متفرقات
(١) فن الإلقاء
فن الإلقاء فن جليل عُنِيَ به الغربيون وأهمله الشرقيون جهلًا بجزيل فائدته، ولو علموا أنه يمنح القول تأثيرًا عظيمًا ويأسر النفوس ويتملك القلوب، ويفعل ما لا يفعله السحر فيثير العواطف الهاجعة ويهيج العزائم الخامدة ويلين القلوب الجامدة لما طرحوه وراء ظهورهم وأهملوه في زوايا النسيان، كم من محامٍ جمع في دفاعه بين بليغ القول ودافع الحجج ومفحم البراهين، ولكن خانه الإلقاء فحذر حواس القضاة بإلقائه ذي النغمة الواحدة حتى خسر دعواه.
- (١)
حسن النطق ولا سبيل إليه إلا بدراسة علم تجويد القرآن؛ إذ به تعرف مخارج الأصوات ومقادير الحروف والمد والقصر والإدغام والإظهار الشفوي، والأحوال التي ترقق أو تفخم فيها الحروف وغير ذلك، ولا بد من الاستعانة بقارئ ماهر من قرَّاء القرآن الذين أتقنوا دراسة التجويد.
- (٢)
إتقان اللغة العربية حتى يفهم القارئ ما يلقيه ويتأثر من المعاني ليشرك معه شعوره وعواطفه وقت الإلقاء.
- (٣)
معرفة فن الموسيقى أو على الأقل تعويد الأذن على فهم الموسيقى ليكون قادرًا على تنويع نغمات الإلقاء حسب مقتضيات الحالات النفسية.
- (٤)
الإشارات والوقفة وتغيير السحنة وهي من ضروريات الإلقاء التمثيلي؛ إذ هي التي تساعد على تمثيل العواطف، ولولاها لأصبح الممثل كتمثال من نحاس تمجه النواظر وتنفر منه النفوس.
- (٥)
رقة الشعور وتعد من أعظم العوامل في إتقان الإلقاء ليكون الإنسان متأثرًا مما يلقيه فتتغير النغمات بدون تكلف وتتنوع إشاراته وسحنته من حيث لا يدري، ويصدر منه الإلقاء والإشارات وحركات السحنة بشكل طبيعي صادق خالٍ من التصنع، وبذلك يكون أشد تأثيرًا وأعظم وقعًا.
- (٦)
يحسن لمن أراد أن يبلغ غاية عظيمة في الإلقاء لا سيما التمثيلي أن يضرب بسهم وافر في علم البسيكولوجيا ليدرس أحوال النفس دراسة تؤهله لفهم عواطفها وشعورها؛ ليستطيع أن يزيد إلقاءه وضوحًا وتعبيره تأثيرًا.
وإن أنعمنا النظر في هذه الشروط وجدنا الثالث ألزمها وأعظمها نفعًا وأصعبها نيلًا؛ لأن معظم التأثير ناشئ من نغمات الإلقاء، ولا ريب أن الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولًا للأذهان، ولا يكفي لطالب الإلقاء أن يدرس «السولفيج» وحده بل يلزمه أن يتعلم التعبير الموسيقي وكيف يعبر الموسيقي.
- (١)
أن يهيمن على نفوس سامعيه ويتملك قيادها، وذلك بنباهته وشدة إصغائه ولطفه وظرفه وأسلوبه.
- (٢)
أن يتجنب كل عاطفة كبر وغرور وازدراء؛ فإن ذلك ينفر منه القلوب ويصرفها عنه وتزدريه.
- (٣)
أن يرتب الموضوع ليسهل فهمه ورقة الأسلوب وصوغه بشكل أدبي؛ لأن الموضوعات حينما تكون علمية محضة عارية من ثوب الأدب تسئم وتمل وتمجها النفوس لا سيما إذا كان الموضوع طويلًا جافًّا.
تلك نصائح نافعة صغتها في كلمات قلائل ليسهل تناولها، وعسى أن تهتم ناشئتنا بهذا الفن لترقيه في بلادنا وتنتشله من وهدة الانحطاط والسلام.
