الثورات والثورة الفكرية
(١) تعريف الثورة
تطلق كلمة الثورة إطلاقًا عامًّا على كل الانقلابات الفجائية في المعتقدات والآراء والمذاهب، أو التي تظهر كذلك.
تنتهي الثورة برسوخ معتقد، ولكنها تبدأ غالبًا بتأثير محركات أدبية خالصة، كالامتعاض من الإرهاق بالضرائب، أو كره الدور الاستبدادي الشديد، أو بغض الحاكم لظلمه، وهلمَّ جرًّا.
وللثورة أقسام ثلاثة: علمية، وسياسية، وفكرية.
(٢) الثورة العلمية
إن الثورة العلمية أهمُّ الثلاثة فلسفيًّا؛ إذ هي تأتي غالبًا بنتائج لا تصدر عن الثورة السياسية، ولو لم تكن تستلفت الأنظار.
من هذه الثورات قيام النظريات الداروينية التي زعزعت أسس «البيولوجيا» علم الحياة القديم، واكتشافات باستور التي جددت علم الطب في حياة صاحبها، وهلمَّ جرًّا.
وعلى الجملة، فإن للثورات العلمية أكبر أثر بيِّن في حياة البشر، سل عنه الاكتشافات المستحدثة والاختراعات الجديدة.
(٣) الثورة السياسية
يمكن أن تصدر الثورات السياسية عن معتقدات ترسخ في النفس، أو تتأصل في القلب، ولكنَّ أسبابًا غير هذه كثيرة تساعد في وقوعها وتَأَجُّج نارها.
فالاستياء في الدرجة الأولى، ثم إنه حين يتعمم الاستياء يتألف حزب قوي لمقاومة الحكومة.
ومن الضروري أن يكون الاستياء قد تراكم أعوامًا طويلة؛ ليحمل الثمرة المطلوبة، ولتكون نتيجته أبلغ وأكثر وضوحًا، ولذلك ليست الثورة حادثًا ينتهي يتبعه آخر يبتدئ، بل هي — إذا كانت قوية حقيقية — حادث مستمر يسبق أوانه أحيانًا، بعد أن يكون سائرًا في نهج التطور النشوئي.
أما الثورات الحديثة، من البرازيلية والبرتغالية، إلى التركية والصينية، فحركات فجائية لم تؤدِّ إلى قلب حكوماتها إلا قلبًا وقتيًّا.
يغلب على الثورات الكبرى أن تبدأ من أعلى لا من أسفل، لكنه بعد أن يتملص الشعب من قيوده تصير مديونة بقوتها إلى جماهيره من العامة.
ولا تكفي الحركة الحربية وحدها لقلب الحكومة؛ إذ إن الثورة الحاصلة بهذه الصورة فقط لا يمكن أن تقدم لنا نتائج حسنة إلا إذا كانت مؤسسة على استياء عام، وآمال كبيرة، أو بكلمة واحدة على ثورة فكرية.
فمتى نمت هذه الأفكار، وسرت في النفوس سريان الكهرباء في الأجسام، وتعممت بواسطتَي الإقناع والعدوى، ومساعدة الصحف والكتب، والمدارس والجمعيات، نضجت الثورة وحُمَّ القضاء، وقُضي الأمر.
لا جرم أن الساعة هائلة، والمنظر فظيع، ولكنْ هي الثورات لم تسلم منها أمة، وهو الناموس الطبيعي يقضي بأنْ لا نظام إلا على أسس الفوضى، وهي الظروف تحتم على الشعب — في بعض الأحايين — أن يسير على الجثث والجماجم، إلى النهضة والعمران، وليس ثمَّة دساتير أخلاقية هنا؛ فللأمم حق الحياة، وجميع الوسائط التي تستعملها حق مشروعة.
(٤) الثورة الفكرية
الثورة الفكرية هي التي تحدث تدريجيًّا في روح الأمة، من مشاعرها وآرائها إلى عاداتها ومعتقداتها؛ لتوجد لها روحًا قومية جديدة، وبالنتيجة مشاعر وآراء وعادات ومعتقدات جديدة، وهي أهم بالمغبات من سائر الثورات، تحدث انقلابات اجتماعية لا يعد شيئًا بالنسبة إليها ما تحدثه الثورة السياسية التي تكون أحيانًا نتيجة لها كما تقدم، وأعظم الثورات الفكرية في التاريخ قيمةً وتأثيرًا ما قام منها بشكل ديانة كالديانات المسيحية، والمحمدية، والبروتستانتية.
