بلاغة الغرب
(١) الجزء الثاني «لشاعر القطرين خليل بك مطران»
بين يدي الجزء الثاني من «بلاغة الغرب» مكتوبًا فيه تحت العنوان بالحرف الدقيق «أحاسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره»، والحق البارز الناصع ما جلاه النقش تحت هذه الكلمات، فإن محمد أفندي كامل حجاج الذي نقل إلى العربية طائفة جديدة من روائع اللغات الإفرنجية قد أضاف بهذا الجزء إلى نفائس لغة الضاد قلادة لا تقوَّم بأثمان.
إليك أهدي ما عربته من معجز قولك ونفحات شعراء الغرب، وهو عندي أعز قنية وأنفس طرفة، ولعله يرضيك فتقلبه قبولًا حسنًا، فسلام عليك من معترف بفضلك وآلائك، لاهج بشكرك وثنائك، وذلك الاستحضار الصادر عن وحي فطرة امتزج في حسها الرقيق الماضي بالحال كأنهما الوقت العتيد قد أثر بي شديدًا منذ ألقيت النظرة الأولى على الكتاب.
ثم جعل الأديب المجيد في مواجهة هذه الصفحة صفحة مُزْدَانة بوجوه ستة رجال من أفراد البيان في القرنين التاسع عشر والعشرين، هم: فكتور هوجو، ألفريد دوفيني، جوت، شيلر، هين، لييوباردي.
وما هؤلاء الستة بالذين قصر عليهم الكلام بل ذكر غيرهم من النوابغ، وأتى بترجمة كل منهم وأورد ما أجمع الرأي على إيثاره من محرراتهم، وهذه أسماء الآخرين: ألفونس كلر، شيلر، توركواتو تاسو، جون ملتون، جوزيف أديزون، شيلي، بيرون.
لماذا عانى محمد أفندي كامل حجاج تعريفنا بشعراء الغرب وكُتَّابه؟
شرح لنا ذلك بألطف إشارة في مقدمة هذا الجزء تحت عنوان «كلمة في الإنشاء» بدلالته إيانا على مواضع جهلنا، وإرشاده إيانا إلى ما يجب أن نعلم لنصير كُتَّابًا حق الكتاب، كما يفهم المعنى الذي تقتضيه ضرورات هذا العصر عصر المعارف والفنون في أسمى ما ارتقت إليه مدارك الناس.
ولما كان الغرب هو المورد الأعظم لكل ما يجدر بنا أن نرده من حياض تلك المعارف والفنون لم يضن علينا محمد أفندي حجاج في عنوان آخر «كلمة في الترجمة» يهدينا بها الصراط الذي يوفق بين ما تأتيه ذهنية الغرب وما تقبله ذهنية الشرق فيما يرتبط بالأدبيات.
وسرعان ما يتبين المطالع بعد أن يقف على الغُرَر التي جاء بها في تعريبه أنه قد وفق في النقل ما شاءت البراعة في اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها، وما شاء رقي الوجدان عنده مسامتًا للوجدان الراقي الذي أوحى إلى أولئك العبقريين الغربيين غرر مبتكراتهم.
ولقد أردت حين قراءتي لقطعة قطعة أو قصيدة قصيدة مما صوره الأديب بقلمه البديع العجيب أن أتبين ما إذا كان أسلوبه الإنشائي ينطبع بطابع الأسلوب الإنشائي المنقول عنه، فوجدت أثر ذلك فيه ولكن بمقدار، إذ لا ينبغي أن ننسى ما بين التعبير بلغتنا العربية الفصحى لغة الكتابة دون التكلم، لغة الفكر المتهيئ لا الفكر المتبادر، لغة الإحساس المصطنع المستعير أدوات أزمنة أخرى للظهور لا الإحساس المتدفق فورًا بعوامل ما بين يديه من مؤثرات الحياة العتيدة، وبين التعبير بتلك اللغات الأجنبية التي هي لغات الحياة الحاضرة بكلياتها وجزئياتها.
فيا أيها الصديق الذي أتحفني بهذا الجزء الثاني من كتابه الجليل، بارك الله في يقظتك ونشاطك، وفي ألمعيتك وعظيم خدمتك للغتك، وأي شيء يُتوصل به إلى تجويد القول أفضل من حسن الاختيار والتنويع فيما تُستنبض له القلوب وتُغذى به العقول.