(٢) الأسد
من أعظم الضواري المعزوة إلى فصيلة الهر وأشدها بأسًا الأسد «ملك الحيوان» قامة عظيمة، ونظر متوقد، ومظهر نبيل، واختيال في المشية، وأعضاء في غاية التناسب، ولبد يحيط برأسه ورقبته إحاطة الإطار الجميل بالصورة المتقنة يسترسل على كتفيه كطيالسة الملوك، وزئير يقصف كالرعد ويدوي لأبعد فج فيرتعد منه العالم الحيواني.
تجمعت في الضغيم هذه الصفات لتؤهله لأن يكون المسيطر الفرد، كله أعصاب وعضلات أكسبته قوة لا تثبت أمامها أعظم القوى، وجرأة لا تهاب الأخطار والمهالك عند الهجوم، وقصارى القول أنه أقوى وأشرف جميع السباع.
لا حاجة لنا بوصفه، إذ ما من أحد إلا رآه في حدائق الحيوانات ومسارح الوحوش، غير أننا نلاحظ أنه أعظم حيوان يمثل القسم غير المخطط من الفصيلة، ويمتاز بلون ثوبه المتحد ولبده المتكاثف الذي لا يشاهد في اللبؤة، وخصلة الشعر السوداء التي تزين نهاية ذنبه، وهو يفوق جميع أنواع الفصيلة قامة وجمالًا.
مواطنه المنطقة الحارة، وكان في العصور الخالية موجودًا في جنوبي أوروبا كما روى «هيرودوت»؛ حيث كانت هذه الضواري القديرة تهبط من جبال مقدونيه لتفترس مطايا «خشاير شاه»، ثم صارت نادرة في مقدونيه في عصر الإسكندر الأكبر إلى أن انقرضت من أوروبا في عهد الرومان، وكانت الأسود كثيرة الانتشار بآسيا ولكنها أصبحت الآن لا توجد إلا في جزيرة ما بين النهرين والشواطئ الشمالية لخليج العجم والشمال الغربي للهند.
يمتاز الأسد الآسيوي عن الإفريقي بقامته الربعة وغزارة خصلة شعر الذنب، وأصبحت أفريقية الآن وطن الأسد الحقيقي، وهناك يُشاهد بجميع مظاهر جماله وعظمته، وهو شائع في هذه القارة إلا في بعض مواضع قليلة انقرض منها، وقد لوحظ أنه يختلف لونًا وقامة حسب المواطن، ولكن جميع أنواعه في الطباع سواء.
يسود الفزع والجنون بين الحيوانات حينما يرتج الهواء من زئيره، إذ كل منها يعرف هذا الخصم المزعج القاهر الذي لا يستطيع أشدها بطشًا أن يثبت أمامه، ولا يؤمَن شره بسور ارتفاعه ثلاثة أمتار؛ لأنه يجتازه بكل سهولة وهو مقل فريسته، ويجتاز ما يبلغ أربعة أمتار إن كان لا يحمل شيئًا ولكنه لا يستطيع أن يتسلق الأشجار كالنمر.
يقتات عادة بالحيوانات المجترة ولا يأكل إلا الحي منها فلا يرجع إلى ما بقي منه بالأمس إلا اضطرارًا، ويستطيع أن يصبر على الطعام يومين أو ثلاثة عقب أكلة تملأ بطنه، وفصيلة «الأنتيلوب» (نوع من الغزلان) لا ترى عدوًّا لها ألد منه، إذ يختبئ في مقصبة ليغتال القطعان التي ترد الغدران أو البحيرات وقت ظهور الشفق، ساد السكون في هاته الأماكن وسكنت الريح فلم تحرك قمم أشجار الجميز ولبث جريد النخل دون حراك فلم يشب هذا السكون والدعة أية جلبة لا قريبة ولا قصية، فتأتي هذه الأنعام الجميلة أولاد الصحراء ماشية بتؤدة وتبصر وتيقظ منتصبة آذانها شديدة الإصغاء مشرئبة أعناقها مسرحة أنظارها الحادة في كثيف المقصبة، خلا المكان من كل ما يُرهَب جانبه أو يسمع له همس أو لمس بين الخمائل، فاطمأنت النعم وأمالت رءوسها متهافتة إلى ماء منعش كانت تتلهف عليه وقتًا طويلًا، وعلى حين غفلة يثب هذا القسورة القهار بطفرة هائلة، ويخرج من مكمنه وينقض كالصاعقة على زعيم القطيع فيرزح المسكين تحته حتى يسوي به الأرض بينا تهرب رفاقه مستنفرة بأسرع من الفكر لتختفي في أعماق البيداء.
