الفصل الثاني
من الأدب إلى الثقافة
يجوز لنا أن نقول إن مجال «الدراسات الثقافية» المعاصر مرادف، من
زاوية معينة، للنهج البيني نفسه، ما دام ينهل بشتَّى الأساليب من
مجالات علم الاجتماع، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، واللغويات، والفلسفة،
والنقد النصي، والثقافة البصرية، وفلسفة العلم، والجغرافيا، والعلوم
السياسية، والاقتصاد، وعلم النفس، وغيرها من المجالات، ولكنني سوف أهتم
في هذا الفصل خصوصًا بموقع «الدراسات الثقافية» عند نقاط التقاطع ما
بين العلوم الاجتماعية، وبصفة خاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وبين
الإنسانيات. ومن آثار ذلك الطعنُ في هوية المبحث العلمي للدراسات
الأدبية من خلال تذويب فئة «الأدب» في الفئة الأوسع نطاقًا «للثقافة»،
والمعنى العريض لها أن الدراسات الثقافية قد تميزت بآثارها النقدية في
الطابع «الانحباسي» للمباحث العلمية، وفي إمكانات المعرفة
البينية.
ومن الجدير بالذكر، أولًا، أن موضوع الدراسات الثقافية أوسع كثيرًا
من الطعن في الانقسامات بين المباحث العلمية المفردة؛ إذ ترجع جذورها
إلى المبادئ السياسية الاشتراكية، والحركات الاجتماعية الجديدة، مثل
المذهب النِّسْوي، ومناهضة العنصرية، والنضال في سبيل الميول الجنسية
المثلية، والتزامها بالدراسة التكاملية، وبتوسيع تعريف «الثقافة»،
فارتبطت بذلك بالقضايا الخاصة بالبناء الثقافي للهوية وللمعنى، خصوصًا
في علاقتها بالعمليات الواسعة للسلطة في المجتمع. وهكذا فإن الدراسات
الثقافية تستريب بالبرامج البينية التي تقتصر على مدخل شامل لدراسة
الثقافة من دون الاشتباك مع الشواغل المذكورة بشأن سياسات المعرفة
والتمثيل. وفي هذا السياق، ينتقد باتريك برانتلينجر
(Brantlinger) الدراسات الأمريكية،
وهي التي ظهرت باعتبارها تعاونًا بينيًّا بين قسمَي الأدب والتاريخ،
بعد الحرب العالمية الثانية، بصفتها رد فعل لما كان يُرى أنه المدخل
النصي الضيق للنقد الأدبي الأكاديمي. ويقول برانتلينجر إن الطابع
البيني غير السياسي للدراسات الأمريكية انتهى به الأمر إلى الدعوة إلى
«التعصب الوطني الثقافي الأكاديمي»، الذي أصبح مجالًا للاحتفال
احتفالًا فظًّا بالطبيعة الاستثنائية الأمريكية (برانتلينجر ١٩٩٠م:
٢٧).
وإذا كان عدد كبير من الباحثين المعاصرين في الدراسات الأمريكية
ينفرون من الوصف المذكور لعملهم، فمن المقطوع بصحته أن أقسام الدراسات
الأمريكية قد نمت بسرعة فظفرت بالتدعيم والاحترام المؤسسي في أمريكا
وأوروبا وبقاع أخرى في الفترة التالية للحرب، وكثيرًا ما كانت تجد
المساندة في التمويل من الحكومة الأمريكية، وبعض الهيئات التي ترعاها
الحكومة، مثل هيئة فولبرايت. وكان هذا يتناقض تناقضًا شديدًا مع الوجود
المبكر للدراسات الثقافية في الهوامش النائية للعمل الجامعي.
وكان هذا التهميش المؤسسي، إلى جانب البرنامج السياسي الصريح
للدراسات الثقافية، هو الذي جعلها تستريب ريبة شديدة بالمباحث العلمية
التقليدية، وبالطريقة التي اتبعتها في حصر الباحثين في مواقع أكاديمية
منعزلة، أي منفصلة عن شواغل الدنيا خارج الجامعة. ويقول ريتشارد جونسون
إن الدراسات الثقافية كانت ولا تزال قلقة إزاء إمكان اكتسابها صفة
المؤسسة والمبحث العلمي المستقل، بحيث تفقد قدرتها على أن تنهل من
مناهل المباحث العلمية الراسخة مع استمرار انفصالها عنها:
إن تقنين المناهج وضروب المعرفة … يتعارض مع بعض المعالم
الرئيسية للدراسات الثقافية من حيث تقاليدها؛ أي انفتاحها،
وتنوعها النظري، وميولها الانعكاسية، بل المتسمة بالوعي
الذاتي، وخصوصًا أهمية البحث النقدي. وأنا أعني البحث النقدي
بالمعنى الكامل للمصطلح، وهو الذي لا يقتصر على النقد، أو حتى
على الجدل، بل يتضمن الإجراءات اللازمة لتناول تقاليد أخرى،
للإفادة مما تثمره وما تَحُول دون فعله، فالبحث النقدي يتضمن
استلاب العناصر النافعة ونبذ الباقي. وتبدو الدراسات الثقافية
من هذه الزاوية عملًا متصلًا، أو قل هي الخيمياء القادرة على
إنتاج معرفة نافعة، فإذا قنَّنتها فربما أبطلت
تفاعلاتها.
(جونسون ١٩٩٦م: ٧٥)
ولما كانت الدراسات الثقافية قد نمت وترعرعت باعتبارها طرازًا
دراسيًّا حديثًا ذا جاذبية، فقد أصبحت هذه العلاقة النقدية مع المباحث
العلمية التقليدية مَثار خلافات ضارية، وسوف أناقشها في أواخر هذا
الفصل. وما دامت الدراسات الثقافية مجال تعددية ومثار خلافات، فلن
أحاول تقديم استقصاء شامل لإمكانياتها البينية، بل أريد أن أناقش أعمال
ست شخصيات رئيسية، وهم ريتشارد هوجارت
(Hoggart)، ورايموند ويليامز،
وستيوارت هول (Hall)، وميشيل دي سيرتو
(Certeau)، وبيير بورديو
(Bourdieu)، وجون فراو
(Frow). فلقد قام هؤلاء النقاد
بالاستكشاف الدقيق، وبطرائق متنوعة، لبعض المسائل حول طبيعة المباحث
العلمية والمنهج البيني، كما يُعتبر عملهم وسيلة مفيدة لفتح باب مناقشة
عامة لهذه القضايا في إطار الدراسات الثقافية.
الوثائق التأسيسية
مرت نشأة الدراسات الثقافية وارتقاؤها إلى موقع الاحترام المؤسسي
داخل الجامعة بطريق طويل محفوف بالآلام أحيانًا، ولكن الجهد المبكر
الذي بذله ريتشارد هوجارت ورايموند ويليامز، وهما من كبار من عملوا
على نشأة المجال وتطوره، لم يكن نابعًا من التدريس في الجامعة، بل
من وظائفهما الأولى في مراكز التعليم المستمر، وربما تأثرا
بمشاعرهما الخاصة بالنبْذ، باعتبارهما من أبناء الطبقة العاملة
الذين ظفروا بمنحة حكومية للتعليم الجامعي. وبَيد أن قضية الأصول
من قضايا الموضوع الإشكالية، فهي تثير قدرًا كبيرًا من التشكك في
المباحث العلمية؛ إذ اشترك هوجارت وويليامز في رفض وصفهما بأنهما
من الآباء المؤسسين، ولا شك أن المصطلح يتضمن مسحة أبوية تخصصية،
توحي بكيان من الحِكم، وسلسلة منفصلة من المفاهيم والمنهجيات
الموروثة من عارفين من ذوي الامتيازات.
وطبقًا لما يقوله توم ستيل
(
Steele)، يشيع في بريطانيا
أيضًا تصور مغلوط يقول إن الدراسات الثقافية قد ظهرت وحسب
باعتبارها «ابنًا غير شرعي» لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها،
وفرعًا راديكاليًّا من مذهب ليفيز (ستيل ١٩٩٧م: ٤٩، ٣)؛ فالواقع
يقول إن الأدب الإنجليزي ربما قام بعمل القابلة [الداية]، ولكن
الدراسات الثقافية وُلدت وترعرعت في الحقيقة في كنف الالتزامات
السياسية والبينية لبرامج تعليم الكبار في الفترة ما بين
الثلاثينيات والخمسينيات (ستيل ١٩٩٧م: ٩)؛ إذ اندلعت مناظرات مديدة
بين القائمين على ذلك التعليم في تلك الفترة حول العلاقة بين الأدب
وعلم الاجتماع، وأيضًا بين السياسة والثقافة (ستيل ١٩٩٧م: ٣-٤).
وكان سياق تعليم العمال من ذوي الخبرات الحياتية الخاصة يعني ضرورة
وضع البرامج من خلال الحوار بين المعلمين وبين الطلاب. ويقول أحد
المعلمين من هيئة التعليم العمالية، في عام ١٩٣٩م:
مهما يكن الغرض من التعليم في غير هذه الهيئة، فيبدو لي
أن الدراسة في هذه الهيئة لموضوع ما ينبغي ألا تقتصر على
تقديم فهم لهذا الموضوع، بل أن تصبح بابًا يدخل منه الدارس
حتى يلمح أهمية الموضوعات الأخرى، ما دام الموضوع الذي
تحيطه الأسوار العالية للتخصص — سواء كان ذلك في مادة
الموضوع أو في النظرية، اقتصادية كانت أو علمية أو جمالية
— يؤدي في اعتقادي إلى طريق مسدود.
(ستيل ١٩٩٧م: ١٨)
كان مما ساعد على ترسيخ مكانة الدراسات الثقافية في التعليم
العالي بعضُ التغييرات التي حدثت في هياكل الجامعات البريطانية
اعتبارًا من عقد الستينيات، وهو ما سمح بالمزيد من المرونة
والتعاون ما بين المباحث العلمية. وعلى سبيل المثال كانت بعض
الجامعات الجديدة المقامة في حرم [يضم عددًا من الكليات]، مثل
جامعة ساسيكس (Sussex) (التي فتحت
أبوابها عام ١٩٦١م)، وجامعة إيست أنجليا (East
Anglia) (التي فتحت أبوابها عام ١٩٦٣م)؛ لا
تقوم على أقسام علمية، بل على «مدارس للدراسات» البينية، وهي التي
كانت تجمع بين الأنشطة العلمية المشتركة من جانب المتخصصين في
مجالات مختلفة كثيرة، وتتطلب من الطلاب أن يدرسوا موضوعات أخرى إلى
جانب موضوعهم الرئيسي. والأهم من ذلك إنشاء الجامعة المفتوحة،
وكليات الفنون التطبيقية
(polytechnics) التي دفعت
الدراسة البينية دفعة قوية؛ فالجامعات المفتوحة مؤسسة بلا أسوار،
تقدم التعليم لكل من يريد أن يتعلم في أوقات الفراغ من خلال
المراسلات والتلفاز والدراسة الصيفية، وأما كليات الفنون التطبيقية
فهي مؤسسات التعليم العالي التي حلت محل المعاهد الفنية القديمة،
وعادة ما تعتمد في تعليمها على قواعد التدريب المهني، وقد بدأت
الجامعات المفتوحة عام ١٩٦٩م، وكليات الفنون التطبيقية عام
١٩٧٠م.
فعند تدريس اللغة الإنجليزية وآدابها في الكليات المذكورة على
سبيل المثال، كان الأرجح أن نجدها داخل قسم علمي يتضمن نطاقًا
واسعًا من الإنسانيات، وأن يكون تدريسها مدرَّجًا في المتطلَّبات
الأكاديمية لدرجة جامعية مشتركة يحصل الدارس فيها على درجة امتياز
بمرتبة الشرف؛ وذلك بسبب قصور التمويل والالتزامات البينية
للمحاضرين. وأما الجامعة المفتوحة فكانت رائدة في وضع دراسات بينية
في الإنسانيات تدور حول موضوع «الثقافة». والحق أن مداخل الدراسات
الثقافية قد بدأت تقدمها الحقيقي في هذه المؤسسات منذ أوائل
السبعينيات.
