلًا سهلًا:
إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟ أعد الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ علامات الحزن على وجهه، ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق الشعور.
إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان أولى بها أن تسمى لغطًا وجلبة تصدع الرءوس وتسئم النفوس.
لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيبًا يقارب الضروريات، ولكنها متقهقرة في الموسيقى، ولم نرَ واحدًا من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال، ولا يتأتى بلوغ هذه الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كافٍ من الثقافة العامة ولا سيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة؛ لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان العواطف.
إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتربوان، وتوزيع الموسيقى على الآلات؛ نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الأرموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية، أما الكونتربوان فإنها تتمشى مع موسيقانا ولا تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة.
إن موسيقانا لا تتعدى على الجملة: الضروب والمقامات، وهي لا تؤهل الإنسان للتلحين ما لم يكن الموسيقار قد وُهِبَ استعدادًا طبيعيًّا وموهبة فنية وذوقًا سليمًا كالشيخ سلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عثمان، وبهم استرشد ومنهم اقتبس جميع ملحنينا العصريين.
المشتغلون بالموسيقى في مصر هم المحترفون والهواة وصبية رياض الأطفال وصبيات السنتين الأولى والثانية من مدارس البنات الابتدائية والجيش والبوليس والملاجئ، وسنتكلم عن كل طائفة منهم.
إن المحترفين من عازفين ومغنين ومنشدين وملحنين يقنعون بالوصول إلى درجة متوسطة أو دونها، وليس عند أغلبهم ميل إلى الفن، والغاية التي ينشدونها هي كسب العيش بدرجة يُغبطون عليها من القناعة.
والهواة من الشبان يكتفون بحفظ بعض البشارف والسماعيات وجانب من المارشات والأدوار دون أن يهتموا بقواعد الفن وأصوله.
وأما الفتيات فأغلبهن يتعلمن منهاج المرحومة ماتيلده على البيانو ويقلقن به الجيران إلى ما بعد منتصف الليل، ولا يعزفن نوتة واحدة.
ويُستثنى منهم أفراد قلائل من الشبان والفتيات بلغن غاية عظيمة ويقولون دائمًا: هل من مزيد؟ ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
اغتبطنا حين رأينا مدة انعقاد المؤتمر الموسيقي أطفال رياض الأطفال ومدارس البنات الابتدائية يمثلون قطعًا استعراضية تمثيلية غنائية في غاية من الرواء والإتقان، ويمثلون أدوارهم برشاقة واسترسال، ويغنون ألحانها غناء صحيحًا شجيًّا، وقد أعجب بهم أعضاء المؤتمر أيما إعجاب، ويسرنا أن نرى وزارة المعارف مهتمة بتنفيذ قرارات المؤتمر الذي أوصى بنشر التعليم الموسيقي في المدارس الابتدائية والتجهيزية، إذ قررت الوزارة في هذا العام تعليم بنات السنة الثانية من المدارس الابتدائية.
أما موسيقى الجيش والبوليس والملاجئ فقد ترقت كثيرًا في السنوات العشر الأخيرة ولا سيما موسيقى البوليس فإنها تعزف كثيرًا من القطع الإفرنجية ومنتخبات الأوبرات المشهورة، فضلًا عن القطع العربية الراقية، كما أنهم اهتموا بتوحيد طراز آلاتهم حتى يكون فيها انسجام، وهم يعزفون عليها بلباقة وحسن تعبير ورقة لم تكن موجودة فيما مضى.
وإني أورد مثالين يظهران شدة الاهتمام بالموسيقى والتضحية العظيمة في سبيلها:
كلنا نعرف هكتور برليوز أعظم موسيقي أنجبته فرنسا، وكان في أول أمره طالبًا في مدرسة الطب، وكان أبوه طبيبًا فلم يجد الولد في نفسه ميلًا إلى الطب ورجا والده أن يدخله في معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل الكونسرفاتوار، فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فاضطر أن يعطي دروسًا موسيقية بفرنك واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع الرومانتيسم في الموسيقى في فرنسا، والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى بدرجة لا تجدها في المصريين.
كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جمعيه في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى لجمع «البجم» من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة.
كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع والكسيلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الأحجام والكيزان الصفيح المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث «دوكة» مخصوصة وقت التوقيع، وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم نصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة.
إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن تزين بها تيجان الملوك.
إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو أكثر من مائة وزن (الضروب)، ولكن أين النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين.
إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الألحان القديمة ثم يخلطونها بشيء من الموسيقى الإفرنجية المنحطة التي نسمعها في أفقر المقاهي الإفرنجية، ويظنون لسذاجتهم أنهم جددوا الفن ونهضوا به، وما دروا أنهم شوهوه وفضحوه، وهذا جرم كبير لا يُغتفر، عيَّرنا به كثير من المستشرقين.