وقد مجد أشهر الشعراء سلطان الحيوان في جميع العصور والأزمان، ومهما تغالوا في وصفه أو في جميع التواريخ التي وضعت له فإنها لا تقل عن أن تكون حقيقة وتكاد توفيه حقه من الوصف، ومهما نفح الكتاب بمدهشات البيان وأسعد المصورون بعجائب بنات البنان فإنهم لا يستطيعون أن يمثلوه تمام التمثيل، وليست خيلاء الرئبال أو شجاعته النبيلة اللتان أذاعتهما بخطأ وركاكة الأساطير القديمة هما اللتان أكسبتاه وقاره المهيب وعظمته الهادئة، بل مخائله التي تشف عن ثقته بقوته التي لا تغلب واعتماده على نفسه واعتياده على الظفر والنصر.
ولو أن طباع النفاق عند الأسد لا تزيد عن طباع غيره من أنواع فصيلته فإن خصال هذه العامة توجد فيه، إذ يزحف على بطنه بخبث إلى أن يتمكن من خصمه الذي يتوسم فيه الضر والأذى، ويقيس بتبصُّر الوثبة فلا تفلت منه غنيمته، ومن ذلك يُعلم أنه لا تمتاز طباعه عن غيره من أنواع فصيلته.
إنه لا يقتل لمجرد اللهو، بل لرد غائلة السَّغَب، ويندر أن يثب على فريسته مرة ثانية إن أخطأها في الأولى، وإن شبع مَرَّ مَرَّ الكرامِ أمام الأنعام السائمة دون أن يلتفت إليها واضطجع في عرينه ونام، والغضنفر إن فوجئ وهو نائم يكون كالميت ويغتنم مواطنوه هذه الفرصة ويباغتونه في حالة ضعفه ويقتلونه بأسلحتهم النارية أو سهامهم المسمومة.
تنتشر بين الذكور معارك تشيب من هولها الولدان، وحينما يتزاحم اثنان على أنثى فتية لم تأتلف بعد مع أسد، وقد روى أحد أعراب البادية لصائد من أهل الجزائر واقعة من هذا القبيل حضرها مكرهًا، كان كامنًا في ليلة مقمرة يترصد الأيل، وليكون آمنًا مطمئنًا تسلق شجرة بلوط في مكان خالٍ من النبت والشجر وسط الغاب في مقربة من الدرب، وفي منتصف الليل لمح لبؤة مقبلة يتبعها أسد فتي تكامل لبده فتركت الأنثى الدرب واضطجعت تحت شجرة البلوط ولبث وحده الأسد بجانب الطريق مصغيًا، وما هي إلا هنيهة حتى دوَّى على بعد في الآفاق زئير فأجابته اللبؤة واشترك معها الذكر الذي اصطحبها فزمجر صوته كالرعد القاصف فهلع فؤاد صائدنا المتربص فوق الشجرة وسقطت بندقيته من يده وكاد يهوي معها لولا أن تدارك وأمسك بالأغصان، وكان زئير الأسد القصي يقترب شيئًا فشيئًا وكلما زاد قابلته بالمثل اللبؤة الجاثمة، بينا رفيقها يجري روحة وجيئة من الحنق كأنه يريد أن يقول له: «فليقبل ليرى كيف ألتقيه.» وبعد ساعة أتى أسد أسود قامت لملاقاته اللبؤة فمنعها رفيقها وطردها ثم انقض على خصمه الذي كان ينتظره بفروغ صبر، وطفقا يتصادمان ويقعان ملتحمين وطال بينهما النزال وكان مزعجًا للصائد المشاهد رغمًا منه بينا العظام تهشم تحت الفكاك القوية، والبراثن تمزق جسميهما، والزئير يكون تارة مختنقًا وأخرى قاصفًا معبرًا عن كلا الوحشين وآلامهما، وكانت اللبؤة عند ابتداء المعركة تنظر إليهما وهي جاثمة على بطنها، فلما حمي وطيس القتال أخذها الزهو والإعجاب، إذ رأت خصمين جبارين يقتتلان لأجلها وأنشأت تترجم عما خالجها بتحريك ذنبها، ولما انتهت الوغى وخر الاثنان صريعين هرولت إلى الجثتين تشمهما ثم ذهبت لشأنها معجبة بنفسها دون أن تلوي على شيء.