بَيد أن أول موقع «مؤسسي» راسخ للدراسات الثقافية كان قد أُنشئ
قبل ذلك في جامعة بيرمنجهام عام ١٩٦٤م، عند تأسيس «مركز الدراسات
الثقافية المعاصرة»، وكان مديره هوجارت
(Hoggart)، الذي كثيرًا ما
يُعتبر كتابه «فوائد التعليم» (١٩٥٧م) الكتابَ الرائد لهذا الميدان
الجديد؛ فهو يفتح مجالات جديدة كاملة من ثقافة الطبقة العاملة أمام
عيون الفاحصين الناقدة، مثل اتجاه بعض الأشخاص [خصوصًا بعد
التقاعد] إلى اكتراء قطعة أرض لزراعتها، أو رعاية الحديقة، ومثل
فرق الآلات النحاسية، ولعبة الويست (Wist
drives) [من ألعاب الورق لأربعة لاعبين]،
والنزهات بالحافلات السياحية إلى ساحل البحر، والرقص، والمَيسِر،
ونوادي العمال، وهواية تربية الحمام [أي إنشاء أقفاص أو برج للحمام
فوق سطح المنزل]، والغناء في الحانات. وهذا نص غير مُنتمٍ إلى أي
مبحث علمي ثابت، ليس فقط في اختيار موضوعه، بل في منهجيته أيضًا،
ما دام يتضمن التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا والنقد الثقافي،
ويضم إليها سلسلة من التأملات الخاصة بسيرة المؤلف الذاتية في
طبقته العاملة أثناء طفولته في مقاطعة يوركشير. ووَفْق ما قاله
هوجارت فيما بعد، كان مبحثه الخاص في الدراسات الأدبية يتسم بحذلقة
معينة عن طابع المبحث الشمولي، مضيفًا: «كان عدد كبير من معارفي في
أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها يلتزمون الصمت إزاء هذا المبحث،
كأنما شاهدوا قطعة قبيحة من أحد المساكن الشعبية المجاورة تأتي
بشيء غريب — بل كريه الرائحة — إلى المنزل» (هوجارت ١٩٩١م: ١٤٣).
وعادت هذه المواقف إلى الظهور أثناء الولادة المتعسرة للدراسات
الثقافية في جامعة بيرمنجهام؛ فعلى الرغم من أن المركز المذكور كان
قد أُنشئَ باعتباره ملحقًا بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها، فإنه
كان مضطرًّا إلى الحصول على التمويل من مصادر خارجية، وكان أحد
زملاء هوجارت السابقين يشير إلى الموضوع الجديد باسم تقديم «طراز
أزياء لطيفة وارتداء قبعات رخيصة في الوقت نفسه» (ستيل ١٩٩٧م:
١١٩).
ومع ذلك فإن كتاب هوجارت يتسم بموقف مقلقل تجاه الثقافة الشعبية،
وهو ما يتجلى في تقسيم الكتاب إلى نصفين؛ أما القسم الأول، وعنوانه
«نظام «قديم»»، فيصف ثقافة عمالية تقليدية، يقوم نظامها على طقوس
الأسرة والحي، وهو عمومًا يتعاطف معها ويحتفل بها. وأما القسم
الثاني، وعنوانه «إفساح المجال للجديد»، فيُبدي الأسف لما رآه من
تأثير خطر في حياة الطبقة العاملة لشكل جديد من أشكال الثقافة
الشعبية المتأمركة، والمجلات «المثيرة»، والروايات التي تدغدغ
الغرائز (هوجارت [١٩٥٧م] ١٩٥٨م: ٢٢٣، ٢٥٠). ويُدين هوجارت، بصفة
خاصة، الثقافة الشبابية التي ظهرت في بريطانيا في الخمسينيات،
وتتبدَّى في الشباب الذين يستخدمون ماكينات تشغيل أسطوانات
الموسيقى والأغاني [بإدراج بعض العملات]، ويلبسون سترات حقيرة،
ويتجمعون في المقاهي، ويشكلون «نوعًا من التسوس الجاف وسط روائح
اللبن المغلي» (هوجارت [١٩٥٧م] ١٩٥٨م: ٢٤٨). وإذا كان هوجارت يدعو
إلى ضرورة انفتاح الدراسات الأدبية على أشكال أخرى من البحث
العلمي، فإنه يحتفظ، فيما يبدو، بالأهداف التقييمية التقليدية
للمبحث العلمي، وخصوصًا التمييز القديم الذي وضعه ليفيز بين
الثقافة الشعبية «الراقية»، والثقافة الشعبية «المنحطة».
ونرى في كتابات هوجارت التي تلَتْ إنشاء «مركز الدراسات الشعبية
المعاصرة» إدراجَه لبعض هذه الموضوعات في مناقشته لدور اللغة
الإنجليزية وآدابها، وعلاقة هذا المبحث بالمباحث الأخرى. وهو يعترف
أولًا بعدم وجود سبب جوهري لوجوده بصفته موضوعًا مستقلًّا:
أحيانًا ما أتصور عدم وجود مبحث يمكن التعرف عليه للغة
الإنجليزية وآدابها، أي عدم وجود كيان كليٍّ حقيقي، بل
مجرد مجموعة من الحدود المختلَقة، والمداخل المختارة، التي
أصبحت — لأسباب تاريخية وثقافية معقدة — تُعرَف باسم
«الموضوع». ويعيش الآلاف داخل هذا الإطار المرجعي، فهو جزء
من عالم «دراسات اللغة الإنجليزية وآدابها» المغلق، الذي
يبرر نفسه ويحقق لنفسه الدوام، وله نظائره بين الإنسانيات
الأخرى.
(هوجارت ١٩٨٢م: ١٢٥)
ويهدف هوجارت إلى تصحيح هذا الوضع الشاذ من خلال المجال الجديد،
وهو الدراسات الثقافية المعاصرة، وهو يقسمها إلى ثلاثة أجزاء؛
الأول: هو الفلسفي التاريخي، والثاني: هو السوسيولوجي، والثالث: هو
الأدبي النقدي، والأخير هو أهمها (هوجارت ١٩٧٠م: ٢٥٥). ويعترف هذا
الصوغ بأهمية البينية، ولكنه يستبقي النظر إلى المباحث العلمية
المختلفة باعتبارها منفصلة عن بعضها البعض، حتى ولو أمكن الجمع
بينها لتحقيق نتائج مفيدة، مع اعتبار أحد موضوعاتها موضوعًا
رئيسيًّا. ويقول تبرير هوجارت لتمييز المبحث الأدبي على هذا النحو
إن الأدب يتيح نظرات عميقة فريدة في طبيعة المجتمع لا تقدِّمها
الأشكال الثقافية الأخرى للأُطر الفكرية؛ لأن الأدب كما يقول
«تشغله الاستجابة الشاملة الفريدة «لنوعية الحياة»، بأكمل معنًى
يمكننا أن نتخيله» (هوجارت ١٩٨٢م: ١٣٦). وهو يحذرنا من «الصلابة
المفتقرة إلى الخيال» في أي علم اجتماعي يزعم أنه «متحرر من
القيم»، قائلًا إننا إذا عجزنا عن إدراك قيمة أنواع معينة من
النصوص «فسوف نكفُّ عن الحديث، عاجلًا أو آجلًا، عن الأدب، ونجد
أننا نتحدث عن التاريخ أو علم الاجتماع أو الفلسفة، بل ربما عن
التاريخ السيئ وعلم الاجتماع السيئ والفلسفة السيئة» (هوجارت
١٩٧٠م: ٢٥٩، ٢٧٤). وهكذا فعلى الرغم من أن هوجارت يُحبِّذ بثَّ
الروح من جديد في المبحث العلمي للغة الإنجليزية وآدابها من خلال
النظرات العميقة لعلم الاجتماع والتاريخ، فإنه يحافظ، فيما يبدو،
على إخلاصه للمبحث العلمي الذي يعتبره بيته.
ويمثِّل عمل رايموند ويليامز نقدًا متصل الحلقات للتعريف
التقليدي الضيق «للأدب»، وهو الذي كان العماد الأول لوضع دراسة
اللغة الإنجليزية وآدابها بصفتها مبحثًا علميًّا، والذي كان يرى
أنه يمثل قمعًا «للتعددية الفعلية للكتابة» (ويليامز ١٩٧٧م: ١٤٩).
ويقول ويليامز إن المعنى الأصلي «للأدب» كان بينيًّا؛ إذ إن الكلمة
كانت تفيد — حتى نهاية القرن الثامن عشر — جميع أنماط الكتابة، من
علمية وسيرة ذاتية وتاريخية، إلى جانب النمط التخيلي، وإن فكرة
الأدب باعتباره كتابة متخصصة ذات قيمة عليا تعالج ما هو خيالي أو
إبداعي على عكس ما هو حقيقي أو عملي، يُعتبر إلى حد كبير من
مبتكرات الفترة التالية للحقبة الرومانسية (ويليامز [١٩٧٦م] ١٩٨٨م:
١٨٣–١٨٨). والواقع أن بعض رواسب الفكرة الأولى العريضة عن الأدب
كانت لا تزال قائمة في المناهج الدراسية المبكرة في اللغة والبلاغة
في الجامعات في القرن التاسع عشر، وهي التي كانت تميل إلى الجمع
بين جميع أنواع النصوص — من القصص إلى الشعر إلى الخُطب، إلى
اليوميات المسجلة، إلى التاريخ والفلسفة — باعتبارها نماذج تُحتذَى
«للكتابة الجيدة». ويسوق ويليامز حجة مماثلة حول مصطلح أشد
تعقيدًا، وهو «الثقافة»، وهو الذي كان يتمتع بتعريف عريض أيضًا حتى
حلول القرن الثامن عشر؛ إذ بدأ يكتسب دلالات مرتبطة بالطبقة
الاجتماعية، والسلوك المهذب، والقيمة (ويليامز [١٩٧٦م] ١٩٨٨م:
٨٧–٩٣).
وهكذا فإن عمل ويليامز يتعلق أساسًا برصد التغيير في استعمال
«كلمات رئيسية» ذوات مغزًى كبير، وكيف أن هذه المعاني قد استُعملت
لتجسيد الفواصل بين المفاهيم التي يمكن أن تكون متكاملة. ولهذا
المشروع بعض الروابط مع مشروع ليفيز للقول بوجود عصر مثالي مفقود
يتميز بالوحدة الثقافية، ولكن مشروع ويليامز يتسم بتخصيص تاريخي
أكبر، بل إن أول أعمال ويليامز الكبرى — وهو كتابه الثقافة
والمجتمع — يصف استلهام ليفيز لماضٍ «عضوي» [أي: متميز بالترابط
الحي] بأنه «استسلام للحنين إلى عهد صناعي أو حضري خاص» (ويليامز
[١٩٥٨م] ١٩٦١م: ٢٥٢-٢٥٣). وهو ينتقد أيضًا الكتاب المدرسي الذي
وضعه ليفيز بعنوان «الثقافة والبيئة»؛ لأنه يستمد فكرته عن الخبرة
المُعاشة من مصادر أدبية فقط، ويقول إن الدراسة الشاملة حقًّا
للثقافة لا بد أن تأخذ في اعتبارها جميع المواد، بما فيها الكتابات
العلمية والفلسفية التي يستبعدها ليفيز بلا تردد:
الطرائق التي نستطيع أن نَنهل بها من خبرة الآخرين منوعة
ولا تقتصر على الأدب وحده؛ فنحن نطلب الخبرة المسجلة
رسميًّا لا في نبع الأدب الفياض وحسب، بل أيضًا في
التاريخ، والعمارة، والرسم والموسيقى، والفلسفة واللاهوت،
والنظريات السياسية والاجتماعية، والعلوم الفيزيائية
والطبيعية، والأنثروبولوجيا، بل في المعارف كلها بلا
استثناء.