إن الثورة الفكرية تربط الشعب بوحدة أدبية تنمِّي قوته المادية، وقد ظهر هذا لما جاء محمد ﷺ فألَّف من قبائل الجزيرة شعبًا هائلًا شديد السطوة كبير السلطان.
وهي لا تكتفي بتوحيد الشعب، بل إنها تغير كذلك ما لا يقدر قانون ولا فلسفة على تغييره، ألا وهي مشاعر الأقوام التي تكون الثورة فيها، وحينئذ تقوم مدنية جديدة على أمتن الدعائم.
ألا وإن الثورات الفكرية مخ التاريخ ولبابه؛ إذ هي التي تمنع الشعوب من أن تبقى مبعثرة، كلٌّ من أفرادها يعمل على شاكلته، لا رابطة تجمعهم، ولا عروة تضمهم، فلا قوة إذن لهم، ولقد احتاج البشر إليها في كل العصور؛ لأن الأفكار والمعتقدات هي التي تدير الإنسان في جميع ما يأتيه من الأعمال، ولم تنجح فلسفة إلى الآن لتحل محلها أو لتقوم بوظيفتها حق القيام، وهذه الأفكار والمعتقدات بعيدة جدًّا عن الجمود والبقاء على حالة واحدة، ثابتة مع كرِّ الغداة ومَرِّ العَشِيِّ وتقدم المعارف، ونماء الحاجيات البشرية.
المدنية تسرع في خطاها، والأفكار تتجدد على الدوام، وما كان شعب قط ليحفظ كيانه أو يعيش عيشة راضية إذا كان واقفًا في مكانه لا يتحول، ولا يجاري المدنية في سيرها، والأفكار في تجددها.
(٥) المحافظة والتجدد
أصعب الثورات وأوعرها طريقًا هي المُوَجَّهة لا لبعض الأشخاص أو للحكومة عمومًا، بل للعوامل الخفية الكامنة، وهي التقاليد والعادات الموروثة، والأفكار القديمة المستحكمة في النفوس، فالأمم التي لا تجاري المدنية في سيرها السريع، ولا يهتدي المفكرون فيها أو قادتها إلى طريقة حسنة يدفعونها بواسطتها دفعًا لطيفًا موافقًا إلى ترك تراثها البالي رويدًا رويدًا، واعتناق آخر يوافق روح الزمان يكون مصيرها الخراب والموت الاجتماعي.
- الأول: وجود قابلية التبدل.
- الثاني: التثبُّت والتأني.٥
يُفهم من هذا أن محافظة الأمم على التوازن بين ماضيها وبين ما تتطلب اعتناقه من الجديد أصلح لها من الطفرة، وهذه حقيقة يقرُّ بها جميع العلماء الاجتماعيين، فلا تجد من ينكرها، أما ما نراه في بعض الشعوب من مخالفتها والزيغان عنها فذلك لأنها بطبيعتها ثوَّارة على القديم عاشقة للجديد، أو لأن بعض الظروف المشئومة تضطرها إلى ذلك.
والمهتدون إلى مركز التوازن من الأمم هم الرومانيون قديمًا والإنجليز الآن.
ذكرنا الرومانيين؛ لأن الفتوحات أوجدت صلة دائمة بين روما والشعوب الأجنبية، فكان ذلك باعثًا لها على إدخال التعديل في أوضاعها ونظاماتها، بما يظهر لها من العوامل الجديدة، وأسعد أيام الرومانيين هي الأيام التي تمسكوا فيها بمركز التوازن بين ذينك الطرفين.
وأمة الإنجليز كذلك حذَت وحدها في هذه الأيام حذو الرومان في التمسك بمركز التوازن بين الاحتفاظ بالقديم والأخذ بالحديث.
•••
أما الأمة العربية فلم تحتفظ بالتوازن إلا في أيام الراشدين، وإن كانت في ذلك العهد محافظة على القديم بعض المحافظة، وأيام الأمويين في الشام، وأول ملك هؤلاء في الأندلس، وأول خلافة العباسيين، وما عدا ذلك حتى يومنا هذا فقد اكتفوا بما هم عليه فاختلت الموازنة فصاروا إلى حالتهم الحاضرة.