(٢) الكاتب القدير الأستاذ مصطفى راشد رستم
كثيرون من أهل اللغة العربية ينكرون على غيرهم من أهل اللغات الأخرى ما ينسبونه هم إلى اللغة العربية من السعة والفصاحة والبلاغة وكثرة وسائل التعبير، وقليلون منهم يعرفون عوامل الجمود والتقهقر التي حاقت بالعربية من جراء التمسك بتلك الفكرة السيئة.
على أنه منذ بدأت تدرس اللغات الغربية في الشرق أخذت شجرة «التمسك باللغة العربية دون غيرها» تهتز بشدة أمام رياح الغرب القوية، وتتساقط أمامها أوراقها وأزهارها حتى كادت تُجْتَثُّ من فوق الأرض، وقد عالج هذا الأمر كثيرون من أهل الموضوع، واهتدت الأغلبية إلى طريقة تشبه طريقة التطعيم النباتي.
ومن الكاتبين من رأى أن يدمج معلوماته الغربية في كتاباته العربية، ومنهم من جعل ينبه عليها في مظانها بلغاتها، ومنه من أنشأ ينقلها إلى العربية إما نقلًا حرفيًّا أو معنويًّا، ولكل من هؤلاء أدلته على صحة رأيه.
ومن الذين رجحت عندهم فكرة الترجمة على غيرها من الآراء الأخرى الأديب «محمد كامل حجاج»، فقد تفقد صفحات من أدب بعض الأمم الغربية واختار منها محاسن فيها وترجمها ونشرها بين الناطقين بالضاد لتزداد بها مادتهم الأدبية.
وهو «يحافظ على الألفاظ والجمل محافظة دقيقة، ولكنه يتصرف في ترتيب الألفاظ طبقًا لما يستوجبه ذوق اللغة التي ينقل إليها»، وهو يرى أن هذا هو أعظم أسلوب في الترجمة والمتبع بين أفاضل المترجمين في أوروبا.
وكذلك يرى «أنه لا ينبغي للناقل أن يترجم شيئًا لكاتب أو شاعر دون أن يقرأ عدة قصائد أو قطع ليَسْبُر غَوْرَه وتتجلى له روحه ومراميه»، وهذا النوع الأخير هو الذي اتبعه في تعريبه.
•••
«بلاغة الغرب»: جزءان كبيران ولكنهما مع ذلك قطرة من بحر محيط واسع، على أنها قطرة قد تطفئ قدرًا كبيرًا من ظمأ المتعطشين، وكذلك هي قطرة حلوة نقية صافية.
أطل المعرب الأديب من وراء ستار مجهوداته الكريمة على ساحة اللغة العربية الواسعة منذ سنين، بجزئه الأول من بلاغة الغرب، وكان الجدل بين أهل تلك الساحة قائمًا، وكذلك لم تكن لشواغل الحروب وحوادث الأيام ما لها من الأثر الكبير في حياة العقول الآن، فتناولوه يومئذ حاجة جديدة ومادة للجدل، ولكنهم انتهوا منه على تشجيعه واستحسانه، ولم يكن هذا التشجيع مع الاستحسان والقبول إلا داعية ثبات الأديب على فكرته واستمراره في مجهوده، وما كان التصفيق له في الأولى إلا دليلًا على فائدة عمله وحسن اختياره وجمال أثره وأنه المكافأة الواجبة من ظمآن لساقي الماء الزلال؛ لذلك جاء في الثانية مثله في الأولى. لم يقف ولم يتقهقر بل سار وتقدم وهو يتلفت حوله فاقتطف من مختلف الرياض ما جمع به طاقته الأدبية من أزهار الجنان الغربية الواسعة الغنية، وقدمها للجمهور العربي في شكل أختها السابقة.
وقبل أن نلقي بالنظرات على أزهاره ومقتطفاته الجديدة نقول: إن تمسك الأديب كامل حجاج بأن يكون جزؤه الثاني مثل جزئه الأول من حيث الشكل والطبع وحسن الورق وإتقان العمل دليل واضح على أنه يحمل للجمهور القارئ احترامًا كبيرًا جليلًا، كما أنه برهان على تحفظه ورعايته للدقة والعناية، وقد كان سهلًا على الأديب أن يجد المعاذير الجمة إذا هو أراد أن يخرج كتابه الثاني أقل جودة من كتابه الأول.
