الفصل الأول
الدراسة البَيْنيَّة
للُّغة الإنجليزية وآدابها
كانت دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، ولا تزال، في بؤرة المناظرات
حول تشكيل المعرفة وتقسيمها، ولما كانت قد تأخرت نسبيًّا عن تدعيم
مبحثها العلمي، فإنها كثيرًا ما تعاني من التضارب بين عاملين؛ أما
الأول فهو الضرورة المؤسسية لتحديد مجالها الخاص، وتحديد أنشطتها،
وتبرير استقلالها عن المجالات الدراسية الأخرى، وأما الثاني فهو
اعتمادها على مداخل المباحث العلمية الأخرى ومادتها العلمية، بل لنا أن
نقول إن جميع التطورات والخلافات النقدية الكبرى داخل هذه الدراسة منذ
نشأتها باعتبارها دراسة جامعية ترجع، من زاوية ما، إلى صعوبة احتواء
مبحث واحد لجميع شواغلها، وإلى إمكانياتها البينية، فكما يقول هارولد
روزين (
Rosen) نجد موضوع أن هذه الدراسة
أبعد ما يكون شبهًا بأي موضوع آخر، وأصعب ما يكون على
التعريف استنادًا إلى تراكم الحكمة داخل أي مبحث أكاديمي واحد؛
إذ لا تسيطر مجموعة واحدة من الأفكار الأساسية على مجاله الحق،
ولا يستطيع أحد أن يرسم بثقة حدود أرضه، فهي دراسة تَستعمِر
وتُستعمَر، وحين نفحص الممارسات التي تتجمع في قلق تحت رايتها،
نجد أنها بالغة التنوع والتناقض، وتوقيفية وعشوائية إلى الحد
الذي يستعصي معه التحليل والشرح.
(روزين ١٩٨١م: ٥)
كانت دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها منذ نشأتها الأولى في المعاهد
والجامعات البريطانية تعاني ضَعف قاعدتها المؤسسية، وجِدَّتها وقلقها
باعتبارها مبحثًا علميًّا، وكان معنى هذا أنها لم تكن تستطيع على
الأرجح أن تجاري المباحث العلمية الراسخة في مناقشة فرضياتها
وممارساتها. وكان النقاد، مثل د. ج. بالمر
(Palmer) ومن تلاه، يرصدون جذور
هذه الدراسة باعتبارها «الدراسات الكلاسيكية للفقراء» في المعاهد
التكنولوجية، وفي الدروس المسائية، وفي الكليات والجامعات خارج
أوكسفورد وكيمبريدج، حيث كانت تُجرَى أحيانًا إلى جانب الموضوعات
«القومية»، مثل التاريخ والجغرافيا (بالمر ١٩٦٥م: ٧–١٨). ولما كان مولد
أي مبحث علمي جديد يعتمد دائمًا، في جانب منه، على تراكم المكانة
الفكرية الرفيعة — وخصوصًا على اعتراف المؤسسات والعلماء من ذوي
النفوذ، أو عدم اعترافهم، به بصفته مبحثًا مستقلًّا — فلم يحدث حتى
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين أن ظفرت دراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها بالقبول الكامل باعتبارها مجالًا دراسيًّا ذا سمعة طيبة، وكان
ذلك إلى حد كبير ثمرة لرسوخ أقدامها في جامعتَي أوكسفورد وكيمبريدج
العريقتين. ولكن حتى في ذلك الوقت كانت المباحث العلمية الراسخة تنظر
إليها باستخفاف بصفتها ما نسميه اليوم موضوع «ميكي ماوس»، أي الاختيار
السهل للطلاب غير الممتازين. والمأثور عن وليم صنداي، أستاذ اللاهوت،
أنه كان يؤيد إنشاء قسم للغة الإنجليزية وآدابها في جامعة أوكسفورد في
آخر القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، بسبب «الحاجة إلى تعليم
النساء، إلى جانب الرجال من الدرجة الثالثة الذين سوف يعملون بالتعليم
في المدارس» (بيرجونزي ١٩٩٠م: ٤١).
ويشير هذا التعليق إلى مشكلة أخرى لا تزال تكتنف الموضوع، ألا وهي أن
دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، على عكس كثير من المباحث الأكاديمية
الأخرى، لا تمثل رابطة قوية بين التعليم والتدريب لممارسة العمل في
المستقبل؛ فالعلوم الطبيعية والموضوعات المهنية — وهي التي نشأت، إلى
حد ما، استجابةً للحاجة إلى المتخصصين في المجتمعات الرأسمالية — تميل
إلى استهداف مجالات معينة في سوق الخريجين، وخدمة الاقتصاد بتوفير
«الرأسمال البشرى» بطرائق عملية. ويعرف معظم دارسي اللغة الإنجليزية
وآدابها كيف يسخر منهم دارسو المواد الأخرى، مثل القانون والهندسة
والطب، على النحو المذكور، مثل ما نراه في الكتابات على جدران دورة
المياه تحت بكرة الورق، والتي تقول «درجات جامعية في اللغة الإنجليزية،
خذ واحدة من فضلك»، أو العبارة المضحكة الأخرى «ماذا تقول لمن تخرج في
قسم اللغة الإنجليزية؟ قل: سندويتش كبير وبطاطس محمَّرة من
فضلك!»
ويُعتبر هذا جزءًا من مسألة كبرى تتعلق بالطبيعة غير المتخصصة للُّغة
الإنجليزية، والحقيقة التي تقول إن موضوع درسها — أي الأدب — متاح
عمومًا للعاملين خارج هذا المبحث، على عكس مباحث أخرى، مثل فيزياء
الجزيئات، أو معادلات التفاضل والتكامل. وهذه الحال لا تزال قائمة؛
فعلى الرغم من الازدهار الشديد في الكتابات الشعبية في العلوم الطبيعية
والتاريخ على امتداد السنوات القليلة الماضية، فإنها لا تجاري الأعداد
الكبيرة من كتب القصص ودواوين الشعر والمسرحيات في أماكن بيع الكتب
والمكتبات. ومن أسباب ذلك أن الأدب يتناول كل شيء، مثل الحب والجنس،
والصداقة، والعلاقات الأسرية، والتقدم في السن، والموت، والتغير
الاجتماعي والاقتصادي، والإيمان الديني، والأفكار المجردة، وهَلُم
جرًّا، فهو باختصار يتناول الحياة بكل ما فيها من تنوع، وهو ما يصعب
حصره في الحدود الضيقة لمبحث علمي واحد. وكما يقول ليزلي فيلدر
(Fielder) «دائمًا ما يصبح النقد
الأدبي «شيئًا آخر»؛ وذلك لسبب بسيط، وهو أن الأدب «شيء آخر» دائمًا»
(كلاين ١٩٩٦م: ١٣٧). فإذا لم يكن شغلنا الشاغل يتمثل في الخصائص الآلية
والصورية للغة، فسوف يكون علينا، عاجلًا أو آجلًا، أن نبدأ التعامل مع
العلاقة بين الألفاظ وما تحيلنا إليه، أو بين الأدب و«العالم الخارجي».
وهكذا يقول مارك شونفيلد (Schoenfield)
وفاليري تروب (Traub) إن دراسة الأدب
تتضمن بالضرورة عنصرًا سياقيًّا؛ «كلما شغل النقد الأدبي نفسه بالإحالة
[إلى خارج النص] اكتسب هدفًا بينيًّا … فافتراضنا أن للكلمات معنًى
افتراضٌ بينيٌّ في ذاته» («فورام، تعريف البينية» ١٩٩٦: ٢٨٠).
وتُعتبر الهرمانيوطيقا — أي نظرية تفسير النصوص وتطبيقاتها — التي
كانت تشكل النشاط الرئيسي للدراسات الأدبية منذ نهاية الحرب العالمية
الأولى على الأقل؛ مُستقاةً من مبحثين علميين أقدم منها كثيرًا، وهما
اللاهوت والقانون؛ فلقد كان الكتاب المقدس أول هدف للدراسة والتفسير
المبكر، فالكتب المقدسة في العصور الوسطى كانت حافلة بالشروح
المستفيضة، على سبيل المثال، إلى الحد الذي يجعل الحواشي النصية تمتزج
بألفاظ الكتاب المقدس نفسها، وأحيانًا ما تطغى عليها. وأدى الإصلاح
الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى زيادة شديدة في فُرَص مثل
هذا التفسير، بأن انتزع مسئولية شرح الكتاب المقدس من الكنيسة
الكاثوليكية في روما، ونشرها بين علماء اللاهوت من الأفراد. كانت قولة
مارتن لوثر الشهيرة هي Sola
Scriptura، أي نص الكتاب المقدس
وحده، وكان يعني بها أننا لن نعرف مشيئة الله إلا إذا فسرنا الكتاب
المقدس نفسه، بدلًا من قبول سلطة الكنيسة الثابتة. ويمارس باحثو الكتاب
المقدس اليوم مهارات التحليل النصي الدقيق، والبحث في خلفية النص مثلما
يفعل نقاد الأدب، كما أنهم يطرحون الأسئلة نفسها، أي الأسئلة الخاصة
بالمؤلف، وبمكانة المصادر المؤيدة لآرائهم، والترجمة، بل وحتى صحة نسبة
النص لمؤلفه، ما دامت هذه «الصحة» مصطلحًا وضعته الكنيسة المسيحية في
محاولاتها للفصل بين النصوص المعتمدة في الكتاب المقدس والنصوص
المنحولة (apocryphal). كما نرى في
مجال القانون أن تفسير متن ثابت نسبيًّا من النصوص القانونية، وهو الذي
يتعرض لتعديلات دقيقة على ضوء اللوائح الجديدة والأحكام القانونية؛ كان
دائمًا ما يتطلب كمًّا كبيرًا من الدراسة النصية؛ إذ يتضمن شرح ما
يشوبه الغموض، وما تكتنفه ظلال المعاني في اللغة المكتوبة، على ضوء
الحالات المحددة في الحياة الواقعية، واهتداءً بفكرة تجريدية عن
«العدل». والواقع أن الوعي بهذه العلاقة [بين النص والواقع] قد أدى في
السنوات الأخيرة إلى نشأة مجال تفتحت براعمه للدراسات القانونية
النقدية، وهو المجال الذي يتعامل مع القانون باعتباره نصًّا يقوم
الناقد بتفكيكه. وهكذا فعلى الرغم من أن نقاد الأدب كثيرًا ما يحاولون
الزعم بأن تفسير النصوص نشاط يؤكد استقلال مبحثهم العلمي، فالواضح أن
هذا الزعم مشكوك فيه.
مولد دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
نشأ الموضوع الأكاديمي، وهو اللغة الإنجليزية وآدابها، نشأتَه
الصحيحة مع مولد الجامعة الحديثة، القائمة على البحث والتخصص
المهني، في أواخر القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه
الموضوعات الجديدة في العلوم الطبيعية والاجتماعية آخِذةً في
التفرع وتدعيم أنفسها، ولكن دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها كانت
تبدو مترهلة وتفتقر إلى التركيز، بالمقارنة بالأهداف الواضحة
والمنجزات القابلة للإحصاء التي حققتها المباحث العلمية الجديدة.
وكان بعض الناس يرون أن المشكلة كانت تكمن في أن هذه الدراسة تعتمد
على نشاط يفترض أن كل شخص متعلم يمارسه، أو مارسه من قبل على أية
حال، ألا وهو الإلمام بشوامخ الأعمال الأدبية. ففي عام ١٨٨٧م، قال
أ. أ. فريمان (Freeman)، أستاذ
كرسي التاريخ في جامعة أوكسفورد، إنه يعارض إنشاء قسم للغة
الإنجليزية وآدابها لأن «الأدب الإنجليزي لا يزيد عن ثرثرة حول
الشاعر شلي»، و«نحن لا نريد موضوعات خفيفة ورشيقة وطريفة وحسب،
وإذا كنا نريد موضوعات يُمتحَن الطلاب فيها، فينبغي أن يكون لدينا
ما يمكن أن نمتحنهم فيه» (جراف ١٩٨٩م: ١٢٣؛ وميلنر ١٩٩٦م: ٤).