وللأسد خصلة حميدة وهي أنه لا يهجر أبدًا أليفته التي اختارها ويظهر لها كثيرًا من الميل والاعتناء، وله عناية عظيمة بجرائه ولو أنه صعب المراس شديد الجانب، لا يوجد مع صغاره إلا بتكلف، إذ يعروه السأم ويتنغص من لعبها معه.
وحينما يريد أهل البدو من المغاربة صيد الأشبال يترقبون الزمن الذي تنقطع فيه عن ملازمة الأم، وذلك يكون بعد ابتداء ظهور أسنانها بثلاثة أشهر، فيرصدون العرين من أكمة بعيدة أو شجرة مشرفة عليه، وربما تحينوا الفرص أيامًا كاملة، وحينما يرون أن اللبؤة بارحت أشبالها وأن الأسد غائب ينزلون من مكمنهم بكل تبصر ويقظة ويلفون الأشبال ببرانسهم لئلا تتمكن من الزئير، ويناولونها إلى الفرسان الذين ينتظرونهم في أطراف الغاب المجاور ثم يرخون أعنة جيادهم فتسبق الريح، وهذه الجرأة لا تخلو من المخاطر.
لا يتم نمو الأسد إلا في سنته الثامنة فيبلغ أشده ويكمل لبده، ولم تحقق بعد بالضبط نهاية عمره ولكن علماء الحيوان يقدرونها من ٣٠ إلى ٣٥ عامًا، ويشاهد في الجزائر ثلاثة أنواع من الآساد: الأسود والممائل للون صدأ الحديد والأسمر، والأسود أندرها وأصغر قليلًا في القامة ولكنه ربعة وأعرض من الآخرَيْن ولونه أسمر داكن إلى الكتفين، ثم يبتدئ لبده الأسود الفاحم الذي يكسبه شكلًا مريعًا، ويبلغ عرض جبهته ذراعًا وطوله من أرنبة أنفه متران وثلث، ويزن جسمه من ٥٠٠ إلى ٦٠٠ رطل، والمغاربة تهاب هذا النوع أكثر من غيره؛ لأنه لا يتنقل ولا يجول كالنوعين الآخرين بل يبحث له عن مكان لائق أمين يعيش فيه رخي البال نحو ثلاثين سنة، فلا يجازف بنفسه في السهول إلا نادرًا، ولا يهجم على الدور كغيره، بل يتربص ليلًا بالثيران النازلة من الجبل وينحر منها أربعة أو خمسة ليرتشف دماءها.
وفي الصيف لا يبارح مأواه إلا عند الغروب، ثم يقف بالمرصاد على قارعة طريق آتية من الجبل ينتظر المشاة والركبان المتأخرين وهم مقبلون وحدانًا، وقد باغت سَبُعٌ أَسودَ فارسًا من أهل البدو وحينما هجم عليه فكر أن يترك له جواده فلربما لها به فتحقق أمله ونجا، وهذا أمر نادر جدًّا؛ لأن المسافر المنفرد لا يتمكن من الفرار أو النجاة إن فاجأه ليلًا وهو منقطع عن الركب، ولو أن النوعين الآخرين أعظم جسمًا لكنهما أقل قوة من الأَسْود، وطباعها ومعيشتها واحدة إلا ما استثنيناه.