•••
الجزء الثاني من بلاغة الغرب ينشر بين الناطقين بالضاد مختارات من أدب الفرنسيس والإنجليز والألمان والطليان، وبينما ينقل المترجم عن ألفريد دوفيني الفرنسي «غضب شمشون» الجبار وقد هلكت قوته فينادي: «أيها الدائم قهار الجبابرة …» وينقل عنه «الأقدار» وهي تقول: «نحن الأقدار المشئومة من لم تخطئ سهام سطوتنا القديمة فردًا من الناس، قد أتينا نستعلم عن أحكام المستقبل …» إذا به يترجم القطعة الخاصة عن بيتهوفن شيخ الموسيقيين للكاتب البولوني الأصل الفرنسي اللغة؛ ألفونس كار، صاحب رواية تحت ظلال الزيزفون.
ولما اجتاز المترجم الحدود بين فرنسا وألمانيا — وهي في دور الأدب لا حرس عليها ولا جمارك لها ولا مناطق احتلال ولا رور ولا رين — ذهب إلى «صاحب التاج والصولجان بين الشعراء الألمان» جوت ونقل عنه كثيرًا، ولما ودع جوت استقبل شيلر «ثاني شعراء الألمان» ونقل عنه «الرهين» وهي قصة تشبه قصة العربي مع النعمان بن المنذر، كذلك نقل «الغواض» الذي يقول: إن السعداء من يستنشقون هذا الهواء النقي.
ولما تحول عن ثاني شعراء الألمان أقبل على «ثالثهم» هنريش هين فترجم له «بحر الشمال» بمقطوعاتها الشعرية الكثيرة: «إن في الشمال غادة … تدلت حلقات شعرها الفاحم كليلة هنيئة من رأسها المتوج بغدائرها المفرغة حول وجهها الأزهر المؤثر الذي تسطع به عينها الشبيبة بشمس سوداء.»
ثم انحدر المترجم من بلاد الجرمان مخترقًا جبال الألب إلى بلاد الطليان وأنصت إلى شاعرهم «تاسو» وشهد روايته «أمنت» «التي لم يستطع أحد من الكُتَّاب أن يأتي بمثلها».
ثم أبحر من إيطاليا إلى إنجلترا حيث قرأ على «نابغة من فحول شعرائها ملتون» «الفردوس الضائع» فنقل منها حديث إبليس: «وحيث ضاعت مني كل النعم والطيبات فكن نعيمي أيها السوء … وربما استطعت بك أن أحكم على أكثر من نصف العالم.» ثم حديث آدم وقد سمع ربه يقول له بعد أن استوحش آدم الأرضين: «كيف تذكر وحدتك؟ أليست الأرض معمورة بمختلف الخلائق الحية؟ … استخدمها وتحكم لملاهيك فيها فمملكتك واسعة الأرجاء.»
ثم نقل عن أديسون الكاتب الكلاسيكي الفكه، وعن شيلي وبيرون الشاعر الذي كان يشرب الخمر في جمجمة إنسان وهو في ثياب راهب …
•••
تلك بعض مختاراته وحبذا لو كان المعرب قد أتم طوافه في أوروبا بزيارته روسيا، فإن للأدب الروسي مميزاته وله دولته الجديدة المبدعة.
والقطع المختارة وإن كانت قليلة بالنسبة للأدب الغربي الواسع المحيط غير أنها من دُرَره النادرة، وهي توحي الشيء الكثير من معنى روحه وطريقته، وذلك أفيد ما يكون لمن لا يعرف إلا العربية، أما من يعرف اللغات الأوروبية فإنا نرى له أن يدرس آدابها بها نفسها أو بإحداها إذا اختص بواحدة منها، فإن قراءة لغة أوروبية أنتج وأسهل من قراءتها باللغة العربية.
ومن حسنات المعرب أنه جاء لكل شاعر بفذلكة من تاريخه ونقده، أما لغته فإن رأيه في طريقته الطيبة مذكور واضح كما أن الجمل التي اقتطفناها ظاهرة غنية.
والآن فإنا نشكر المعرب وندعو معه النشء القارئ أن ينعم النظر فيما بين يديه من الأدب الغربي، وأن يبحث عنه، وعليه أن يجمع بين بيان العرب وبلاغة الغرب.