وأُثيرت الاعتراضات نفسها على تطوير الموضوع الجديد في أمريكا، إذ
قال أحد عمداء إحدى الكليات، على سبيل المثال، إنه لا يرى ما يدعو
إلى إنشاء مبحث علمي جديد لدراسة الكتب التي كان يقرؤها في القطار
أثناء ذهابه إلى العمل (جراف ١٩٩٦م: ١٢). وكان رد دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها على هذا الطعن في جدارتها الأكاديمية يسير في
طريقين؛ أما الأول فهو ما فعله بعض نقاد الأدب المحترفين، الذين
كانوا يسعون إلى اتباع النموذج الصلب لبعض الموضوعات الثابتة
الأخرى، وذلك بوضع مداخل «علمية» وإجراءات واضحة، ورصد آثار يمكن
قياسها. وأما الثاني فهو ما قال به آخرون من امتياز هذه الدراسة
بسبب ضعف قاعدتها البحثية، ومرونتها، ونهاياتها المفتوحة، ونقص
ترابطها الشامل.
واقترح بعض فلاسفة العلم، مثل كارل بوبر
(Popper) وستيفن تولمين
(Toulmin) التمييز بين المباحث
«الصلبة» في العلوم الطبيعية، والمباحث «الرخوة» في الإنسانيات
والعلوم الاجتماعية، وكانوا يرون أن الأخيرة تمر بمرحلة مبكرة من
التطور، ولم تصل بعد إلى مرتبة الموضوع الأكاديمي الناضج. ويفرق
توملين، مثلًا، بين المباحث «المركزة»، و«المترهلة»، والتي «في طور
التشكيل»، وهذه مستويات منوعة من التقدم إلى حالة الصلابة والاتساق
الداخلي (١٩٧٢م: ٣٧٨–٣٩٥). وكان قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في
جامعة أوكسفورد، الذي أُنشئ عام ١٨٩٣م، يقبل فيما يبدو القول بأنه
تخلف عن المباحث العلمية التقليدية الأخرى في هذا الصدد، فحاول منذ
البداية أن يكتسب «التركيز» بتوكيد البحث العلمي في اللغة
وتاريخها، لا النقد الأدبي أو التذوق الأدبي، مقيمًا روابط متينة
مع فقه اللغة (philology).
كان فقه اللغة موضوعًا نشأ في العالم القديم، لكنه ظهر باعتباره
مبحثًا حديثًا في آخر القرن الثامن عشر، خصوصًا في ألمانيا، وكان
يقضي بالفحص الدقيق للمصادر النصية (المكتوبة في العادة) للثقافات
والمجتمعات الغابرة، وكان يمكن تطبيقه على نطاق واسع من المواد،
مثل النصوص الكلاسيكية أو القانونية أو الفلسفية أو التاريخية،
وكثيرًا ما كان الباحثون يلجئون إليه للتيقُّن من صحة نسبة النصوص
القديمة أو الخاصة بمذاهب ذات خصوصية شديدة، أو لإعادة بنائها
وشرحها بالحواشي استنادًا إلى مصادر مشتَّتة أو شذرات متفرقة، وكان
يُعتبر طريقة يمكن بها استخدام دقة المباحث العلمية الجديدة في
دراسة المواد النصية. وعندما تطور الموضوع في القرن التاسع عشر،
زاد اهتمامه بعلم اللغة (the science of
language) في علاقته بالتطور التاريخي، وأنشأ
علاقة وثيقة بمبحث اللغويات الجديد
(linguistics)، على الرغم من
أن الأخير كان يميل إلى ترجيح كفة النصوص المنطوقة على كفة النصوص
المكتوبة، وفحص المباني اللغوية بغض النظر عن سياقها التاريخي. ولا
يزال منهاج اللغة الإنجليزية في جامعة أوكسفورد، إلى جانب مناهج
الدرجات العلمية في اللغة الإنجليزية في جامعات البلد؛ يتضمن دراسة
تفصيلية للغة الإنجليزية القديمة، وتاريخ اللغة الإنجليزية
واستعمالها، وهو ما يُعتبر في جانب منه من رواسب الجهود السابقة
لفرض الصرامة العلمية لفقه اللغة على المبحث العلمي الجديد.
وتلَتْ ذلك في آخر الأمر محاولةٌ قام بها أ. أ. ريتشاردز في
العشرينيات، وكانت أشد نفوذًا، لجعل دراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها أشد انتظامًا ومنهجية، وحالفه التوفيق في وضع نشاط النقد
الأدبي في قلب الموضوع الجديد؛ إذ أعد ريتشاردز لطلابه اختبارًا
يطلب منهم فيه تقييم قصائد مفردة لم يطلعوا عليها من قبل، ومن دون
أن يعرفوا اسم الشاعر أو عنوان القصيدة، وكان النطاق الواسع
للإجابات الحدسية الشاردة التي تلقاها من الطلاب سببًا في إقناعه
بالحاجة إلى علم جديد للتفسير، أو ما أسماه «النقد التطبيقي»
[عنوان كتابه الصادر عام ١٩٢٩م]. ويقول ريتشاردز بوضوح في أول
عبارات كتابه الكلاسيكي مبادئ النقد الأدبي إن «الكتاب آلة يفكر
المرء بها»، وإن هذه الدراسة المحددة «نَول يُفترض أن ننسج عليه من
جديد بعض الخيوط المعقدة لحضارتنا» (ريتشاردز ١٩٢٦م: ١)، مضيفًا أن
له هدفًا مزدوجًا؛ الأول: تحويل التفسير النصي إلى نشاط يضارع في
دقته واجتهاده أية تجربة في المختبر، والثاني: الانتفاع بهذه
المنهجية التي اكتسبناها حديثًا في تحدِّي هيمنة العقلانية العلمية
في المجتمع. وينتهي ريتشاردز، بعد استقصاء «فوضى النظريات النقدية»
إلى أن النقد الأدبي ليس له أساس نظري واضح، أو طريقة عمل محددة:
يمكننا أن نقول دون مبالغة إن النظرية النقدية الراهنة
تتكون من بعض التخمينات، وتحذيرات وافرة، وملاحظات عميقة
فردية كثيرة، وبعض ثمار الحدس الرائعة، وقدر كبير من
الخطابة والشعر التطبيقي، وتشويش لا ينضب معينه، وحصاد
كافٍ من القواعد الجامدة، وذخيرة غير صغيرة من ضروب التحيز
والنزعات الشاردة الطليقة، وثراء في التأملات الروحية،
وقدر ضئيل من الفرضيات الصادقة، ونواتج إلهام ضلت الطريق،
ولمحات وتلميحات حافلة بالدلالات.
(ريتشاردز ١٩٢٦م: ٥-٦)
ويحاول ريتشاردز في كتاب لاحق عنوانه «العلم والشعر» أن يجعل
للنقد الأدبي موقعًا جديدًا باعتباره بديلًا ذا عمق فكري يزيد عن
التدين المنظم في العصر الذي شهد ما يسميه «تحييد الطبيعة، أي
تحويل الصورة السحرية للعالم إلى صورة علمية» (ريتشاردز ١٩٣٥م:
٥٢). وهو يعني بذلك أن العلم، على الرغم من تحسينه الأحوال المادية
لحياتنا تحسينًا هائلًا، لا يقدم إلا «معارف باردة ومحايدة
شعوريًّا»، وهي «لا تستطيع أن تخبرنا بأي شيء عن طبيعة الأشياء
بمعنًى نهائي» (ريتشاردز ١٩٣٥م: ٥٨). والمشكلة هي أن الأنواع
الأخرى من البحث الفكري عجزت عن مجاراة العلوم الطبيعية في هيكلة
نظرياتها وممارساتها وتقنينها، فإذا أرادت الإنسانيات أن تحقق هذا
الطابع العلمي، فإن «النتائج العملية المتوقعة يمكن أن تكون باهرة
أكثر من أي شيء يمكن أن يبتكره المهندس» (ريتشاردز ١٩٣٥م: ١٢). إذن
فإن الرد الذي يقدمه ريتشاردز على سطوع نجم العلوم الطبيعية في
المجتمع المعاصر يتمثل في ترسيخ أقدام الدراسات الأدبية باعتبارها
نشاطًا علميًّا ذا ضوابط بحثية.
الأدب والحياة والفكر
وبالرغم من هذا التركيز على القراءة الدقيقة، فإن دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها في جامعة كيمبريدج، التي كان لها تأثيرها
الهائل في شتى أرجاء العالم بفضل رائدها الرئيسي ف. ر. ليفيز
(Leavis)، كانت ذات سمات بينية
تزيد دائمًا على مثيلتها في أوكسفورد، فعندما أنشئ القسم الإنجليزي
في جامعة كيمبريدج عام ١٩١٧م للمرة الأولى، كان المحاضرون المعينون
قد تخرجوا في أقسام أخرى، مثل الدراسات الكلاسيكية [اليونانية
واللاتينية] والفلسفة والتاريخ، أو تخصصوا في التحليل النفسي، مثل
أ. أ. ريتشاردز نفسه. وكان القسم الإنجليزي في جامعة كيمبريدج
يُسمَّى في البداية «الأدب والحياة والفكر»، وهو ما يوحي بأن القسم
كان يتسم بالاتساع في النظرة، والانفتاح على مداخل جديدة، وهو ما
كان يتضاد تضادًّا شديدًا مع اسكولائية جامعة أوكسفورد. وكان أول
أستاذ للغة الإنجليزية وآدابها هو السير آرثر كويلار-كوتش
(Quiller-Couch) عام ١٩١٢م،
(وكان الذي موَّل كرسي الأستاذية المذكور هو «إمبراطور» الصحافة
السير هارولد هارمزويرث
(Harmsworth) مؤسس صحيفة
الديلي ميل، ولذلك ما له من دلالة)، وكان كويلار-كوتش، وكنيته
«كيو» (Q)، كاتبًا متعدد الجوانب،
وصحفيًّا غزير الإنتاج، دأب على نشر أنواع أدبية مختلفة، مثل
المقالات، والروايات، والشعر، وكتب المنتخبات. وكانت أوراق أسئلة
الامتحانات العجيبة في كيمبريدج تحمل بصمته حتى العشرينيات؛ إذ
كانت تهدف إلى تبيان القدرة على التذوق الأدبي الانطباعي والإحالي
أكثر من التحليل التفصيلي، وتطلب من الدارسين أن يشغل عملهم مكانًا
وسطًا بين الكتابة الأكاديمية والكتابة الصحفية الأدبية (ماكيلوب
١٩٩٧م: ٥٤–٥٧).