لا يغدو الأسد عادة من مربضه إلا بعد الغروب ويروح إليه قبل الشروق فلا يفارقه سحابة النهار إلا نادرًا طلبًا للماء أو هربًا من البعوض أو القيظ؛ لأنه يقضي النهار في عرينه نائمًا مستريحًا في الغابات ليهضم مطمئنًا في الدَّعة والسكون ويتغلب عليه حينئذ الكسل والخدر فلا يلتفت إلى الإنسان وقتئذ إن صادفه، ولكنه يكون بالعكس ليلًا ويشاهد بجميع مظاهر قوته وافتراسه ورغبته في الهجوم، فإن صادفه مدلج منفرد هلك وأعيته الحيل.
وحينما يوجد الأسد مع أليفته تزأر هي أولًا عند مبارحتها العرين، ويشمل الزئير اثني عشر صوتًا تقريبًا مختلفة تبتدئ بنوع خافت أشبه بالتنهد، ثم يزيد شيئًا فشيئًا حتى ينتهي كما ابتدأ، وبين الصوت والآخر بضع ثوان ويجاوبها الأسد بالتبادل، وإن أرادا الهجوم على دار لافتراس أنعامها يزأران من ربع ساعة لآخر حتى يصلا إليه، وحينما يشبعان يستمران في الزئير لغاية الصباح، ووقتما يكون الأسد منفردًا يزأر عند ما يستعد للخروج ويأتي في الغالب صامتًا إلى المنازل.
والآساد تفتك فتكًا ذريعًا في جميع الأقطار التي تسكنها، فلا تدع الإنسان ولا الحيوان وتعد ضحاياها بالمئات، من قرية أعيتها الحيل فهاجر أهلوها وتركوها قاعًا صفصفًا تزأر فيها الضياغم، وقد تعطلت سكة «أوغاندا» الحديدية بسبب افتراس الأسد للعملة الهنود وتركوا أشغالهم حينما رأوا أنه ما من ليلة إلا يذهب عدد منهم طعامًا للسباع، وقد تمكن أخيرًا أحد مهندسيهم المسمى «باتيرسون» من صيد أسدين بعدما بلغت ضحاياهما ثمانية وعشرين من الهنود وعددًا عظيمًا مجهولًا من الزنوج.
ولنسرد أشهر الوقائع التي كتبها المشاهير من الرحالين والصيادين وما قاسوه من الأهوال في صيد الأسود لتكون مثالًا عظيمًا ندرس به جيدًا طباعها وأحوالها وقت الصيد والمهاجمة، ولنستدل على صعوبة مراسها وجرأتها.
(٣) رحلة لفنجستون
في أثناء طوافي حول غدير «كورمان» انتخبت وادي «مابوتسا» الجميل لأتخذه مقرًّا للبعثة، وقد وقع لي هناك حادث عظيم كان الناس يسائلونني عنه في أغلب الأحيان منذ عودتي إلى إنجلترا، ولولا مضايقة الأصدقاء وإلحاحهم لكنت ادخرته لأقصه على أولادي عندما تذهب الشيخوخة بذكائي وحدته.
ضجَّ أهل هذا البلد حينما رأوا أن الأسود تباغتهم كل ليلة وتسطو على مطاياهم وأبقارهم حتى بلغ من جرأتها أنها كانت تفتك بالماشية في رابعة النهار مما لم يعتادوا حصوله، واعتقدوا أن إحدى القبائل المجاورة سحرتهم وجعلتهم نهبًا للأسود، وقد حاولوا التخلص من هذه الكواسر واجتهدوا أن يبيدوها فلم يفلحوا، إذ هم أضعف كثيرًا من قبائل «البشوانا» فاستولى عليهم الجبن ورجعوا إلى دورهم دون أن يطاردوا واحدًا من أعدائهم، ومما لا ريب فيه أنه لو قتلوا واحدًا منها لكان للبقية خير نذير ولتركت مواطن ابتليت فيها بالصيد.