ميدان سليمان باشا ٣
في ٢٢ نوفمبر سنة ١٩٣٢
سيدي المفضال
قد وصل إليَّ كتابكم، وأما الجزء الأول منه فقد كنت قرأته من زمان في رومية، إذ تفضلتم وأرسلتموه إلى والدي، ولم يكن لي شك منذ ذلك الزمان أن تأليفكم هذا من دواعي النهضة الحديثة في القطر المصري، وأما الجزء الثاني فقرأته في هذه الأيام لأول مرة، وهذا سبب تأخير ردي الجواب إليكم فاعذروني، ولقد أعجبت بالكتاب غاية الإعجاب وزادني إعجابًا ما قلتم في «كلمة عن الإنشاد» وأصبتم فيها الإصابة كلها.
هذا وأظن أنه من الواجب عليكم أن تضيفوا إلى فضل فضلًا، وتنشروا تراجم تامة لبعض التآليف الغربية حتى تقف الشبيبة المصرية على كنه الأسلوب الغربي، وأنتم خير المرشدين إلى ذلك، وهذه مسألة مهمة تأبى قلة علمي في هذا الميدان أن أستقصيها.
ولا بد لي من أن أعبر عن عواطف شكري لهديتكم الثمينة، ولتلك العبارات اللطيفة التي استعملتموها في رسالتكم مما لا تستحقه قلة فضلي، ولا أرى سببًا له إلا فرط لطفكم.
وتفضلوا بقبول آيات احترامي.
(٣) الأستاذ محمد بك فؤاد حمدي رئيس نيابة محكمة مصر المختلطة
يقولون: إن التأليف إذا احتاج إلى الفكرة مرة واحدة فإن الترجمة محتاجة إليه مرتين، وحسن الاختيار محتاج إليه مرات ثلاث، ويقول الشاعر العربي:
وإن كتاب «بلاغة الغرب» الذي حوى من أحاسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره لجدير بتقريظ مطران، إذ يقول:
ظهر الجزء الأول من هذا السفر الجليل سنة ١٩٠٩ حافلًا بأبدع وأروع ما جادت به قرائح فحول شعراء فرنسا، فخف إلى تقريظه أكابر الأدباء أمثال: طنطاوي جوهري والمنفلوطي، وطفقت كبريات الصحف تثني على أمانة معربه في النقل وصدق أسلوبه، وبراعته في التوفيق بين البلاغتين الفرنسية والعربية، واحتفاظه بموسيقية القصائد التي عربها وبدقة الفن الذي يفيض عليها رواء وبهجة وجمالًا.
بل لقد تجاوزت ذلك إلى نشر قطع من الكتاب هي بالدمى والتماثيل أشبه من حيث انسجام الأجزاء وتلاؤم المظاهر واتزان الصورة العامة، فقد نقلت «اللواء» عنه قصيدة العزلة للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين، نشرتها يوم ٥ أبريل سنة ١٩٠٩، ثم نشرت قصيدة «إن للرمال للينًا خائنًا كلين النساء» لفكتور هوجو التي نشرها «الدستور» في ٩ أبريل سنة ١٩٠٩، ونشرت «الجريدة» يوم ٣ أبريل سنة ١٩٠٩ قصيدة «نابوليون الثاني» لفكتور هوجو.
ولما كان كتاب «بلاغة الغرب» الأول من نوعه، وكان قد حظي بقوة الذيوع والانتشار بين المستنيرين وغواة الأدب، فلا مراء في أنه كان حجرًا في زاوية النهضة الأدبية في البلاد، جاء الكتاب في مستهل عهد الثورة الفكرية التي نادت بتحرير الأسلوب والخيال والاتصال بالحياة الجميلة النبيلة، ولو سألت أيًّا من الكُتَّاب والأدباء المعاصرين سرد أدوار تطوره الفكري لوجدت أنه مر بدور تأثر فيه بمعربات الأستاذ محمد كامل حجاج، ونرجو هنا أن يفطن القارئ إلى ما نقصده بالانفعال والتأثر فهو إما إيجابي وإما سلبي؛ إيجابي في الذين لم يمرحوا في رياض الأدب الغربي، سلبي في دارسيه والمتعمقين فيه، وكلنا قد عالج الانفعال لدى مطالعة قصيدة أو طرفة أدبية كان قد استوعبها بلغتها الأصلية، وقد اطلعنا على الثاني من بلاغة الغرب فجاء تكملة لمجهود فني أدبي عظيم، فإن معربنا الجليل ضم إلى المختار من الشعر الفرنسي نبذًا صالحة ونماذج رائقة من الشعر الإنجليزي والألماني والإيطالي، ونحن نرجو حضرته أن يواصل هذا المجهود النافع فيجعله سلسلة متماسكة الحلقات.