كانت الموسيقى المسرحية قد خطت أول خطوة في سبيل النجاح، ولكن القائمين بأمرها لم يحسنوا إدارتها، وكان ينقصهم الحزم والتدبير والذوق الفني؛ فلذلك فشل المشروع في عامه الثاني واستمرت الموسيقى المسرحية في التمثيل الهزلي، والحمد لله قد نشطت هذه المسارح وسارت في سبيل الرقي لولا ما يصادفها من عقبة لم تذلل وهي ندورة المطربين والمطربات الحائزين للأصوات الجميلة القوية الرنانة والثقافة الموسيقية الصحيحة.
إننا معشر المصريين مقصرون في تجميل بيوتنا وإنعاشها بالفنون الجميلة حتى نسكن إليها بعد عناء العمل، ونجد فيها من وسائل السرور والأنس ما ينسينا آلامنا وينعشنا ويجدد قوانا.
نجد الأسر الإفرنجية تهتم بتعليم أبنائها الموسيقى، وتُعنى ربة الدار بنظام الحديقة وتنسيقها حتى تصبح جنة مصغرة ترتاح إليها النفوس المتعبة، وفي المساء تجتمع الأسرة فتحيي حفلات موسيقية ترقص لها القلوب وتنسى فيها الهموم والآلام.
أما بيوتنا التي تجردت من جميع مظاهر الجمال والأنس حتى نفرت منها النفوس، ولم يطق الأبناء أن يطيلوا المكث فيها فينصرفون إلى المفاسد من تجوالهم ومعاشرة ذوي الأخلاق الضعيفة، فلا يلبثون أن تتسرب إليهم عدوى الرذائل ويصبحون في عداد الحشرات المؤذية.
إن الموسيقى لغة القلوب، ومهذبة الأخلاق، ومرققة الطباع، ومبددة الهموم والأشجان، وخير لنا أن نهتم بها في أوقات فراغنا ونسعى في رقيها حتى نعيد عصر زرياب وإسحاق الموصلي.
(٢) بيتهوفن «للفيلسوف العظيم والكاتب الكبير إيبوليت تين»
يلزمك يا ولهلم أن توقع لي الآن السونات التي من مقام السول مينور، ألا تعرف المؤلِّف؟
لم أكن مصغيًا لك ومسايرًا؛ لأني كنت أفكر، فأرجو منك أن تعيد القطعة الثانية التي من المقام الكبير (الماجور).
فأعاد هذه القطعة الثانية وهي مشجية مؤثرة، فكان الغناء ذو الأصوات الرائقة البلورية تزحف فوق الأصوات المؤتلفة فيختفي ثم يظهر وينشر التفافه المتموج، كجدول ينساب وسط المروج فيُخيَّل إليك في بعض الأحيان أنه أنين الناي، وفي الغالب تكون كصوت رخيم شجي لعاشقة حزينة، وتارة ينقطع هذا اللطف وتلك الرقة وتظهر ثانية النفس الهائجة وتثب أنغامها ثم تهوي كماء يتحدر بين الجنادل أو كأهواء نفس رقيقة أو كأصوات رنانة لها انسجام غريب، ثم تسقط كل هذه الأصوات وتختفي ثم تصعد جموع من أصوات صغيرة خفيفة الحركة ثم تهبط وتتابع كأنها ارتجاف أو اضطراب أو خرير ماء شجي.
ولتقود اللحن إلى مجراه الأول كانت الأنغام ترجع إلى سيرها الموزون، وكانت لججها الرائقة تجري للمرة الأخيرة وهي أكثر تعرجًا وأعظم مما رُئِيت في موكب من أصوات رنانة فضية، اضرب دائمًا من بيتهوفن يا ولهلم ولكن أطل في هذه المرة واضرب كل ما يخطر ببالك، فاستمر أكثر من ساعة، ولم أنظر ساعة الحائط، وكنت في هذا اليوم مفتونًا بالسماع ومكبًّا عليه أكثر منه.
وقد ضرب في بادئ الأمر اثنتين أو ثلاثًا من السوناتات بأكملها ثم أعقبها بقطع من السانفوني والسوناتات المخصصة للبيانو، والكمنجة ولحن من فيدليو وقطعًا أخرى لا أعرف أسماءها.
وكان يصل هذه القطع المتفاوتة ببعض أصوات متوافقة منسجمة، وبعض سكتات كقارئ فتح ديوان شاعره المحبوب، فتارة يقرأ في وسطه وطورًا يقرأ في آخره، فينتخب أحيانًا فقرة ثم يبحث عن غيرها حسب تأثره الوقتي.