كان ف. ر. ليفيز يعارض معارضة جذرية فكرة كويلار-كوتش عن
الدراسات الأدبية باعتبارها تدريبًا على الكتابة الأدبية، ولكنه
كان يشاركه الرأي في أنها ينبغي ألَّا تكون ذات طابع أكاديمي ضيق
النطاق. ويجدر بنا أن نتذكر ذلك لأن ليفيز أحيانًا ما يُعتبر
ناقدًا نصِّيًا بحتًا، أي باعتباره ملتزمًا ﺑ «الكلمات على الصفحة»
فقط. ومع أن هذا يُعتبر بلا مِراء جانبًا مهمًّا من جوانب عمله،
فإنه كان دائمًا يبدي اهتمامه بالسياق، فقد بدأ حياته بدرجة جامعية
في التاريخ، وكانت رسالته للدكتوراه عام ١٩٢٤م تفحص «العلاقة بين
الصحافة والأدب»، ويمكن وصفها بأنها نسخة منوعة لما أصبح يسمى فيما
بعد «الدراسات الثقافية»؛ ذلك أنها كانت تتناول الفجوة بين الثقافة
الرفيعة والثقافة الخفيضة، وهي الفجوة الناجمة عن تشابك طرائق
الكتابة المختلفة في السوق الرأسمالية البازغة.
لم يكن ليفيز راضيًا عن النزعة الأكاديمية في قسم اللغة
الإنجليزية بجامعة أوكسفورد؛ إذ كان يراها قاتلة، وهي التي «تعبر
عن نفسها في اعتبار دراسة اللغة الأنجلوسكسونية مادة إجبارية، وفي
الأفكار الساذجة المرتبطة بها عن «اللغة» و«المبحث العلمي»»
(١٩٦٩م: ١١-١٢). وعلى الرغم من انتفاعه المقطوع به بعمل ريتشاردز
في صوغ تقنياته للتحليل النصي الدقيق، فإنه انتقد أيضًا «الفكرة
المترتبة على ذلك … من اعتبار «النقد التطبيقي» نوعًا متخصصًا من
المهارة التي تشبه الألعاب الرياضية، والتي ينبغي التدريب عليها
وممارستها باعتبارها نشاطًا مستقلًّا» (ليفيز ١٩٧٥م: ١٩). وكان
ليفيز يفضل، كما يثبت ذلك كتابه المدرسي الثقافة والبيئة (١٩٣٣م)،
التوسع في تقنيات «النقد التطبيقي» في المدارس بحيث تشمل بعض
الظواهر، مثل الإعلانات، والصحف الشعبية، والقصص والروايات
الرخيصة، ونوادي الكتب، وتجارة التراث الأدبي. وكانت المجلة التي
يصدرها بعنوان سكروتيني (Scrutiny) [أي: الفحص الدقيق]
ذات نفوذ هائل، وكانت إحدى الوسائل الرئيسية في نشر آرائه، ولكنها
كانت أيضًا نموذجًا للمباحث العلمية البينية، فكانت تتضمن مقالات
ودراسات نقدية للأفلام السينمائية، والموسيقى، والإعلانات، وغيرها
من أشكال الثقافة الشعبية، إلى جانب النقد الأدبي التقليدي، أي إن
ليفيز كان يرى أن النقد الأدبي مشروع ذو تعريف واضح، لكنه يسمح
نسبيًّا بالنفاذ إليه؛ إذ كان يهتم اهتمامًا هامشيًّا بكثير من
المجالات الأخرى للنشاط الثقافي، ما دام «الاهتمام الأدبي الحقيقي
اهتمامًا بالإنسان والمجتمع والحضارة، ومن المحال رسم حدوده، وصفته
لا تحد طبيعته» (ليفيز ١٩٧٢م: ٢٠٠).
وفي عام ١٩٢٠م كتب ليفيز مقالًا بعنوان «الخطوط العريضة لقسم
اللغة الإنجليزية وآدابها»، يهدف فيه إلى إعادة بناء القسم في
جامعة كيمبريدج، ويتجلى فيه رأيه بصورة عامة؛ إذ يقترح أن يدرس
طلاب القسم لغة أجنبية، والأدب المقارن، والتاريخ السياسي
والاقتصادي والاجتماعي والفكري إلى جانب الأعمال الأدبية المعتمدة
(ليفيز ١٩٤٨م: ٥٤). وباسم زيادة البينية، كانت درجة الليسانس في
اللغة الإنجليزية وآدابها، التي اقترحها ليفيز، تتضمن أيضًا
موضوعًا خاصًّا — القرن السابع عشر — تُدرس فيه العلاقة بين الأدب
والمجتمع بعمق أكبر. ومن شأن هذا الموضوع أن يستمد مادته من مجالات
علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ إلى جانب الأدب، بحيث
يشمل موضوعات مثل الحرب الأهلية، ونشأة الرأسمالية، والعلوم
الطبيعية الجديدة، والعلاقات المتغيرة بين الثقافة الرفيعة
والثقافة الشعبية (ليفيز ١٩٤٨م: ٥٢–٥٤).
ولا بد من فهم هذه الشواغل الخاصة بالمواد الدراسية في علاقتها
بأفكار ليفيز العامة عن الجامعة باعتبارها مؤسسة، ويمكننا أن
نرجعها إلى عهد بعيد، أي على الأقل إلى العدد الثالث من مجلة
سكروتيني في عام ١٩٣٢م، وهو العدد الذي يفحص فيه كتاب الكلية
التجريبية الذي وضعه ألكسندر مايكلجون
(Meiklejohn). ويستند ليفيز
إلى كتاب هذا المؤلف الذي يتحدث فيه عن إنشاء كلية للعلوم النظرية
ذات النطاق الواسع في جامعة ويسكونسن الأمريكية، في طرح حجته التي
تقول إن المشكلة الرئيسية للجامعة الحديثة تضر بالمجتمع كله، ألا
وهي تقسيم العمل إلى وحدات مستقلة في «حضارة تكنولوجية نفعية»
(ليفيز ١٩٦٩م: ٢٤). وهذا التعبير الذي يتكرر في سياق الاستهجان على
مدار كتابات ليفيز جدير بالشرح. أما الفلسفة النفعية فترجع إلى ما
يقوله جيريمي بنتام (Bentham) في
كتابه مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع (١٧٨٩م) من أن غاية الحياة
نِشدان السعادة، وأن أية فلسفة أخلاقية ينبغي أن تُبنى على «تحقيق
السعادة لأكبر عدد من الناس»، وأن درجات السعادة يمكن رصدها ﺑ
«مقياس الهناء». ويقول بنتام أيضًا إن تحقيق هذه الغايات يقتضي أن
يُبنى نظام التربية والتعليم على مبدأ المنتخبات
(chrestomathic) [أو المذهب
الانتقائي]، وهو ما يعني ضرورة تكريسه للمعرفة النافعة لا للمعرفة
في ذاتها (بنتام [١٧٨٩م] ١٩٨٢م: ١–٤١). وكان ليفيز يرى أن سطوع نجم
المبادئ البنثامية في المجتمع الرأسمالي قد ساعد على رعاية حركة لا
هوادة فيها للترشيد والتوحيد المعياري، وظهور إيمان لا يقبل النقد
بقوة العلم والتكنولوجيا وقدرتهما على تحسين حياة الناس. وإذا كان
الرأي السائد يقول إن تشكيل جيوش من المتخصصين المتفانين على نطاق
ما يفتأ يتسع، يمثل «الغاية العليا للجامعة»، بل مبرر وجودها نفسه
(ليفيز ١٩٤٨م: ٢٥)؛ فإن ليفيز يقول بغير ذلك، ألا وهو الدعوة إلى
بقاء فكرة وجود تعليم إنساني شامل يحقق التحضر، وهو الذي كان
الأساس الذي بُنيت عليه الجامعة الليبرالية الحديثة في أوروبا في
مطلع القرن التاسع عشر.
ولكن ليفيز كان يدرك أنه من المحال العودة دون مشاكل إلى المثل
الأعلى لنظام المعرفة الشامل؛ ولذلك فعلى الجامعات أن تكيف هذا
المثل الأعلى حتى يلبي المطالب المعقدة للعالم الحديث، بأن تتبنى
«تزامن وجود الدراسات المتخصصة … ذات المركز الإنساني القوي»
(ليفيز ١٩٦٩م: ٣). وكان لا بد، في مواجهة الواقع العنيد لزيادة
التخصص، من موضوع معين يصبح محور ارتكاز للمثل الأعلى البيني الذي
وضعه ليفيز. وربما لا يكون من المدهش بالنسبة لأستاذ جامعي في
اللغة الإنجليزية وآدابها أن يقترح تعديل وضع دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها كي تغدو محور الارتكاز المنشود، بحيث تصبح
أيضًا مركز جذب وحلقة اتصال مع جميع المباحث العلمية الأخرى داخل
الجامعة، فهو يقول إن موضوعه الخاص قادر بصفة خاصة على أداء هذه
المهمة التكاملية للسبب التالي:
إنه مدرسة إنسانية، والذكاء غير المتخصص الذي تجد فيه
الدراسات المنوعة مركزها هو الذكاء الذي يتلقى التدريب
الخاص به في الأدب. ومبحثه الخاص — لا مبحثه المتخصص — هو
المبحث النقدي الأدبي، وهو مبحث يقوم على الحساسية والحكم
والفكر، وهو بطبيعته الجوهرية يعمل على تدريب الذكاء غير
المتخصص.
(ليفيز ١٩٤٨م: ٤٣)
وأهم ما في الأمر أن ليفيز كان يرى أن دراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها دراسةٌ بينية بالضرورة، ما دام عمل كبار الكتاب الذي يشكل
مادتها الدراسية يتضمن بالضرورة اهتمامًا بالغًا بالحياة والمجتمع
والحضارة والفكر؛ «من مزايا الدراسات الأدبية أنها دائمًا ما تقود
الدارس إلى خارجها … وإذا كان من الضروري أن تخضع لرقابة المبحث
الأساسي، فإن هذه الرقابة، إن كانت كافية، تعتمد على العمل المرتبط
بهذه الدراسة في مجالات أخرى» (ليفيز ١٩٤٨م: ٣٥).
ومن الواضح وجود توتر هنا بين تدعيم دراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها باعتبارها مبحثًا علميًّا، وبين تشجيع تخصيبها المشترك
المثمر بموضوعات أخرى. وإلى جانب اهتمام ليفيز بمدى إحالة هذه
الدراسة إلى موضوعات أخرى وتقبلها لها، كان «شديد الانشغال بتبرير
وجود النقد الأدبي باعتباره مبحثًا علميًّا نوعيًّا، فهو مبحث علمي
يقوم على الذكاء، وله مجاله الخاص، ومداخله الخاصة داخل ذلك
المجال» (ليفيز ١٩٦٩م: ٤٥). وكثيرًا ما يرد مصطلح «المبحث العلمي»
في كتاباته، سواء في تعريفه لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
باعتبارها كيانًا مستقلًّا، أو في الإشارة إلى استعمال الذكاء
النقدي الذي يرى أنه أحد أنشطتها الرئيسية. والواقع أنه من الصعب
أن نفهم النموذج الذي وضعه لهذه الدراسة باعتباره «المركز
الإنساني» للمثل الأعلى للجامعة في نظره، من دون إدراك الصعوبة
البالغة التي لاقاها ليفيز وغيره في تحقيق وجود دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها في جامعة كيمبريدج باعتبارها موضوعًا معترفًا
به وذا سمعة رفيعة، والمجادلات المريرة المتبادلة بينه وبين زملائه
داخل قسم اللغة الإنجليزية وخارجه، حول منزلة هذا المبحث العلمي
والوجهة التي يسير فيها. وفي هذا السياق، لا يبدو أن مقاله «الخطوط
العريضة لقسم اللغة الإنجليزية» نهج بينيٌّ بقدر ما هو نهج
إمبريالي؛ وذلك أن هدفه تركيز الدراسة الأكاديمية كلها في قسم
اللغة الإنجليزية، وتدعيم قاعدة السلطة لموضوعه، وهو مشروع تزداد
دلالته زيادة كبيرة بسبب امتناعه عن الاعتراف به باعتباره مؤثرًا
في تفكيره.
