الغاية الكماليَّة: ضرورتها للأفراد والجماعات
ليس التاريخ إلا سرد الوقائع التي قام بها البشر في متابعتهم غايتهم الكمالية.
(١) ضرورتها للأفراد
إن «الإنسان تبعٌ للفكرة» وإنه «كما يفتكر الرجل يكون»، أو بالأحرى «هو مركب من اعتقاداته، فكما تكون يكون.»
إن هذه الآراء هي باتفاق تام مع علم النفس الحديث الذي يثبت أن الأفكار هي الأساس الراسخ للأعمال، وفي «الثالوث» النفسي أن الإرادة تدفع، والفكر يقود، والسعي يتمم، وما العمل إلا مظهر الفكرة.
فمصير الرجل من الرجال والأمة من الأمم يتوقف على الأفكار السائدة. فالمصور الذي يتناول قلمه وقلبه طافح بمنظر الجمال فيبرز لعالم الوجود عملًا متقنًا يبهر الأنظار ويستأسر الألباب، يشبه فرنسا إذ ثملت بخمرة الحرية وفكرة الاستقلال، فألقت بنفسها على أوروبا لتحطم قيودها، على هذا النمط تتقدم الفكرة العمل؛ فالفكرة إذن مبدعة، والعمل مستحدث تابع.
بيد أنه يوجد مع كل ذلك فرق عظيم بين الغايات المتنوعة والمبادئ العديدة؛ فمنها المظلمة المبهمة والمترددة الباطلة التي لا تترك أثرًا ثابتًا في الأخلاق، ومنها الراسخة القويمة التي تدع فيها أثرًا لا يزول أبدًا.
إن الفكرة الثابتة أو الغاية الكمالية — كما يعرِّفُها علماء النفس — هي التي تستحكم في مخيلة شخص من الأشخاص، فيتشبث بها رغمًا عن الوساوس والمماحكات، أو بالأحرى عن كل تلك القوى الخارجية التي تقذف غالبًا بالإنسان في هاوية لا قرار لها، وترمي بضعاف الأحلام في وهْدة لا مناص منها.
إذا كانت هذه الفكرة حسنةً جميلةً، أو كان هذا المبدأ موافقًا للنظامات الطبيعية، قادت صاحبها إلى ذِرْوة الفضائل، وأما إذا كانت باطلة تافهة، أو كان مبدؤها مغايرًا لنواميس الوجود، أخذت بيد رجلها المنكود فألقته في دركات الجنون المطبق والتعصب الأعمى.
ومن فاتته الغاية الكمالية كان كريشة في مهب الريح، اتفقت عليها عواصف الأحوال وزوابع الأهواء فأضحت تسير خاضعة للفواعل الطبيعية، لا وجهة يقصدها ولا ضالة ينشدها، أما من بنى لنفسه مبدأً عاليًا خاصًّا به فاتبعه وجعله كعبة يحج إليها، فإنه يتقدم سائرًا إلى الأمام دون أن يرتد على أعقابه، وإن رجع خطوة أو خطوتين كان ذلك استعدادًا لوثبة هائلة تحني ظهر العوائق والعقبات، فهو بمثابة المركب الذي يطيع الدفة في سيره فوق الأمواج المتلاطمة، في بحرٍ يعبُّ عبابه.
إن أهم أمر في تربية النشء هو أن نضع أمام عينيه مبدأً متين العُرى، قوي الدعائم، فاضلًا ساميًا، مستخلصًا من حياة أعاظم الرجال وشهيرات النساء؛ ليكونوا قدوة ينسج على منوالها، ومثالًا يتبعه في مآثرهم وفضائلهم وجلائل أعمالهم؛ لأن خيال الولد المتَّقد وذكاءه الفطري يبعثان الحياة في هذه الصورة العظيمة التي تقع تحت أنظاره، فيقتطف منها مبدأً ثابتًا، فإن طمحت نفسه لمنصة الحكم، أو صَبَتْ ميوله إلى التجارة، أو سمت رغبته إلى الفنون الرفيعة، أو أراد أن يكون وطنيًّا صادقًا صالحًا، وجد ذلك المبدأ طِبْقَ رغائبه ومطالبه وميوله وآماله.