لبثت مصغيًا لا أتحرك وما فتئت عيناي تحدقان بالمدفأ فتنبعث حركات هذه النفس العظيمة التي انطفأت كما يتفرس الإنسان في سحنة حية ليقرأ ما ارتسم عليها من العواطف، إنها لم تخمد إلا في ذاتها ولكنها ما زالت أمامنا حية خالدة في بطون هذه الأوراق المسطورة، إن الشهرة العامة تكون في مكانها ظالمة جائرة! ولقد عرف بأنه أمير الموسيقى في العظمة الهائلة والآلام المبرحة، وقد حُددت هناك مملكته، ولم يُمنح من الملك غير أرض مقفرة اكتنفتها الأعاصير الهوج فأصبحت يبابًا فخمة تماثل الأرض التي عاش فيها «دنت»، إنه يملكها ولا يستطيع موسيقي غيره أن يلجها، وقد استوطن غيرها.
إن أجمل وأنضر رياض الخلاء، وقد أنبتت من كل زوج بهيج، وأعطر الوديان الباسمة ذات الظلال الوارفة والأزاهير الرشيقة الفيحاء، وأرق نسمات السحر العليلة الخجلة، كل أولئك ملكه وفي حوزته، ولكنه لا يدخل فيها نفسًا وديعة هادئة؛ لأن الفرح كالألم يهزه كالريشة في مهب الريح.
إن إحساسه اللذيذ عنيف وما هو بسعيد بل مذهول، مثله كمثل رجل قضى ليله حليف الهموم والأشجان فأصبح يلهث من الألم وظل يخشى أن يفاجئه نهار أسوأ من ليله، لمح فجأة منظرًا طبيعيًّا جميلًا عليل النسيم مخضلًا بالندى فارتجفت يداه وتنهد تنهد من تخلص من كروبه واعتدلت جميع قواه بعد انحنائها ورزوحها، واندفاع سعادته لا يذلل كوثبات يأسه، تتهافت نفسه على كل لذة، سعادته مؤلمة وما هي بهنيئة. إن قطعه التي كتبها من سرعة «الليجرو» تقفز كالأمهار الطلقة فتعبث بالمروج الزاهرة وتهشم ما تصادفه وقت جماحها، وأشد وأعنف منها قطعه التي من سرعة «برستو» ولها جنون لذيذ ووقفات فجائية مختلجة، وقطع تماثل سرعتها خَبَبَ الجياد ولكنها غير منتظمة ويطرق «فوجها» الرنان على ملامس البيانو، وبينما تراه وسط فرحه الأحمق، إذ سطا الجد الفاجع فلم يغير سيره ويهجم عقله إلى الإمام بنفس العنف كأنه يخوض غمار المعمعة، وهو ثمل دائمًا بعنيف سرعته ولكن بوثبات غريبة وخيال خصيب، حتى إن المشاهد ليقف مذعورًا من عنفوان هذه الحياة الوحشية وكثرة هباته وحركاته الفجائية، وجماح تنويعاته غير المنتظرة التي تنقطع وتتضاعف بشكل لا يبلغه التصور ولا يخطر على البال، وكل ذلك يعبر عن تلك الحياة دون أن يستنفدها …
ثم قال لي ولهلم: «الآن أعرني إصغاءك» ثم ضرب القطعة النهائية من السونات الأخيرة.
إنها لجملة تتركب من سطر واحد بطيئة تعبر عن حزن لا حد له، تتردد بدون انقطاع كتَأَوُّه طويل، ويسمع تحتها أصوات مختنقة متسلسلة، وكل لهجة تمتد على ما يتبعها ثم تخفت وتغيب كمثل صيحة انتهت بتأوه؛ بحيث إن كل شعور جديد بالألم كان يحفه موكب من الشكاوى القديمة، وكان يميز وسط أنين الشكوى المرة الصدى الخافت للآلام الأولى، ولست ترى في هذه الشكوى غضاضة أو غيظًا أو هياجًا.
إن القلب الذي أصدرها لم يعترف بأنه بائس تعس، ولكنه اقتنع بأن السعادة مستحيلة، وإنه ليجد الدَّعَة والسكينة في هذا الاستسلام والخضوع كمنكود سقط من عَلٍ فتهشم، فطفق ينظر إلى الجواهر المتلألئة في السماء والتي رصعت بها قبة ليلته الأخيرة فينفصل عن نفسه وينسى واجبه، ولا يفكر مطلقًا في إصلاح ما استحال إصلاحه، ويسكب صفاء الأشياء الإلهي في نفسه لطفًا خفيًّا ويفتح ذراعيه اللتين لا تستطيعان أن تنهضا جسمه المتحطم، ويمدهما صوب الجمال الخالد الذي يلمح خلال هذا العالم المحفوف بالأسرار.