وقد اتَّخذت هذه المحاولة لإثبات تفوق الدراسات الأدبية على
غيرها من المباحث العلمية؛ شكلين رئيسيين، إذ كان ليفيز، أولًا،
مشتبكًا في نضال لتدعيم الهيمنة الجديدة لدراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها في علاقتها بالدراسات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية)
وبالفلسفة، وهما من أسلافها المباشرة باعتبارهما مجسِّدتين للمثل
الأعلى الإنساني، على الرغم من شهامته التي حدَتْ به إلى عدم
نفيهما من صورة الجامعة المثالية عنده (ليفيز ١٩٤٨م: ٣٩)، وكان ف.
ل. لوكاس (F. L. Lucas) أستاذ
الكلاسيكيات في جامعة كيمبريدج، والعدو اللدود لقسم اللغة
الإنجليزية، ينبذ النقد الأدبي باعتباره نشاطًا «طفيليًّا جذابًا»،
ينحصر عمله في «تدريب الصحفيين النقاد»، ويعلي من شأن موضوع تخصصه
باعتباره التدريب الأسمى للسادة المثقفين (مولهيرن
Mulhern ١٩٨١م: ٣١). وردَّ
عليه ليفيز بانتقاد دراسة الكلاسيكيات بسبب عدم انشغالها بمهام
التقييم الأدبي والقدرة على التمييز، وهما من العوامل الأساسية
لدور الناقد في المجتمع، بحيث يستطيع «الأشخاص الذين لم تُقلِق
أذهانَهم دراسةُ الكلاسيكيات» أن يضفوا العظمة على عمل بعض
المؤلفين غير المهمين، مثل ب. ج. وودهاوس (P. G.
Wodehouse)، وأ. إ. هاوسمان
(A. E. Houseman) (ليفيز
١٩٤٨م: ٣٩). ونفور ليفيز من الفلسفة يظهر بوضوح وجلاء في مناقشته
مع الناقد رينيه ويليك (René
Wellek) حول دور النظرية في الدراسات الأدبية،
في المناقشة التي دعا فيها إلى فصل الأدب عن الفلسفة، حتى يحُول
دون كلالة الحد القاطع، وعدم وضوح البؤرة، وتشويش الانتباه
وانحرافه، وهي من عواقب البحث في أحد المباحث العلمية من خلال
العادات المتبعة في مبحث علمي آخر (ليفيز ١٩٧٢م: ٢١٣). وربما نجد
التعبير عن هذا الموقف بإيجاز بالغ الرشاقة في عنوان الكتاب الذي
يضم مقالاته التي جُمعت ونُشرت بعد وفاته، وهو «الناقد باعتباره ضد
الفيلسوف» (ليفيز ١٩٨٢م).
وكان ليفيز، ثانيًا، يؤمن بنموذج للتعليم العريض القاعدة إيمانًا
جعله يبدي عداءً راسخًا للعلوم الطبيعية، على نحو ما يظهر في هجومه
المتألق اللماح على مقالة سي بي سنو
(Snow) عن «الثقافتين والثورة
العلمية» في أوائل الستينيات. وكان «سنو» الروائي المشهور قد تخصص
في العلوم الطبيعية، وألقى محاضرة ينعى فيها عجز العلم والمباحث
الإنسانية عن التواصل فيما بينهما على صعيد مشترك. وأما ما يقول به
«سنو» من أن الشخص المتعلم ينبغي أن يكون على إلمام بالقانون
الثاني للديناميكا الحرارية يعادل إلمامه بأعمال شيكسبير، فقد رد
عليه ليفيز قائلًا بوجود تمييز واضح بين الثقافتين، مضيفًا أن
«إقامة معادلات بين نظامين مختلفين إلى هذا الحد لا معنى له».
ويُرجِع ليفيز خلافه مع «سنو» إلى التضاد بين رؤية كل منهما
للجامعة، فعلى الرغم من أنهما يشتركان في اعتبار الجامعة نموذجًا
أوليًّا للمجتمع المثالي، فإن ليفيز مهتم «على عكس «سنو» … بأن
يجعلها جامعة حقًّا، أي أن يجعلها شيئًا أكبر من مجرد مجموعة من
الأقسام العلمية المتخصصة، أو قل أن يجعلها مركزًا للوعي الإنساني؛
للإدراك والمعرفة والحكم والمسئولية» (ليفيز ١٩٦٢م: ٢٧ و٢٩). ويبدو
في ذلك بعض الظلم؛ إذ إن موضوع محاضرة «سنو»، على الرغم من
انحيازها الواضح للعلم الطبيعي، تدور في الحقيقة حول سد الفجوة بين
العلوم الطبيعية وبين الإنسانيات. وعلى أية حال فإن رد ليفيز يوضح
أن فكرته عن التعليم البيني للمواد النظرية، الذي تُعتبر دراسة
اللغة الإنجليزية وآدابها واسطة العِقد فيه؛ تقوم على الإقصاء
المنهجي للعلوم الطبيعية باعتبارها ممثِّلة للمجتمع التكنوقراطي
النفعي الذي كان يأسف لوجوده.
وكان برنامج ليفيز للدراسات الأدبية يقوم على النهي عن أشياء
أخرى، ما دام شكل النقد عنده قائمًا على التقييم إلى درجة كبيرة،
ويتضمن الرقابة على ما يُسمَح بإدراجه في «التقاليد العظيمة» للأدب
الإنجليزي، ومن ثم فإن الاهتمام الذي أبداه ليفيز بالثقافة الشعبية
كان اهتمامًا على مضض إلى حد بعيد؛ فإذا كان يرى ضرورة دراستها
بسبب تأثيرها النفَّاذ، فإن غاية الدراسة رفض هذه الثقافة ونبذها
لأنها تغذو ذائقة «للعيش البديل»، وتُعرِّض الجماهير للتأثر «بأرخص
ضروب الجاذبية العاطفية» (ليفيز وطومسون ١٩٣٣م: ٩٩؛ ليفيز ١٩٤٨م:
١٤٩)، وتسمح لها بأن تخلط بين الفن المبتذَل اليسير التناول، وبين
الفن الجاد. فإذا كان تعريف المباحث العلمية يقوم أساسًا على ما
تستبعده من مهمتها، فإن مشروع ليفيز كان مشروعًا تخصصيًّا تمامًا،
ما دام يقتضي قَصْر مجال الاهتمام على مجموعة صغيرة من النصوص
المعتمَدة والمعترَف بامتيازها، ودراسة أشكال الثقافة الأخرى في
حدود عدم تحقيقها لمعايير تلك النصوص.
مذهب ليفيز والجامعات
ذكرت آنفًا أن أية مناقشة للبينية ينبغي ربطها بالتطورات
المؤسسية في الجامعات، وهو ما ينطبق على أفكار ليفيز؛ إذ إن عمله
بالكتابة شهد فترة تغيرات هائلة في الجامعات البريطانية؛ إذ
امتدَّت من أوائل الثلاثينيات، حينما كانت نسبة ضئيلة من السكان
تلتحق بعدد ضئيل من الجامعات أو الكليات الجامعية، إلى السبعينيات،
فعندها شهدنا نشأة الحرم الجامعي، الذي يضم كليات طُلِيت جدرانها
باللون الأبيض [لا بالقرميد الأحمر مثل الجامعات الكلاسيكية]،
وكليات الفنون التطبيقية، والجامعة المفتوحة، وهو ما غيَّر شكل
التعليم العالي في بريطانيا تغييرًا كاملًا. وقد تشكَّل الكثير من
أفكار ليفيز عن دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها والجامعات استجابةً
لهذه التطورات؛ إذ كان ليفيز نخبويًّا لا يتزحزح إيمانه بأن
«جامعتَي أوكسفورد وكيمبريدج تمثِّلان صفوة البلد» (ليفيز ١٩٨٢م:
١٦١)، ويدافع بضراوة عن ضرورة الحفاظ على استقلال الجامعات العريقة
وسطوع نجمها.
وكان لا بد من تدعيم هذا الاستقلال للجامعة المثالية في نظر
ليفيز بقلعة تمثِّل الصفوة، وتمتاز باستقلال أكبر في قسم اللغة
الإنجليزية الذي يقترحه استنادًا إلى الجزء الثاني من درجة كمبريدج
الجامعية. وكان المقصود أن يكون هذا الجزء متَّسمًا بصعوبة وصرامة
أكاديمية، وأن يقتصر الالتحاق به على قلة مختارة من طلاب مؤسسة
تعليمية لا تقبل إلا الصفوة أصلًا، وأن يكتفي بأعداد قليلة، لكنه
يغدو «معيارًا ومركزًا ومصدرًا للحفز والإلهام» (ليفيز ١٩٤٨م: ٤٢)
لسائر طلاب الجامعة. وكان يتصور الجامعة كلها، على غرار ذلك، في
صورة «مركز للوعي والمسئولية الإنسانية عن العالم المتحضر» (ليفيز
١٩٦٩م: ٣)، وكان معنى ذلك بوضوح أنها — على انفصالها عن المجتمع —
ترتبط ارتباطًا حاسمًا به؛ فخصائصها التنويرية كان يُفترض نفاذها
إلى الثقافة العريضة من خلال الضغط الأسموزي [أي: نفاذ السوائل ذات
التركيز الشديد، من خلال غشاء، إلى السوائل القليلة التركيز]، وأن
تمارس عملها باعتبارها رمزًا مهمًّا للتقاليد والامتياز الذي لا
يضارَع، داخل ثقافة لولاها لسادها الانحطاط، ولكن ليفيز لا يوضح
دائمًا أسلوب نفاذ الجامعة وقسم اللغة الإنجليزية، على وجه الدقة،
إلى حساسيات الناس خارج الجامعة، ما داما يحرصان على بقائهما
مؤسستين منغلقتين على ذواتهما.
وفي الوقت الذي كان ليفيز يرى فيه الجامعة في صورة عاملِ نشرٍ
مهم لقيم الخلاص في مجتمع غير مثقَّف بصفة عامة، كان ينظر إليها
أيضًا نظرة تتضمن جانبًا آخر عبَّر عنه بمشاعر مشبوبة؛ ذلك أنه كان
يعترف بالعلاقة في حالات كثيرة بين فكرته عن الجامعة باعتبارها
مركزًا للبحوث الإنسانية الموضوعية، وبين طبيعة المؤسسة نفسها.
وكان اقتراحه بإنشاء قسم للغة الإنجليزية يُعتبر من جانب معيَّن
اعترافًا بأن الجامعة نادرًا ما تحقِّق مُثُلها العليا؛ ذلك أنها
كانت تحاول إقامة مساحة خالية من الفساد داخل مؤسسة ساقطة أصلًا.
ومنذ نشأة «جمعية البحوث في اللغة الإنجليزية وآدابها»، وهي منظمة
مخصصة لطلاب مرحلة الليسانس وطلاب الدراسات العليا وأعضاء التدريس،
لا تستند إلى مراتب الأعضاء، وتجتمع في منزله في الثلاثينيات؛
وليفيز يتصور وجود حصن علمي مستقل داخل الجامعة، وكان يرمز له
بمجلة سكروتيني، التي كان يشير إليها باعتبارها «جوهر كيمبريدج على
الرغم من جامعة كيمبريدج» (ليفيز ١٩٨٢م: ١٧٥) ما دامت تَدين
بوجودها إلى الجامعة، وإن كانت كثيرًا ما تعاني التهميش من جانب
أقوى عناصر تلك الجامعة. وكان الموقف غير القاطع من الجامعة هو
الذي حدا به، على وجه الدقة، لأنْ يتصور أن قسم اللغة الإنجليزية
وآدابها القلبُ النابض للجامعة، ممثِّلًا لأفضل عناصرها، ومتفوقًا
في الوقت نفسه على الجمود والاستبطان اللذين يتسم بهما البرج
العاجي.