سطت الأُسُد من جديد على بهائم «البكويين» فخرجتُ مع رجال القبيلة مشجعًا لهم على قطع دابر هذه الطغمة، فوجدنا الآساد فوق أكمة مجللة بحرجة فالتف حولها الرجال وتسلقها الواحد بعد الآخر، ومكثت في السهل مع أحد الوطنيين المدعو «ميبالويه» وكان معلمًا في كتاب، وأَنْبَه من جميع أصحابه ذكاء ونشاطًا، فرأيت أسدًا جاثمًا على ربوة وقد أحدق بها الصيادون، فصوب إليه «ميبالويه» رصاصة من بندقيته لم تصب إلا الصخرة التي كان مقعيًا عليها، فعض المكان الذي أصابته الرصاصة من الصفاة كما يَعَضُّ الكلب الحجر أو العصا التي يُرمى بها، ثم انطلق وثبًا واخترق صف الصائدين الذين فتحوا له ممرًّا ونجا دون أن يجرح، والغالب أن هؤلاء لم يقدموا على مهاجمته اعتقادًا منهم بالسحر الذي ابتلوا به وزعمًا أنهم لا يظهرون على الأسد مهما بلغ جمعهم وبطشهم، ثم التأمت الحلقة وظهر ضيغمان آخران فلم أستطع أن أرميهما خوفًا من إصابة أحد الصيادين المحدقين بهما وفرا سالمين، ولو فعل «البكويون» كعادة بلادهم لقتلوا السباع طعنًا بالرماج حينما اخترقت صفهم ولكنهم لم يستعملوا سلاحهم قط.
ولما رأيت أن الهجوم غير متيسر لهم عوَّلت على الرواح واتجهت صوت الطريق الموصلة إلى القرية، وبينا أنا أطوف حول الأكمة رأيت أسدًا آخر فوق صفاة كالأول مستترًا وراء خميلة ولا تزيد المسافة بيني وبينه عن ثلاثين خطوة فصوبت إليه بندقيتي وأطلقت عليه رصاصتين فصاح الرجال: «لقد أصبت فهيا بنا نحمل عليه.» ثم لمحت الأسد يحرك ذنبه بغضب وحنق، فالتفت إلى الصائدين وطلبت منهم أن ينتظروني ريثما أحشو بندقيتي، وبينا أنا أعدها، إذ سمعت صراخ فزع فاقشعر جسمي وما كدت أرفع رأسي حتى رأيت الأسد واثبًا عليَّ، وكنت واقفًا فوق ربوة فأمسك بكتفي فتدهورت معه إلى حضيض الأكمة وزأر في أذني بقوة مزعجة، فكدت أصم وأفقد صوابي لما أصابني من الرعب، وصرت في قبضته كفأرة ظفر بها سنور ثم أصبحت في حالة خدر لا أشعر فيها لا بفزع ولا بألم، ولو أني كنت واعيًا لكل ما حدث وهذا أشبه بحالة المرضى وقت تأثير البنج، إذ ينظرون تفاصيل العملية دون أن يشعروا بمشرط الجراح، وقد بددت رجات الضيغم مني الخوف وأشلت كل عاطفة للفزع بينا الصيادون ينظرون إلى الأسد وجهًا لوجه.
وكان الأسد قابضًا بيمينه على مؤخر رأسي، فاجتهدت أن أتخلص من ضغطه والتفت فرأيت الأسد ناظرًا إلى «ميبالويه» الذي صوب إليه بندقيته فلم تنطلق من الجهتين؛ لأنها كانت ذات زند وصوان، فتركني الأسد في الحال وانقض على «ميبالويه» وعضه في فخذه، وكان من بينهم شخص نجيته من الموت حينما قذفته في الهواء فحل من الجاموس، فحاول هذا أن يطعن الأسد وهو جاثم على «ميبالويه» فخلاه وأمسك بهذا الرجل من كتفه، ولكن لم يلبث في الحال أن وقع مدرجًا بدمائه من تأثير الرصاص الذي اخترم جسمه، حدث ذاك كله في لحظه قصيرة وبلغ الرئبال منتهى الغيظ والكلب والاستماتة حينما علم أنه آخذ في النزع.
وفي الغد احتفل البكويون بإشعال نار عظيمة فوق جثة الأسد ذلك؛ لأنهم لم يروا له مثيلًا في العظم كما قالوا، واعتقادًا منهم بأنهم بعملهم هذا يبطلون السحر الذي انتابهم.