نضبت عبرات الألم دون أن يشعر لتمهد ذرف دموع نشوة النفس وقت تجردها، وبالحري ليندمجا في قلق مُزِجَ بالملذات.
وفي بعض الأثناء ينفجر يأسه فلا يلبث أن يفيض الشعر، وتنتشر الألحان الحزينة الفاجعة وهي ملفوفة بأصوات مترافقة فخمة لا يدركها الوصف، ثم يطفو العظيم منها ويغطيها جميعًا بانسجام مؤثر.
وفي النهار بعد جلبة عظيمة ومعركة عنيفة يبقى العظيم وحده وتتحول الشكوى إلى نشيد لتمجيد الخالق يدور بصوت رنان وهو محمول وسط أنغام ظافرة، وتسمع حول الغناء في الأصوات الغليظة والحادة من البيانو جموعًا كثيرة من الأصوات السريعة المشتبكة المنتشرة انسياب نشيد الاستحسان، وهو ينمو وينتفخ ويضاعف بدون انقطاع وثباته وفرحه، إن ملامس البيانو ليست بكافية، إذ لا يوجد صوت لم يشترك في هذا الاحتفال، فالغليظة برعودها، والحادة بتغريدها، قد تجمعت كلها في صوت واحد، إنها واحدة ومتعددة كالوردة الرائعة التي رآها «دانتي» وكانت كل وريقة من تويجها روحًا سعيدة.
ولقد كفى غناء مركب من عشرين صوتًا لتأدية تأثرات متباينة (تركنا هنا جملة لم نستحسنها، إذ كلها تشبيهات بأقسام الكنيسة واصطلاحاتها الدينية التي لا نجد لها تعريبًا، وهي في ذاتها لهذا السبب عديمة الأهمية).
الرغائب والأماني قوة لا تُغلب ولا تقهر! ولقد حاولوا إخضاعها بلا طائل وما فتئت منابعها جارية، ولقد تكدست على المنبع جهود ثلاثين عامًا من أعمال وحساب وتجارب فظن أنه جف ونضب، وما لبث أن مسته نفس عظيمة حتى تفجرت ينابيعه وكانت أشد من أيامها الأولى فتحطمت الجسور، ولما طغى الماء اكتسح التيار المواد الثقيلة التي سد بها المنبع فزادته قوة فوق قوة، ومن غريب المصادفات أنني رأيت ثانية في هذه الآونة مناظر الهند الطبيعية وهي وحدها، بما أوتيته من العنف والتضاد، حرية بأن تعد الصور لمثل هذه الموسيقى.
وحينما تهب الرياح الموسمية وتتكاثف السحب المربدة فتكون سورًا هائلًا كسواد القدر يغير على الزرقاء والدأماء، وفي هذه الأكداس الفحمية تطير أسراب من النوارس لا يدركها الحصر، وترى ذاك السواد المرعب وقد شابته هذه الأجنحة البيضاء يزخف على الغبراء ويلتهم الفضاء ويغرق رءوس الأرض في أبخرته.
أبحرت وقتئذ السفن، وفي آخر يوم جميل رأيت على بعد جزائر «ملاديف» وهي اثنا عشر ألف جزيرة صغيرة من المَرْجان في بحر من الماس وجميعها تقريبًا مقفرة، نام الماء في خلجانها الصغيرة فزان رصفها بهداب من لجين.
وترى الشمس ترشقها بوابل سهام من نار وبمنعرج قنواتها ينساب ذوب النُّضَار فيفجر اللجج الماثلة، وكأن البساط العظيم السائل وقد تشقق من اضطراب الأمواج معدن مطروق مُطَعَّم بالأشكال العربية، وقد لمع البرق فوق ظهر اليم بآلاف من وميضها لا يدركها العد كما تتألق الجواهر على الدروع المرصعة، فكأنها كنز لأحد ملوك الهند من أسلحة وحلي وخناجر مقابضها من الصدف، وملابس مرصعة بالصفير، وخوزات محلاة بالزمرد، وأحزمة مزينة بالفيروز، وإستبرق لازوردي موشى بخيوط الذهب ومرصع باللآلئ.
بماذا نقارن هذه السماء البيضاء الناصعة؟ هل رأيت غادة تختال في برد شبابها وصحتها وهي تنتفض من رجة الملذات وقد تحلت بأفخر مظاهر الزينة ليلة زفافها وأنشبت مشطها العسجدي في شعرها، وازدان جيدها بعقود اللآلئ، وتدلى من أذنيها قرطان من ياقوت، وحينما يضيء لألاء هذه الجواهر ورد بشرتها الحي يعلق في أغلب الأحيان على جبينها نقابًا أبيض خفاقًا، غير أن وجهها يملؤه بنوره، وترى ثوبها الرقيق الأبيض الذي يخيل إليك أنها تختبئ فيه وقد صار لها فخرًا زائنا.