ويفسر هذا إلى حد ما وضع دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها في موقع
متناقض فيما يبدو داخل نقده، باعتبارها مبحثًا متخصصًا ومبحثًا
بينيًّا معًا، فهو يعتبر القاعدة القلقة لهذه الدراسة مبحثًا
علميًّا — أي معارضتها لتجريدات النظرية الفلسفية والتوجه النفعي
للعلوم الطبيعية، وقدرتها على التداخل مع شواغل المباحث الإنسانية
الأخرى — بحيث تصبح هذه القاعدة مؤشرًا على الموقع الرئيسي لهذه
الدراسة داخل الجامعة. وهو يقدم صورة للنقد الأدبي تجمع بين كونه
مبحثًا يتسم بالصرامة الفكرية الشديدة، ومجالًا في الوقت نفسه
للاستجابة الشعورية والإبداع، واصفًا إياه بأنه «تدريب للذكاء
وتدريب للحساسية معًا؛ إنه مبحث فكري، ومبحث في الوقت نفسه في
الحساسية البالغة الدقة للتجاوب مع التنظيمات الرهيفة للمشاعر
والأحاسيس والصور الشعرية» (ليفيز ١٩٤٨م: ٣٨). ويمكننا أن نلاحظ
الاتجاه نفسه في الألفاظ التي اشتهر غموضها في أوصافه التي يُعْلي
فيها من شأن الأدب، والتي تترى في كتاباته جميعًا، كقوله إن الأدب
«منفتح على الحياة انفتاحًا مبجَّلًا»، وإن به «عنفوانًا»،
و«لماحية»، و«خبرة»، و«عمقًا خلقيًّا»، و«عضلات ذهنية». وهذه
الألفاظ تشير إلى ما وراء النص من حياة كاملة، وتوحي بأن شواغل
اللغة الإنجليزية وآدابها لا يمكن الإفصاح عنها باللغة العلمية
التجريدية، ولكنها يمكن أن تشكِّل أيضًا ما يسميه الفيلسوف ريتشارد
رورتي «المفردات النهائية». ويرى رورتي أن قائمة المفردات تصبح
«نهائية» إذا حدث أنْ «تعرضت تلك الكلمات للشك في قيمتها، فلم يجد
من يستخدمها سواها ملجأً لإقامة حُجته حتى يقيه من الوقوع في حلقة
مُفرَغة. وهذا يعني أن تلك الكلمات تمثِّل أقصى ما يمكن أن يصل
إليه حين يستخدم اللغة، فلا يوجد بعدها غير سلبية عاجزة، أو اللجوء
إلى القوة» (رورتي ١٩٨٩م: ٧٣). ويتضح لنا من هذه الزاوية أن
مصطلحات ليفيز لا تختلف اختلافًا كبيرًا عن المفردات التقنية
المرتبطة بأي مبحث علمي، أي إنها لغة مغلقة لا تستجيب لشيء، والقصد
منها أن يقبلها جميع العاملين في ذلك المجال، ولا يُسمَح بأي جدال
حولها. ويتضح مشروعه العلمي نفسه في تعريفه للتحليل النصي، إذ يصفه قائلًا:
إنه العمل الذي نسعى بفضله إلى الحصول على قراءة كاملة
للقصيدة، أو قل قراءة تقترب قدر الطاقة من الكمال، وليس
فيها ما يوحي بأن «التشريح يتطلب القتل أولًا»، وكل قول
يشير إلى أنها ذات طبيعة تشبه المناهج المتبَعة في
المختبرات يسيء تمثيلها إساءة كاملة. ولا نستطيع امتلاك
القصيدة إلا من خلال نوع من الامتلاك الداخلي، فهي لا
«توجد» لتحليلها إلا في حدود استجابتنا الصادقة للكلمات في
الصفحة.
(ليفيز ١٩٤٨م: ٧٠)
ونجد هنا احتفاءً بالتلقائية والحال الطبيعية يذكِّرنا بموقف
الشاعر وردزورث، وهو احتفاء يقدِّم نفسه باعتباره مناقضًا للأنشطة
البحثية التقليدية المستندة إلى إقامة الحجة والتحليل، ومع ذلك
فالقصيدة «موجودة» حتى نتناولها وندرسها، وتتطلب المهارات العلمية
التي تساعدنا على القيام بذلك.
ويجدر بنا أن ننظر في هذا الاعتقاد بقدرة الدراسات الأدبية على
أن تكون داخل الجامعة وخارجها معًا، وأن تقوم بمهمتها باعتبارها
مبحثًا علميًّا من دون أن تكون مبحثًا علميًّا بالمعنى المفهوم،
وهو اعتقاد يرجع في جانب كبير منه إلى الأصول الإشكالية للموضوع،
ولإحساس ليفيز الخاص باغترابه عن أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة
الإنجليزية وآدابها في جامعة كيمبريدج؛ إذ إن تصوره لطبيعة هذا
القسم التي لا يمكن المساس بها يتجاهل طبيعة الجامعات، وجميع
المباحث العلمية فيها، باعتبارها مؤسسات نُظِّمت على أساس التوزيع
المَراتبي للامتيازات، وترتبط ارتباطًا معقدًا بشبكات السلطة
الواسعة للحكومة والمجتمع والثقافة. وهكذا فإن اقتراحه بإنشاء مثل
هذا القسم الذي يتجاوز تأثير الجامعة المفسد؛ يشبه تنظيم كانط
للجامعة في مقاله «تصارُع المَلَكات الذهنية» الذي ناقشته في
المقدمة؛ فكانط يتطلع في هذا المقال إلى الفلسفة باعتبارها موضوعًا
يظل متحررًا من تأثير الحكومة، وتأثير الشواغل المادية الأخرى، ومن
ثم تستطيع العمل بالإشراف على جميع المباحث العلمية الأخرى،
مسترشدة وحسب بالممارسة الموضوعية «للعقل». ويقدم جاك دريدا حجة
مقنعة تقول إن مقال كانط يقوم على بحث مُضلَّل عن الأصول، لأنه «من
المحال أن يوجد مفهوم خالص للجامعة … وذلك لسبب بالغ البساطة، وهو
أن الجامعة منشأة، وحدث الإنشاء لا يمكن فهمه مطلقًا إلا في إطار
المنطق الذي ينشئه» (دريدا ١٩٩٢م ب: ٣٠)، وبعبارة أخرى يقول إن
كانط يقيم مجالًا دراسيًّا ينفض يديه تمامًا، بطريقة ما، من هياكل
السلطة الداخلية في الجامعة، ومدى مسئوليتها أمام المجتمع والدولة.
وعلى غرار ذلك نجد أن جانبًا كبيرًا من عمل ليفيز يستند إلى معارضة
مبدأ تقسيم العمل الذي يزداد تطبيقه باطراد داخل المجتمع
الرأسمالي، قادحًا إياه بسبب إنتاجه «علمًا بحتًا لا وظيفة له» عند
«أصحاب التخصصات البحتة» (ليفيز ١٩٤٨م: ٦٢)، ولكنه يستثني موضوعه
الخاص من هذه العملية التاريخية، إذ يصفه بأنه «خاص» لا «متخصص»،
أي إن ليفيز ينشئ معايير ومناهج لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
تمنحها بوضوح صفة المبحث العلمي المستقل، إلى جانب تقريظ منزلتها
الفريدة باعتبارها مجالًا شاملًا وبينيًّا.
المشروع الثقافي لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
وهكذا فإن البينية عند ليفيز لها حدودها؛ فهي تقوم على فكرة تقول
بفقدان الإحساس بالوحدة الثقافية، وبالحاجة إلى تشكيل مجموعة
نخبوية، عاملة داخل مبحث علمي، لضمان استعادة هذه الوحدة. والفكرة
بهذا المعنى مستقاة من منهل حافل من مناهل النقد الثقافي الذي يضرب
بجذوره في الزمن على الأقل إلى فكر صموئيل تيلور كولريدج وماثيو
أرنولد، وهو يعتمد على الفكرة «بعد الرومانسية» عن المذهب الجمالي
باعتباره «قلب عالم بلا قلب» (إيستهوب ١٩٩١م: ١٣)؛ ففي الكتاب الذي
وضعه كولريدج بعنوان تكوين الكنيسة والدولة (١٨٣٠م) يقترح تشكيل
نوع من «الكهانة» التي تضم الكُتاب والفنانين، كأنها «كنيسة قومية»
تتخذ موقعها باعتبارها.
النبع الرئيسي للعلوم الإنسانية، بحيث تتولى تنمية
المعرفة المتاحة سلفًا وتوسيعها، وتشرف على مصالح العلوم
الطبيعية والأدبية … ولما كانت أهداف النظام كله ومقاصده
النهائية تنحصر في ذلك، فإن عليها الحفاظ على الذخائر،
وحراسة كنوز الحضارة السالفة، ومن ثم ربط الحاضر
بالماضي.
(ويليامز [١٩٥٨م] ١٩٦١م: ٧٨)
واقترح ماثيو أرنولد تِرياقًا مماثلًا لانحطاط الذائقة الفنية في
الطبقات الوسطى، واستياء الطبقات العاملة في العصر الفكتوري،
قائلًا إن إنقاذ المجتمع من «الفوضى» متاح على أيدي القوة التحررية
«للثقافة»، باعتبارها مستودع «أفضل أفكار الإنسان وأقواله»، ونبعًا
«للحلاوة والنور». وكان أرنولد، فيما يبدو، معارضًا عمليًّا لقصْر
الثقافة على القلة المهنية [المتخصصة]، قائلًا إن أعظم أهل الثقافة
هم «الذين اجتهدوا لتخليص المعرفة من كل ما هو فظٌّ غليظ، وغريب
شاذ، وعسير تجريدي، ومهني خصوصي، ابتغاءَ أَنسَنتها، وجعْلها فعالة
خارج نطاق زمرة المتعلمين والمتخصصين» (أرنولد [١٨٦٩م] ١٩٩٣م: ٧٩).
ولكنه كان يوافق على ضرورة بذل جهود مركَّزة ابتغاء تحقيق غاية
التحول المجتمعي، وعلى أن هذا الجهد لا يستطيع بذله إلا فريق من
الباحثين الموضوعيين «من خارج» [التخصصات]، القادرين على الابتعاد
عن مظاهر الانحطاط والفساد في المجتمع، وعلى أن ينأَوا بأنفسهم عن
«النظرة العملية للأمور» (أرنولد [١٩٦٨م] ١٩٩٣م: ١١٠، ٣٧).