وقد هشم هذا الغضنفر عظم عضدي وعضني إحدى عشرة مرة في ساعدي، والجراح التي تحدثها أنيابه أشبه بجراح الرصاص ويعقبها عادة قيح غزير وتميت جزءًا عظيمًا من الأنسجة، وقد قابلت في السنة التالية الرجل الذي عضه الأسد في كتفه فرأيت جرحه انفجر ثانية في الشهر نفسه من العام التالي، وإن هذا الحديث لحري بأن يلتفت إليه رجال العلم.
(٤) رحلة جول جيرار
اقتفيت أثر الأسد قبيل الغروب وبصحبتي حميد وعمر وأبو القاسم وكان الأولون مسلحين «بقربانتين» والثالث يقود جديًا صغيرًا كممنا فمه جيدًا واتخذناه طعمًا نجلب به السباع، وقد عاينت وأنا سائر مدخل الأسد الموصل إلى عرينه واختبرت آثار أقدامه فسررت مما اكتشفته، وبحثت عن مكان أمين أتخذه مرصدًا فوجدت موضعًا خاليًا على مقربة من الربوة الكامن فيها الأسد.
وقد ربطنا الجدي بجزع شجرة وتناولت سلاحي، وما هي إلا لحظة حتى اقترب عمر مني فجأة وقد تشنج وجهه من الرعب وأشار بأصبعه إلى رأس أسد ضخم متكامل اللبد قد لمحنا من مسافة مائة خطوة تقريبًا؛ فصرخت الأعراب ونزعت أنا كمامة الجدي وتربصت بالمكان الخالي من الغاب لأتمكن من رؤية الأسد حينما يأتي إلى الجدي الذي حينما أبصر «القربانات» المصوبة لم يطمئن باله، وأخذ يصيح بشدة ويحاول قطع الحبل وبعد بضع دقائق لمح الجدي على غرة الأسد في مربضه، فارتجف كريشة في مهب الريح وأخذ ينظر إليَّ من وقت لآخر كأنه يتوسل بي لأحميه من شر الأسد، ولما ساد الرعب تبينت أن الأسد مقبل نحونا، فنظرت من خلال الغاب المتكاثف المحيط بالمكان الخالي الذي كنت فيه فوجدت جسمًا ضخمًا لا يتحرك ولم أستطع أن أتحقق شكله، إذ حالت دون ذلك الأوراق والغصون.
وفي الحال تحركت الأشجار وخرج من مكمنه واثبًا وثبتين أوصلتاه إلى المكان الخالي من الغاب ثم وقف ينظر إلينا.
شتان بين جمال هذا الحيوان وبين جمال ما نشاهده في المسارح، رأيته أملح وأعظم وأفخم حيوان مع أني رأيت كثيرًا غيره، وقد أشفقت عليه وأملت «قربانتي» بعدما صوبتها إلى ما بين عينيه، ثم تمدد الأسد على مهل فوق الكلأ منتظرًا ساعة طعامه، فأسفت أن رأيته متحفزًا للوثوب على فريسته فصوبت إلى كتفيه رصاصتين فوقع زائرًا بصوت كالرعد، وأخذ يَعَضُّ في منحدر السيل، ثم انقض دون أن يعلم أو يرى في السيل من علو عشرين قدمًا.
وعندما سمع الأعراب صوت النار أتوا سراعًا وظنوا أن الدماء الغزيرة التي سالت من الأسد انتهت بقتله، وصاحوا في الرجال المنتظرين بالقرب منهم: «هلم إلينا بالبغال.»