وهذا مثل ذلكم البحر وقد أظلته تلك السماء بضوئها الوهاج الذي ينساب كالماء بعد تباين ألوان السحب الرصاصية حتى أصبح شائقًا فخمًا، كاللحن الديني الشجي الفتان للرجل العظيم بعدما جالد اليأس في ظلامه الحالك، إن ذاك اليم يهيج نفوسنا كما يوقظه فينا ذاك الرجل العظيم، وسواء أكان في حضرة هذا أو ذاك ينقطع استماع ونظر الأشياء المنفردة أو الكائنات المحدودة أو شطر من أعمال الحياة، إن موسيقاه لهي النشيد العام للأحياء الذي يشعر فيه بالتنعم أو الشكوى؛ بل إنها النفس العظيمة وما نحن إلا فكرها، إنها الطبيعة بأكملها قد جرحتها الضرورات فشوهتها أو سحقتها، ولكنها ما فتئت مختلجة وسط جنازتها وهي بين جموع الموتى الذين لا يدركهم العدو قد غطوها، ترفع كفيها صوب السماء وقد امتلأتا بالسلالات الجديدة وهي تصرخ صراخًا غير رنان ولا مفهوم دائم الاختناق تسببه على الدوام رغبة لا يطفأ أُوارها.
نظرت إلى ولهلم وكنا تقريبًا في نفس تلك الحالة وتقدمنا إلى بعضنا، أستغفر الله فإننا لم نضع وجهينا المجعَّدين صوب بعضهما، ولكننا قد تنبأنا بفكرتنا بعضنا في عيني بعض ثم ابتسمنا، وكفانا في هذه السن أن نتصافح …
(٣) احتفال مصر بمرور خمسين عامًا على وفاة فاجنر
في نفس الساعة التاسعة من مساء ٢٩ يناير سنة ١٩٣٤ التي كان الألمان يحتفلون فيها بأوبيرا برلين بمرور خمسين عامًا على وفاة فاجنر أكبر نابغة في الموسيقى في القرن التاسع عشر، كانت مصر تشارك في هذا الاحتفال في المعهد الملكي للموسيقى العربية، والفضل في ذلك يرجع إلى الأستاذ ستافرينو صاحب مجلة الأسبوع المصري التي تصدر بالفرنسية، والشاعر المجيد خيري نجل المرحوم خيري بك الأمين الأول للمرحوم السلطان حسين كامل.
-
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا تانهوزر.
-
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا لوهنجرين.
-
سيجفريد إيديل.
-
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا أساتذة الغناء.
كان التوقيع غاية في الإتقان والصفاء ولم يَشُبْه أدنى جلبة بفضل هذه الجهود الجبارة حتى كادت تميد طربًا جدران المكان.
لم أتمكن من الجلوس في الصفوف الأولى لشدة الزحام، فلذلك لم أستطع أن أسمع كل الأقوال بجلاء، وعللت النفس بمطالعتها حينما تنشر لأستعيد تلك اللذة العظيمة، ولأعلن لأمتنا المحبوبة أن في الكنانة رجالًا يشرفوننا في مثل هذه المواقف.
إن مجلة الأسبوع المصري تظهر كل خمسة عشر يومًا، ولقد نشرت المحاضرة في أربعة أعداد ظهر الأخير منها في ١٥ أبريل سنة ١٩٣٤، وهذا ما دعا إلى تأخير الرد لغاية الآن.
-
نشيد الحجاج من أوبيرا تانهوزر.
-
أنشودة النجم من أوبيرا تانهوزر.
-
لحن مسير الخطبة من أوبيرا لوهنجرين.
-
دخول الآلهة في الولهال من أوبيرا ذهب الرين.
-
الفتيات الأزهاد في أوبيرا برسيفال.
-
جزء من فاتحة برسيفال الموسيقية.
إن أفئدتنا لتبتهج حينما نرى شبابنا الناهض ملقيًا بدلوه في الدلاء ليستقي من فنون الغرب ما يستنير به في ترقية موسيقاه دون أن يعبث بطابعها الشرقي، سرد لنا المحاضر حياة فاجنر وأعماله وما صادفه من عقبات وبؤس ومناوأة نقاد جهلاء أو حساد أصمهم الغرض وأعماهم الهوى، وكان الذوق الفني والثقافة الموسيقية لم يتحررا بعد من أسر الموسيقى القديمة؛ فلذلك لم يَرُق لهم في أول الأمر فن فاجنر الجديد ولم يستطيعوا أن يفهموا أسراره ومذهبه الفخم، وكان يتخلل المحاضرة من النكات والفكاهات ما أبعد الملل عن الحضور وجعلهم ينصتون إلى المحاضر كأن على رءوسهم الطير لهذه السيرة المفعمة بالمجد والفخار، ثم سرد مؤلفاته ونوَّه بالصحف الشهيرة منها التي سارت بذكرها الركبان.