وعلى الرغم من أن أرنولد لم ينشغل انشغالًا مباشرًا بالنقد
الأدبي على مستوى الاحتراف، بل كان في الواقع يعارض تطويره
باعتباره مبحثًا علميًّا مستقلًّا، فإن أساتذة اللغة الإنجليزية
وآدابها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثل
ديفيد ماسون (
Masson)، وهنري مورلي
(
Morley)، وجورج جوردون
(
Gordon) وكويلار-كوتش
(
Quiller-Couch)، قد اعتنقوا
بعض هذه المُثُل العليا للتنوير الثقافي، تبريرًا للمبحث العلمي
الجديد في الأدب الإنجليزي. وتلقَّى مشروع أرنولد تدعيمًا جديدًا
من التقرير الذي كانت الحكومة ترعاه، وصدر في عام ١٩٢١م، حول
«تعليم اللغة الإنجليزية وآدابها في إنجلترا»، وكانت اللجنة التي
وضعته يرأسها السير هنري نيوبولت
(
Newbolt)، وتتضمن كلًّا من
كويلر-كوتش وريتشاردز. كان التقرير قد كُتب بعد الحرب العالمية
الأولى مباشرة، ويتسم بروح وطنية، ويَعتبر الأدبَ الإنجليزي
المصدرَ الأول للثقافة القومية، قائلًا إنه ينبغي أن يحل محل دراسة
الكلاسيكيات [اليونانية واللاتينية]، باعتباره المجال العلمي
الإنساني الرئيسي، بل يعبر عن الأمل في قيامه بالدور التقديسي
للدين في مجتمع علماني في المقام الأول. وكانت هذه المهمة الثقافية
— التي تؤكد استحالة الفصل بين الأدب والحياة — تعني أن دراسة
اللغة الإنجليزية وآدابها لا يمكن تصورها في صورة المبحث العلمي
المباشر، بحيث تقتصر على الجوانب التقنية للأدب، كالنظر «فيما إذا
كانت القصيدة شعرًا غنائيًّا أو ملحميًّا، وفيما إذا كانت مكتوبة
بالنظم من بحر التروكي [الموازي تقريبًا لبحر المتقارب العربي]، أو
البحر الأيامبي [كالخبب العربي]» (مجلس التعليم ١٩٢١م: ٢٧٣):
ليست اللغة الإنجليزية وآدابها مجرد وسيط لفكرنا، بل هي
مادة هذا الفكر وحركته … إنها الجو الذي نعيش فيه ونعمل.
ومعناها الكامل لا يوحي وحسب بالمعرفة بعدد معين من
الألفاظ، أو بمجرد القدرة على هجاء هذه الألفاظ من دون
أخطاء فادحة، بل إنها توحي باكتشاف العالم من خلال أول
الطرق المتاحة لنا وأقربها إلينا، واكتشاف أنفسنا في
بيئتنا الأصلية.
(مجلس التعليم ١٩٢١م: ٢٠)
ومما له مغزاه أن التقرير المذكور يبدي تشكُّكه أيضًا في الفكر
الدائري [أي: السير في حلقات مُفرَغة] الذي يشجِّع على اتخاذه
الطابعُ المهني لهذا المبحث العلمي في الجامعات البحثية الأمريكية:
كان عدد كبير من الرسائل التي كتبها الطلاب الأمريكيون
للحصول على درجة الدكتوراة، ثم نُشرت في وقت لاحق؛ نماذج
للجهود الضالة؛ إذ تدل بإيجاز على فقدان الإحساس الصادق
بالأدب باعتباره كائنًا حيًّا، ويُستعاض عنه فيها ببحوث
تتبع أسوأ أنساق «البحث» «الألماني»، فهي تأتي بالموت إلى
من كتبوها ومن قرءوها جميعًا.
(مجلس التعليم ١٩٢١م: ٢٣٦-٢٣٧)
وهكذا فإن تقرير نيوبولت يقيم الحجة على صحة المذهب التعميمي
(generalism) القائم على
المذهب الإنساني، وتفوُّقِه على ما كان يراه جافًّا كالتراب في
البحوث «الألمانية»، وهو توكيد يرجع في جانب منه إلى المشاعر
المعادية لألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولكن التقرير
مثال للحيرة الواضحة بين وضع دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
باعتبارها مجالًا واسعًا [يسمح بالتنوع]، وبين تعريفها باعتبارها
مبحثًا علميًّا [متخصصًا]؛ فالتقرير يؤكد نفع السياق التاريخي
والحجج الفلسفية للدراسة الأدبية، على سبيل المثال، ولكنه يحذر من
«الخطأ الفادح» الناجم عن افتراض أن الأدب مجرد فرع من فروع
التاريخ أو علم الاجتماع أو الفلسفة (مجلس التعليم ١٩٢١م:
٢٠٥-٢٠٦). وذلك يعني أن النظرة إلى الدراسة المذكورة تقبل توسيع
إطارها بحيث يشمل نطاقًا كاملًا من المواد، وإن كان عليها في الوقت
نفسه أن تحتفظ بالاختصاصات الواضحة للمبحث العلمي التقليدي، وألا
تستخدم الأدب «في تنمية مذهب انطباعي ضحل، وطلاقة لسان زائفة»
(مجلس التعليم ١٩٢١م: ٢٦). وهكذا فإن دراسة الأدب الأكاديمية كانت
ترى نفسها من البداية باعتبارها جانبًا من جوانب مشروع رحيب
للإحياء الأخلاقي، والتناغم الطبقي، وتعزيز هوية قومية محددة، وكان
هذا المشروع يقف إلى جانب الحاجة الظاهرة إلى إرساء دراسة اللغة
الإنجليزية باعتبارها مبحثًا علميًّا، وأحيانًا ما كان يشتبك معها
اشتباكًا قلقًا.
ويرث ليفيز من أسلافه اتجاهًا بينيًّا يقوم على عقيدة يغذوها
الحنين، وترى أن مهمة النقد استعادة الإحساس بالتكامل في المجتمع
والثقافة. بَيد أنه يخضع في هذا الصدد أيضًا للتأثير الكبير من
جانب أحد معاصريه، وهو ت. س. إليوت؛ فإن إليوت، مثل ليفيز، يؤمن
بفكرة شاملة عن الثقافة، بصفتها تشمل «جميع الأنشطة والاهتمامات
المميزة لشعب من الشعوب»، إلى جانب إيمانه الأقصى بثقافة نخبوية،
وبالقِلة القادرة على الحفاظ على الإحساس بالاستمرار الثقافي،
والاتصال الثقافي بالسلف من عظماء الكتاب (إليوت ١٩٤٨م: ٣١، ١٦).
ويشير إليوت في مقال له بعنوان «الشعراء الميتافيزيقيون» إلى
«انفصام في الحساسية»، قائلًا إنه نشأ في القرن السابع عشر، وإن
الأدب بشتَّى ضروبه اللاحقة يعاني مثل هذا الانفصام. ويقول إليوت
إن الشعراء الميتافيزيقيين «يُحسُّون بفكرهم إحساسًا مباشرًا يضارع
نَشْق عبير الوردة»، ولكن الكُتاب من بعدهم يَفصِلون فصلًا فاجعًا
بين الفكر والإحساس، وبين الذهن والعاطفة (إليوت ١٩٥١م: ٢٨٧).
ويتضح في عمل ليفيز التأثيرُ الكبير للفكرة الخاصة بلحظة الانفصام
الفاجعة، وهو يتوسع فيها فيجعلها تتحول إلى نقد أوسع لفقدان
التواصل العضوي في انقسام الثقافة عن المجتمع، وهو يُزكِّي دراسة
القرن السابع عشر باعتبارها موضوعًا خاصًّا في الدرجة الجامعية
التي يقترحها في اللغة الإنجليزية وآدابها، وذلك على وجه الدقة
لأنه الوقت الذي بدأ فيه الانفصام في الحساسية [الذي يذكره
إليوت].
ويقول ليفيز إن الغرض من النقد الأدبي هو رَأْب هذا الصَّدْع
الفاجع الذي ابتُلِيتْ به القرون القليلة الماضية، ومن هذه الزاوية
يُعتبر مذهبه النقدي بينيًّا بصورة استرجاعية، أي إنه يقول إن
الثقافة والمجتمع قد انفصلا، وإن رَأْب ذلك الصَّدْع يتمثل في
الدراسة المتكاملة التي يمكن إجراؤها داخل مبحث علمي جامعي. وهذه
مفارقة ما دام المبحث العلمي المذكور تمارسه أقلية تتَّسم في ذاتها
بالانفصال عن سائر المجتمع، ولكن يخفيها إلى حد ما إصرارُ ليفيز
على أن دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها مبحث علمي يختلف عن كل ما
عداه.
وهكذا فإن الدور الذي يراه ليفيز للنقد الأدبي ينشأ ويتطور من
حجته العامة، وهي التي صاغها أول مرة في مقال مبكر عنوانه «الحضارة
الجماهيرية وثقافة الأقلية»، ويقول فيها إن «الحضارة» قد انفصلت عن
«الثقافة»، وإن «مهمة التذوق الحصيف للفن والأدب يعتمد في أية حقبة
على أقلية بالغة الضآلة» (ليفيز ١٩٤٨م: ١٤٣-١٤٤). ويتضح لنا فيما
كتبه عن الجامعة ومستقبل دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها أنه يرى
المبحث العلمي للدراسة الأدبية باعتباره الحارس الأمين على ثقافة
القلة المذكورة؛ فمهمَّة الناقد الأدبي أن يبتعد ابتعادًا
استراتيجيًّا عن المجتمع، حتى يتمكن من صوغ مبحث أكاديمي ينجح آخر
الأمر في تحقيق مُركَّب علمي بينيٍّ، وإنجاز تحوُّلٍ ما في
المجتمع. وهكذا فإن ليفيز يهدف إلى السير في طريق وسط بين الحنين
المشلول، والاستسلام لقوى التحديث؛ باقتراح هجوم من الخلف يتمثل في
تدعيم المبحث العلمي «الخاص» لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، وهو
النموذج الذي ظل سائدًا داخل هذا المبحث حتى العقود القليلة
الماضية؛ إذ كان طابعه البينيُّ مُستوحًى من مشروعه العريض للتجديد
الثقافي، وإن كان ذلك مصحوبًا بالإصرار على ضرورة اشتمال الدراسة
المذكورة على قراءة نصِّية «محايدة» صارمة، وعلى أن المهارات
اللازمة لها لا تُكتسَب إلا من داخل ذلك المبحث العلمي. وفي إطار
هذا التركيز على القراءة الدقيقة لمختارات معتمدة من النصوص، كان
المقصود أن تظهر رسالة الخلاص التي تحملها الدراسة فتتحدث بلسانها،
بمعنى أن الاستثمار المؤسسي للناقد في هذا المبحث العلمي، والطابع
السياسي لعلاقته بالمباحث العلمية الأخرى، وبالمجتمع بصفة عامة،
كان يَندُر الاعتراف بهما.
اللغة الإنجليزية وآدابها في أمريكا
أريد أن أقدم الآن كلمة موجزة عن الحال في أمريكا، حيث وُلدت
الدراسات الأدبية التخصصية في الوقت الذي وُلدتْ فيه في بريطانيا
تقريبًا، عندما تحولت كليات العلوم النظرية القديمة إلى جامعات
بحثية جديدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وكان النقد
الأدبي الأمريكي منذ البداية تكتنفه المناظرات نفسها عن العلاقة
بين المنزلة العلمية لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها باعتبارها
مبحثًا علميًّا مستقلًّا، وبين طموحاتها البينية. وكان الدافع إلى
اصطباغ الدراسات الأدبية في أمريكا بالطابع التخصصي المبدئي يرجع
إلى حد بعيد إلى علماء فقه اللغة المتخصصين في اللغة الألمانية؛ إذ
كانت صرامتهم العلمية التي لا مِراء فيها هي التي مكَّنت الدراسات
الأدبية من إطلاق صفة المبحث العلمي عليها داخل الجامعة الحديثة
المنظمة في أقسام متعددة. ولا تزال هذه الصلة الأصلية بالمباحث
اللغوية ظاهرة في اسم الهيئة المتخصصة في اللغة الإنجليزية وآدابها
في أمريكا، وهي جمعية اللغات الحديثة، التي أُنشئت في عام ١٨٨٣م.