(ويليامز [١٩٥٨م] ١٩٦١م: ٢٤٨)
ويتوسع ويليامز، في كتابه التالي «الثورة الطويلة»، في حجته
قائلًا إن الهدف النهائي للتحليل الثقافي هو «الكشف عن هويات غير
متوقعة في أنشطة كانت حتى تلك اللحظة تُعتبر منفصلة» (ويليامز
[١٩٦١م] ١٩٦٥م: ٦٣). وهو يحدد ثلاثة طرق لتعريف الثقافة؛ الأول: هو
الطريق «المثالي» الذي يمثل فكرة ماثيو أرنولد عن «التقاليد
المنتخبة» من النماذج الرفيعة من الفن والأدب. والثاني: هو الطريق
«الوثائقي»، ومعناه الوسائط المنوعة التي سُجِّلت بها الخبرة
البشرية والحياة الفكرية. والثالث: هو الطريق «الاجتماعي»، وهو
الذي يشير إلى «أسلوب خاص للحياة»، وتعبر عنه مختلف المؤسسات
والممارسات اليومية (ويليامز [١٩٦١م] ١٩٦٥م: ٥٧). ويقول ويليامز إن
التحليل المُحكَم للثقافة ينبغي أن يجمع بين هذه العناصر كلها، أي
بين الثقافة الرفيعة، وأساليب الترفيه الجماهيرية، والسجلات
التاريخية، والطُّرز الشائعة، وأساليب العيش ومواقفه، وأما الهدف
فهو تحديد المكان الذي يقع فيه ما يعرِّفه ويليامز بأنه «بناء
المشاعر» في فترة معينة، وهو مصطلح يشير إلى «أدق جوانب نشاطنا
وأرهفها وأبعدها عن التجسيد … أي النتيجة الحية لجميع العناصر في
المنظمة العامة» (ويليامز [١٩٦١م] ١٩٦٥م: ٦٤). وتدل هذه الفكرة على
أن النهج البيني عند ويليامز — على الرغم من معارضته لما يستلهمه
ليفيز، بروح الحنين، من مجتمع عضوي — يقوم أيضًا على فكرة «الثقافة
المشتركة»، وهي الشمولية الاجتماعية التي يستطيع النقد اكتشافها
وتحليلها، ولكنه يؤكد أن هذه «ليست على الإطلاق فكرة وجود مجتمع
راضٍ وحسب [عن أشياء معينة]، أو ملتزم وحسب بها»، بل إن المصطلح
يشير إلى «عملية مشتركة حرة وإيجابية لخلق المعاني والقيم التي
يساهم فيها الجميع» (ويليامز ١٩٨٩م: ٣٧-٣٨).
ولا غرو أن ويليامز، صاحب هذا التعريف الشامل للثقافة، كان من
أوائل النقاد البريطانيين الذين وجهوا اهتمامهم إلى الأشكال
الجديدة من وسائل الاتصال الجماهيرية في بعض أعماله، مثل كتاب
الاتصالات (١٩٦٢م)، وكتاب التلفاز والتكنولوجيا والشكل الثقافي
(١٩٧٤م). ولكن وليامز ظل، مثل هوجارت، يوجِّه انتقاده لبعض جوانب
وسائل الاتصال الجماهيرية؛ إذ كان يرى أن المصالح الاقتصادية تهيمن
عليها، وأنها منفصلة عن الخبرات الحقيقية لحياة الطبقة العاملة،
وهو ينتقد في كتابه «الثورة الطويلة» ما يسميه «شكلًا شعبيًّا من
الديماجوجية»، قائلًا إنه يتجاهل «مشكلة الثقافة الرديئة»:
هل نستطيع الاتفاق … على أن كرة القدم لعبة رائعة حقًّا،
وأن موسيقى الجاز شكل موسيقي حقيقي، وأن رعاية الحديقة
وتنميق المنزل أمور مهمة حقًّا؟ وهل نستطيع الاتفاق أيضًا
على أن أفلام الرعب، وروايات الاغتصاب، والقصص المصوَّرة
بالكاريكاتير في صحف يوم الأحد، وأحدث أغنية سوقية شائعة
لا تنتمي إلى هذا العالم نفسه على وجه الدقة؟ وعلى أن قصص
الحب في المجلات الجميلة، وقصص المغامرات الرجولية (حيث
يوجه البطل اللكمة إلى فك غريمه)، والإعلانات التلفازية
اللطيفة والذكية لا تنتمي إلى هذا العالم أيضًا؟
(ويليامز [١٩٦١م] ١٩٦٥م: ٣٦٤)
ويشترك ويليامز مع ليفيز هنا، قائلًا إن منهجية نقده التطبيقي
للنصوص الشائعة المحبوبة تمثل عامل مواجهة ضروري للجهود المتسمة
بالتنظيم نفسه، والتي تبذلها المؤسسات ذوات السلطة لتهديد الأشكال
التقليدية للاتصال، وإن «الحيوية الرائعة للأدب، التي تعارض تلك
الجهود، تمثل عامل انضباط، كما أنها من ثمار الأدب» في مواجهة هذه
المؤسسات (ويليامز [١٩٦١م] ١٩٦٥م: ٢٥٠). وعندما يقول ويليامز
«الثقافة المشتركة» فإنه يعني، من جانب معين، أن الثقافة هي «أسلوب
حياة شعب ما» برُمَّته، ولكنه يستخدم أيضًا «فكرة العنصر المشترك
للثقافة — أي كونها مشتركة — في انتقاد الثقافة المنقسمة
والمشتَّتة التي لدينا بالفعل» (١٩٨٩م: ٣٥). ويقول إننا نستطيع
رَأْب هذه الصُّدوع بأن نجعل أجهزة الاتصال الجماهيرية ذات طابع
جماعي، وبأن يملكها الجمهور، وبإضفاء الديموقراطية والطابع الشعبي
على الثقافة الراقية حتى يتسنى للطبقات العاملة تقديرها وتذوقها.
ومن هذه الزاوية نجد أن البينية عند ويليامز يغذوها من جانب معين
تفضيله «اليساري الليفيزي» لأشكال ثقافية معينة تستطيع، فيما
يُزعَم، أن تأتي لنا بثقافة مشتركة. وعلى الرغم من محاولاته لتفكيك
مقولتَي «الثقافة» و«الأدب» وتوسيع نطاقهما، فإن الأهداف التقليدية
للتقييم واستقلال المبحث العلمي في الدراسات الأدبية، تظل قائمة في
بعض أعمال ويليامز، فيما يبدو، وإن تكن مسكوتًا عنها.
التحول إلى علم الاجتماع
بدأ مركز الدراسات الثقافية المعاصرة، الذي كان ستيوارت هول
مديرًا له ما بين ١٩٦٨م و١٩٧٩م، في الاستناد بصورة متزايدة إلى
الأفكار السوسيولوجية عن الثقافة، ويعتبر علم الاجتماع
[السوسيولوجيا] فرعًا من فروع العلوم الاجتماعية، وهو يتناول دراسة
المجتمع البشري والعلاقات الاجتماعية، وأما مزيَّته من زاوية
الدراسات الثقافية فكونه بالضرورة واسع النطاق إلى حد بالغ، وقد
يتفوق على أي علم اجتماعي آخر في تقبله لنظريات المباحث العلمية
الأخرى ومناهجها، مثل الفلسفة والتاريخ والسياسة. ولكن اشتباك
«هول» وزملائه بعلم الاجتماع لم يكن يخلو من النقد؛ إذ كانوا بصفة
خاصة يُبدون شكوكهم في التعريف التقليدي للسوسيولوجيا باعتبارها
عِلمًا، وهو ما يرجع إلى أصولها في القرن التاسع عشر في عمل أوغسط
كونت، وإميل دوركايم
(Durkheim).
وكان كونت قد سكَّ مصطلح «السوسيولوجيا» في عام ١٨٣٠م في إطار
دعوته «للمذهب الوضعي»، وهو الذي يقول إن المعرفة الحقيقية كلها
تُكتسب من خلال المناهج التجريبية، وإن إجراءات العلوم الطبيعية
يجوز أن تُطبق في العلوم الاجتماعية، بل إنه كان يعرِّف
السوسيولوجيا — التي كان يراها دراسة شاملة للمجتمع بحيث تشمل جميع
العلوم الاجتماعية — بأنها «فيزياء اجتماعية». وقال كونت: «لقد خلق
ذهن الإنسان فيزياء السماء وفيزياء الأرض، وعلمَي الميكانيكا
والكيمياء، ومن ثم فإن السوسيولوجيا علم من شأنه استكمال نظام
العلوم القائمة على الملاحظة» ([١٨٣٠–١٨٤٢م] ١٩٧٤م: ٢٧). أما
دوركايم، الذي قام بالدور الرئيسي في جعل السوسيولوجيا موضوع
الدراسة الجامعية في آخر القرن التاسع عشر، فكان كذلك يرى المجتمع
باعتباره ذا حقيقة موضوعية مستقلة عن أفعال الأفراد، وكان يحث
الباحثين في السوسيولوجيا على «أن يعتبروا الحقائق الاجتماعية
أشياء مجسَّدة» (دوركايم [١٨٩٥م] ١٩٦٤م: ١٤). والواقع أن معظم
المناظرات اللاحقة داخل علم الاجتماع قد دارت حول مكانته العلمية؛
إذ اتضح وجود مشكلات معينة تواجه نقل مناهج العلوم الطبيعية إلى
الشواغل السوسيولوجية المحضة، مثل التعقيد الشديد في الحياة
الاجتماعية وعدد المتغيرات الكبير فيها، إلى جانب الحقيقة التي
تقول إن التجارب الاجتماعية من المحال أن تؤدي بيُسر إلى أحوال
طبيعية.
وقد كتب هول يقول إنه عندما بدأ حياته الأكاديمية في الخمسينيات،
كان علم الاجتماع يعتمد اعتمادًا شديدًا على النظريات والمنهجيات
الأمريكية، التي كانت تتصف «بالمنهج التجريبي والكَمي بصورة صارمة»
بسبب أصولها في التقاليد الوضعية (هول ١٩٨٠م أ: ٢١). وإذا كان ذلك
يمثل تبسيطًا مُخلًّا لمجال معقد، فالواقع أنه أثناء بناء علم
الاجتماع في الولايات المتحدة باعتباره مبحثًا متخصصًا، كان باحثوه
يتحاشَون الاهتمام بالالتزام السياسي ورسم مذاهب سياسية، مفضِّلين
التنظير التجريدي حول العلاقات الاجتماعية، أو المناهج الإحصائية،
أو بناء النماذج، وهي السُّبل المستخدمة في علم الاقتصاد. وقد أدى
مولد الدراسات الثقافية في جامعة بيرمنجهام إلى وقوع مناوشات حول
المباحث العلمية مع علماء الاجتماع «الأشداء» على هذا المنوال؛ إذ
أدى افتتاح المركز إلى إرسال رسالة من اثنين من علماء الاجتماع
يطالبان باستبعاد هذا الموضوع [أي الدراسات الثقافية] من ميدان
عملهما الخاص، قائلَين إنه إذا حاول دارسو الموضوع تجاوز التحليل
النصي إلى دراسة المجتمع المعاصر، فسوف يتعرضون «للثأر» منهم.
وكانت الطلبات الأولى من المركز للحصول على مِنح بحثية لا تُقبل
إلا بشرط استكمال البحث بعمل من جانب علماء الاجتماع «الحقيقيين»
الذين يستطيعون دعم التأملات النظرية للمركز بأدلة تجريبية (هول
١٩٨٠م أ: ٢١-٢٢).
وهكذا فإن عمل المركز تحت رئاسة هول ابتعد عن المناهج الإحصائية
والكَمية، مفضِّلًا البحث القائم على العمل الميداني، والمقابلات
الشخصية، والإثنوغرافيا (علم وصف الشعوب)، أي الملاحظة المباشرة
لإحدى الفئات الاجتماعية على مدًى زمني طويل. وعلى الرغم من أن
المنهج الإثنوغرافي كان قد استُخدم من قبل في علم الاجتماع —
خصوصًا في إطار التقاليد البريطانية، حيث أثمر دراسات تفصيلية
للمجتمع المحلي من حيث ثقافات الأسرة والقرابة والعمل (دنيس وآخرون
١٩٦٥م؛ ينج وويلموت ١٩٥٧م؛ وكير ١٩٥٨م) — فإنه كان أكثر ارتباطًا
بالأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، وهو موضوع مرتبط [بعلم
الاجتماع]؛ إذ يتناول بناء المجتمعات البشرية وثقافتها. وكانت
الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع كثيرًا ما يُدرَجان معًا، حتى أوائل
القرن العشرين، في القسم العلمي نفسه في الجامعة؛ فأما الأول فكان
يتميز بتركيزه على الثقافات «البدائية»، وعلى القبائل الصغيرة في
أحيان كثيرة، وأما الثاني فكان يركز على الثقافات الغربية
«المعقدة». وكان هذا التمييز التقليدي يعني توجيه الاتهام في بعض
الأحيان إلى الأنثروبولوجيا بأنها تؤكد الطبيعة «الغيرية» غير
المتحضرة للثقافات النامية، وتؤدي من ثم إلى مواقف استعمارية. ولكن
مركز الدراسات الثقافية المعاصرة كان يستعمل المناهج الإثنوغرافية
لفحص الثقافات القريبة المنشأ، ويستخدمها في مقابل العمل التجريبي
الذي يقوم به علماء الاجتماع التقليديون. وكانت دراساته
الإثنوغرافية، مثل كتاب بول ويليس
(Willis) التعلم للعمل (١٩٧٧م)
تتسم بمزيد من المنهجية والدقة عن كتاب هوجارت فوائد التعليم، شبه
الإثنوغرافي، الذي يعتمد على الذكريات الشخصية في المقام الأول لا
على الملاحظة المديدة. ولإنجاز هذا المشروع أمضى ويليس ثلاث سنوات
مع مجموعة من اثني عشر تلميذًا في إحدى المدارس في وسط انجلترا،
فكان يتحدث معهم، ويصحبهم في قاعات الدرس، ويتابعهم أثناء الشهور
القليلة الأولى لعملهم، ويُجري مقابلات شخصية مع آبائهم ومعلميهم،
ومن يرشدونهم في حياتهم العملية [بعد التخرج]، وأصحاب المحلات
التجارية والأعمال الخاصة، حتى يبين كيف نما لدى الطلاب بناء ثقافي
فرعي من اللامبالاة والتمرد في المدرسة، وهو ما يؤكد الْتِحاقهم
بأعمال مستقبلها محدود.