عرفت المحاضر منذ نعومة أظفاره، إذ كان مفتونًا بفاجنر ويوقع منتخبات من مؤلفاته بتعبير عظيم وعواطف متأججة وتصوير خلاب، وكان يعالج الشعر الفرنسي في هذا الوقت ويجمعه في كراسات مخطوطة فكان يسمعنا منه قطعًا شائقة، وهذا سر نجاحه؛ لأنه تكلم عن نابغة فتن به منذ صغره.
وما أردت بهذه الكلمة إلا أن أنوِّه بفضل شاعرنا المفضال وجهده العظيم، وأن أضيف كلمة متواضعة عن فاجنر في النواحي التي لم يطرقها المحاضر وله العذر؛ لأن المحاضرة بلغت نحو الأربعين صحيفة تقريبًا ولا يتأتى أن يلم المحاضر بجميع أطراف الموضوع في محاضرة واحدة.
اجتمعت في فاجنر مواهب جمة قلَّ أن توجد كلها في نابغة غيره، كان كاتبًا قديرًا وشاعرًا مجيدًا وموسيقيًّا مبدعًا وفيلسوفًا عظيمًا ومبتكرًا ومجددًا بمعنى الكلمة، ولقد سرح فكره في تاريخ الفن واستعراض الأطوار التي مرت عليه، فوجد أن التراجيدي اليونانية القديمة التي نشأت من اشتراك جميع الفنون والتعاون الفرح للأمة التي ما اجتمعت واتحدت إلا لتبدع الجمال أو تعجب به، وقد اتحد الشعر مع الموسيقى لإيجاد الدرام اليوناني، واجتمع الرقص والإشارات التمثيلية والنحت ليحققه على المسرح بأوزان شجية وجماعات ساد عليها الجمال، ثم ائتلفت الهندسة مع التصوير ليحدثا الإطار اللائق لأن تدور فيه المشاهد والحوادث، وهبت الأمة بعضهم بمثابة ممثلين والآخرون مشاهدون.
كانت الوحدة الأولية في العصر اليوناني لم تتفكك بعد، إذ كان الإنسان قريبًا من الطبيعة يشاهدها بعين الفنان ويخضع لأول وهلة لقانون الحاجة الذي يتكلم في نفسه بصوت الغريزة.
ولما كرت الحقب وتعاقبت السنون تهشمت تلك الوحدة وأخلت البصيرة والغريزة مكانهما للتفكير؛ فأصبح يحلل بدلًا من المشاهدة، وبهذه الصفة تجزأت الوحدة في الطبيعة إلى أجزاء عدة منعزلة عن بعضها، وانحلَّ التعاون الأخوي الذي ساد بين الفنون.
رأى فاجنر أن ينهض بالدرام الموسيقي إلى أوج الكمال، فوضع نظرياته العديدة وابتكاراته العظيمة حتى أصبح فنه كالمغناطيس يجذب أغلب الموسيقيين إليه طوعًا أو كرهًا، وكان أساس نظامه الوحدة الفنية بين الفنون اللازمة للمسرح، إذ يجب أن يكون الموضوع ونظم الدرام والتلحين لشخص واحد حتى تسود وحدة التفكير في المتن والموسيقى.
كان فاجنر ينتخب الموضوع بنفسه وينظم شعره ويلحنه، ويتلخص مذهبه في أن تكون الموسيقى واصفة لكل ما تقع عليه العين معبرة لكل ما يجيش في النفوس ويختلج في الأفئدة من مختلف العواطف والميول.
ولقد ابتكر فنًّا جديدًا لتوزيع الموسيقى على الآلات لا يجاريه فيه مجارٍ، وامتازت موسيقاه باتصالها وارتباطها كالحلقة المفرغة حتى لا يتسنى لأحد أن ينتخب منها قطعًا متفرقة؛ لأنها غير قابلة للتجزئة.
كان فاجنر قوي الإرادة، ماضي العزيمة، سيئ الحظ، بائسًا قلب له الدهر ظهر المِجَنِّ، فلم تثبِّط صروف الزمن همته أو تفل له عزمًا، بل استمر في تأدية رسالته وهو واثق من نفسه.
لم يفهمه قومه ولا الباريسيون أنفسهم وسقطت تانهوزر وقابلوها بالصفير ونكات الشوارع، وحينما ابتدئ بتمثيلها في باريس وكان أغلب الجماهير جاهلًا محافظًا على التقاليد العتيقة فلم يسغ فن فاجنر الجديد، والبعض الراقي من الموسيقيين نهش الحسد صدورهم وأشفقوا من هذا المنافس الجديد، والبعض أعماهم التعصب الذميم، كان الباريسيون تشجيهم موسيقى مييربير المزوقة الجوفاء الخالية من العواطف والتعبير، وقد قال فاجنر: «إن مقطعًا موسيقيًّا واحدًا من برليوز لأفضل من جميع الأوبيرات التي كتبها مييربير.»