وكان المتخصصون في اللغة آنذاك يرَون أن الأدب لا يزيد عن نصوص
يَستَقون منها الشواهد وحسب، وهكذا كان دعاة النقاء النوعي، مثل
جيمز برايت من جامعة جون هوبكنز، يقولون «إن وصف الباحث في فقه
اللغة بأنه أستاذ في الأدب وصف سخيف، مثل وصف المتخصص في
البيولوجيا بأنه أستاذ في الخَضراوات» (جراف ١٩٨٩م). ومع ذلك فقد
كان في الجامعات داعون تقليديون للمذهب الإنساني التعميمي، وهم
الداعون لفكرة أرنولد عن النقد الأدبي باعتباره حملة ثقافية،
والمعارضون للنموذج المذكور لهذا المبحث العلمي. وكما كان عليه
الحال في الجامعات البريطانية، رأينا صلة واضحة بين هذه الصور
المبكرة للبينية، وبين الإصرار على مناهضة المذهب الأكاديمي. وكان
دعاة المذهب الإنساني يؤيدون علماء فقه اللغة في إنشاء مبحث مستقل
للغة الإنجليزية وآدابها، ظانِّين أن ذلك قد يحقق غاياتهم
الأرنولدية، ولكن كانت لديهم شكوك عميقة في إمكان إخضاع هذه
الغايات لمقتضيات التخصص؛ فكما يقول آرثر أبلبي
(Applebee) كان «صيت فقه اللغة
يُستغل لتبرير دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها من دون أن يضع لها
بالضرورة أي حد» (جراف ١٩٨٩م: ٥٦).
وازداد تعقيد الحال بسبب ازدياد أهمية الكتابة [الإنشاء] باللغة
الإنجليزية، وهو الموضوع الذي نشأ من دروس البلاغة والخطابة في
الكليات القديمة، وكان يمثل استجابة للحاجة المتزايدة في دوائر
الحكومة والصناعة إلى مستويات جيدة للكتابة التقنية. وهكذا قامت
أقسام اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة بتمويل باقي بحوثها
ودراساتها [من عوائد] فصول تعليم الإنشاء للطلاب في سائر أقسام
الجامعة، بل ولا تزال أقسام كثيرة تفعل ذلك. ويقول ريتشارد أومان
(Ohmann) مُرجعًا صدى تعليقات
أبلبي: «إن الأدب هو الموضوع الذي اختاره التخصص، ولكن الإنشاء هو
الموضوع الذي خلق التخصص» (أومان ١٩٧٦م: ٩٤). وهكذا كان تدريس
اللغة الإنجليزية في السنة الجامعية الأولى، أو ما كان يُسمى
«الإنجليزية رقم ١٠١»، يهدد بدفع الموضوع في اتجاه مختلف عن اتجاه
المبحث العلمي، وهو غاية تقوم على فكرة التدريب المهني التخصصي
أكثر من قيامها على المُثُل العليا البينية ذوات القاعدة العريضة
التي يعتنقها عدد كبير من النقاد الأدبيين. وكانت هذه الدروس، على
الرغم من تأثرها في حالات كثيرة بالمعتقدات التقدمية للقائمين
بتدريسها، قد وُضعت أساسًا كي تستجيب لمطالب المصالح الحكومية
والشركات الصناعية «للبلاغة اللازمة للنُّخب الحاكمة» (أومان
١٩٧٦م: ٩٧). ولكن دروس الإنشاء، على الرغم من توفيرها التمويل
اللازم للكثير من الأنشطة التي تقوم بها الأقسام المذكورة، لم
تتدخل في سطوع نجم النقد الأدبي باعتباره نشاطها الأساسي.
وعلى نحو ما حدث في
بريطانيا، أصبح النقد الأدبي تخصصًا كاملًا في أمريكا اعتبارًا من
نحو عشرينيات القرن العشرين وما بعدها، وقد حدث ذلك بفضل التخلص من
فكرة الدراسة الأدبية باعتبارها مجرد تقدير للذائقة العامة
والاحتفال بها، وإرساء أولوية التفسير النصِّي. وتزامنت هذه الخطوة
مع نشأة «النقاد الجُدد»، من أمثال جون كرو رانسوم
(Ransom)، وألن تيت
(Tate)، وأيفور وينترز
(Winters)، وكلينث بروكس
(Brooks). فإذا قورن هؤلاء
بأندادهم البريطانيين، جاز لنا أن نقول إن النقاد الجدد كانوا أشد
ارتباطًا بسياقات التخصص البحثي للجامعات، وتدريب النقاد
الأكاديميين الطامحين، وذلك — إلى حد ما — لأن الجامعات الأمريكية
كانت على مر التاريخ تبدي اهتمامًا بالبحث العلمي على مستوى
الدراسات العليا أكثر من اهتمامها بالتدريس في مرحلة الليسانس.
وأما الناقد البريطاني الذي كان له أكبر تأثير في النقاد الجدد فلم
يكن ليفيز الذي كان ينتمي إلى لون بريطاني خاص من النقد الثقافي،
بل كان ريتشاردز؛ إذ إن النقاد الجدد قد كيَّفوا «النقد التطبيقي»
عند ريتشاردز حتى يحقق أغراضهم، ومن ثم أمسوا يميلون إلى رؤية النص
الأدبي باعتباره كافيًا في ذاته، وإلى تمييزه بوضوح عن غيره من
النصوص، وإلى العزوف عن القراءات السيكلوجية أو البيوغرافية أو
الاجتماعية التاريخية.
ويقول رانسوم في مقال له
بعنوان «النقد وشركاه» إن المبحث العلمي في الأدب الإنجليزي يحتاج
إلى وضع قاعدة تخصصية واضحة، تقوم على «إنشاء معايير نقدية ذكية»،
وألا يتولى وضعَها الهواةُ، بل «الجهود الجماعية المتصلة للمثقفين»
(رانسوم ١٩٣٨م: ٣٢٨-٣٢٩). وطبقًا لما يقوله رانسوم، يحتاج قسم
اللغة الإنجليزية وآدابها أيضًا إلى أن يفصل نفسه عن المباحث
العلمية المجاورة، وأن يضع تعريفًا واضحًا لما يفعله:
ما أبشع اتجاه قسم علمي إلى التنازل عن هويته المعبرة عن
احترامه لذاته، فقسم اللغة الإنجليزية وآدابها منوط به فهم
الأدب باعتباره فنًّا، وتوصيل هذا الفهم، ولكنه عادةً ما
ينسى البحث في الطابع الخاص لإنتاجه وفي بنائه، فلعلَّ
القسم المذكور يعلن أيضًا أنه لا يعتبر نفسه ذا استقلال
تام، بل كونه فرعًا من قسم التاريخ، مع اختيار إعلان أنه،
من حين لآخر، فرع من فروع قسم الأخلاق.
(رانسوم ١٩٣٨م: ٣٣٥)
وكان عمل النقاد الجدد بصفة عامة يتميز بهذه المحاولة لحراسة
حدود المبحث العلمي المذكور؛ فلقد قرأنا مقالين، كثر الاستشهاد
بهما، كتبهما و. ك. ويمزات
(Wimsatt) الابن، ومونرو سي
بيردسلي (Beardsley)، يشيران فيهما
إلى ما يُسمى «خرافة العَمْد»، وهي الخاصة بقراءة الأعمال الأدبية
على ضوء مقاصد المؤلف، وإلى ما يُسمى «خرافة العاطفة»، الخاصة
بتدخل استجابات ذاتية عاطفية في عمل النقد، باعتبارهما من الطرائق
الشائعة لسوء قراءة النصوص (ويمزات [١٩٥٤م] ١٩٧٠م: ٣–٣٩). واستخدام
كلمة «خرافة» في الحالتين السالفتين يمثل استراتيجية مشتركة عند
النقاد الجدد؛ فهي توحي بوجود معيار أدبي نقدي يحتاج إلى الدفاع
عنه، ووجود أنواع محددة من النشاط النقدي التي تُعتبر «خاطئة» بلا
مِراء. وعادةً ما تكون المداخل المُشار إليها مداخل تستند إلى مواد
خارجية مستمدة من مباحث علمية أخرى، مثل الفلسفة أو علم النفس أو
التاريخ.
وعلى نحو ما حدث في بريطانيا، وَجد هذا الدافعُ إلى إقامة مبحث
علمي مستقل من يختلف معه، ولم يستطع النجاة من تناقضاته الداخلية.
كان كثير من النقاد الجدد ملتزمين بمشروع ليفيز لاستخدام الشعر
والنقد في معارضة الميول «التكنوقراطية»، السالبة لإنسانية الإنسان
في المجتمع الحديث، وكانوا كثيرًا ما يُمجِّدون «الجنوب القديم»
الريفي في أمريكا، ويعارضون الشمال الصناعي فيها، وكانوا بصفة عامة
منشغلين بمسائل تاريخية وفلسفية أكثر مما يُعترَف به أحيانًا؛ فعلى
سبيل المثال، كان كتاب «نظرية الأدب» الذي وضعه رينيه ويليك
(Wellek) وأوستن وورين
(Warren)، ونُشر أول مرة في
١٩٤٩م؛ كثيرًا ما يُعتبر الكتاب المقدس للنقد الجديد، وهو فعلًا
يدل على الانشغال الشديد بأدبية الأدب؛ إذ يقوم على حجة تقول إن
العمل الفني «وعاء لمعرفة من نوع خاص به»، وإن «نقطة الانطلاق
الطبيعية والمعقولة للعمل بالبحوث الأدبية يجب أن تكون تفسير
الأعمال الأدبية نفسها وتحليلها» («ويليك» و«وورين» ١٩٤٩م: ١٣٩،
١٥٧). ولكن «ويليك» و«وورين» يحرصان على السماح بنوعين من أنواع
القراءة؛ الأول «داخلي» [التحليل النصي]، والثاني خارجي، وهو الذي
يعتمد على الخلفية البيوغرافية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع،
والفلسفة، والفنون الأخرى، على الرغم من العيوب التي يرصدانها في
هذا النوع الأخير. والملاحَظ أن الفصل الأخير في الطبعة الأولى،
وعنوانه «دراسة الأدب في الدراسات العليا»، يقول أيضًا إن التخصص
في مبحث علمي ينبغي أن يصاحبه «تميز فكري وأدبي عام»، بما في ذلك
الإحاطة باللغات الأجنبية، والأدب المقارن، والفلسفة («ويليك»
و«وورين» ١٩٤٩م: ٢٩١–٢٩٥). وخاتمتهما ليست، فيما يبدو، تَقنينيَّة
في أهدافها البينية؛ إذ تقول إن «التركيز يبدو ترياقًا ضروريًّا
للحركة التوسعية التي شهدها التاريخ الأدبي في العقود الماضية»،
ولكن «للفرد أن يختار أن يجمع بين عدة مناهج» («ويليك» و«وورين»
١٩٤٩م: ٢٨٢).
والواقع أننا سمعنا — حتى عندما بلغ تأثير النقد الجديد ذروته —
أصواتًا مُنشقَّة، تدعو لما يسميه جيرالد جراف «المذهب الإنساني
الجديد»، وتستمسك بفكرة التعليم التعميمي غير المتخصص (جراف ١٩٨٩م:
١٤٩). وكان للمنتمين إلى المذهب الذي يُسمى «مدرسة شيكاغو» برنامجٌ
يختلف اختلافًا طفيفًا عن هذا؛ إذ كانوا يشاركون اهتمام النقد
الجديد بوضع ممارسة علمية نقدية، وذات تنظيم أدق في الدراسة
الأدبية، ولكنهم كانوا يدعون إلى انتهاج النقاد الأدبيين مدخلًا
«تعدديًّا». وكان أحد كبار النقاد بمدرسة شيكاغو، وهو ر. س. كرين،
ينتقد «الثقة المرسلة» التي اتَّسم بها عمل ناقد مثل ريتشاردز،
قائلًا إن زماننا يتطلب «توسيعًا، لا تطبيقًا جديدًا في موارد
النقد» (كرين ١٩٥٧م: ٤-٥). وقال عضو آخر في تلك المدرسة، وهو إلدار
أولسون، كلامًا مماثلًا، زاعمًا
أن النقد في أيامنا يكاد يشبه برج بابل … ومن المفيد أن
نذكر أن الناس في بابل لم يبدءوا يتكلمون كلامًا لا معنى
له، بل بدءوا يتكلمون كلامًا بدا وحسب لزملائهم أنه كلام
فارغ … فالتنوع الشديد في النقد المعاصر لا يدعو للانزعاج
أكثر من التنوع في الفلسفة المعاصرة، بل ويرتبط بها
فعليًّا، والمغزى الرئيسي لكليهما هو حاجتنا إلى مبحث نقدي
معين يستطيع الفحص الجذري لأسلوب نشأة ذلك التنوع، من خلال
النظر في الجوانب الجديرة بالتناول لأي موضوع، وفي المشاكل
التي تطرحها، وكيف يمكن التنوع في صوغها.