وكانت هذه المناهج الإثنوغرافية تمثل لومًا مضمرًا للنقد النصي،
ما دام الباحثون في مركز الدراسات الثقافية المعاصرة لم يبتعدوا عن
الثقافة لمناقشتها على مسافة معينة، بل كانوا على استعداد لنزول
الخِضَم وبلل أيديهم بالملاحظة «المشاركة». ومع ذلك فإن عملهم لا
يزال يبين انشغالهم باللغة، وبالمذهب النصي، وبالمعنى، وهو الذي
كان في جانب منه نتيجة جذور المركز المذكور في قسم اللغة
الإنجليزية وآدابها، وهو ما جعله أيضًا يبتعد إلى ما وراء التيار
الرئيسي لعلم الاجتماع. ويلخص هول وزملاؤه هذه الفكرة المزدوجة عن
الثقافة قائلين إنها تتضمن الترتيبات المميزة للحياة الاجتماعية
إلى جانب الوسائل التي تعبر بها الفئات الاجتماعية عن هذه
الترتيبات: «الثقافة تتضمن «خرائط المعنى» التي تجعل الأشياء
مفهومة للمنتمين إليها … فالثقافة هي الشكل الذي تُبنى به العلاقات
الاجتماعية لفئة معينة وتتشكل، ولكنها تتضمن أيضًا أشكال إحساس
الناس وخبرتهم وفهمهم وتفسيرهم لهذه الأشكال» (كلارك وآخرون ١٩٧٦م:
١٠-١١).
وكان تعريف «مركز الدراسات الثقافية المعاصرة» للنَّص [أي لما
يُعتبر نصًّا] تعريفًا واسعًا إلى حد بالغ، بحيث يتضمن الممارسات
اليومية، والطقوس، والفئات الاجتماعية، والأنواع الأدبية، وأشكال
وسائط الاتصال الجماهيرية المختلفة، بحيث أدى التعريف في الواقع
إلى هدم التمييز الأخلاقي التقييمي بين مختلف أنواع الثقافة التي
تقع في قلب المشروع النقدي الأدبي. ومما له دلالته أن أشد جوانب
عمل المركز تأثيرًا كانت دراسته للموارد الرمزية للثقافات الفرعية
للشباب، وهي الجماعات التي اختصها هوجارت بالنقد. وكان العديد من
مشروعات المركز يقوم بتحليل الطرائق التي تقوم بها جماعات من شباب
العمال بنوع من «المقاومة من خلال الطقوس»، وهي تشمل جماعات حليقي
الرءوس (
skinheads)، والمتأنِّقين
في الملبس (
mods)، ولابسي الملابس
الجلدية راكبي الموتوسيكلات
(
rockers)، والأوغاد الشبان
(
punks)، أو أتباع النجاشي
(
rastas).
١ وتتناول مشروعات أخرى الدور الذي تنهض به الثقافة
السائدة، وخصوصًا في أجهزة الإعلام وفي النظام التعليمي، في تمثيل
هؤلاء الشباب، إذ يتصدى «هول» مع زملائه في كتابهم الرقابة على
الأزمة (١٩٧٨م) على سبيل المثال لمناقشة الذعر الذي أصاب أجهزة
الإعلام من جرَّاء أحداث النشل بالقوة
(
mugging) في السبعينيات،
وروابطها المضمَرة والمنذِرة «بالخطر» الذي يمثله الشبان السود.
وهكذا فرغم انشغال المركز المذكور أساسًا بإيضاح المعنى الثقافي،
فإن شواغل المركز كانت تميل إلى تمثيل مناظرات أوسع نطاقًا داخل
علم الاجتماع حول العلاقة بين البناء الاجتماعي والفواعل الأفراد.
ولنا أن نصف هذا بلغة الاجتماع بأنه التوتر بين المذهب الوظيفي
(
functionalism) (الذي يقول إن
العالم الاجتماعي يفرض قيودًا وحدودًا على الأفراد)، وبين المذهب
التفاعلي (
interactionism) (الذي
كان يقول إن الأفراد يستطيعون التفاعل تفاعلًا مثمرًا مع العالم
الاجتماعي).
ويقول «هول» إن المركز لم يكن يريد جعل «الدراسات الثقافية» مجرد
«مبحث أكاديمي فرعي آخر وحسب»، وإنه بذل جهدًا جهيدًا حتى يَحُول
دون «استيعابه في القسم الاجتماعي للمعرفة واكتسابه هذا الطابع»،
وذلك برفض تحديد شكل المبحث بصورة إلزامية (هول ١٩٨٠م أ: ١٨)؛
ولذلك كان يميل إلى رعاية التعاون في مشروعات أو أوراق عمل يشترك
فيها العديد من المؤلفين، وهي التي تهدف إلى تغيير السياق المعتاد
للعمل في المباحث العلمية، ألا وهو حصول الباحث على وظيفة جامعية
ثابتة، وترقيته واكتسابه مكانة رفيعة بين أقرانه وزملائه من
المتخصصين. والأهم من ذلك أن النهج البيني للمركز لم يكن يقتصر على
مجرد التعددية أو الشمول، بل كان يقوم على أُسس الْتزامات سياسية
صريحة، وهو ما يفسر إلى حد ما تركيزه الكامل تقريبًا على المجتمع
والثقافة المعاصرَين. وكما يقول «هول»، فإن «المعاصر» يأبى أن يوفر
«الانتفاع بذلك الابتعاد أو التجرد العلمي الذي أحيانًا ما لا
يُضفيه إلا مرور الزمن على مجالات الدراسة الأخرى؛ ذلك أن
«المعاصر» … تعريفًا عسير التناول» (هول ١٩٨٠م أ: ١٧). وبعبارة
أخرى يقول إن «المعاصر» مجال مؤقت بالضرورة وغير مدروس؛ لأن عناصره
المتفرقة قد بدأت لتَوِّها دخول المناقشة العامة والتسجيل، أي إنه
لم يصبح مبحثًا علميًّا «منضبطًا» بعد.
وربما كان الأدب أهم ما استبعده المركز من عمله البيني، فإذا حدث
أن تعرضت النصوص المكتوبة للمناقشة داخل المركز على الإطلاق، فإنها
كانت في الغالب أشكالًا ثقافية شعبية، مثل مجلات المراهقين، والصحف
الأسبوعية المخصصة للمرأة. وكان هذا التركيز على الثقافة «المعاشة»
بدلًا من الثقافة المكتوبة تصحيحيًّا من جانب معين؛ إذ إن الدراسات
الثقافية قد نشأت بصفتها نوعًا من الطعن في وضع الأدب في المباحث
العلمية الإنسانية. وانتقل هذا التوجه إلى الدراسات الثقافية
المعاصرة، ويستشهد جانب كبير منها بعمل المركز باعتباره مؤثرًا
مهمًّا فيها، وهو ما يركز على الوسائط الحديثة نسبيًّا، مثل
الأفلام والتلفاز والتكنولوجيات الرقمية، أو على الممارسات
الثقافية والأشكال الاجتماعية، بل قد يكون من الإنصاف أن نقول إنه
منذ «التحول إلى الإثنوغرافيا» المذكور، والدراساتُ الثقافية
المعاصرة تشترك مع أبنائها الاجتماعيين العلميين في جوانب تزيد عما
تشترك فيه مع أبنائها الأدبيين، بل إن بيرتي ألاسوتاري
(Pertti Alasuutari) يقول إن
الدراسات الثقافية «جيل جديد من علم الاجتماع» وحسب، وهو جيل يدرك
أن تعقيد الثقافة والمجتمع في حقبةِ ما بعد العصر الصناعي يجعل
إدراك معناه يتطلب ما يزيد على المناهج الكمية والإحصائية
(ألاسوتاري ١٩٩٥م: ٢٤).
ولكن هذا يعني قدرًا أكبر مما ينبغي من الإلزام؛ إذ إن الدراسات
الثقافية لم تَعتبر نفسَها قط التطورَ المنطقي لمبحث علمي محدد، بل
ترى أنها تخلق مساحة فيما بين المباحث العلمية لفحص جميع أشكال
الثقافة في علاقتها بالسلطة. وعلى الرغم من أن دراسات الحالة التي
أصدرها المركز في السبعينيات كانت تعتمد تقريبًا على الشواغل
السوسيولوجية، مثل التفاوت الاجتماعي، والقضايا الطبقية والعرقية،
والفواصل بين الجنسين، فإن معظم عمل الباحثين كان يتضمن تمهيد
الأرض نظريًّا، وهو الذي ثبتت فائدته لأنواع أخرى من التحليل.
والفكرة التي يقدمها «هول» عن «التشفير وفك الشفرات»، على الرغم من
تطبيقها على المادة التلفازية بصفة خاصة، تُعتبر مثالًا حسنًا
لكيفية تطبيق قراءات الدراسات الثقافية على نطاق واسع من النصوص.
ونقول بإيجاز إن التشفير
(encoding) يشير إلى إنتاج نصوص
إعلامية جماهيرية، وإن فك الشفرات
(decoding) يشير إلى استهلاك
الجمهور لها، وتُعتبر النصوص من الظواهر الاجتماعية غير الثابتة؛
لأن هاتين العمليتين، على وجه الدقة، لا تتطابقان تطابقًا تامًّا
قط؛ ففي التفاعل المعقد بين المؤسسات الإعلامية الجماهيرية،
والأبنية الاجتماعية والسياسية، وقواعد اللغة، وشتى تفكيكات
الشفرات من جانب الجماهير المختلفة، نجد أن النصوص ذوات وجوه كثيرة
ومعانٍ متعددة (هول ب: ١٣٤).
ويمكن لهذا المدخل من مداخل الدراسات الثقافية أن يفيدنا
بتذكيرنا أن الكتب من نصوص الوسائط الإعلامية أيضًا، والواقع أن
الكتاب كان الشكل الأول الحقيقي للوسائط الجماهيرية؛ إذ كان يُطبع
ويُنشر على نطاق واسع بعد اختراع المطبعة، كما نهض بدور رئيسي في
نشأة الرأسمالية القائمة على المشروعات، وابتكار تكنولوجيات جديدة
وأشكال سلعية مبتدَعة. وإنتاج الكتب، مثل إنتاج الوسائط الجماهيرية
الأخرى، يعتمد على أشكال تكنولوجية حديثة، كما أنها تُباع بفضل
تقنيات بارعة في التغليف والتسويق والتوزيع، بل لنا أن نقول إن كل
تطور تكنولوجي رئيسي في وسائل الإعلام على امتداد القرنين الماضيين
— مثل اختراع المطبعة الدوَّارة، والتصوير الشمسي، والراديو،
وأنبوب أشعة الكاثود، والحاسوب، والإنترنت — كان له تأثيره في
إنتاج النصوص الأدبية، سواء في أسلوب كتابتها أو نشرها أو تسويقها
أو بيعها. وللأعمال الأدبية أهمية أيديولوجية، وذلك على وجه الدقة
لأنها كثيرًا ما تفي بعدة وظائف قد تتعايش وقد تتضارب. فإذا كان
يمكن استعمالها لنشر أيديولوجيات رسمية، أو للحصول على الربح
لمؤلفيها وناشريها، فإنها تسهم أيضًا في توسيع نطاق نشر المعاني
والدلالات في الثقافة بصورة عامة. والعملية التي تنتقل بها كلمات
الكاتب إلى الورق، وإلى عينَي ويدَي وذهن قارئ من القراء؛ ليست
عملية محايدة لا تستعين بوسيط، بل هي معقدة فيما يتعلق بالنصوص
الأدبية تعقيدًا يوازي تعقيد غيرها من نصوص الوسائل الإعلامية.