تألَّب بعض النقاد على فاجنر مثل: برليوز وفيتيس وشومان وغيرهم، ولم يكن الخصام بين برليوز وبين فاجنر إلا بسبب سوء الفهم ثم تصافحا وتحابا.
وقد انتقد هذا السخيف برليوز قبل فاجنر وكان يحمل عليه حملات عنيفة متتابعة في الجرائد ولكنها كانت تقابل بالازدراء والسخرية، ومن سخافات هذا الرجل أنه قال في قاموسه «تراجم الموسيقيين» عن جان سيباستيان باخ بأنه أعظم الموسيقيين الألمان على الأطلاق، وهذا ما يدل على تفضيله باخ على بيتهوفن وفاجنر وهذا منتهى السخافة والغباوة.
ومن نكد الدهر أن فاجنر العظيم عاش زمنًا طويلًا يكابد صنوف البؤس، وكان ساعده الأيمن وقت الشدائد ليزت وهو من أشد المعجبين به وصديقه الحميم، ولما عطف عليه لويس الثاني ملك بافاريا وفُتن بفنه العظيم قرَّبه إليه وأخذ يساعده في نشر مؤلفاته وتحسين معيشته، ولكنه لم يلبث بعد سنة وبضعة شهور أن تألب الجمهور على فاجنر ورموا الملك بالانصياع إليه والخضوع لإرادته السياسية، فلم يرَ بدًّا من إبعاده عن القصر، فذهب إلى سويسرا ومكث فيها ست سنين كانت من أسعد أوقاته، وإن أضفناها إلى الاثني عشر عامًا التي قضاها خارج بلاده حينما صدر الأمر بالقبض عليه لاشتراكه في الثورة لبلغت ثمانية عشر عامًا.
إن رسائل فاجنر وقد ترجمت إلى الفرنسية تعد من أعظم المستندات والمراجع التي تدرس منها حياته، وفضلًا عن ذلك فإن له فيها أفكارًا عظيمة في الفن وملاحظات دقيقة.
لم ينتقد فاجنر إلا في تطويله في بعض المواقف، إذ تراه مثلًا يخصص فصلًا بأكمله لبث بشكوى الغرام بين المحب وحبيبته، ونفوره من الرقص في التمثيل؛ لأنه كان يقول: لا أحب أن أكتب رقصًا لأوبيراتي حتى يلهو النظارة بسيقان الراقصات الجميلة ولا ينصتون إلى موسيقاي.
نأخذ على المحاضر أن جعل سيزار فرنك في مستوى واحد مع فاجنر، وهذا شيء فيه غلو كبير لم يقله غيره من المؤرخين والنقاد، لا ننكر أن فرنك نبع في الموسيقى الدينية وله في القطع القليلة التي كتبها نفحات عظيمة، فمن العبث إذن أن نوازنه بمن قلب الموسيقى رأسًا على عقب وابتدع المذهب الفخم ونهض بالموسيقى إلى أرفع شأو.
ولقد رفع دوبوسي إلي مصاف الآلهة، وإني أسرد كلمة عن هذا الموسيقي ربما أقنعت محاضرنا المحبوب:
كان دوبوسي من أنجب تلامذة المعهد الموسيقي، وقد تخلص من بعض تأثير أستاذه «ماسنيه» وأوجد له مكانة خاصة، كان يميل هذا الموسيقي إلى «كوبران» و«رامو» و«موزار» ويتضايق من «جلوك» ولا يطيق أن يسمع «فاجنر»، وكما أن لهذا الموسيقي فئة تعجب به وتجله فإن له نقادًا كثيرين وساخطين عديدين، وأظن أن حكمه على جلوك وفاجنر كافٍ للدلالة على ذوقه ومبلغ علمه وشدة غروره.
تنحصر مؤلفات دوبوسي في القطع الصغيرة ولم يلحن إلا أوبيرا واحدة وهي «بيلياس وميليزاند»، وإني أسرد للقراء نقد «أرتوربوجان» لهذه الأوبيرا، وهو كاتب عظيم وأكبر نقَّاد موسيقي في هذا العصر، وقد تُوفي منذ بضع سنين وله مؤلفات عديدة يرجع إليها في تاريخ الموسيقى ونقدها، وهو الذي ينتدب لتحرير القسم الموسيقي لملحقات المعاجم ودوائر المعارف مثل: قاموس لاروس (ثمانية مجلدات)، وقاموس الأوبيرات، ومعجم فييس الموسيقي وغيرها، وقد مُثِّلت هذه الأوبيرا لأول مرة بمسرح الأوبيرا كوميك بباريس في ٣٠ أبريل سنة ١٩٠٢، وهي مستنبطة من رواية الكاتب الشهير مترلنك.