(أولسون ١٩٥٢م: ٥٤٦-٥٤٧)
وهكذا فإن مشروع أولسون كان يختلف اختلافًا كاملًا عن مشروع
رانسوم في مقاله «النقد وشركاه»، فعلى الرغم من اعتقاده أن على
مختلف المدارس النقدية أن تعمل في سبيل اتفاق في الآراء النقدية،
فإنه يُسلِّم بأن ذلك سوف يتسم بالنقص في كل حالة، وكان معنى هذا
في الواقع العملي أن نقاد شيكاغو كانوا أقرب من نظرائهم أصحاب
النقد الجديد إلى الانتفاع بالتحليل التاريخي، والفلسفة، وقبل كل
شيء، بتاريخ النقد الأدبي. والواضح أن الدراسات الأدبية في أمريكا
— على الرغم من احتمال كونها أقرب إلى الارتباط الصريح بالسياقات
التخصصية للجامعة من نظيرتها البريطانية — فإنها ظلت تعاني من
الصَّدْع الناشئ من التوترات نفسها بشأن مكانتها الغامضة باعتبارها
مبحثًا علميًّا [مستقلًّا].
سقوط دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها
وهكذا فإن المنهج البيني في الدراسة الأدبية ليس جديدًا، على نحو
ما حاولتُ أن أبيِّنه في هذا الفصل؛ فلم يكن قط مبحثًا علميًّا
«خالصًا»، بل خليط من المباحث الجمالية والنظرية والعلمية. وللمرء
أن يقول إن البينية كانت واعية أشد الوعي «بإشكاليتها»، ونقول
بتعبير آخر إنها لم تتوقف قط عن النظر في أُسسها الفكرية التي
تتشكَّل داخلَها مسائلُها الأساسية، التي تجعل وجودها ممكنًا،
وتأمَّلْ ما عساه أن يحدث لو اختلف الحال وكانت الدراسات الأدبية
يدفعها، في الوقت نفسه، نزعة التنافس لتعريف نفسها تعريفًا أدق
وأوضح باعتبارها مبحثًا علميًّا مستقلًّا.
وقد نظر جراهام هَفْ (
Hough) في
التوتر المشار إليه، في مقال عن مستقبل الدراسات الأدبية في عام
١٩٦٤م، في كتاب يضم بعض الدراسات التي حررها بعنوان الأزمة في
الإنسانيات. وإذا كان لا يشير إلى ليفيز إلا إشارة عابرة، فإن
مقاله مهتم بوضوح بالطرائق التي تبخَّر بها المنهج البيني عند
ليفيز بسبب ظهور دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها باعتبارها مبحثًا
مستقلًّا، وهو التطور الذي كان ليفيز يشجعه أيضًا. ويقول هَفْ: كان
من الشائع يومًا ما أن الأدب سيصبح الموضوع الرئيسي للإنسانيات،
بدلًا من الدراسات الكلاسيكية [اليونانية واللاتينية]، باعتباره
«الدراسة الأساسية الموحِّدة لكل من لا يرغب في دراسة علمية أو
تخصصية بحتة»، ولكن الذي حدث في الواقع أنه «أصبح مجرد «موضوع» مثل
أي موضوع آخر» (هف ١٩٦٤م: ٩٨-٩٩). ويرى هَفْ أن ذلك كان نتيجة
مباشرة لإنشاء درجة جامعية بمرتبة شرف مستقلة في دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها، بمعنى أن الطلاب الذين يريدون الحصول على هذه
الدرجة لا يدرسون إلا الأدب الإنجليزي، من دون حاجة إلى دراسة لغة
أجنبية، أو الاطلاع على التاريخ الاجتماعي والفكري، وأما من لا
يختارون مرتبة الشرف المذكورة فلهم أن يتجنبوا هذا الموضوع تمامًا.
ويقول هَفْ بوجود مشكلتين تكتنفان فكرة الإعداد العلمي لنقاد الأدب
بأسلوب إعداد العلماء أو الأطباء؛ المشكلة الأولى هي أن ذلك «يتضمن
تقليصًا شديدًا للأهداف العريضة للتعليم الإنساني»، وتقول الثانية
«إنه يتضمن قدرًا كبيرًا من الزيف والدجل» (هف ١٩٦٤م: ١٠٢). ويضيف
هف قائلًا إن دراسة الأدب الإنجليزي أبعد ما تكون عن تحقيق مكانة
المركز الإنساني للجامعة، إذ غدت تعلِّم الطلاب «مجموعة من الحيل
الخاصة» (هف ١٩٦٤م: ١٠٢) تتضمن تشجيع الطلاب والمعلمين على استخدام
مصطلحات نوعية للتعبير عن آراء نقدية لا يشاركون في اعتناقها
فعلًا، وينتهي هف إلى النتيجة التالية:
لا أعتقد أنه ينبغي لأي فرد أن ينال تعليمه العالي في
الأدب وحده، ولم يكن ينبغي لما نطلق عليه اسمًا سخيفًا هو
دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعات؛ أن ينمو بحيث
يصبح «موضوعًا» خاصًّا ومعزولًا على نحو ما نشهده الآن، بل
لا بد من إقامة التكامل الوثيق بينه وبين دراسة اللغات
الأخرى، ومع التاريخ وتاريخ الأفكار.
(هف ١٩٦٤م: ١٠٨)
أي إن هَفْ يقدم ملاحظة مهمة تقول إن تشكيل دراسة اللغة
الإنجليزية وآدابها، على الرغم من طموحاته «التعميمية»، بحيث يصبح
مبحثًا علميًّا مستقلًّا؛ فُرض عليه بالضرورة بعض الحدود. وتتمثل
هذه الحدود أولًا في المنهجية، قائلًا إن مشروعات ليفيز والنقاد
الجدد تعتمد على إقامة سلسلة من المناهج والإجراءات الخاصة بتلك
الدراسة وحدها، ولا يمكن تطبيقها إلا في داخل ذلك المبحث العلمي.
وتبدو هذه الحدود ثانيًا من حيث مادة الموضوع، بمعنى أن الدراسة
المذكورة حين تُواجِه إمكانَ فقدانها للانضباط في الشكل،
والمعاناةَ من الترهُّل، بسبب اتساع نطاق شواغلها، فإنها تظفر
بترابط المذهب العلمي بالتركيز على أعمال معينة واضحة التعريف.
بَيد أن هذا كان يعني في حالات كثيرة أن المبرر الوحيد لكونها
موضوعًا هو التصور المزعزع (إلى أقصى حد) لما يمكن وصفه «بالأدب»،
وهو ما يقوم على «أحكام قيمة»، ومشروعات ثقافية خاصة. وكما يقول
فرانكو موريتي (Franco Moretti):
«إذا فعل كل فرد ما يفعله نقاد الأدب الذين لا يدرسون إلا ما
«يحبونه»، فللأطباء أن يَقصُروا عملهم على دراسة الأجسام الصحيحة،
ولأهل الاقتصاد أن يقتصروا على دراسة مستوى معيشة «الأغنياء»»
(موريتي ١٩٨٨م: ١٤).
كان هَفْ قد كتب مقاله المذكور في ذروة التحولات الهائلة في
التعليم العالي، وكان يتوقع من زاوية معينة حدوث هذه التحولات.
ولكن فكرة وضع «مقررات» ثابتة كانت تعوقها مشكلة تتعلق بالسلطة
الثقافية، أي مشكلة البتِّ في النصوص التي تُدرس، وسبب اختيارها.
وكان من الممكن حل هذه المشكلة عندما كان التعليم الجامعي مقصورًا
على قلة ذات امتيازات، وكان أفراد هذه الطبقة النخبوية يشتركون في
فرضيات مماثلة عن أشكال الثقافة الجديرة بالمعرفة والحفاظ عليها.
ولكن التحول الذي طرأ على التعليم الجامعي منذ الستينيات قوَّض
فكرة «السعي المشترك إلى الحكم الصادق» (ليفيز ١٩٤٨م: ٧٠-٧١)، وهي
التي كان نقْد ليفيز، ونقْد عدد كبير من معاصريه، يعتمد عليها.
فإذا نظرنا إلى بريطانيا مثلًا وجدنا أن كثرة المواليد في جيل ما
بعد الحرب، الذين بلغوا سن الرشد، أدى إلى التوسع في الجامعات
البريطانية اعتبارًا من أوائل الستينيات، بل وازدادت أعداد الطلاب
كثيرًا منذ أوائل التسعينيات. وازداد عدد الطلاب من الإناث، ومن
الكبار، والطبقة العاملة، كما ازداد عدد الطلاب من الأقليات
العرقية، كما أن الذين يعلِّمونهم لم يعودوا مقتصرين على الذكور من
الطبقة الوسطى وذوي البشرة البيضاء. وظهرت صور مماثلة لهذه
التغيرات على المستوى الدولي، في بلدان مثل الولايات المتحدة
وأستراليا وكندا. وهكذا فإن ازدياد التعددية في الطلاب والأساتذة
أدى إلى الطعن في الفرضيات المصطبغة بقيم معينة عن الأدب، وهي
الفرضيات التي كانت تقاليد الدراسات الأدبية تستند إليها. وترددت
أصداء هذا القلق الفكري في شتى العلوم الإنسانية، ومباحث العلوم
الاجتماعية؛ إذ رأى الناس أن الأفكار الخاصة بالموضوعية العلمية،
وترابُط كل مبحث علمي مستقل؛ تقوم على ميول إقصائية يصعب توافقها
مع مفهوم الجامعة التي يتزايد أخذها بالتعددية.
وكانت دلالة هذه التطورات لا تقتصر على التوسع الشديد في المحتوى
الأكاديمي للدراسات الأدبية في السنوات اللاحقة، بحيث تتضمن
ألوانًا مختلفة كثيرة من النصوص، بل تعني، بصفة أعمَّ وأشمل، أن
مكانة المبحث العلمي ومستقبله كانا يتعرضان للطعن فيهما. ويمثل عدد
كبير من نماذج المنهج البيني التي فحصتها آنفًا نوعًا من الحنين
إلى وحدة المعرفة المفقودة، واعتبار المبحث العلمي في اللغة
الإنجليزية وآدابها أفضل سبيل لاستعادتها. وقد تكون التطورات في
المنهج البيني فيما بعد عهد ليفيز محفوزة إلى حد ما بهذه الأهداف
التوفيقية، ولكن كان يغذوها أيضًا قدر كبير من الشك الفكري العميق
والقلق؛ إذ إنها طرحت التساؤل عن مكانة «الأدبي» باعتباره فئة
متميزة تقبل الدرس، وعن الطبيعة الكلية للمباحث العلمية بصفتها
مصدرًا للمعرفة والفهم اللذين يزداد طابعهما التنويري
باطراد.