ولنا من هذه الزاوية أن نرى أن اشتباك الدراسات الثقافية بعلم
الاجتماع الخاص بأجهزة الإعلام الجماهيرية يمكن أن يسمح لنا بأن
نرى أن الأدب جزء من سلسلة كبيرة من الممارسات الاقتصادية
والثقافية.
ثقافة الحياة اليومية
يزيد ميشيل دي سيرتو (de
Certeau)، في كتابه ممارسة الحياة اليومية، من
توسيع نطاق الإمكانيات البينية للدراسات الثقافية بأن يجعلها تهدف
إلى «إعادة الممارسات العلمية واللغات إلى وطنها الأصلي، أي الحياة
اليومية» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٦). ويستكشف دي سيرتو الطرائق التي
تُنفَّذ بها الممارسات الثقافية اليومية، مثل المشي والألعاب
والقراءة والتسوق والطهو، من خلال الشبكات الهائلة للسلطة والرقابة
في الثقافة المعاصرة، لسبب يعود على وجه الدقة إلى تفاهتها الظاهرة
واعتيادنا عليها؛ ومن ثم فيمكن استخدام هذه الأنشطة وسيلةً لمقاومة
الثقافة السائدة من داخلها مقاومةً خفيَّة، إذ تستولي عليها حتى
تهدمها (دي سيرتو ١٩٨٤م: ١٢-١٣). ومن أشهر مجالات استخدام آراء دي
سيرتو في الدراسات الثقافية، خصوصًا في عمل جون فيسك
(Fiske) استخدامها للقول بأن
استهلاك نصوص الثقافة الشعبية يمكن أن يطعن في الأبنية ذوات السلطة
القهارة، فيما يبدو، وهي أبنية الرأسمالية والعنصرية والمجتمع
الأبوي (فيسك ١٩٨٩م: ٣٥).
ولكن مناقشة دي سيرتو، بصفةٍ أعمَّ وأشمل، للممارسات الثقافية في
الحياة اليومية مرتبطةٌ باهتمامه بالسياسة المؤسسية للمعرفة، أي
تقسيم الحياة الأكاديمية، وتحجُّر المباحث العلمية، والانتصار الذي
أحرزه «الخبير» على «الفيلسوف» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٧) قائلًا «إن
المباحث الأكاديمية دائمًا ما تُحدَّد بما تحرص على استبعاده من
مجالها ابتغاءَ تشكيل هذا المجال» (١٩٨٤: ٦). ومن أهم ما نلاحظه
تجاهلها ممارسات الحياة اليومية، وذلك بتقسيم الحياة الحديثة إلى
«جزر علمية ومهيمنة، وفي خلفيتها صور عملية من «المقاومة»
والترميز، وهي الصور التي يصعب اختزالها فكريًّا» (دي سيرتو ١٩٨٤م:
٦). ويسمح هذا للمباحث العلمية أن تبتعد عن الشيء، أو عن الخبرة
التي تقوم بتحليلها، وأن تُكسِبها الطابع الأكاديمي، بطرح ما تراه
غير ذي علاقة بالمبحث، والحفاظ على الباقي باعتباره أساسًا «لعلم
ما». وهكذا فإن كل مبحث علمي «يمنح نفسه مقدمًا الشروط التي تسمح
له بأن يتقبل الأشياء في مجاله المحدود الخاص وحسب، حيث يستطيع
التعبير عنها «بالألفاظ»، وبهذا فإن قوته الفكرية «تُقاس وفق
التعريف الصارم لحدوده» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٦١، ٦).
ويضع دي سيرتو تمييزًا مهمًّا بين «الاستراتيجيات» و«التكتيكات»،
وهو الذي يربط إلى حد أبعد ما بين نظرياته عن الحياة اليومية، وبين
التنظيم الأكاديمي للمعرفة. أما «الاستراتيجية» فهي حساب «التفاضل
والتكامل لعلاقات القسر
(force-relationships)، التي
تغدو ممكنة عندما يصبح موضوعٌ يتمتع بالإرادة والسلطة … معزولًا عن
«بيئة» معينة» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ١٩). أي إنها، بتعبير آخر، ذلك
النشاط الذي يمارَس داخل المباحث الأكاديمية وغيرها من المؤسسات
الشديدة البأس، والذي تتمكن به جماعات مسيطرة من إقصاء العناصر غير
المرغوب فيها باعتبارها «الآخر» المستبعَد. وأما التكتيك فهو، على
عكس ذلك، شكل من أشكال معاداة أي مبحث علمي [متخصص] تمارسه تلك
العناصر غير المرغوب فيها من موقع عجز نسبي، فهو «فعل محسوب يحدد
كيانه غياب أي مكان مناسب له»، وينبغي أن «يواصل اللعب إلى جانب
مجال مفروض عليه، وينظمه قانون سلطة أجنبية» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٣٧).
والتكتيكات ممارسات في الحياة اليومية تؤدي وظيفة السياسة الصغرى
لكل من يملك سلطة محدودة في المجتمع، وهذه الممارسات هي التي ينبغي
أن تصبح موضوعًا للعمل البيني؛ لأنها كانت ولا تزال مستبعَدة
استبعادًا منهجيًّا من المباحث العلمية التقليدية. ومن الجدير
بالذكر أن دي سيرتو يُعرِّف «التكتيك» تعريفًا محدودًا إلى حد
كبير، قائلًا إنه يعجز عن الإطاحة بالنظام، لأن «الناس مضطرون إلى
الاكتفاء بما في أيديهم»، ويجدون المتعة في «الالتفاف حول القواعد
المقيدة للمجال» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ١٨). وعلى غرار ذلك لا نستطيع
إطلاقًا أن ننبذ المباحث العلمية نبذًا كاملًا باعتبارها طرائق
لتنظيم المعرفة وتقييدها، لكننا نستطيع استعمال «تكتيكات» انقلابية
حتى نتخيل المباحث العلمية التي تتسم بالوعي بما اضطُرت إلى
استبعاده حتى تجيء إلى الوجود (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٦١).
ودي سيرتو متأثر في مدخله المذكور بالعمل الذي قدمه هنري
ليفيبيور (
lefebvre)، الذي عبَّر
في كتابه نقد الحياة اليومية (١٩٤٧م) عن شعوره بإحباط مماثل إزاء
استعداد المباحث العلمية الراسخة لنبذ هذا اللون من الثقافة
باعتباره مبتذلًا وغير جدير باهتمامنا:
لا بد أن يقوم تعريف الحياة اليومية، باعتبارها ما بقي
في أيدينا، أي بعد أن احتكرت الأنشطة المتميزة والمتفوقة
والمتخصصة وذوات الأبنية المحددة مهامَّ التحليل دون
غيرها، على كونها كلًّا شاملًا. لكننا إذا نظرنا إلى
الأنشطة الفائقة من زاوية تخصصها وطابعها التقني وجدنا
أنها تتسم «بفراغ تقني» فيما بينها، وهو الذي تملؤه الحياة
اليومية، فهي ذات علاقة عميقة بجميع الأنشطة، وتشملها
جميعًا بكل اختلافاتها وألوان تضاربها، فهي موقع لقائها،
والرابطة التي تربط بعضها بالبعض، وأرضيتها
المشتركة.
(ليفيبيور ١٩٩١م أ: ٩٧)
وهكذا فإن ليفيبيور يرى أن كل دراسة للحياة اليومية دراسةٌ
بينية، ولا يقتصر سبب ذلك على اشتمالها على المادة التي فات
المباحثَ العلمية القائمة أن تأخذها في اعتبارها، ولكن أيضًا لأنها
تشكل الصمغ الذي يلصق بعضها ببعض، ويبين لنا كيف تنجح هذه المناهج
الفكرية الراسخة في إقامة علاقة فيما بينها، حتى في أثناء محاولتها
إنكار هذه العلاقة.
ومن المهم أن نؤكد، على أية حال، أن عمل ليفيبيور ودي سيرتو ذو
بؤرة مُصغَّرة، ويتعارض تعارضًا مباشرًا مع نوع العمل البيني الذي
يفترض إمكان وجود تركيب عام شامل للمعرفة، إذ يقول دي سيرتو
باقتضاب إنه يتشكك في أنماط الشمول الفكري التي تهدف إلى رؤية
«الصورة الكبيرة»، في حين أنه يقول في فصل عنوانه «السير في
المدينة» إنه يتذكر إطلاله على حي مانهاتن [في نيويورك] من الطابق
١١٠ لمركز التجارة العالمي، متسائلًا: «تُرى ما مصدر متعة «مشاهدة
المكان الكلي»، متعة النظر من أعلى، والرؤية الشاملة لأبعد النصوص
البشرية عن التواضع؟!» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٩٢.) ويشترك ليفيبيور ودي
سيرتو في انتقاد الطرائق التي تسعى بها المباحث العلمية إلى
الاستيلاء على مادة موضوعها والتحكم فيها، ويقترحان دراسة الحياة
اليومية باعتبارها تمثل علاقة مؤقتة ومشروطة بظواهر غير مجسدة
تجسيدًا مباشرًا. والواقع أن بعض الأمثلة التي يسوقها دي سيرتو على
«تكتيكات» الحياة اليومية تُعتبر مجسدة نسبيًّا، مثل الباروكة، وهي
التي تعني حرفيًّا وضع شعر مستعار على الرأس، ويعني بها الأساليب
التي يتفوق بها الموظفون على رؤسائهم بممارسة أنشطة ممتعة (مثل
الاتصال تليفونيًّا بأصدقائهم، أو حجز عطلاتهم بالإنترنت) في الوقت
المخصص للعمل بالشركة (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٢٥-٢٦). وأما الأمثلة
الأخرى، مثل الإيماءات والعادات والأحلام والذكريات، وهي التي تطعن
في «التحول الحديث للزمن إلى مساحة تقبل القياس الكَمي والتنظيم»
(دي سيرتو ١٩٨٤م: ٨٩)؛ فليس من اليسير تصنيفها. ومن هذه الزاوية
نرى أن عمل دي سيرتو يركز بصفة خاصة على المادة «غير المنضبطة»، أي
على الجوانب المؤقتة العابرة للخبرة، وهي التي يصعب تمثيلها أو
تحليلها. ومع ذلك ففي نهاية المطاف نجد أن جميع خبرات الحياة
اليومية، حتى أرهفها وأشدها مراوغة، لا بد من تقديمها بوسيط لغوي،
ما دامت مضطرة إلى العمل، مثل سائر التكتيكات، داخل أبنية سلطة
قائمة.
ويرى دي سيرتو أن التحويل المحتوم لممارسات الحياة اليومية إلى
حكايات تُروى؛ يجعل القراءة «البؤرة «الباهظة» للثقافة المعاصرة
واستهلاكها» (دي سيرتو ١٩٨٤م: ٢١). فلقد نشأ، كما ذكرت آنفًا،
اتجاه داخل الدراسات الثقافية لعدم تأكيد أهمية النص الأدبي
باعتباره موضوعًا للدراسة؛ وذلك بسبب ارتباطاته بأفكار عفَّى عليها
الزمن وذات سمات طبقية عن القيمة الثقافية، وبسبب الانشغال
بالمعاصرة في الدراسات الثقافية يوجهها إلى وسائط الإعلام
الجماهيرية التي تنتجها التكنولوجيات الحديثة، مثل التلفاز
والسينما والموسيقى الشعبية والإنترنت. ولكن دي سيرتو يقترح أن
تصبح القراءة نشاطًا تأسيسيًّا في الثقافة المعاصرة، أو قل الأساس
لجميع أنواع الممارسات الثقافية في مجتمع «يزداد اتجاهه إلى أن
يصبح مكتوبًا، وتنظمه سلطة تعديل الأشياء، وإصلاح الأبنية استنادًا
إلى نماذج كتابية (علمية أو اقتصادية أو سياسية)» (دي سيرتو ١٩٨٤م:
١٦٧-١٦٨). وفي هذا الصدد يرى دي سيرتو أن نشاط قراءة كتاب من
الكتب، حيث يستطيع القارئ تحويل بعض المعاني، أو خلْق معانٍ معينة
لم يقصدها المؤلف قط، تُعتبر نموذجًا للكثير من «التكتيكات»
الهدامة الأخرى داخل الثقافة المعاصرة.