إن كلود دوبوسي وهو من الحائزين لجائزة رومة ١٨٨٤ يُعد من الموسيقيين الذين لا تُفهم موسيقاهم، وقد اعتبرته فئة من زملائه الذين هم على شاكلته رئيس مذهب جديد، وقد وضع ألحان هذه الأوبرا كما يشاء ويهوى حسبما يفهم الموسيقى التمثيلية، ولسوء حظه قد فاته الوقت وهو متأخر ككثير من زملائه الشبان، ولقد ظنوا جميعًا أنهم سبقوا زمنهم وما شعروا أن الزمن يسير ويتقدم وهم متأخرون منقطعون.
ولقد سئم الجمهور سماع موسيقاهم وما هي من الموسيقى بشيء، وملت آذانهم هذا الإلقاء الثقيل المستمر على نمط واحد ووتيرة واحدة، وهي مجردة من الهواء والضوء ولا يجد فيها السامع قطعة من الغناء الحقيقي، ويلاحظ السامع أن الوزن والغناء ولون الأنغام وهي دعائم الموسيقى قد جهلها دوبوسي واحتقرها بمحض إرادته.
إن موسيقى هذا العالِم مبهمة غامضة لا لون لها ولا حد، واهية القوى يتعمد واضعها الهرب من الوضوح والدقة والتصوير الموسيقي والوزن، حتى إن الآلات الموسيقية تستمر في موسيقاها على وتيرة واحدة دون صفة أو خبرة بأنغام لا تنفك ترددها الآلات الهوائية مثل: الكور والكلارينت والباسون دون أن يسمع بينها الصوت الرخيم الرنان للكمان بنغمة ضعيفة مخدرة للحواس، وخلاصة القول إن موسيقاه منومة كثيرة الخطأ والزلل.
(٣-١) مسرح فاجنر وضريحه
إتمامًا للفائدة نسرد كلمة موجزة عن هذا المسرح الذي بناه فاجنر في مدينة بيروت خصيصًا لتمثيل مؤلفاته، وهو يسع ١٥٠٠ مشاهد، وخالٍ من النقوش والزخرفة؛ لئلا تلهي الحاضرين، والأوركستر غير منظور، وقد افتتح في ٣ أغسطس سنة ١٨١٦ حيث مُثِّلت فيه حلقة نيبيلونج، وهو يبعد عن مدينة بيروت بعشرين دقيقة، ومنظره الخارجي خالٍ من الجمال الفني.
يُقام في هذه المسرح احتفال فخم كل ثلاث سنين تمثل فيه مؤلفات فاجنر ويشترك في تمثيلها وغنائها أشهر مشاهير الفنيين في ألمانيا، ويهرع إليه الناس من كل فج عميق حتى من أمريكا، ويلزم أن تقدم طلبات المقاعد والمساكن إلى لجنة تنظيم الاحتفال قبل الموسم بمدة طويلة حتى يضمن المشاهد له محلًّا ومسكنًا يأوي إليه مدة الموسم، ومحظور على المشاهدين التصفيق أو التكلم أو الاستحسان لا بالإشارة ولا بالقول، وتوجد فيلا فاجنر في حديقة عظيمة في نهاية الشارع المسمى باسمه، وهي مبنية على طراز روماني، وبأعلى باب الدخول صورة رمزية تمثل روتان مع غرابيه تحيط به التراجيدي والموسيقى، وبجانبهما سيجفريد الشاب، وقد كتب تحت هذه الصورة: هنا وجد خيالي الراحة والسكينة ويلزمني أن أسمي هذا البيت «راحة الخيال».
وفي هذه الحديقة وفي النقطة التي اختارها لرقدته الأخيرة على مقربة من الذين تفانوا في حبه وأخلصوا له ولم يعيشوا إلا ليمجدوا ويخلدوا أعماله العظيمة.
ولقد أوصى فاجنر أن لا يقيموا له ضريحًا فخمًا على لحده ولا يكتبوا عليه شيئًا وهو في هجعته الأخيرة راقد تحت حجر بسيط، ولقد دُفن على مقربة منه كلبه الحارس الأمين «روس».
إن الآلاف الذين يحجون إلى بيروت لَيذهبون لزيارة قبره، ويقفون خاشعين صامتين أمام المجد والفخار والجلال الذي يحف هذا الضريح، ثم ينصرفون بكل احترام وخشوع وقلوبهم تفيض بأجل الذكرى والاحترام.