واجب مفكِّري العرب
لا أنكر أن هذا المشروع جليل صعب المنال، ولكن همم الرجال لا تقصر دونه إذا كانت عالية، فعلى المفكرين أن يسيروا لإصلاح الأمة في المنهج الذي قدمناه بملء الحذر والتأني، وينبغي أن يكون الجديد الذي يأتونها به قريبًا من القديم قرابة ضعيفة، أو أن يظهر كَتَتِمَّة له ملازمة، فإن شكل الثوب الذي يصير زيًّا متبعًا يكون كذلك إذا لم يمس النقط الأساسية لزي الثوب القديم، يقولون إنَّ الجماعات بلهاء قاصرة الإدراك، كلَّا، لَعَمْرِي إنها ليست كذلك في ذاتها، ولكن بالنسبة للأفراد المبرزين فقط، أو الذين هم أذكى من جميع بني عصرهم، وهي تمثل درجة الارتقاء العقلي الذي كان آخر ما توصل إليه عظماء الجيل الماضي وما قبله، إن العظماء اليوم هم في الحقيقة أكثر منها تقدمًا وأوسع فكرًا، غير أن الجماعة ستكون غدًا في نفس درجتهم العالية، وإذا وقف سواد الأمة الجاهل في وجههم وعارضهم أعنف المعارضة وجب عليهم أن يثبتوا ويصبروا، ولا بأس في أنْ لم يروا بأعينهم ثمرة سعيهم وكدهم الشديدَيْن، فليجوعوا؛ ليأكل أبناؤهم من بعد، فإنما وُجد الآباء ليموتوا في سبيل الأبناء!
ولتجِدُنَّ يقينًا — وَايْم الحق — من يقدركم حق قدركم، وينظر إلى مآثركم نظرة الامتنان والتَّجِلَّة.
الأمة الآن طفل صغير، لا يعرف ماهية الحياة، ولا يدرك ظلمة مستقبله، عليكم أن تربوه وترشدوه لما فيه الخير واليُمْن، ولو كان هذا الطفل شرسًا ذا أنياب حادَّة، وشريرًا في بعض الأحايين يسيء إلى مصلحيه، تعهدوه ولو كان يكرهكم وآراءَكم.
فعلى الأستاذ في مدرسته، والكاتب والشاعر والخطيب من أبناء العرب، الأول إذا وقف بين تلامذته يلقي عليهم درسه، والثاني إذا استدرَّ قلمه لتسويد صحيفة في أحد المواضيع، والثالث إذا استوحى آلهته «موز»، والرابع إذا اعتلى المنبر في حفلٍ ما، أن يرمي فيما يلقيه ويكتبه وينظمه ويخطب فيه إلى تلك الغاية العليا والمقصد الأسمى؛ جعل العربية ديانةً للعرب!
فإن أمثال هذا العصر الأدبي كانت ولم تزل أكبر العوامل في نهضة الشعوب، نعم، إنها لا تخلق السفن ولا المدافع، ولكنها كما قال الأميرال «توغو» روح هذه السفن والمدافع، والمعتقدات الشديدة مخربة أحيانًا، خالقة على الغالب، غير أنها لا تقاوَم أبدًا؛ فهي أقوى قوى التاريخ والدعائم الحقيقية للحضارات، ولا يمكن أن تُعمَر الشعوب طويلًا بعد موت آلهتها.
من ذلك تأثير حوادث التاريخ الكبرى، فإنها توقظ الروح القومية، فتجعلها تتلهف على تلك الأيام السالفة، أيام الرفاه والمنعة والسلطان، وتحفزها إلى تجديد ذلك العهد، وترديد تلك الذكرى.
ومن هذا النوع تأثير الروايات التمثيلية التاريخية في تشكُّل هذه الروح السامية، بين دفات التاريخ وقائع الماضي، وسِيَر رجاله وأعمال أبطاله واضحةٌ جليَّةٌ، يقرؤها القارئ فيشعر في ذاته نفسًا تتَّقد غيرةً وحمية، وعلى المسارح العمومية أشخاص ذلك الماضي يروحون ويغدون، ويقولون ويعملون، يتأمل فيهم الفتى ويصغي إليهم، فترتسم في مخيلته صورهم الجليلة، وكلماتهم الحكيمة الصادقة، فتهيب به إلى الأخذ بأسباب النهضة، وطرح الخنوع جانبًا قصيًّا، إن التاريخ تمثيلٌ صامتٌ، ولكن التمثل هو التاريخ الحي بأعلى مظاهره. والحكومات إذا أرادت أن تُنسي قومًا شخصيته، وتجعله لا يفكر في الرفعة، ولا يأبه للمجد والذِّكْر الحسن والعمل الصالح، أنسته تاريخ أجداده، فتمَّ لها ما أرادت من استعباده وتسخيره، كما تُسخَّر الحيوانات العجم في حمل الأثقال ورمي الأقذار.