والمباحث الأكاديمية الراسخة، مثل ممارسات الحياة اليومية، غارقة
أيضًا في الحكايات، ولكنها تحاول إخفاء طابعها الحكائي [حكائيتها]
تحت قشرة من الطابع العلمي [العلمية]. وهكذا فإن دي سيرتو يرى أن
قيمة الأشكال الأدبية، مثل الرواية، تكمن في أنها، على عكس المباحث
العلمية الراسخة، تمنح الصدارة لحكائيتها، وتبدي الانفتاح على جميع
أنواع المادة غير المتخصصة بحيث تصبح «حديقة الحيوان التي تضم جميع
ممارسات الحياة اليومية منذ نشأة العلم الحديث» (١٩٨٤م: ٧٨). ونرى
بتعبير آخر أن الرواية شكل بالغ الاتساع والتنوع، بحيث تجمع طرائق
كثيرة مختلفة من الكتابة ومن أنماط الخبرة البشرية، إلى الحد الذي
يجعلها تتضمن كل ما هو مستبعَد من المباحث العلمية التقليدية،
وخصوصًا العادات والممارسات التي لا يكاد يلحظها أحد، والتي يصفها
دي سيرتو بأنها تنتمي إلى «الحياة اليومية». ويرى دي سيرتو أن
النصوص الأدبية جديرة بالدراسة لأنها توفر الأساس للممارسة
التحويلية، أي القراءة، ولأنها تستطيع أن تجمع النثار المشتَّت من
الخبرة، وهو الذي خلَّفته المباحث العلمية وراءها، ومن ثم فإن عمله
يمكن وصفه بأنه بينيٌّ لسببين؛ الأول: أنه يفتح باب دراسة الثقافة
لدخول مواد كان مصيرها التجاهل من قبل، والثاني: أنه يقيم الرابطة
بين هذه المواد وبين الشواغل التقليدية داخل الدراسات الأدبية، مثل
اللغة والقراءة والسرد.
الطبقية والرأسمال الثقافي
كان لآراء عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو
(Bourdieu) تأثير واضح، في
السنوات الأخيرة، في ترسيم الحدود بين العلوم الاجتماعية
والإنسانيات، خصوصًا بين علم الاجتماع وبين النقد الأدبي. وعلى
الرغم من أن عمل بورديو يتضمن موضوعات كثيرة مختلفة، فإنه مهتم
أساسًا بالعلاقة بين القيمة الثقافية والتمييز بين الطبقات. وتقول
حجته إن هذه المسألة متغلغلة في جميع أشكال الثقافة، بحيث نرى
تدعيمًا مماثلًا للفوارق الاجتماعية عندما نقرر أن نشتري نوعًا
معينًا من الطعام (مثل جبن فول الصويا الطبيعي
[organic tofu] أو الاسباجتي
المعلَّبة)، أو عندما نحجز مكانًا لقضاء العطلة (في ألجارف أو
ماجالوف)، أو حين نذهب إلى المسرح (صمويل بيكيت، أو أندرو لويد
ويبر)، أو نقرأ رواية (إيان ماكيوان أو دان براون). وهكذا فإن عمل
بورديو يمثل انتقادًا متصلًا للافتراض بأن الفن والأدب مستقلان عن
التشكيلات الاجتماعية الأوسع نطاقًا، ويناقش ضروبًا كثيرة مختلفة
من النشاط الثقافي في علاقته بالشواغل السوسيولوجية لقضية الطبقية
وعدم المساواة.
وأهم مفهوم عند بورديو مفهوم الميدان
(field)، الذي يرى أنه العنصر
المُنظِّم الأساسي في الحياة الاجتماعية. والميدان نظام بنائي له
منطقه الداخلي الخاص، وعلاقاته المراتبية التي يخلقها النضال في
سبيل أشكال مختلفة من «رأس المال»؛ اقتصاديًّا وثقافيًّا
واجتماعيًّا وهَلُم جرًّا. ويقول بورديو إن ميدان الإنتاج الثقافي
يهتم بصفة خاصة بسوق الرأسمال الثقافي داخل «بورصة أوراق القيم
الثقافية» (١٩٩٣م: ١٣٧). ويُكتسَب الرأسمال الثقافي من خلال تراكم
المنزلة أو المكانة الرفيعة داخل المجال
(sphere) الثقافي، ولا يحظى به
أحد إلا حين تكون المصالح الاقتصادية المباشرة إما غائبة وإما
خفية؛ لأنها تهدد حق الميدان
(field) في احتكار السلطة داخل
منطقة (sphere) نفوذه الخاص؛ ومن
ثم فإن المنتجين الثقافيين يتمتعون باستقلال نسبي؛ إذ يكتسبون
السلطة داخل ميدانهم الخاص بفضل انفصالهم عن الميادين الأخرى، وعن
الأشكال الأخرى لرأس المال، ولكن هذا ينبغي ألا يجعلنا نغفل عن أن
المنفعة الذاتية قائمة في جميع صور الإنتاج الثقافي، فما الرأسمال
الثقافي إلا «شكل اكتسب المشروعية، وتغيرت صورته، وتعذَّر التعرف
عليه» لأول شكل أساسي لرأس المال على الإطلاق، وهو الرأسمال
الاقتصادي (بورديو ١٩٩١م: ١٧٠).
وفكرة «الهابيتوس»
(habitus) [أي: الاستعداد
الذهني والنفسي] من المفاهيم المهمة الأخرى في عمل بورديو، والفكرة
تلقي الضوء على العملية التي يتوسل بها الأفراد في كل ميدان
«لإدراك قواعد اللعبة»، والمقصود بها التوجه الذي يشكله المجتمع
للتصرف بأسلوب معين، استنادًا إلى النضال في سبيل رأس المال، وما
يتفق مع هذا من المواقع المحددة للأفراد داخل ميدان معين (١٩٩٠م:
١١). أضف إلى ذلك ما يقوله بورديو من أن عمل المؤلف تتجلى فيه صورة
صادقة أو محرَّفة لما يذكره من الصراعات على السلطة واحتلال مواقع
معينة (١٩٧١م: ١٦١). وفي هذا السياق يجوز اعتبار عمل مؤلف معاصر
مثل مارتن إيميس (Amis) ثمرة
لثقافة الجوائز الأدبية التي يتنافس فيها المشاهير، وألوان التقدم
الهائلة لدور النشر، وأشكال الاقتحام في تسويق الكتب، واهتمام
أجهزة الإعلام بالمؤلفين. فبعض الروايات مثل المال
(Money) (١٩٨٤م)، وحقول لندن
(London
Fields) (١٩٨٩م)، والمعلومات
(The
Information) (١٩٩٥م) كثيرًا
ما تعالج الثقافة الأدبية عبر المحيط الأطلسي، وتعبر عن بواعث
القلق بشأن العلاقة المعقدة بين التجارة والقيمة الثقافية في
الرأسمالية المتعددة القوميات. كما أن السوق الخاصة بالرأسمال
الثقافي تؤثر أيضًا في علاقة القراء والجماهير بالنصوص الأدبية، ما
دام بورديو يقول إن الاستهلاك الثقافي تحفزه رغبتنا في استعراض
ذائقتنا وقدرتنا على التمييز، وهي رغبة مستلهَمة من حاجتنا إلى وضع
أنفسنا داخل مراتب اجتماعية هرمية. والقراء يختارون النصوص
مفضِّلين بعضها على بعض، ويقرءونها بطرائق منوعة وفقًا لمواقعهم
الطبقية المختلفة، ونوع الرأسمال الثقافي الذي حققوه أو يطمحون إلى
تحقيقه. والحق، كما يعبر عنه بورديو، «أنه لا يوجد مهرب من لعبة
الثقافة» وحسب (١٩٨٤م: ١٢).
ويُعتبر عمل بورديو غير معتاد في الدراسات الثقافية المعاصرة
بسبب انشغاله إلى حد كبير بإنتاج الأدب واستهلاكه، ولو كانت غايته
تقتصر على الإشارة إلى علاقته الوثيقة بأشكال الثقافة الأخرى،
و«بوظيفته الاجتماعية في إضفاء المشروعية على الفوارق الاجتماعية»
(١٩٨٤م: ٧)، ومن ثم فقد يقوم باحث بإجراء دراسة تستوحي فكر بورديو
لشعر الطليعة الحداثية، فينظر كيف يحاول هذا الشعر تعريف نفسه
صراحة في مواجهة ثقافة الأدب الرخيص المنحطِّ الذوق الذي تمليه
مقتضيات السوق، ابتغاءَ تَوثين العمل الفني باعتباره غير مرتبط
بمجال التجارة أو الربح، وإنتاج نوع من «الأوهام الساحرة» حول
شخصية الشاعر باعتباره مستودعًا للرأسمال الثقافي لا الاقتصادي
(بورديو ١٩٩٦م ب: ٣١٩). ويمكن النظر إلى قراءة هذا الشعر ونقده في
الوقت نفسه باعتبارها محاولات صورة من يحاولون اجتباء أشكال خاصة
من الصيت الفكري المرتبط بالنخبة على عكس الأشكال الشعبية.
وقد يقول قائل إن عمل بورديو ليس بينيًّا، بل اختزاليٌّ من
الزاوية السوسيولوجية، ما دام يَقصُر دراسة الأدب على علم
الاجتماع، ومن ثم يميل إلى اعتبار الأعمال الأدبية المركَّبة مجرد
دوالَّ على تعظيم الذات، أو حركات استراتيجية داخل المجتمع بصفة
عامة. ولكن الإنصاف يقتضي أن نذكر أن بورديو يقترح ما يسميه
«البنيوية الجينية»، ويعني بها الاعتراف بأهمية الفعل الفردي في
النُّظم التي بناها البشر، وهو يستخدم عامدًا ذلك المصطلح غير
الدقيق، أي «الميدان» (field) حتى
يوحي بشيء مائع وذي مسامَّ نافذة، أو قل بشيء يقبل التفاوض والصراع
والتغير (١٩٩٠م: ١٤). أضف إلى ذلك أن «الميدان» ينشأ من ممارسات
معينة ذوات دلالات خاصة، وهو ما يعني أن الأفراد القائمين بها (مثل
المؤلفين والنقاد والناشرين والقراء، وهم «الفواعل»، داخل ميدان
الإنتاج الثقافي) يتمتعون بالقدرة على تغيير حاله من خلال ردود
أفعالهم وتفسيراتهم وكتاباتهم. وهكذا فإن انتقاد إيميس في رواياته
للشهرة الأدبية، على سبيل المثال، يصبح في ذاته جزءًا من أسلوب
إنتاج الشهرة وتلقِّيها في الثقافة المعاصرة، وهو ما يفتح بوضوح
أبواب الإمكانيات للانشغال البيني بالعلاقة بين الممارسات المادية،
وبين النصوص الأدبية والثقافية.
ولكن ميدان الإنتاج الثقافي عند بورديو يبدو في الواقع العملي
شاملًا إلى حد بعيد؛ إذ يرسم له صورة البناء المحيط بكل شيء حيث
يشترك الكتاب والفنانون المتَّسمون بدرجات منوعة من سوء الصيت،
والمحررون، والنقاد، والناشرون، والقراء والمستهلكون؛ في النضال
نفسه في سبيل رأس المال الثقافي. ويستخدم بورديو في عمله عددًا
هائلًا من البيانات السوسيولوجية الكمية التي توصَّل إليها فريق
كبير من الباحثين، ابتغاءَ إثبات أهمية هذا النضال وحتميَّته، فهو
يقدم في عمله الموسوعي حول الأذواق الثقافية للفرنسيين، وعنوانه
التميز، على سبيل المثال، سلسلة تفصيلية من الرسوم البيانية
والجداول، حتى يبين العلاقة الإحصائية بين وضع الفرد الطبقي
وأفضلياته الثقافية. وعلى الرغم مما يقول به من رغبته في وضع علم
اجتماع «انعكاسي»، بمعنى إدراكه لمشاركته في الظواهر الثقافية التي
يحللها، فإنه أحيانًا ما يستخدم أسلوبًا موضوعيًّا مكثفًا يستند
فيه إلى السلطة التقليدية لعلم الاجتماع باعتباره «علمًا».
ويتسع اهتمام بورديو بالعلاقة بين الإنتاج والاستهلاك الثقافيين،
وبين الحصول على السلطة والامتيازات بحيث يشمل الاهتمام بسياسة
التعليم والممارسات المؤسسية للحياة الأكاديمية. ويرجع السبب في
ذلك، من جانب معين، إلى أن المدارس والمعاهد والجامعات تقوم بدور
أساسي في نشر ثقافة نخبوية وتدعيمها، وما يصاحب ذلك من نشر
الرأسمال الثقافي. و«الأدب»، كما يفهمه بورديو، ليس إلا ما يُدرس
في المبحث الأكاديمي للنقد الأدبي، ويسمح للقِلة المتميزة
بالالتحاق بصفوة المؤسسات ابتغاء بناء قدرات ومعارف اجتماعية، يمكن
استخدامها من ثَم في تكريس الفوارق الطبقية. وهو يرى أن هذه
المؤسسات أنفسها تقوم، بالإضافة إلى هذا، بخلق فوارق في السلطة
تتولد من خلال النضال في سبيل الرأسمال الثقافي. وفي هذا الصدد
يُعتبر المبحث العلمي، مثل أي «ميدان» آخر، ساحة مغلقة، ولها
مَراتبيَّاتها الخاصة التي يحددها النضال في سبيل الرأسمال
الأكاديمي المناسب للمبحث العلمي الخاص. ولكن المباحث العلمية تميل
إلى إخفاء هذه الحقيقة، من خلال صوغ نتائجها بلغة متخصصة، تقوم
بمهمة مزدوجة، فهي تعمل على صد غير المتخصصين، وتُخفي الاستثمارات
الشخصية لممارسي ذلك المبحث (بورديو ١٩٨٨م: ٢٥). وتكمن مشكلة ذلك
في أن الحياة الأكاديمية لا تزيد مهمتها على «إلهام الطموحات ووضع
حدود لها»، بحيث تخلق «عالمًا يخلو من المفاجآت» (بورديو ١٩٨٨م:
١٥٣). وهكذا فإن بورديو يشارك دي سيرتو النظر إلى المباحث العلمية
باعتبارها مؤسسات مغلقة خامدة، وهي النظرية التي تنشأ من داخل
مشروع أكبر، ألا وهو الطعن في الطبيعة الموضوعية ظاهريًّا للإنتاج
الثقافي، بالإشارة إلى دوره في إعادة إنتاج ضروب التفاوت الاجتماعي
الواسع النطاق.
والواقع أن بعض كتابات بورديو الأخيرة تكشف عن تغيير له دلالته
فيما يركز عليه؛ إذ إنه ينتقد «المتحذلقين»
(doxosophes)، أي المثقفين في
أجهزة الإعلام الذين يسعَون إلى الدخول خلسة في الميدان الأكاديمي،
ويتحَدَّون تفرُّد مباحثه العلمية واستقلالها (١٩٩٦م ب: ٣٤٣–٣٤٧).
فهو يكتب عن السياق الفرنسي — الذي كثيرًا ما يظهر فيه كُتاب
ومفكرون يحققون الشهرة بالظهور في برامج الحوارات التي تُذاع في
ساعات متأخرة — قائلًا إن «التلفاز يكافئ عددًا معينًا من أصحاب
الفكر الجاهز الذين يقدمون «وجبات فكرية جاهزة» — أي مائدة ثقافية
تتضمن مادة سبق إعدادها فكريًا، وسبق هضمها — … تُظاهِرهم قوًى
خارجية، ومن ثم يحصلون على الثقة التي لا يستطيعون الحصول عليها من
أقرانهم» (١٩٩٦م أ: ٢٩، ٥٩). وهكذا فإن هذه التعليقات على اغتصاب
ميدان الصحافة للحياة الفكرية تؤكد فيما يبدو قيمة التخصص العلمي
التقليدية، وقيمة الخبرة القائمة في المباحث العلمية، وتُعتبر
جانبًا من جوانب انتقادات بورديو الشاملة لأي نوع ثقافي يحاول أن
يتجاوز التمييز بين الثقافة الراقية والثقافة الجماهيرية، وهو ما
يشير إليه قائلًا «إنه ثورات متحيزة في المراتب الهرمية» خلقها
«الوسطاء الثقافيون الجدد» الذين «اخترعوا سلسلة كاملة من الأنواع
الثقافية التي تقف في منتصف الطريق بين الثقافة المشروعة والإنتاج
بالجملة» (بورديو ١٩٩٤م: ٣٢٥-٣٢٦). وكما يقول ديفيد شوارتز
(Swartz) يتسم عمل بورديو
بالتوتر ما بين إماطة اللثام عن الطبيعة المؤقتة للفوارق الثقافية
والمراتبية في نظريته «للميدان» — وهي التي تفتح الطريق فيما يبدو
للانشغال البيني بالعلاقة ما بين الأشكال الثقافية التي تقضي
التقاليد بمناقشة كل منها على حدة — وبين الرأي الملزم الذي يحدد
كيفية الانشغال النقدي للمفكرين والمؤلفين بالمجتمع والثقافة، وهو
ما يمكن اعتباره تدعيمًا لهذه الفوارق والمراتب» (شوارتز ١٩٩٧م:
٢٢٢).
القيمة الثقافية وطبقة المعرفة
يبدأ الناقد الثقافي الأسترالي جون فراو
(Frow) في الآونة الأخيرة بحثه
في العلاقة بين الأدب والأشكال الثقافية الأخرى بالعودة إلى مسائل
القيمة الثقافية المذكورة، قائلًا إن الدراسات الثقافية كثيرًا ما
زيَّفت قضية القيمة الثقافية بالاستناد إلى تعريف عام للثقافة
باعتبارها «أسلوب حياة كاملة»، أو بالقيام دون تمييز بالاحتفال
بالثقافة الشعبية، ونبْذ الثقافة الراقية بحجة أنها نخبوية. وهو
يؤكد أنه لا يرغب في العودة إلى فكرة جمالية بحتة عن القيمة، وهي
التي ترى أنها منفصلة عن العوامل المؤسسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية الأوسع نطاقًا، والتي كانت ولا تزال ذات موقع أساسي في
الأفكار البحثية التقليدية عن الدراسات الأدبية، لكنه مع ذلك يقول
بأن أحكام القيمة لا مفر منها (١٩٩٥م: ١). وأما انشغاله بالقيمة
الثقافية فيرمي إلى الطعن في النهج البيني الشامل الأجوف الذي
يعتنق فكرة عامة متجانسة «للثقافة»، مضيفًا أننا إذا أردنا أن ندرس
الثقافة برُمَّتها، فعلينا أن نميز تمييزًا أدق بين عناصرها
المنفصلة، وأن نعترف بالاستثمارات المختلفة في القيمة الثقافية،
وهي التي تقوم على الفوارق بين الثقافة «الرفيعة» و«الخفيضة»
و«المتوسطة».
وتقول حجة فراو إن الدراسات الثقافية قد استولت على فكرة شاملة
عن الثقافة من بعض المباحث العلمية، مثل الأنثروبولوجيا وعلم
الاجتماع، من دون أن تنتفع، على غرار ذلك، ببعض النظريات القائمة
في تلك المباحث العلمية، وهي التي قد تساعدها في إدراك مدى التركيب
والتمايز اللذين تتسم بهما «الثقافة» في الواقع. وهو ينتقد فكرة
ويليامز عن الثقافة بوصفها «جماعًا شاملًا» على سبيل المثال،
قائلًا إنه يظل مرتبطًا بشواغل قومية ضيقة، ويعجز عن إدراك الطبيعة
الهجين لجميع أشكال الثقافة (فراو ١٩٩٥م: ٨–١٠)، كما يطعن في تركيز
جون فسك وغيره على نزعات المقاومة السياسية في الثقافة الشعبية؛ إذ
إن هذا التركيز يبدو شاملًا، ولكنه لا يزال مُشبَعًا حتمًا بقضايا
القيمة، وهو ما يعني أن بعض الظواهر [الثقافية] الشعبية، مثل
الموسيقى والأغاني المرتجلة عند العصابات (gangsta
rap)، وثقافة النوادي، والأوغاد الشبان،
والأزياء المبتكرة والإنترنت؛ تُعتبر جديرة بالدراسة، وأن أنواعًا
أخرى مثل الموسيقى الخفيفة، وفِرق الغلمان الموسيقية، ولعبة
البنجو، غير جديرة بالدرس (فراو ١٩٩٥م: ٨٢). ولكن فراو لا ينتقد
المحاولة الجارية داخل الدراسات الثقافية للاتصال بالمباحث العلمية
المختلفة وإدخال مواد جديدة، ثم يستدرك قائلًا إن علينا أن ننظر
باستمرار في أهدافنا ودوافعنا إلى فعل ذلك؛ لأنه «إذا كان مفهوم
الثقافة يقول كل شيء، فإنه من ثَم لا يقول أي شيء» (١٩٩٥م:
١٠).
وعلى العكس من بورديو، يعتقد فراو أيضًا أن للقيمة الثقافية
وظائف أخرى كثيرة إلى جانب مجرد التمييز بين ضروب المكانة
الاجتماعية، خصوصًا في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حيث تتسم
الفوارق الثقافية والطبقية بالتنوع والتشتت. وهو يقول، بصفة خاصة،
إن الفصل بين الثقافة الرفيعة والثقافة الخفيضة يتعرض للانهيار
بسبب عاملين اثنين؛ الأول: تسليع الثقافة الرفيعة، والثاني: إضفاء
الديموقراطية على الثقافة الخفيضة؛ إذ أصبحت هذه وتلك تشكِّلان
الآن جانبًا كاملًا من جوانب السوق، ولم تعد الأولى «الثقافة
السائدة» كما يزعم بورديو، بل أصبحت «جيبًا داخل الثقافة السلعية»،
أو «ركنًا» سوقيًّا بالتأكيد، وإن لم يكن ركنًا فريدًا أو يتمتع
بسلطة خاصة (فراو ١٩٩٥م: ٨٦، ٢٣). ونستطيع أن نشهد التسليع المذكور
للثقافة الرفيعة، على سبيل المثال، في التسويق الجماهيري لأعمال
كبار المؤلفين، من جانب دور النشر الكبرى، وإعادة تحديد مواقعهم
باعتبارهم من مشاهير الأجهزة الإعلامية، واعتبار المؤلفين
الكلاسيكيين، مثل شيكسبير وديكنز وجين أوستن — من خلال إعداد
أعمالهم سينمائيًّا وتلفازيًّا — جزءًا من تجارة التراث والطبعات
المرتبطة بذلك للروايات والمسرحيات. كما نشأت جماهير عامة شاملة
لبعض النصوص، مثل المسلسلات التليفزيونية، والأفلام التقليدية،
والروايات الشعبية، بأقلام مؤلفين مثل ستيفن كنج
(King)، وجون جريشام
(Grisham)، وهي نصوص تجتذب
أشخاصًا من طبقات مختلفة، ومستويات تعليمية متفاوتة. ويقول فراو
إنه على الرغم من تركيز الدراسات الثقافية على الثقافة الشعبية،
باعتبارها تمثل الطاقة السياسية الكامنة للثقافات المقهورة؛ فإنه
ينبغي دراسة الثقافتين الرفيعة والخفيضة معًا، بقصد استكشاف
العلاقة المعقدة بين القيمة الثقافية والأشكال السلعية في
المجتمعات الرأسمالية. ويقول إنه على الرغم من أنه من المحال أن
يتجنب أي منتج ثقافي أسواق القيمة الثقافية، فنحن لا نستطيع عزل
الثقافة الرفيعة، ولا إحلال الثقافة الشعبية في موقع متميز
باعتبارها جوهرية. وكما هو الحال عند بورديو، يتيح هذا الموقف
إمكانية إعادة الاشتباك مع النصوص الأدبية في الدراسات
الثقافية.
ولكن فراو يقدم في إطار إعادة النظر المذكورة في القيمة
الثقافية، فكرةً خاصة بالمثقفين وعلاقتهم بالمباحث العلمية، تمثل
معارضة خاصة لحجج بورديو. فما دام بورديو يرى توافقًا مباشرًا بين
استهلاك الثقافة الرفيعة وبين الطبقة الاجتماعية، فإنه يقول إن
المثقفين يشكلون جانبًا من الطبقة المهيمنة للبرجوازية، وإن يكن
ذلك في إطار علاقة «إزاحية» طفيفة تجعلهم «القسم المهيمن» من تلك
الطبقة (بورديو ١٩٩٣م: ١٩٨). ويرى فراو أن هذه الحجة يقوِّضها وجود
طبقة وسيطة سريعة النمو من المثقفين الذين من المحال اختزال
اهتماماتهم باعتبارها اهتمامات طبقة مهيمنة وحسب، وهو يقبل فكرة
أنطونيو جرامشي (Gramsci) عن
«المثقف العضوي»، ويُعرِّف هؤلاء المثقفين بأنهم «كل من يقول
التعريف الاجتماعي لعمله أنه يقوم على أساس امتلاك المعرفة
وممارستها، سواء كانت المعرفة جالبة للصيت أو روتينية، وسواء كانت
تقنية أو تأملية» (فراو ١٩٩٥م: ٩٠). ويضم هذا التعريف الواسع
«لطبقة المعرفة» — إلى جانب الأكاديميين — الكُتاب والنقاد
والمحررين، وكُتاب الإعلانات، والعاملين في التلفاز والسينما
وغيرهما من وسائط الاتصال الجماهيرية.
ويهدف فراو من تعريفه لطبقة المعرفة على هذا النحو إلى إثارة
القضايا نفسها حول المصالح المكتسَبة للمثقفين، التي عادة ما تُثار
في الدراسات الثقافية، من دون اللجوء إلى «الكراهية الذاتية وتأليه
الذات»، اللتين يرى أنهما نتيجة فرعية محتومة للتصور الأكاديمي
الضيق للمفكر (١٩٩٥م: ٩٠)، قائلًا إن الزعم الذي كثيرًا ما يتردد
داخل الدراسات الثقافية بأنها تتكلم بلسان الثقافات المطحونة
والمهمَّشة خارج الحياة الجامعية؛ زعمٌ يقوم على اعتقاد زائف
بإمكان تجاوز أحوال الإنتاج الثقافي، ومن ثم يعتمد على التمييز
الذي يخدم المصلحة الذاتية بين «المثقفين «الحقيقيين» وأشباه
المثقفين (من الموظفين الكتابيين الخونة داخل المباحث العلمية،
والبيروقراطيين والصحفيين خارجها)» (فراو ١٩٩٥م: ١٦٨). وإلى جانب
إقرار فراو بضرورة ممارسة المثقفين للنقد الذاتي إزاء عملهم،
وضرورة وعيهم بصور نضالهم في سبيل «الرأسمال الثقافي» داخل
الجامعات أو غيرها، فإنه يُبدي تشككه فيما يرى أنه رد الفعل
التلقائي من جانب الدراسات الثقافية باعتبارها ميدانًا ضد الروح
الأكاديمية، قائلًا إن على المثقفين ألا يزعموا أنهم يتحدثون
بألسنة غيرهم أو نيابة عنهم، بل أن يتكلموا باعتبارهم مثقفين،
ويخاطبوا قُراءهم بهذه الصفة (فراو ١٩٩٥م: ١٣١).
وهذه المحاولة لإعادة تصور دور المثقف باعتباره عاملًا في مجال
المعرفة في الحياة العامة؛ تتصل اتصالًا واضحًا بأية مناقشة
للمباحث العلمية المستقلة، وإمكانيات الدراسات الثقافية باعتبارها
ميدانًا بينيًّا. والواقع أن فراو لا يحاول الدفاع عن هذه المباحث
باعتبارها أبنية معرفية محايدة أو قادرة على النمو والتطور الذاتي،
لكنه يقول فعلًا بعدم وجود ما يُعتبر معرفة خارج المباحث العلمية،
أي إننا لا نستطيع التخلص وحسب من المباحث كلها، على أمل اكتشاف
شكل أعلى وأصفى للحقيقة؛ لأن التنظيم المؤسسي للمعرفة محتوم ولازم.
وهكذا فإن طبيعة المباحث العلمية التي تضع حدودها
لا تتمثل في قمع المعرفة المتطورة تلقائيًّا، بل على وجه
الدقة في إنتاج المعرفة … من المحال أن توجد أية معرفة
(مهما تكن) لا تكتسب القدرة من مثل ذلك البناء، مهما يكن
غير منصوص عليه، ومهما تكن مضمَرة في الحياة اليومية، ومن
ثم فإن السؤال لا يتعلق بضرورة وجود مباحث علمية وعلاقات
بينها، بل لا يمكن أن يكون إلا حول شكلها، وحول مرونتها
النسبية، وقدرتها الإنتاجية وهَلُم جرًّا.
(فراو ١٩٨٨م: ٣٠٧، ٣٢٠)
وبعبارة أخرى، يقول إنه لا يوجد أسلوب للفكر يسبق محاولاتنا
لبنائه ووضع حدود له، ولا يوجد مستقلًا عن هذه المحاولات، أي إن
الدراسة البينية يجب أن تبدأ بالاعتراف بأن المنهج البيني محتوم،
وبأن أقصى ما نرجوه هو إنتاج إجراءات ذوات نهايات مفتوحة، ووعي
نقدي لتنظيم المعرفة.
وتصبُّ تعليقات فراو في الشواغل الكبرى حول نطاق الدراسات
الثقافية وحدودها باعتبارها ميدانًا بينيًّا، وحول إذا ما كان لها
أن تطمح إلى أن تصبح مبحثًا علميًّا مستقلًّا. وقد ازداد زَخَم هذه
الخلافات بفضل القوة المتنامية للدراسات الثقافية داخل الجامعات.
وكان ستيوارت هول، وغيره، قد حذَّر من أخطار إضفاء الطابع المؤسسي
على الميدان، وخاصة في سياق صعوده السريع إلى اكتساب الاحترام،
وسطوع نجمه في الولايات المتحدة. وهو يرى أن إضفاء الطابعِ التخصصي
و«السمةِ الأمريكية» على الدراسات الثقافية «لحظةٌ ذات خطر عميق»،
فمن المحتوم أن يهدد دورها باعتبارها ميدانًا بينيًّا يستمد قوته
من موقعه الهامشي داخل الجامعة (هول ١٩٩٢م: ٢٨٥). ولا تقتصر هذه
القضية على الولايات المتحدة الأمريكية وحسب؛ إذ إن الدراسات
الثقافية الآن ميدان تتفتح براعمه وتزهر على المستوى الدولي،
فأصبحت له أقسامه العلمية الجامعية ومراكزه البحثية، وكلها يتمتع
بالتمويل السخي، ويجتذب الطلاب والباحثين بمادته المحبوبة المتاحة
بيُسر.
وتعتبر استجابة توني بينيت
(Bennett) لهذه الظروف
المتغيرة عكس استجابة هول، بل إنها بمثابة انتقاد لما يسميه
«الاستحياء التخصصي» للدراسات الثقافية. وهو يقول، مثل فراو، إن
تأسيس المبحث ليس تهديدًا يطل برأسه من خارج الميدان ولا بد من
صده؛ لأن الدراسات الثقافية أصبحت بالفعل مبحثًا علميًّا ما دامت
ميدانًا معرفيًّا له اسمه، ويمكن التعرف عليه، ويتولى تنظيمَه
الأساتذةُ المتخصصون داخل الجامعات. ولا يشارك بينيت في الفكرة
البطولية عن «المعرفة التي تتشكل في نار المعارضة»، وهي الشائعة في
جانب كبير من العمل بالدراسات الثقافية، بل يقول إن علينا أن نجعل
الدراسات الثقافية مبحثًا علميًّا إذا كان معنى هذا الإفصاح عن
أهدافها ومناهجها المميزة لها، والنظر في تطبيقاتها العملية
(١٩٩٨م: ٩). ولكن ينبغي ألا نتخلى عن الأشكال المعينة للتدريب
والخبرة المتاحة للدراسات الثقافية من المباحث العلمية المستقلة،
مثل العلوم الاجتماعية والإنسانيات؛ إذ «لا بد من الدفاع عنها
وتعزيزها بدلًا من أن «ينخر فيها النمل الأبيض»
(white-anted) [أي: أن
يخرِّبها أو يقوِّضها من الداخل] من طريق التقديرات المنحرفة
والمغالية في التعميم لقيمة المنهجية البينية» (بينيت ١٩٩٨م: ١٩).
وتقول حجته إن الدراسات الثقافية يجب أن تؤدي «مهمة دار المقاصة»؛
إذ تقوم بتنسيق أنشطة المباحث العلمية الأخرى في حدود ما تتناول
العلاقة بين الثقافة والسلطة، وينبغي ألا تحاول أن تصبح «تركيبًا
فكريًّا مفترضًا يجري فيه التغلب على التخصصات البحثية القائمة، أو
جعلها من النوافل» (بينيت ١٩٩٨م: ٢٨).
ويعبر بل ريدنجز
(Bill Readings) عن عدم
اطمئنانه إلى نشأة الدراسات الثقافية باعتبارها ما يقول إنه
النموذج المسيطر للمنهج البيني الذي أسيءَ تعريفه، والذي يفتقر إلى
التمييز داخل الإنسانيات. ويقول إن الدراسات الثقافية، باعتبارها
شكلًا من أشكال المنهج البيني، «تتَّسم أولًا وقبل كل شيء
بمقاومتها لجميع المحاولات الرامية إلى الحد من مرجعيتها»، فغدت
«شبه مبحث علمي» يهدف إما إلى توحيد المباحث الإنسانية، وإما إلى
تجاوزها (ريدنجز ١٩٩٦م: ٩٨، ٩١). ويبدي ريدنجز تشكُّكه في الفكرة
التي تقول إن الدراسات الثقافية تُعتبر «المبحث العلمي الذي سوف
ينقذ الجامعة بأن يعيد إليها الحقيقة المفقودة»؛ لأنها تمثل في
نظره بحثًا رجعيًّا عن المعرفة الشاملة (١٩٩٦م: ١٨). وهو يخشى أن
ينتهي الأمر بالدراسات الثقافية، على الرغم من طعنها الجذري الظاهر
في المباحث الأكاديمية التقليدية، إلى أن «تغذوها روح حنين كانطية»
إلى تعليم إنساني شامل، وهي الرغبة التي تميزت بها العلوم
الإنسانية منذ نشأتها (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٢٢).
وتتسم هذه الحجج ببعض الصحة؛ إذ تعرض فضائل المنهج البيني بإلحاح
في الدراسات الثقافية، بألفاظ بالغة الغموض عما يعنيه المصطلح،
وكيف يُفترض الطعن الفعلي في المباحث العلمية أو تجاوزها. ويَجمُل
بنا أن نذكِّر أنفسنا بأن الميادين الأكاديمية، حتى الميادين
المعادية للتدعيم باعتبارها مباحث متخصصة، مثل الدراسات الثقافية؛
دائمًا ما تنشأ بصورة محتومة من البراجماطية المؤسسية، وعلاقات
السلطة، ومحاولات تنظيم المعرفة. ولكن التدعيم المؤسسي يتسم بأنماط
ودرجات مختلفة، ولا شك أن «هول» على حق في قوله إن الدراسات
الثقافية قد تعرضت في الآونة الأخيرة لتحول سريع يؤثر في تصور
الميدان لنفسه، وعلاقته بالمباحث العلمية الراسخة. وعلى نحو ما
يتضح من المناقشة في هذا الفصل، فإن هذه المناظرات قد أحيَتْ مجال
الدراسات الثقافية منذ البداية. ويرى ريدنجز وفراو وبينيت أن
الدراسات الثقافية تتميز أساسًا بنطاقها الشاسع، ومحاولتها لتجاوز
حالات الإقصاء النخبوية بما تفرضه من حدود في الموضوعات الإنسانية
التقليدية، ولكن لنا أن نقول إنها مختصة أيضًا بالطريقة التي
تُنتَج بها المعرفة نفسها، وكيف يكون الإفصاح عنها، وإنَّ عمل
هؤلاء الثلاثة يشكِّل جانبًا من جوانب هذا الاهتمام. والحق أن
أشكال المنهج البيني التي يناقشها هذا الفصل لا تتميز بشوقها إلى
الثقة الراسخة للمعرفة الشاملة، بقدر ما تتسم به من قلق حول أسلوب
صوغ المعرفة، وكيف يلتئم شمل المباحث العلمية فيما بينها. وهذا
اللون من الريبة الفكرية داخل الدراسات الثقافية — لا مجرد
«شمولها» — هو الذي أتى بأعظم النتائج في تنمية المنظورات البينية،
وتطويرها في شتى مباحث العلوم الإنسانية.