وكان الموضع الذي ينبعث منه زئير الأسد كثيف النبت فلم أستطع أن أرى جذوع الشجر على قيد خطوتين، وعندما كنت أضع العلامات على مدخل السبع الدامي أقبل الصائدون ومعهم أربعة رجال مسلحين من أهل الجبل، وكان في عزمي أن أصبر للغد لأجد الأسد ميتًا أو حيًّا وأملت أن تقتله جراحه في الليل، وعلى كل حال اعتمدت على الدماء الغزيرة التي فقدها وهي كافية على الأقل لأن تضعفه في اليوم التالي، وفي الختام تحققت أنه من الحمق أن أذهب إلى الأسد بين هذه الآجام الكثيفة التي لا يخترقها أحد الأنظار وأقواها لا سيما عند إقبال الظلام، وضَّحت ذلك للأعراب ولكنهم لم يسمعوا النصح قائلين: سنذهب وحدنا ونحن واثقون بموت الأسد، ولما لم أستطع أن أقنعهم ذهبت في مقدمتهم بعد أن أكدت لهم أنهم واقعون لا محالة في سوء عنادهم، ثم صادفت «دو رودامبورج» وهو راجع من طوافه فرجوت منه أن يحمي ظهري ولا يفارقني، وحينما وصلنا إلى مدخل مقر الأسد مرت رصاصة من خلفي مصوبة إليه فزأر وانقض علينا هاشمًا كل ما صادفه، فقلت للأعراب: «أرأيتم كيف هلك؟ وأود الآن مشاهدة قوة الرجال البواسل وجرأتهم.» وما انتهيت من كلامي إلا ورأيت الأسد واقفًا بيننا، وعندما أردت أن أصوب رصاصة إلى رأسه سبقني الأعراب وأعموني بدخان بارودهم ولم أستطع أن أنظر إلا عمر وهو يطلق ناره فوثب عليه الأسد وكسر «قربانته» بأنيابه وأمسك به وطرحه أرضًا كضغث من الهشيم.
فأسرعت إلى الأسد بقفزتين وكان لاهيًا بتمزيق المسكين فلم يلتفت إليَّ، وأردت أن أخترم رأسه برصاصة ولكني خفت أن أصيب عمر فصوبت إلى قلبه ورميته فترك فريسته ولم يقع فرميته بثانية فلم تنطلق الرصاصة، وكان لا يفصلني عنه إلا القربانة فطفق يقاوم بكل قوته، ولما رأى الأعراب الخطر المحدق بي هبوا بجرأة عظيمة ولو أن أسلحتهم لم تكن محشوة والتفوا حولي، وكان حميد أقربهم إليَّ فناولته «القربانة» وطلبت منه البندقية المحشوة التي عهدت بها إليه ليحملها لوقت الحاجة، فوجدته قد كان أطلقها مع رفاقه فأمسينا تحت رحمة الأسد، وكان «دو رودامبورج» على قيد خطوات من المكان، ولم يبقَ لي مدافع غير هذا الصديق فصوب إلى الأسد نارًا حامية ألقته صريعًا يتخبط في دمه.
لم يمت عمر المسكين ولكنه أصبح مخرم الجسم بجراح بالغة يكفي أحدها لقتله، فحملناه على الملابس والعصي، ومكث يعاني أشد الآلام ساعتين أمكننا بعدها أن نسعفه بضمد جراحه ومعالجته.
وفي الغد ذهبت لأنتزع جلد الأسد ثم عرجت على عمر وودعته وخلفته بين يدي طبيب من مواطنيه، وعدت في اليوم نفسه إلى حديقة الأسود.
وبعد الغد نحرت لبؤة قطيعًا من الثيران في مكان ليس ببعيد، فشكا الناس وتضرعوا وما من مجيب، فلم أرَ من المروءة أن أصم أذني عن استغاثتهم، وخرجت في طلب اللبؤة وواجهتها في الساعة التاسعة مساء، ولم يَكُ بيني وبينهم أكثر من عشر خطوات، وقد حال الظلام وكثافة الأدغال دون رؤيتها جيدًا لأصيب منها مقتلًا، فصوبت إلى كتفها لأعيقها عن لحاقي فهوت من أعالي الغاب صارخة بزئير مزعج فانسحبت بكل احتراس وتبصر ولم تسمع وقع أقدامي، إذ غطى عليها زئيرها.
وفي الغد عدت إليها في أول النهار فوجدتها مكسورة الكتف مخرمة الصدر، ولكنها كانت بحالة جيدة فأطلقت عليها الرصاص ولم تقع إلا وقتما أصابتها الثالثة.
وحينما انتهت هذه المعركة رأيت أن أرجع إلى قسطنطين، ولم أكد أبلغها إلا ووافاني نبأ موت عمر المقدام.