والخلاصة أن الغايات الكمالية هي المُسَيِّرة للأفراد؛ فالذين يسعون وراء تسميم هذا الينبوع الصافي العذب، ألا وهي الفكرة الحسنة والمبدأ القويم، هم أعداء الإنسانية وعبءٌ ثقيلٌ على عاتقها يُقَوِّض أركانها ويهدم بنيانها ويقودها إلى الخراب.
وليس لأفراد الأمة العربية من غاية كمالية أسمى وأعلى من النهضة بالعرب، وإعادة مجد العرب!
(٢) ضرورتها للجماعات
ليس التاريخ إلا سرد الوقائع التي قام بها البشر منذ أقدم الأزمنة في متابعة الغايات الكمالية، أو هو بالأحرى معتقد يموت وآخر ينبثق، ضالةٌ تضمحل وأخرى تدب فيها الحياة، وما من كتاب عن الحضارات الكبرى كاليونانية والرومانية والعربية إلا وذَكَر هذا العامل في رأس العوامل، فإن الإيمان المشترك بين أفراد الأمة من الأمم يهبها قوة هائلة، حتى إذا كان إيمانًا وقتيًّا، فقد شهدنا الفرنسيس في عهد الثورة، وقد احتدم في صدورهم اعتقادهم العام بالديمقراطية الشريفة، يقفون في وجه أوروبا بأسرها ظافرين منتصرين.
«لا تخرج الأمم من الهمجية إلا حينما يكون لها مقصد سامٍ أو غاية كمالية تشخص إليها، وذلك لا يتم إلا بعد مجهودات طويلة ومغالبات متجددة، وسواء كان هذا المقصد العام ألوهية «روما»، أو تعظيم «أثينا»، أو نصرة الله، فهو يكفي لتوحيد أفكار الأمة، وهي في دور التكوين.»
أدركَتِ الأمم فائدة المعتقدات العامة، وفطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها (هذا خطأ محض؛ فإن الجماعات — والأمم الخاضعة لمعتقدات عامة هي كذلك جماعات — لا تدرك ولا تفطن أبدًا، كما يقرُّ به العلَّامة في جميع مؤلفاته، بل تسير منقادة للشعور أو العاطفة، تخضع لهما قهرًا دون أن تعلم فائدة اجتماعها على هذه المعتقدات، أو ضرر هجرانها إياها، ولعله خطأ من حضرة المترجم) فعبد الرومانيون مدينة روما عبادة المتعصبين، فسادوا على الدنيا أجمع، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما واستمر البرابرة الذين ضربوا ملكها على همجيتهم، حتى إذا رسخت فيهم بعض المعتقدات العامة وُجد فيهم شيء من الامتزاج والتآلف وخرجوا من الفوضى.
وعليه تُعْذَرُ الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها؛ لأن هذا التعصب هو في الحقيقة أرقى الفضائل في حياة الأمم، وإن كان مذمومًا من الوجهة الفلسفية.
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوف من الناس إلا للذَّبِّ عن معتقد عام، أو لِبَثِّ معتقدٍ عام جديد في النفوس، وما مات الكثير من المخترعين والمبدعين، والأسى ملء قلوبهم، إلا لأنهم لم ينالوا قسطًا من العذاب لأجل تلك المعتقدات، وما اضطربت الدنيا المرة بعد المرة إلا للدفاع عنها، وما ماتت الملايين في ساحة الوغى إلا بسببها، وكذلك يكون في مستقبل الأيام.
للاعتقاد قوة لا يغلبها إلا قوة اعتقاد مثلها، فليس للإيمان عدوٌّ إلا الإيمان، والنصر حليفه متى كانت القوة المادية التي تعترضه خادمة لشعور ضعيف ومعتقدات تولاها الوهن، ولكن إذا اصطدم بإيمانٍ يماثله في قوته أصبحت الحرب عَوانًا، وصار النصر مَنُوطًا بالأحوال الثانوية التي تكتنف الغالب منهما.
والخلاصة أن انبثاق الغاية الكمالية أو المقصد العالي أو العقيدة لعامة كان دائمًا طليعة لحضارة مقبلة.
فمن همجية إلى حضارة وراء معتقد كمالي، ومن حضارة إلى انزواء فموت مع اضمحلال هذا المعتقد، ذلك مدار حياة الأمم، ولا تنفع حيلة في معتقد رسخ في النفوس!
وليس لمفكري الشعب العربي من مشروع الآن أفضل وأسمى من جعل المبدأ العربي ديانة للعرب.