كذلك من مقومات هذه الروح إقامة الحفلات والأعياد للمشاهير؛ إجلالًا للبطولة، واحتفاءً بالعظمة، ونظم الأناشيد الوطنية التي ما سمعها ذو شعور حساس إلا أقامته الحماسة وأقعدته، وأسكرته خمرتها المنشطة.
الفكر القومي درجة من درجات الرقي البشري، لا مهرب منه عند حدٍّ محدود. والشعوب التي بلغت شأوًا عاليًا من العلم والمدنية تُقدِّس قوميتها، وتتعصب لها أشد التعصب.
ننظر في ذلك إلى أقرب الأقوام إلينا وهم الأتراك، شبَّت في هذه الآونة نار حرب قَلَمِية بين كاتبين من كبار الكتَّاب: هما سليمان نظيف، وأحمد أغايف، نشر الأول مقالاته في «اجتهاد»، والثاني في «تورك يوردي»، وهاتان المجلتان تدافعان عن مبدئين، بل تَنْشُدان ضالتين متغايرتين، كتب أغايف في رسائل عديدة، وهو يرد انتقادات خصمه، القضية التي يدافع عنها ليؤيدها، قال ما خلاصته:
«يتألف تاريخ الشعب من حوادث ماضية منذ أصله ومنبعه حتى هذا اليوم، فليس الحاضر إلا تتمَّة الماضي، ولا يمكنك بالبداهة إهمال طور من أطوار التاريخ إلا ويرسخ في دماغك فكر عنه مغلوط، أو تسعى نحو مقصدٍ غير قابل التحقيق، لتعمل عملًا مثمرًا، ينبغي أن تعرف نفسك، ولا يقدر شعب على أن يكوِّن وجدانه إلا إذا عرف تاريخه وخصائص جنسه؛ أي مميزاته القومية، فالتاريخ العثماني لا يبتدئ حين رسخ قدم قبيلة «قايي خان» في آسيا الصغرى، والسلطان عثمان لم يصنع شيئًا سوى أنه نظَّم مملكة السلجوقيين، وخلَّد دوام عائلة هي في الأصل تركية، حكمت ولايات الأناضول الغربية ما ينيف عن قرنين، من أين أتى هؤلاء؟
– من تركستان، كل الذين يصعد أصلهم الجنسي إلى المنبع الطوراني يشكلون إذن الشعب التركي، واحدًا لا يتجزَّأ، بالرغم عن أشكاله الحالية المختلفة، وجنكيز خان وتيمورلنك يجب اعتبارهما ملكين تركيين عظيمين، بالرغم عن الفظائع التي ارتكباها ورميا بها إخوانهما في الجنسية والدين، وبصفتهما كذلك ينبغي أن نحفظ لهما مكانًا أو بعض مكان في روح الأمة التركية.»
ويقاوم سليمان نظيف في كتاباته فكرة التحريف الذي تود الناشئة التركية إدخاله في اللغة؛ أي تحاشي استعمال الكلمات العربية والفارسية، واستبدالها بكلمات مجهولة مأخوذة عن الأصول التركية والتترية.
يرى القارئ من ثنايا هذا البحث الجليل وبنوعٍ خاص القسم الأول منه، أن النابتة التركية قد أحلَّت القومية في الواقع مركزًا ساميًا مقدسًا، فوق كل شيء، وأن قادة الأفكار في الأمة فرغت من هذا الموضوع، فأخذت تفكر فيما يحدد هذه القومية، ومتى يبدأ تاريخها، وكيف تتعزز اللغة، أسمى مظاهر القوميات.
ونحن ماذا ترانا صانعين؟
•••
الخلاصة أن أعظم عمل يقوم به المفكرون في الأمة العربية، أو بالأحرى أول واجب عليهم، هو أن يُحدثوا فيها ثورة فكرية تدريجية تنتهي بتشكل ديانة جديدة، لا قيام لأبناء الضاد إلا بها، هي الجنسية العربية؛ ليصيروا مستعدين لتحمل قسوة ناموس الحياة العام.
الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها.