الفصل الثالث
النظرية والمباحث العلمية
ساءت سمعة مصطلح «النظرية» بسبب دلالته المبهمة وسوء تعريفه، وهو
الذي يُطلَق على الكثير من الطرائق الفكرية المختلفة في شتى مباحث
العلوم الإنسانية، ولكننا نستطيع رغم ذلك تحديد لحظة انبثاق للنظرية
ظهرت من إعادة تشكيل مباحث العلوم الإنسانية منذ أواخر الستينيات، وهي
التي جمعت بين الحركات الفكرية المنوعة التي تشترك في شيء واحد على
الأقل، وهو علاقتها النقدية بالمباحث العلمية التقليدية. ونجد في هذا
السياق أن النظرية تعني ما يَقرُب من التضادِّ التام مع معناها في
العلوم الطبيعية؛ فالنظرية العلمية تهدف إلى تقدم المعرفة في ميدانها
الخاص بأسلوب منظَّم ومنهجي، وذلك باقتراح قانون عن العالم الطبيعي
يمكن التحقق من صحته تجريبيًّا في وقت لاحق، فإذا أقرَّ عدد كبير من
التجارب، وفي ظل ظروف منوعة، بصحة النظرية، قَبِلها مجتمع العلماء
بصفتها نظرية صحيحة، وذلك، على الأقل، حتى تلوح نظرية أفضل منها. وأما
في المباحث العلمية الإنسانية فإن النظرية لا ترتبط بالممارسة بهذه
السهولة، فإنها لا تتعلق بمجرد وضع إجراءات تحليلية لتفسير المواد
الأولية، مثل النصوص الأدبية أو الوثائق التاريخية، بل تتضمن، بصورةٍ
أعمَّ وأشمل، طرائق تفكير يتعذر تصنيفها بسهولة وفق أي مبحث علمي راسخ،
وتحاول مساءلة الافتراضات الأساسية لتلك المباحث العلمية. وعلى نحو ما
يقوله تيري إيجلتون (Eagleton)، تظهر
«النظرية» في اللحظة التي «تصبح فيها الممارسات الاجتماعية أو الفكرية
مقلقَلة، وعندما تصادفها المتاعب، وتحتاج بصورة عاجلة إلى إعادة
التفكير فيما هي عليه» (١٩٩٦م: ٢٠٧).
وأحيانًا ما يُعرِب الطلاب عن نفورهم من النظريات، وذلك على وجه
الدقة لأن علاقتها بالمبحث العلمي قيد الدرس قد تبدو علاقة تماسٍّ بعيد
(ما شأن هذا باللغة الإنجليزية وآدابها؟ لقد أتيت هنا لأدرس الأدب!)
كما أن الباحثين التقليديين ينظرون إليها بريبة، وذلك كما يقول جوناثان
كالر (Culler) لأنها تأبى الحكم عليها
وفق النماذج المتعارف عليها في خبرة المبحث العلمي وسلطته. فإذا اتخذنا
المنهج «النظري»، مثلًا، فربما استطعنا قراءة كتب سيجموند فرويد من دون
وعي بأحدث البحوث في التحليل النفسي والطب النفسي، أو قراءة كارل ماركس
من غير تخصص في الاقتصاد السياسي، أو جاك دريدا من دون دراسة للفلسفة
(كالر ١٩٨٣م: ٩). فالنظرية تتعلق بالأسئلة الكبرى حول طبيعة الواقع، أو
اللغة، أو السلطة، أو العلاقة بين الجنسين، أو الحياة الجنسية، أو
الجسم والنفس، وهي تقدم إطارًا يستطيع الطلاب والباحثون في داخله
التناظر حول هذه القضايا ذات النطاق الشاسع من دون أن يعرقلهم
الاستغراق الشديد في الحجج التفصيلية داخل كل مبحث علمي.
ومن الأهداف الرئيسية للنظرية الطعنُ في بعض التفسيرات للعالم التي
عادةً ما نسلِّم بصحتها دون مناقشة، فالمعتقد مثلًا أن اللغة، وفق
المنطق الشائع، أمر ثانوي في جميع الأحوال، أي إنها تستطيع بصورة
محايدة وصف الظواهر، وأننا باعتبارنا أفرادًا مستقلين تمامًا نستطيع أن
نستخدم اللغة باعتبارها وسيلة للتعبير عن أنفسنا، وعن علاقتنا بالآخرين
وبالعالم. وهذه النظرية، التي تتشكك فيها أنواع معينة من النظريات،
تسمح لمعظم الناس أن ينهضوا في الصباح ويعيشوا حياتهم اليومية من دون
التساؤل الدائم عن طبيعة الهوية الفردية والواقع الخارجي. وفي إطار
الحياة الأكاديمية تُعتبر المباحث العلمية نوعًا مماثلًا من المنطق
الشائع؛ إذ تسمح لنا بأن نواصل فعل ما نفعله من دون التأمل الدائم في
غرضه وحدوده وجدواه النهائية. والمباحث العلمية تمكِّننا من تحديد
موضوعات بحثية نستطيع التحكم فيها، ومن وضع حدود لدراستنا، وتقديم
نتائجها إلى مجتمع يفهم الإطار الفكري الذي نعمل من خلاله. والنظرية
التي تطعن في الطابع البراجماطي لهذا المدخل نظرية بينية في جوهرها.
وأودُّ في هذا الفصل أن أناقش عددًا من المداخل النقدية — مثل
البنيوية، والتفكيك، والتحليل النفسي، والمذهب النسوي، ونظرية الميول
الجنسية المثلية — فيما يتعلق بإسهامها في وصف هذه المسائل الخاصة
بطبيعة المباحث العلمية.
علم اللغة وأدبيَّة الأدب
البنيوية حركة اكتسبت زَخَمها بين أصحاب النظريات الأدبية
والثقافية الفرنسيين في الخمسينيات وفي الستينيات، وترجع جذورها
إلى المبحث العلمي الذي نطلق عليه علم اللغة (اللغويات)، وخصوصًا
كتاب فردينان دي سوسير (de
Saussure)، وعنوانه دراسة في علم اللغة العام،
وفيه يقترح المؤلف وضع علم لنظم العلامات أطلق عليه اسم
«السيميولوجيا» [السيمياء]، ويُعرِّفه قائلًا إنه «علم يدرس حياة
العلامات داخل المجتمع» (دي سوسير [١٩١٦م] ١٩٦٦م: ١٦)، وتقول حجته
إن اللغة ليست لها علاقة مباشرة بالواقع، بل تعمل باعتبارها نظامًا
للاختلافات، أي إن الكلمات (الدوالَّ
signifiers) ليست لها علاقة
دفينة بالأشياء المجسدة التي تصفها (المدلولات
signifieds)، لكنها تولِّد
المعنى نتيجة لعلاقات التفاضل والتكامل مع الدوالِّ الأخرى. وهكذا
فإن نشأة البنيوية في كنف علم اللغة، وخصوصًا هذه الفكرة عن اللغة
باعتبارها نظامًا للعلاقات فيما بين العلامات، تفتح عددًا من
الإمكانيات البينية أمام الدراسات الأدبية. وهي تطعن على وجه
الخصوص في مقولتين حاسمتين من مقولات دراسة اللغة الإنجليزية
وآدابها، أولاهما معنى المؤلف، وثانيهما معنى النص الأدبي المعتمد.
فالمداخل البنيوية تميل إلى تأكيد «التناصِّ»، وهي الفكرة التي
تقول إن النصوص تنشأ لا بفضل أفعال أصلية من جانب المؤلفين
الأفراد، بل بفضل التفاعل والحوار مع النصوص الأخرى، وهكذا فإن هذه
المداخل تطعن في محاولة الدراسات الأدبية أن تعتبر مؤلفين ونصوصًا
معينة أثمن من غيرها، وأجدر بالدراسة الأدبية من سواها. والنصوص
الأدبية تميل في التحليلات البنيوية إلى أن تصبح جزءًا من المجال
الشامل للُّغة والخطاب، ومن ثم تُعتبر نمطًا نصيًّا واحدًا من بين
أنماط نصية كثيرة، بما في ذلك الأشكال غير اللغوية، مثل السينما
والتصوير الشمسي والموسيقى والأزياء، ومن ثم فإن هذه «النصوص» تخضع
للتحليل «البنيوي»، الذي يؤكد الشكل الذي تشترك فيه مع غيرها من
النصوص لا مضمونها النوعي.
وتبين أوائل أعمال رولان بارت
(
Barthes) بعض هذه الإمكانيات
البينية، ويُعتبر كتاب بارت، وعنوانه أساطير (١٩٥٧م)، مفتاحًا لفهم
البنيوية المبكرة، ونصًّا تأسيسيًّا للدراسات الثقافية بسبب
مناقشته الرائدة للثقافة الشعبية؛ فهو يتولى تفكيك نطاق كامل من
الظواهر الثقافية في فرنسا إبان الخمسينيات، مثل مباريات المصارعة،
وإعلانات الزبد الصناعي، وكُتيبات الإرشاد السياحي، ومساحيق
الصابون، ولُعب الأطفال، والسيارات من طراز سيتروان. ويبين بارت أن
هذه الظواهر تولِّد نوعًا من «الميتالغة» (١٩٧٣م: ١٢٤)، أي: سلسلة
من ظلال المعنى الثانوية إلى جانب معانيها الواضحة، قائلًا إن صورة
مخ أينشتاين التي يكثر نشرها باعتبارها «من موضوعات المنتخبات، ومن
المعروضات الجديرة حقًّا بالمتاحف»، مثلًا، تقدم للقارئ فكرة تقول
إن التجديد والاكتشاف العلميَّين تدفعهما العبقرية الفردية لا
العوامل الاجتماعية والثقافية أو المؤسسية (بارت ١٩٧٣م: ٧٥–٧٧).
وهذه الفكرة التي تقدم تعريفًا واسع النطاق «للنص» الثقافي تتيح
لبارت أن يقترح نموذجًا للمنهج البيني الذي لا يجمع وحسب بين
المباحث العلمية المختلفة، بل يسمح لها أيضًا بالتلاقي حول موضوع
دراسة جديد تمامًا:
الدراسات البينية … لا تقتصر على مواجهة المباحث العلمية
المشكَّلة سلفًا … فلا يكفي أن تتناول «موضوعًا» (ثيمة)،
وترتب علمين أو ثلاثة علوم حولها. فالدراسة البينية تتمثل
في خلق شيء جديد، لا ينتمي إلى أحد بعينه، وأعتقد أن
«النص» أحد هذه الأشياء.
(بارت ١٩٨٦م: ٧٢)
والبنيوية بينية لأن جميع أنواع الأعمال الفنية والظواهر يمكن
تفسيرها باعتبارها «نصوصًا»؛ فالنص في نظر بارت مجرد وسيلة لإنتاج
المعاني الثقافية ونشرها، وهو «نسيج من المقتطفات المأخوذة من
مراكز ثقافية لا تُحصَى» (١٩٧٧م: ١٤٦).
ومن مجالات النقد البنيوي مجال أتى بحقل مثمر إلى حد بعيد
للدراسات النصية البينية، ألا وهو علم السرد
(narratology)، فقد قام بعض
النقاد، مثل جيرار جينيت
(Genette)، وأ. ج. جريماس
(Greimas)، بتحليل القصص
وتبيان أسلوب عملها بتفصيل مذهل، من خلال فحص عناصر معينة، مثل
النظام الزمني، والمدة الزمنية، والتواتر، والمنظور، ووجهة النظر.
وعلماء السرد يركزون بصفة خاصة على القصة باعتبارها عملًا سرديًّا،
بغضِّ النظر عن مضمونها وعن الوسيط الذي تُنتَج فيه، فالقصة في
نظرهم أي سلسلة مبنية من الأحداث التي تقع في أوقات متتابعة
زمنيًّا. وكان هذا التركيز على الشكل عملًا تصحيحيًّا من جانب
معين، وطعنًا في التركيز التقليدي في الدراسات الأدبية على النص
باعتباره كيانًا منفصلًا، أو كما يقول جينيت: «لطولِ ما مضى من
الزمن على اعتبار الأدب رسالة من دون شفرة، أصبح من الضروري، ولو
لفترة معينة، أن يُعتبر شفرة من دون رسالة» (١٩٨٢م: ٧).
وهكذا فإن علماء السرد لا يُكنُّون احترامًا يُذكَر لأنواع
الفوارق التقييمية التي كانت تشكِّل أساس المبحث العلمي للدراسات
الأدبية، وهم يطبقون مبادئ الشفرة السردية لا على النصوص الأدبية
المعتمدة وحسب، بل أيضًا على الأنواع الثقافية الشعبية، مثل
الحكايات الخرافية، والروايات البوليسية، وروايات الجاسوسية
المثيرة، وقصص الحب الرومانسية التي اشتهرت بها دار نشر ميلز وبون
(Mills and Boon). والحق أن
هذا النوع من الأدب القصصي المُقَولَب
(formulaic) يُعتبر مصدرًا
وافر الثمر للتحليلات البنيوية، وقد يرجع السبب إلى أن آلياته
السردية ذوات شفافية أكبر من أنواع النصوص الأخرى. ويمكن تطبيق علم
السرد على الأفلام والتلفاز والأشكال الأخرى لوسائط الإعلام
الجماهيرية، وكذلك على جوانب الحياة اليومية؛ إذ إننا حين نقول
فكاهة، أو نشرع في الثرثرة، أو نتبع نظامًا يوميًّا من نوع ما،
فإننا نسرد حياتنا وحياة غيرنا من البشر. وفي هذا السياق يُعتبر
السرد ذا تعريف واسع مثل تعريف بارت «للنص»، بمعنى أنه طريقة
لتنظيم الخبرة البشرية، وتوصيل أفكار ومعرفة عن العالم لأنفسنا
وللآخرين.
وينبغي أن نضيف أنه على الرغم من اندفاع النظرية السردية عمومًا
نحو النصوص والقصص، لا نحو الصيغ الأدبية الضيقة الطابع، فإنها
تتضمن عناصر أخرى تهدف بصفة خاصة إلى التمييز بين ما هو أدبي وما
هو غير أدبي؛ ففي العقود الأولى من القرن العشرين، على سبيل
المثال، حاول النقاد الشكليون الروس، مثل فكتور شكلوفسكي
(
Shklovskii)، ويوري تينانوف
(
Tynianov)، ورومان ياكوبسون
(
Jakobson)؛ تعريفَ العناصر
الشكلية الأدبية [أي السمات التي تجعل الأدب أدبًا]
(
literaturnost) معرِّفًا
إياها بأنها نتيجة للتغريب
(
defamiliarization)، أو جعل
اللغة تبدو غريبة (
ostranenie) عن صورتها
المعيارية (
normative). وكما
يبيِّن توني بينيت، انتهى عدد كبير من دعاة الشكلية إلى نتيجة تقول
إن «الأدبية» كانت دائمًا تأثيرًا اجتماعيًّا تحدده قوًى تاريخية
وثقافية، ومن ثم فإنها ليست من الثوابت التي لا تتغير (١٩٧٩م:
٣٤-٣٥). ومع ذلك، فإن هذا الانشغال بالطبيعة الخاصة «للأدبية»
يميِّز المذهب الشكلي الروسي عن الانشغال البيني بالنص والسرد في
المدارس الأخرى للبنيوية؛ إذ يقول ياكوبسون بوضوح إن هدف الشكلية
خلْق علم له مجالاته البحثية الخاصة، واستبعاد الممارسات البينية:
موضوع الدرس في العلم الأدبي ليس الأدب، بل الأدبية، أي
الخصائص التي تجعل عملًا ما عملًا أدبيًّا. ولقد كان
المؤرخون الأدبيون حتى الآن يفضلون العمل مثل الشرطي الذي
إذا أراد اعتقال شخص معين، عمد في أي لحظة متاحة إلى
اعتقال أي شخص أو أشخاص تَصادَف وجودُهم في البيت، إلى
جانب السابلة في الشارع. وهكذا فإن المؤرخين الأدبيين
استخدموا كل شيء، من الأنثروبولوجيا، إلى علم النفس، إلى
السياسة والفلسفة. فبدلًا من علم الأدب، إذا هم يخلقون
كوكبة مجتمعة من مباحث علمية متباينة النسج.
(أيخينبوم ١٩٦٥م: ١٠٧)
ولنا أن نقول، بصفةٍ أعمَّ وأشمل، بوجود «دافع» بينيٍّ يربط ما
بين الشكلية الروسية وبين نماذج أخرى من البنيوية؛ ذلك أنها تسعى
جميعًا إلى وضع أساس علمي لدراسة النصوص بالتركيز على بنائها لا
على مضمونها. ويمكننا من هذه الزاوية أن نرى أن الانشغال البنيوي
بالشفرات والنُّظم الخاصة بالسرد يمثل جانبًا من جوانب المحاولة
الدائبة داخل الدراسات الأدبية لاعتبار النصوص نواتج لنظام يقبل فك
شفرته (decipherable)، وطموحًا إلى
تحقيق المذهب العلمي
(scientificity)، وهي المحاولة
التي لم تتوقف في تاريخ هذا المبحث العلمي، من أصولها في أقسام فقه
اللغة إلى الأعمال الأخيرة التي وضعها أ. أ. ريتشاردز والنقاد
الجدد. ويقول بارت إن هدف البنيوية، حين «يواجهها الطابع التعددي
للُّغة» و«السمات اللانهائية للصور السردية»، هو أن «تستخلص مبدأ
للتصنيف، وبؤرة مركزية للوصف، من داخل الاختلاط الظاهري للرسائل
المفردة» (١٩٧٧م: ٨٠). ولقد نبذ بارت هذا المشروع في أعماله
الأخيرة، منتقدًا رغبة البنيوية في اختزال جميع النصوص في نظام
رمزي (typology) شامل لكل شيء،
«معادلًا بينها جميعًا بفضل الفحص العلمي الذي لا يفرق بينها»
(بارت ١٩٧٥م: ٣). وعلى الرغم من أن البنيوية تطعن في تقسيم المباحث
العلمية من خلال تعريفها الواسع «للنص» الثقافي، فإنها تفترض أيضًا
وجود تعريف ضيق للنظرية باعتبارها الأساس اللازم لأية ممارسة نصية
علمية. وهكذا فإن معاني النصوص تُعتبر في التحليلات البنيوية معاني
مُركَّبة وإن تكن ثابتة نسبيًّا، ويستطيع الناقد النصي أن يُخضِعها
آخر الأمر لسيطرة المبحث العلمي.
تفكيك الفلسفة
ينتقد جاك دريدا، في أحد كتبه الأولى، وعنوانه الكتابة والاختلاف
(١٩٦٧م)، المذهب البنيوي لهذا السبب نفسه، ألا وهو افتراضه إمكان
سيطرة المبحث العلمي، ومحاولته إيجاد نوع من الخطاب «الميتالغوي»
وشبه العلمي، الذي يزعم قدرته على إصدار أحكام على مجال دراسته من
موقع سلطة لا تقبل المساءلة (١٩٧٨م: ٢٧٨–٢٩٣). ويقول دريدا إن
البنيوية على الرغم من إيضاحها أن العلاقة بين الدالِّ والمدلول
مؤقتة وغير مستقرة، فإنها تؤمن أيضًا بإمكان وجود أصل ثابت أو
معنًى مستقر، وهو ما يسميه «المدلول التعاليَّ»، أي الشيء الذي
يتمتع بوجود مستقل عن الكلمة التي تصفه (١٩٨١م: ١٩). ويرى دريدا أن
المعنى من المحال أن يكون «مغلقًا» إغلاقًا تامًّا على هذا النحو
لأنه مجرد أثر ناجم عن اللغة، تنتجه سلاسل من دوالَّ تتحرك في
حرية، من دون وجود أية مرجعية ثابتة. وهكذا فإن التفكيك، وهو
الاستراتيجية الفكرية التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بدريدا، تهدف
إلى الطعن في «المنهج الهرمانيوطيقي أو التفسيري الذي يحاول أن يجد
مدلولًا كاملًا تحت سطح النص» (دريدا ١٩٨١م: ٦٣). ويتصور خطأً أن
المعنى يمكن السيطرة عليه آخر الأمر.
من الواضح أن القول بأن المعنى والمعرفة من نواتج اللغة تترتب
عليه آثار معينة بشأن طبيعة المباحث العلمية ودورها، وكما يقول
جوناثان كالر (
Culler) في غضون
إحدى مناقشاته لعمل دريدا:
لا بد أن يفترض أي مبحث علمي إمكان حل مشكلة ما، والوصول
إلى الحقيقة، ومن ثم كتابة الكلمات الأخيرة عن أي موضوع.
وفكرة المبحث العلمي فكرة بحث تصل الكتابة فيه إلى
نهايتها. والنقاد الأدبيون … كثيرًا ما يحاولون أن يتصوروا
طرائق لوضع نهاية للكتابة بإعادة صياغة أهداف النقد الأدبي
بحيث يصبح مبحثًا علميًّا حقيقيًّا … وهم يتعللون بأمل
النطق بالكلمة الأخيرة، وإيقاف مسيرة الشرح
والتعليق.
(كالر ١٩٨٣م: ٩٠)
وهذا على وجه الدقة مرمى دريدا، أي إن المبحث العلمي يشكل جانبًا
من هذا البحث المغلوط عن استقرار المعنى، أو عن بناء مفرد مُنظِّم
يهدف عمله الخاص إلى انتقاده. أي إن كل مبحث علمي يفترض وجود حد
نهائي، وإن كان من المحال تحقيقه إلا افتراضًا، حيث تتحقق أغراضه
ويكتمل مشروعه. أما دريدا فيرى أن الكتابة دائمًا ما تؤدي إلى
توليد كتابة أخرى، أو كما يقول «لا يوجد شيء خارج النص … أي لا
يوجد شيء يمكن أن يتجاوز تمامًا الخصائص النصية» (دريدا ١٩٩٢م أ:
١٠٢).
ولكن دريدا لا يسعى وحسب إلى تقويض المبحث العلمي للبنيوية، بل
ينتقد الفرضيات المماثلة للسلطة التي سادت تاريخ الفلسفة الغربية
برُمَّته؛ فالخلفية الفكرية لدريدا خلفية فلسفية في المقام الأول،
ولكنه يحاول الانتفاع بمرجعيات أخرى للطعن في مزاعم الفلسفة بأنها
شكل معرفي متميز. بل إن أحد أهداف عمله يتمثل في تفكيك المراتبية
التقليدية التي تضع الأدب في المرتبة الثانية بعد الفلسفة، وإيضاح
انغماسهما معًا في جوانب التركيب في اللغة وزعزعتها. وهو يعرض ذلك
أولًا في عمل مبكر له بعنوان «عن علم الكتابة»
(of
Grammatology) (١٩٦٧م)، في
إطار محاولةٍ أعمَّ وأشملَ للطعن في الفكرة التقليدية التي تقول إن
الكلام المنطوق أصدق من الكتابة؛ إذ يزعم دريدا أن هذه الفكرة يمكن
ردها إلى أفلاطون، الذي ينتقد في بعض أعماله، مثل الجمهورية
وفايدروس (Phaedrus)؛ الشعراءَ بسبب عدم
الْتزامهم صراحة بالحقيقة، قائلًا: تُعتبر الكتابة من الأقارب
الفقراء غير الأنقياء للكلام المنطوق، وهذا من ألوان التحيز التي
تكرَّر ظهورها على امتداد تاريخ الفلسفة الغربية. ويقول دريدا: لما
كانت الفلسفة تهدف إلى الاسترشاد «بالعقل» وحده، فإنها كثيرًا ما
تميل إلى التشكك في الكتابة باعتبارها نشاطًا يعوق نقاء الفكر
واللغة المنطوقة. وتبيِّن مناقشته للفيلسوف جان جاك روسو، مثلًا،
كيف أن هذا الفيلسوف الفرنسي يصف الكتابة بأنها «ذلك الملحق الخطر
للفكر والكلام المنطوق»، وأنها «تنتزع اللغة من حالتها الأصلية»
(دريدا ١٩٧٦م: ١٤١، ٢٤٣).
ويقول دريدا أيضًا إن تفضيل الكلام المنطوق على الكتابة كان أساس
إنشاء اللغويات باعتبارها مبحثًا علميًّا أكاديميًّا، ويقترح
معارضة ذلك ببحث علمي مضاد هو «علم الكتابة»، وهو الذي لا يُوثِّن
طابعها العلمي، بل يطعن في فرضياتها الخاصة (دريدا ١٩٧٦م: ٤، ٢٨).
ويهدف «علم الكتابة» عند دريدا أيضًا إلى هدم توكيد الشفافية
اللغوية التي تسود المباحث الأكاديمية؛ فالكتابة البحثية تُمتدَح
بصورة تقليدية لكونها مباشرة و«واضحة» (والكلمة تعني «شفافة» على
وجه الدقة)، وبعدم عرقلة اللغة لانتقال المعرفة من المؤلف إلى
القارئ. وأما كتابة دريدا نفسه فهي على العكس من ذلك؛ تقوم على
التلاعب، والنهايات المفتوحة، وهي حافلة بالتوريات، والألفاظ
المبتكرة، وألوان الغموض المتعمَّد، والتجديد في هجاء بعض الكلمات.
وهذا يدعم حجته العامة ويجسدها عمليًّا، وهي التي تقول إن الفكر من
المحال أن يوجد في صورة «خالصة» سابقة على اللغة، وإننا إذا نظرنا
«إلى ما وراء النص الفلسفي فلن نجد هامشًا فارغًا بِكرًا، بل نص
آخر، أي نسيج من الاختلافات بين قوًى ليس لها أي مركز مرجعي حاضر»
(دريدا ١٩٨٢م: ٢٣).
وهكذا فإن دريدا يطعن أساسًا في الفصل التقليدي بين الفلسفة وبين
المباحث العلمية الإنسانية الموجَّهة إلى التفسير والدراسة النصية،
وكانت مقاومة هذا الجانب من عمله هي المسئولة إلى حد كبير عن
اعتباره مفكرًا خلافيًّا داخل الحياة الجامعية؛ إذ حدث، على سبيل
المثال، أثناء المناظرة حول قرار جامعة كيمبريدج بمنحه درجة فخرية
في عام ١٩٩٢م، أن أرسلت مجموعة دولية من الفلاسفة الأكاديميين
رسالة احتجاج إلى صحيفة التايمز يطعنون فيها في صحة اعتماد مبحثه العلمي:
إن مسيو دريدا يقول إنه فيلسوف، والحق أن كتاباته تحمل
بعض سمات الكتابة في ذلك المبحث العلمي، وأما تأثيرها فكان
بصورة بارزة في مجالات تنتمي برُمَّتها تقريبًا إلى خارج
الفلسفة، مثل أقسام الدراسات السينمائية، أو الأدبَين
الفرنسي والإنجليزي … وحجتنا تقول إنه إذا قيل إن أعمال
عالم فيزيائي، على سبيل المثال، ذات قيمة عليا، على غرار
ذلك، استنادًا في المقام الأول إلى آراء العاملين في مباحث
علمية أخرى، فسوف يكون ذلك في ذاته أساسًا كافيًا للشك في
أن عالم الفيزياء المذكور مرشح مناسب للحصول على درجة
فخرية.
(دريدا ١٩٩٥م: ٤١٩-٤٢٠)
ويُعرِب دريدا، في مقابلة شخصية تناقش قضية الخلاف المذكور، عن
رفضه هذه الفرضية، أي القول بأن العاملين في مباحث علمية معترَف
بها هم وحدهم الحكام النهائيون على الجدارة الفكرية، قائلًا إن
الفلسفة، على العكس من ذلك، «وفق أفضل تقاليدها، لم تسمح لنفسها قط
بأن توضع قيد الإقامة الجبرية في المنزل، أي داخل حدود مبحثها
العلمي الخاص، ناهيك عن حدود تخصصها» (١٩٩٥م: ٤٠٤). ويقول إننا لا
بد أن نميز بين إمكانيات الانفتاح والطاقة الانعكاسية داخل
الفلسفة، وبين محاولة الأكاديميين داخل أقسام الفلسفة، والعاملين
في ظل قيود التنافس فيما بين المباحث العلمية، تمييز أنفسهم
تنافسيًّا عن الأساتذة الآخرين داخل الجامعة، ما دام هؤلاء الأشخاص
«يخلطون بين الفلسفة وبين ما تعلموا أن يعيدوا إنتاجه في إطار
تقاليد مؤسسة معينة وبأسلوبها، داخل بيئة اجتماعية وتخصصية تتمتع
بحماية متينة إلى حد ما» (دريدا ١٩٩٥م: ٤١١).
وأضيف إن دريدا يشبه نيتشه في مقاله «نحن الباحثين» الذي ناقشته
في المقدمة، في أنه يسوق الحجة ضد أي مذهب فلسفي يرى أنه علم وضعي
تخصصي ذو أهداف ومنهجيات محددة تحديدًا ضيقًا، وكان السياق الذي
برز فيه هذا الجدل مع زملائه الفلاسفة نشأة الفلسفة التحليلية
باعتبارها النموذج السائد داخل الفلسفة الأكاديمية في النصف الثاني
من القرن العشرين. وتميل الفلسفة التحليلية إلى تحاشي الأهداف
الحدسية الواسعة النطاق للفلسفة، وتفضيل إعادة صوغها باعتبارها
نشاطًا علميًّا يتميز بالصرامة الفكرية والوضوح، ويمكن إرجاع نشأته
إلى مدرسة «الوضعية المنطقية» التي نشأت في فيينا في العشرينيات،
وهي التي قامت إلى حد بعيد بتحليل بناء الجمل من حيث قابليتها
للصدق التجريبي أو الشكل المنطقي. كان الوضعيون المناطقة يقيِّمون
المقولات وفقًا «لمبدأ التحقق من صدقها»، ومن ثم يحددون إذا ما
كانت صادقة أو كاذبة أو لا معنى لها. ويعني هذا أنهم كانوا يرفضون
القضايا الواسعة للميتافيزيقا وعلم الجمال واللاهوت وعلم الأخلاق،
وتشغلهم المناظرات الضيقة، ومنها على سبيل المثال وجود الأشياء أو
عدم وجودها. وكان الانتصار لنشأة هذه المدارس التحليلية وتطورها قد
ظهر في بعض الأعمال، مثل كتاب هانز رايخنباخ
(Reichenbach)، وعنوانه نشأة
الفلسفة التحليلية، الذي يقول: «التأمل الحدسي الفلسفي مرحلة
عابرة، وهي تحدث عندما تُثار المشاكل الفلسفية في زمن لا يملك
الوسائل المنطقية لحلها … فقد تقدمت الفلسفة من التأمل الحدسي إلى
العلم» (١٩٥١م: ٧). ويتفق دريدا مع رورتي في أن هذا يمثل سعيًا
مغلوطًا إلى يقين من المحال تحقيقه، قائلًا إننا ينبغي ألا نقلق
«حول إذا كان ما نفعله، أو يفعله غيرنا، يمثل «ممارسة حقيقية
للفلسفة»، بل علينا أن نسمح لمائة زهرة أن تتفتح، وأن نُبدي
إعجابنا بها ما دامت يانعة، وأن نترك ممارسة علم النبات للمؤرخين
الفكريين في القرن المقبل» (رورتي ١٩٩١م: ٢١٩).
وترتبط حجج دريدا الخاصة بالفلسفة بشواغله حول طبيعة الجامعة
باعتبارها مؤسسة، قائلًا إن مشكلة المباحث الأكاديمية والجامعات
كلها تكمن في أنها تعتبر نفسها مواقع للمعرفة الموضوعية، بفضل
المبدأ البديهي الذي يقول «لا يستطيع الحكم على العلماء إلا
العلماء» (دريدا ١٩٩٢م ب: ٥)، وهو المبدأ الذي يقطع الصلات فيما
بين المباحث العلمية، وبين المباحث العلمية من ناحية وبين العالم
خارج الحياة الجامعية من ناحية أخرى. وهكذا فإن تقويض دريدا لضروب
اليقين الفكري للمباحث العلمية له غرض سياسي صريح، ألا وهو الطعن
في الانفصال التقليدي بين العلماء وبين المجال الاجتماعي الواسع،
وهو الذي عادةً ما لا يستدعيهم إلا عندما يحتاج إلى خبرتهم العلمية
المتخصصة.
وكثيرًا ما يقول نقاد «التفكيك» إنه يتخذ في الواقع صورة التحليل
النصي الوثيق المعقد بوسائل بالغة الدقة، وهو ما يدعم ضروب الفصل
بين الدراسات الأدبية والمباحث العلمية الأخرى. ويزعم فرانك
لينتريكيا (Lentricchia)، على سبيل
المثال، أنه لا يزيد عن كونه شكلًا متقدمًا من الزاوية النظرية من
أشكال «النقد الجديد»، «أي إنه نشاط من الخصخصة النصية» التي تؤدي
إلى إنتاج «شيء يشبه النموذج الأقصى من الزينة والزخرفة الداخلية»
(١٩٨٠م: ١٨٦). ويشير لينتريكيا، بوجه خاص، إلى الشكل الأمريكي
للتفكيك، الذي ارتبط بما يُسمى «مدرسة بيل» من النقاد، التي تضم
أمثال ج. هيليس ميلر (Miller)،
وجيفري هارتمان، وبول دي مان. وفي هذا الشكل نجد أن التفكيك (أو
«ما بعد البنيوية»، وهي مصطلح يُستخدم أحيانًا بالتناوب مع
التفكيك، وإن يكن أيضًا لفظًا شاملًا يتضمن ألوانًا من المداخل
المماثلة)؛ يقتصر بصفة عامة على دراسة الأدب، وخصوصًا النصوص
المعتمدة للشعر الرومانسي والرواية في القرن التاسع عشر. ونستطيع
بالقطع تعريفه باعتبار أنه شكل من أشكال القراءة الدقيقة؛ إذ إن
توكيده لعدم استقرار اللغة والمعنى يؤدي إلى الفكرة التي تقول إن
النص نفسه يتضمن في داخله وسائل نقده الخاص، وأما مهمة الناقد
فتتمثل في استخلاص الفجوات والمتناقضات في داخله، وكثيرًا ما يكون
ذلك بالتركيز على عناصر لا يُعتدُّ بها في الظاهر.
ويرتبط هذا الشكل من القراءة النصية ارتباطًا خاصًّا بعمل بول دي
مان، وهو مِن أهم مَن طبَّقوا فكر دريدا على الدراسات الأدبية.
وفهْم دريدا للنظرية فهمٌ ضيق؛ فهو لا يرى أنها تطعن في المنطق
الشائع للمباحث العلمية، بل يرى أنها «تأصيل
(rooting) للتفسير الأدبي
والتقييم النقدي في نظام ذي عمومية فكرية» (دي مان ١٩٨٦م: ٥)؛ إذ
إن دي مان يرى أن النظرية والأدب متلازمان؛ لأن النظرية تتعلق
أساسًا بالبُعد «البلاغي والمكاني للُّغة» (١٩٨٦م: ١٧)، وهذا
البُعد يتمتع في الأدب بصدارة أكثر صراحة من صدارته في الأشكال
الأخرى للُّغة. ويؤدي توكيده المذكور للعناصر اللغوية للنصوص
الأدبية، على حساب جوانبها التفسيرية أو السياقية، إلى جعل عمله
جزءًا من المشروع العلمي للنقد الأدبي، وهو الذي ترجع أصوله إلى
فقه اللغة القديم. بل إن دي مان يصف النظرية الأدبية بأنها «عودة
إلى فقه اللغة … فحص لبناء اللغة قبل المعنى الذي تنتجه»، قائلًا
إن التحليل النصي لا يزال متاحًا استنادًا إلى الثلاثية [أي
المباحث العلمية الثلاثة] التي تشكل جانبًا من تعليم العلوم
النظرية التي تضم النحو والبلاغة والمنطق (١٩٨٦م: ٢٤، ١٣). بل
نستطيع أن نقول في الواقع إنه يَقلِب التفكيك عند دريدا رأسًا على
عقب، فبدلًا من استخدام التفكيك للطعن في مكانة المباحث العلمية
المنفصلة وطبيعة المعرفة، إذا به يسعى إلى ترسيخ أقدام الدراسات
الأدبية باعتبارها «مبحثًا علميًّا مستقلًّا للبحث النقدي»، بحيث
«يُفصَل الأغنام عن المعز، والمستهلكون عن أساتذة الأدب، وثرثرة
التقييم عن الإدراك الفعلي» (١٩٨٦م: ٧، ٢٤). وإذا كان دي مان يشارك
دريدا اهتمامه بالطعن في مزاعم الفلسفة بأنها تملك الحقيقة
النهائية، فإنه، على ما يبدو، يضع الدراسة الأدبية في مكانها
قائلًا إن «الفلسفة لا تزيد عن كونها تأملًا لا نهائيًّا في دمارها
الذاتي على أيدي الأدب» (دي مان ١٩٧٩م: ١١٥).
التحليل النفسي واللغة والثقافة
تكمن إمكانية المنهج البيني داخل التحليل النفسي في علاقته
الثنائية بالعلم، خاصة بالطب الإكلينيكي، واستعداده الذي يزداد
باطراد للابتعاد عن النماذج العلمية الصريحة، والاتجاه إلى الفحص
الحدسي والنظري للعلاقة بين النفس واللغة والثقافة. فمثلما اشتبك
عمل دريدا بصفة خاصة بما استبعدَتْه الفلسفة من اختصاصاتها، أُقيمَ
التحليل النفسي الفرويدي على الرغبة في الطعن في صحة إقصاء بعض
المباحث العلمية عن الطب، والرغبة في بحث أنواع الأمراض والظواهر
التي لم يتناولها الطب. ويمكن اعتبار موضوع الطب حالة نموذجية
لتطور المبحث العلمي؛ ذلك أنه تطور بتدعيم حدوده، وإقصاء أنواع
معينة من المعارف «غير المشروعة» إقصاءً صارمًا. وهكذا بدأ
الاستبعاد الحاسم لبعض الممارسات التي كانت تُعتبر يومًا ما جزءًا
من الطب المحترم، مثل العلاج بالأعشاب، والعلاج «بالإيمان الديني»،
والفصد، والشراب المطهر، بل إنها حُرِّمت تحريمًا لا هوادة فيه في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما اكتسب التخصص قوة مؤسسية
وزاد استخدامه للدرجات الجامعية باعتبارها نوعًا من المؤهلات
المعتمدة. وإذا كان ذلك راجعًا بوضوح في جانب منه إلى مظاهر التطور
في البحث وألوان التقدم في المعرفة، فإنه كان أيضًا من نتائج
علاقات السلطة الناشئة؛ إذ برزت مراتبيات صارمة، كان الأطباء
يَتسنَّمون فيها القمة، ويشغل الجرَّاحون والصيدلانيون القاع،
ويُنبَذ باقي المعالجين باعتبارهم دجالين (بورتر ١٩٩٧م:
١١).
والحق كما يقول روي بورتر أن مهنة الطب اكتسبت سلطة وهيبة، وذلك
تقريبًا بغضِّ النظر عن قدرتها على إنقاذ أرواح المرضى، ولم يحدث
حتى اختراعِ عقاقير السلفا والمضادات الحيوية في أوائل القرن
العشرين أن بدأ الطب يُحدِث تأثيرًا إيجابيًّا حقيقيًّا في هذا
الصدد (بورتر ١٩٩٧م: ١١). وكما يقول بورتر، كانت التقاليد الطبية
الغربية تتميز بتفسيرها للمرض لا من حيث العلاقة بين المريض وبين
العالم، بل من حيث حالة الجسم نفسه (بورتر ١٩٩٧م: ٧). وعندما
اكتسبت مهنة الطب مجالات معرفية جديدة، مثل عقل الإنسان ونفسه، كان
ذلك في العادة على أساس إكلينيكي محض؛ إذ كان الطب النفسي
الأكاديمي، مثلًا، يعتمد بصورة تقليدية على طب الأعصاب
[النيورولوجيا]، ومرض الأعصاب [نيوروباثولوجي]، وهما يؤكدان
التفاسير العضوية لاختلالات المخ (بورتر ١٩٩٧م: ٥٠٩). وكان فرويد
الذي تخصص في الطب، ثم أحسَّ بالإحباط إزاء محاولات العثور على
أسباب جسدية ضيقة التعريف للهيستيريا [الهَرَع]؛ أولَ من قام بطعن
يُعتدُّ به في هذا اللون من المادية العلمية، وكان يرى منذ البداية
أن التحليل النفسي طريق للتحرر من قيود المبحث العلمي التي تفرضها
المعارف الطبية المعتمدة.
وكان من السبل التي اتبعها لتحقيق ذلك أن قال إن التحليل النفسي
مبحث علمي متماسك، ونشاط علمي مستقل، وهو ما يفسر المصطلح «الصلب»
الأول «التحليل». ويبدأ فرويد محاضراته التمهيدية بالإقرار بأن
التحليل النفسي يختلف عن الطب التقليدي؛ لأنه لا يستطيع، من خلال
التبادل اللفظي بين المحلل والمريض وحسب، أن يحقق الاتصال المباشر
مع موضوع بحثه، ألا وهو اللاوعي (فرويد [١٩١٥م] ١٩٧٣م: ٤١). وعلى
الرغم من عدم توافر بيانات «صلبة»، والنتائج غير المؤكدة للعملية
التحليلية، فإن فرويد يصرُّ على أن التحليل النفسي علم، وأنه «مثل
كل علم طبيعي آخر يستند إلى الجهد الصبور دون كلل أو ملل في
استخلاص الحقائق من عالم المحسوسات» (فرويد [١٩٢٥م] ١٩٨٦م: ٢٦٨).
ودعوى التحليل النفسي بأنه علم راسخة في تطوره باعتباره تخصصًا
مستقلًّا، له قواعد عمل، ومفردات متخصصة، وهياكل مراتبية، وأنساق
واضحة لنمو العمل به وتقدُّم العاملين به؛ إذ توجد على سبيل المثال
منظمة دولية مركزية تتولى إقرار المؤهلات وتنظيم العمل، وهي
«الاتحاد الدولي للتحليل النفسي»، وتتكون من منظمات قومية كثيرة
تقوم بدورها بإقرار تأهيل مؤسسات التعليم والتدريب، وتفرض قيودًا
على العضوية. والواقع أن السياسات الداخلية في مجال التحليل
النفسي، التي تمثلها المناظرات الحادة بين مدارسه المختلفة، وطرد
المارقين من المنظمات المنافسة، والدعاوى المتنافسة بأن أصحابها هم
ورثة فرويد الحقيقيون؛ تؤكد بالقطع أن التحليل النفسي يعتبر نفسه
مبحثًا علميًّا مستقلًّا.
وعلى الرغم من أن فرويد كان يرى نفسه عالمًا في المقام الأول،
فإن تأثير عمله كان أكبر إلى حد بعيد في المباحث غير العلمية. ولقد
تعرضتْ نظريات فرويد، ونظريات خلفائه من باحثي التحليل النفسي،
للانتقاد في حالات كثيرة من جانب أصحاب العلم «الصلب»، بسبب
ارتكازها على أسس تجريبية غير مؤكدة، واستنباطها نظريات من لغة
المجاز والقياس، ومن فرضيات لم تُختبر؛ ذلك أن التحليل النفسي، على
عكس مباحث العلوم الطبيعية، يصعب عليه تحديد اختصاصاته؛ فالطب
الإكلينيكي له هدف دراسي واضح ومحدد، ألا وهو علاج أمراض الجسد
والوقاية منها، من خلال التداخل بالعقاقير أو التكنولوجيا أو
الجراحة، ولكن التحليل النفسي من المحال حصره في مثل تلك الحدود
الواضحة؛ فهو مشغول بكل شيء قد ينتجه اللاوعي، وبالسُّبل التي
يستطيع بها التأثير في جميع أشكال الفكر والإحساس والسلوك عند
البشر. ومن المحتوم أن يهتم التحليل النفسي بالأدب والفن والثقافة؛
وذلك، كما يقول فرويد، لأن دوافعنا الغريزية الأساسية «تقدم
إسهامات لا يمكن التقليل من شأنها في أرفع المبتكرات الثقافية
والفنية والاجتماعية لروح الإنسان» (فرويد [١٩١٥م] ١٩٧٣م: ٤٧).
وكان فرويد نفسه مولعًا بالقراءة واسعَ الاطلاع، وكان عدد كبير من
المصطلحات الأساسية في التحليل النفسي، مثل عقدة أوديب، والنرجسية،
والصادية، والماسوكية؛ مستمَدًا من الأدب والأساطير. أضف إلى ذلك
أن التحليل النفسي، مثل النقد الأدبي، نشاط هرمانيوطيقي [تفسيري]
بصفة أساسية، فما دام اللاوعي
(unconscious) مكبوتًا، فإنه
لا يمكن الكشف إكلينيكيًّا عنه، بل يمكن فقط تفسيره من خلال
تجلِّياته الجزئية في الأقوال وألوان السلوك الصادرة عن الوعي
والعقل الباطن (subconscious)، مثل
الأحلام وزلَّات اللسان والتداعي الحر.
ولكن عددًا كبيرًا من مقالات فرويد في النقد الأدبي، ونظائرها
التي كتبها أوائل النقاد الفرويديين، مثل إرنست جونز، وأوتو رانك؛
يغلب عليها استخدام الأدب مادةً أولية في دراسة حالات معينة
بالتحليل النفسي. وكان من الشائع على نطاق واسع في النقد القائم
على التحليل النفسي اعتبارُ النص وسيلةَ إعلاء
(
sublimation) لرغبات المؤلف
اللاواعية، أو الحاجات الغريزية، أو ألوان العُصاب. ولما كان النص
يُعتبر دائمًا في مرتبة ثانوية بالنسبة للعمليات النفسية التي يكشف
عنها، فإن هذا الضرب من النقد كان بمثابة استيلاء من جانب المبحث
العلمي الجديد للتحليل النفسي على النقد الأدبي، من دون أن يُعتبر
تفاعلًا حقيقيًّا بين هذا وذاك. وكما تقول شوشانا فيلمان، كان
النقد القائم على التحليل النفسي في البداية
لا يمثل علاقة تنسيق، بل علاقة خضوع وتبعية، وهي علاقة
يخضع فيها الأدب لسلطة التحليل النفسي وهيبته، فإذا كان
الأدب يُعتبر كيانًا من اللغة — المطلوب تفسيره — فإن
التحليل النفسي كان يُعتبر كيانًا من المعرفة، التي تُطلب
قدرتها على التفسير.
(فيلمان ١٩٨٢م: ٥)
ونرى — بعبارة أخرى — في هذا التلاقي بين التحليل النفسي والأدب،
أن الأول مُفضَّل على الأخير؛ إذ يُعتبر التحليل النفسي علمًا
ناضجًا يقدم معنى الآخر ويستولي عليه، باعتباره شكلًا معرفيًّا أقل
تطورًا، بل و«غير علمي».
وإذا كان التحليل النفسي الفرويدي الكلاسيكي يحاول فتح العلوم
الطبيعية على مجالات جديدة للدراسة، فإن نظرية التحليل النفسي يغلب
عليها التشكك فيما يدعيه التحليل النفسي من الطابع العلمي الطبي.
ويتجلى هذا بأوضح صورة في عمل المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان
(Lacan)، الذي يدعو إلى
«العودة إلى عمل فرويد»، بحيث يركز على «شعرية ما كتبه فرويد» على
حساب طموحاته الإكلينيكية المباشرة (١٩٧٧م أ: ٥٧، ١٠٢). والواقع أن
علاقة لاكان بالعلم، مثل علاقة فرويد بالعلم؛ إيجابية وسلبية معًا،
فهو يقول أحيانًا إن هدفه بناء قاعدة علمية للتحليل النفسي (١٩٧٧م
أ: ٧٧)، والواقع أن مفهومه لمرحلة المرآة، وهي التي يكتسب الطفل
فيها شعورًا مُرضيًا بهويته (رغم أنه وهمي) من خلال التعرف على
صورته في المرآة؛ مفهوم يستند إلى التجارب العلمية التي أجراها
هنري والون (Wallon) عالم النفس
المتخصص في مرحلة الطفولة، وسجَّلها في كتابه أصول شخصية الطفل
(١٩٣٤م)، حيث فحص أساليب استجابة الأطفال الصغار لصورهم في المرآة،
وهي التي تختلف عن استجابة الثديِيَّات العليا، مثل الشيمبانزي،
لصورها في المرآة. ويستعين لاكان في كتاباته بحشد كبير من المفاهيم
الرياضية، مثل المعادلات، واللوغاريتمات، والرسوم البيانية،
والأشكال الهندسية؛ في شرح أفكاره الخاصة بالتحليل النفسي، بَيد أن
المكانة العلمية لهذه المداخلات النقدية ليست واضحة في جميع
الأحوال؛ إذ إن لاكان، فيما يبدو، لا يشير إلى مرآة حقيقية، بل إلى
عملية عامة للتعرف على الذات [أي إدراك المرء لذاته]، وهو ما لا
يمكن تعضيده «ببيانات موضوعية» (١٩٧٧م أ: ٥)، وهو يستعمل الرياضيات
بصفة أساسية باعتبارها صورًا مجازية لا براهين تجريبية.
والأسلوب الرئيسي الذي يسلكه لاكان في طعنه في الأساس الإكلينيكي
للتحليل النفسي هو إعادة توكيد أهمية فكرة فرويد عن انقسام الذات
المفردة انقسامًا جوهريًّا، في غضون مواجهتها للصراع الدائب بين
العناصر المتنافسة في النفس البشرية التي تتكون في فترة الطفولة
المبكرة، وتدفعها دوافع متناقضة نحو الإشباع الجنسي والموت. ويضمر
لاكان عداءً شديدًا لمجال سيكلوجية الأنا (ego
psychology)، وهو تطبيق لعمل فرويد الذي
يتناول تكيُّف الفرد مع البيئة؛ إذ يراه تحريفًا لتركة فرويد؛ لأنه
يوحي بوجود ذات ثابتة، ووجود «أنا»
(ego) يستطيع الفرد أن يعرفها
ويسيطر عليها. ويقول لاكان إننا إذا تجاهلنا «وجود النفس خارج
مركزها بصورة جذرية» فسوف نجعل التحليل النفسي «عملية تصالحية
وحسب، وهو ما أصبح عليه في الواقع، أي ما ينبذه عمل فرويد نصًّا
وروحًا» (١٩٧٧م أ: ١٧١).
ويطعن لاكان، مثلما يطعن دريدا، في الفكرة القائمة على المنطق
الشائع التي تقول إن اللغة وسيط محايد نستخدمه في توصيل هوياتنا
الفردية وعلاقتنا بالعالم. ففي الصورة التقليدية لعملية التحليل
النفسي، يتصالح المريض مع رغباته اللاواعية، ويصبح ذاتًا «متكاملة»
من خلال اكتساب المعرفة الذاتية، ولكن لاكان يلفت أنظارنا إلى
البناء السردي لما يُسمى «العلاج بالكلام»، أي إلى الطريقة التي
يؤدي بها فعل التحليل النفسي إلى خلق فجوة «بين نوعين من «الأنا»؛
الأولى خاصة بذات المريض [الخاضع للعلاج]، وهي في حالة المفعول به
(moi)، والثانية خاصة بكلامه، وهي
في حالة الفاعل (je)» (١٩٧٧م أ: ٩٠)، وبتعبير
آخر بين الذات التي تتكلم والذات التي هي موضوع الكلام. وبصفة أعم،
يرى لاكان أن الذات المفردة تنقسم بفعل دخولها عالم اللغة؛ لأن ما
يسميه «النظام الرمزي» يقوم على المراتبية والانقسام، وهو ما يؤدي
إلى إحساس الذات بشعور لا علاج له بالغياب أو بالنقص. وهكذا فإن
لاكان يستبدل بالفكرة الفرويدية التي تقول إن السلوك البشري تدفعه
الحاجة إلى إشباع غرائز بشرية أساسية (مثل الجنس ونزعات الموت)؛
فكرةً عن الرغبة التي لا شكل لها ولا يمكن إشباعها، وهي التي
تُنقَل عبر وسيط اللغة حتى ولو لم تستطع اللغة احتواءها بصورة
كلية.
ومعنى هذا أن الموضوع التقليدي لدراسات التحليل النفسي، وهو
اللاوعي، لم يعد يُعتبر مجالًا خصوصيًّا داخل عقل كل فرد أو نفسه،
بل يُعتبر مجالًا «عبر فردي»
(transindividual) «لا يُتاح
للذات المفردة» (لاكان ١٩٧٧م أ: ٤٩). ويقول لاكان إن اللاوعي «ذو
بناء يشبه بناء اللغة»؛ لأنه يدخل حيز الوجود عندما يدخل الطفل
النظام الرمزي، وهو يعمل ويستخدم وسائط عمليات دلالية، أي «إن
شيئًا ما ينظم هذا المجال، ويحدد خطوط قوته المبدئية قبل أي خبرة،
وقبل أي استنباط من جانب الفرد … فالطبيعة توفِّر … دوالَّ معينة،
وهذه الدوالُّ تنظم العلاقات الإنسانية بأسلوب خلَّاق، وتقدم لها
الأبنية وتُشكِّلها» (لاكان ١٩٧٧م أ: ٢٠). وهكذا فإن اللاوعي لا
يمكن استشفاف وجوده إلا من خلال أشكال لغوية، فهو الفصل الذي منعت
الرقابة نشره من قصص حياتنا الشخصية، وهو الذي لا بد من إعادة
اكتشافه «ما دامت قد سبقت كتابته في مكان آخر»، في صورة ذكريات
الطفولة، وقصصها، وطقوسها، ومفرداتها الخصوصية (لاكان ١٩٧٧م أ:
٥٠). وكما تقول جولي طومسون كلاين
(Klein) نجد أن هذا الفهم
الجديد للَّاوعي يقدِّم بوضوح إمكانية الدراسة البينية؛ لأنه يبتعد
بالتحليل النفسي عما يدور داخل نفس الفرد، ويتوجه به إلى القضايا
الكبرى حول اللغة والنصوص والثقافة والذاتية (كلاين ١٩٩٦م:
١٥٨).
والملاحَظ أن التشكيك المذكور في المعرفة «العلمية»، على نحو ما
نجده في عمل دريدا، بتأكيد العلاقات المُركَّبة بين اللغة والهوية
والثقافة؛ يتسع نطاقه ليصبح انشغالًا بطبيعة المؤسسات الفكرية، إذ
يرى لاكان أن إحدى مشكلات التحليل النفسي تتمثل في أن طموحاتها
الإكلينيكية قد خلقت نظامًا معرفيًّا مراتبيًّا مغلقًا، وكما هو
الحال بالنسبة لجميع المباحث العلمية التي تُنشئ زَخَمها المؤسسي
الخاص، تجمَّدت إجراءات التحليل النفسي «وأفقدَتْها رتابةُ
الاستعمال حيويتَها»، «فاختُزلت في مجرد «وصفات»، وسَرقت من الخبرة
التحليلية كلَّ مكانة معرفية، بل وكل معيار للحقيقة الواقعة»
(لاكان ١٩٧٧م أ: ٣٣). ولقد رفض لاكان الخضوع لعدد كبير من قواعد
المهنة؛ فكانت جلسات التحليل النفسي عنده، على سبيل المثال،
متفاوتة الطول، وكانت في حالات كثيرة أقصر من الطول المعتمد، وهو
خمسون دقيقة، وهو ما أدى، إلى جانب قضايا أخرى، إلى استقالته في
١٩٥٣م من جمعية باريس للتحليل النفسي، وتشكيله منظمة منفصلة لم
يعترف بها الاتحاد الدولي للتحليل النفسي قط. وأهم ما في الأمر أن
لاكان ينتقد إنشاء مبحث علمي متخصص للتحليل النفسي؛ لأن ذلك يقوم
على الإيمان بوجود مصدر نهائي لا يقبل الشك فيه للمعرفة والسلطة، قائلًا:
ماذا تعني منظمة للمحللين النفسيين عندما تمنح شهادات
الكفاءة إلا أنها تشير إلى من ينبغي أن يتوجه إليهم كل من
يريد أن يمثل الموضوع الذي يُفترض أنه يعرفه؟ … ولكن
الواقع يقول: لا يستطيع محلل نفسي أن يمثل، ولو بصورة
طفيفة، جماع معرفة مطلقة. وهذا سبب قولنا، من زاوية معينة،
إنه إن وُجد شخص يمكن أن يتقدم المرء إليه بطلب ما، فلا
يمكن أن يكون إلا شخصًا واحدًا، وكان هذا الشخص الأوحد هو
فرويد أثناء حياته. وأنا أقول إن عمل فرويد، ومن ثم هيبته
النابعة من هذا العمل، قائمان فوق كل أفق من آفاق موقع
المحلل النفسي.
(لاكان ١٩٧٧م ب: ٢٣٢)
ويبدو أن لاكان يُشبِّه المبحث العلمي للتحليل النفسي الفرويدي
بجماعة دينية خاصة، يعبِّر شتى أعضائها عن ولائهم «للوالد المؤسس»
لها، بل إنه يُشبِّه معاملة «الاتحاد الدولي للتحليل النفسي» له
بالطرد من الكنيسة الكاثوليكية (١٩٧٧م ب: ٣-٤).
ويرى لاكان أن قيمة التحليل النفسي لا تكمن في طموحاته ليصبح
مبحثًا علميًّا، بل في كونه يشغل موقعًا وسطًا بين الفلسفة والعلم،
«على الحدود ما بين الحقيقة والمعرفة». وأما ما يعنيه بهذا التمييز
فهو، فيما يبدو، أن الحقيقة هي ما يُستبعَد من المعرفة حتى تتمكن
المعرفة من أن تصبح منظمة ومنضبطة، قائلًا: «الحقيقة في حالة إعادة
استيعاب دائم في جوها المقلق؛ إذ إنها لا تزيد في ذاتها عما
يُفتقَر إليه في تحقيق المعرفة … أي إن الحقيقة لا تزيد عما لا
تستطيع المعرفة أن تدرك أنه معرفة إلا بدعوة جهلها إلى العمل»
(لاكان ١٩٧٧م أ: ٢٩٦). وتُعتبر المعرفة العلمية، خصوصًا، ناقصة؛
لأنها تفترض أنها موضوعية ومستقلة، ولكن الواقع أن الناس دائمًا ما
يشاركون في أية معارف ينتجونها. فإذا تعلَّم علم النفس إدراك ذلك،
فسوف يمثل «إعادة دخول الحقيقة إلى ميدان العلم» وإعادة رسم «خريطة
الطب الإكلينيكي التي تشوِّه صورة الواقع» (لاكان ١٩٧٧م أ: ٢٩٧).
ومعنى هذا بعبارة أخرى أن التحليل النفسي حين ينجح في اكتساب
الطابع البيني الكامل، سيستطيع تقديم بحث نقدي منتظم لطموحات تشكيل
مبحث علمي حقيقي.
المذهب النِّسْوي والجسد
يجمع المذهب النسوي بين العناصر المتفرقة للنقد الأدبي والثقافي،
والعلوم الاجتماعية، والفلسفة، وعلم النفس، والتحليل النفسي، في
انشغاله بطرائق تمثيل المرأة، وطرائق تمثيلها لنفسها، ولقهرها
وتحريرها. ولكن النظرية النسوية، كما تقول ديان إلام
(Elam)، «ليست مجرد صفقة بينية
أخرى» (١٩٩٤م: ١٢)، بل إنها تدور حول الطعن في القيم والأولويات
القائمة في المباحث العلمية، لا مجرد تحقيق التكامل فيما بينها.
ويقوم انتقاد النظرية النسوية للمباحث العلمية، قبل كل شيء، على
الضيق الشديد بترتيبات السلطة في الجامعة باعتبارها مؤسسة، وبتخفيض
قيمة خبرة المرأة أو استبعادها، وكثيرًا ما تتجلى في عمل النظرية
النسوية هذه الثنائية العميقة لا إزاء المباحث العلمية وحسب، بل
أيضًا إزاء العمل الأكاديمي والكتابة عمومًا.
خرجت النظرية النسوية مما يُطلَق عليه «الموجة الثانية» للحركة
النسوية التي انطلقت في أواخر الستينيات، فتوسعت في مهمتها بحيث
تتجاوز تحقيق المساواة السياسية والاجتماعية ابتغاء النظر في
السياقات الثقافية والسيكلوجية للسلطة الأبوية. وإزاء هذا السياق،
كان من المحتوم أن تكون النصوص المؤسسة للنوع الجديد من المذهب
النسوي ذوات تركيز بيني. فكتاب سيمون دي بوفوار، وعنوانه الجنس
الثاني (١٩٤٩م)، على سبيل المثال، يتضمن الرجوع إلى نطاق واسع من
المباحث العلمية حتى يبين أن المرأة كيان تشكله الثقافة وتمثله؛
فالجزء الأول، وعنوانه «المصير»، يبحث في صور تغلغُل الأفكار
الأبوية في خطاب البيولوجيا، والتحليل النفسي الفرويدي،
والماركسية. وتقول دي بوفوار إن هذه الألوان من الخطاب تتخيل أن
الهويات الفردية تحددها طبيعة الجسد [التشريح]، أو القوى اللاواعية
أو الاقتصادية، وإن تكن في الحقيقة من ثمار العمليات الأوسع نطاقًا
للمجتمع والثقافة:
الفرد لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة. لا يوجد قدر
بيولوجي أو سيكلوجي أو اقتصادي يحتِّم الشكل الذي تتخذه
أنثى الإنسان في المجتمع، بل إن الحضارة كلها هي التي تنتج
هذا المخلوق، الذي يشغل موقعًا وسطًا بين الذكر والخَصِي،
وهو الذي يوصف بأنه أنثوي.
(دي بوفوار [١٩٥٣م] ١٩٩٧م: ٢٩٧)
ويستعمل باقي الكتاب أنواعًا شتى من المصادر، مثل النصوص
الأدبية، والفنون البصرية، والوثائق التاريخية، والتراجم الشخصية،
وبعض الأشياء الشائعة في الحياة اليومية، مثل الوعي والملابس،
ليبين أن هوية المرأة تخلقها وتقيدها المواقف الاجتماعية، والصور
الثقافية. وكتاب دي بوفوار من ثَم بينيٌّ من زاويتين؛ فهو أولًا
يرجع إلى عدد من المباحث العلمية الراسخة حتى يثبت أوجُه قصورها في
معاملة خبرة المرأة، وهو ثانيًا يجمع بين مصادر منوعة من ميادين
مختلفة حتى يثبت مدى شيوع السلطة الأبوية، ومدى تغلغُلها. وتتخذ
بتي فريدان (Friedan) في كتابها
الكلاسيكي بعنوان التبجيل الضال للأنثى (The Feminine
Mystique) (١٩٦٣م) المدخلَ الثنائي
نفسه؛ إذ تطعن في «التوجُّه الوظيفي» للتحليل النفسي، وعلم
الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والعلوم السلوكية الأخرى، قائلة إن ما
تفترضه من طابع علمي يستند إلى إنكار الخبرة الحقيقية للمرأة، كما
يناقش الكتاب ضروبًا منوعة من النصوص، مثل استقصاءات الجنسين،
والمجلات النسائية، والإعلانات، والصور التمثيلية الخيالية «للبطلة
ربة البيت السعيدة»، ابتغاء الكشف عن سلطة «التبجيل الضال للأنثى»،
أي الإيمان بأن المرأة تحقق ذاتها إلى أقصى حد داخل الأسرة
والبيت.
ونلاحظ في عمل صاحبات النظريات النسوية الفرنسيات، مثل هيلين
سيكسو (Cixous)، ولوس إيريجاراي
(Iragaray)، وجوليا كريستيفا
(Kristeva)؛ أن هذه الشواغل
البينية المنوعة يتسع نطاقها فتشتبك اشتباكًا مثمرًا، وإن يكن
شائقًا بنظرية التحليل النفسي، وعلم اللغة (اللغويات) والتفكيك.
وتسعى المُنظِّرات المذكورات إلى الاستيلاء على التحليل النفسي
والتفكيك في وضع برنامج نسوي، يكفل أن يثبت هذا وذاك أن اللغة
والنظام الأبوي يبنيان المعنى من خلال المعارضات الثنائية المنظمة
تنظيمًا مراتبيًّا، مثل الفصل بين الذكر والأنثى، وبين الإيجابي
والسلبي. وإلى جانب تأكيد العلاقة بين اللغة والسلطة، فإن النظرية
النسوية الفرنسية تتصدى كذلك للخبرة النفسية والجسدية؛ إذ تنتفع
سيكسو، وإيريجاراي، وكريستيفا جميعًا بالتمييز الذي ينص عليه لاكان
بين ما يسميه «المتخيَّل»
(imaginary)، أي الفترة
السابقة للإحساس الأوديبي، والتي يُعتبر الطفل فيها جزءًا من الأم،
وبين «الرمزي» (the symbolic)، أي
الحالة اللاحقة للإحساس الأوديبي، والتي تسيطر عليها اللغة، وما
يُسمى «قانون الأب»، حتى يُثبتْن كيف تتعرض رغبة المرأة للكبت بفعل
الموقف الرمزي. وتدعو الناقدات الثلاث، بأساليب مختلفة، إلى نوع من
«الكتابة النابعة من الجسد»، وهي ذات الأصول الناشئة من الدوافع
السابقة لاكتساب اللغة وللحالة الأوديبية، والتي تحاول كسر الإقصاء
الأبوي لخبرة المرأة، من خلال أسلوب في الكتابة يتسم بالسيولة
والدلالات غير القاطعة، وهو الأسلوب المرتبط «بالأنوثة».
وتُتهم هذه الناقدات إما باعتناق الجوهرية الجسدية [التشريحية
anatomical]، وإما باعتناق
الجوهرية النفسية، ما دُمْن يَفترِضْن وجود جوهر أنثوي خاص
باعتباره مجال ما تسميه سيكسو «الكتابة الأنثوية»
(
écriture
feminine) (موي ١٩٨٥م: ١٢٦).
والأقرب للإنصاف أن نقول بوجود توتر أساسي في قلب هذا النوع من
النظريات، وهو الذي ينبع من رفضها الانحباسَ في مجال معرفي واحد.
فالنظرية النسوية تَدين للنظرات العميقة التي قدَّمها لاكان ودريدا
عن التكوين اللغوي للذات، كما أنها دائمًا ما تقاوم الانحباس في
مجال اللغة والوقوع في شَرَكها ومكانتها باعتبارها مجرد «نظرية»،
ومن ثم فهي تحاول الاشتباك مع خبرة المرأة الجسدية الفعلية؛ إذ إن
كريستيفا مثلًا تنتقد دريدا لأن مذهبه في علم الكتابة «لا يعمل
حسابًا للذات»، ولا يتضمن أية فكرة عن الذات الجسدية أو الاجتماعية
القائمة خارج اللغة (١٩٨٤م: ١٤٢). وترى كريستيفا وإيريجاراي أن
الذات نتاج لعمليات فسيولوجية ودلالية يرتبط بعضها بالبعض ارتباطًا
وثيقًا، وهو ما يقتضي الجمع بين بعض المجالات المعرفية، مثل
التحليل النفسي والأدب وعلم الاجتماع، وبين العلوم الطبيعية. وتقول
حجة إيريجاراي إن عددًا كبيرًا من المشكلات التي تعوق فهم حالة
المرأة تقوم على «العلاقة التي لم تُفحَص فحصًا كافيًا بين
البيولوجيا والثقافة» (١٩٩٣م: ٤٦)، كما تنتقد عدم إقامة حوار بين
الفلسفة والعلم، وهو ما يؤدي إلى فقر هذا وذاك معًا:
بصفتي فيلسوفة، يُهِمني التنظير لكل مجالات الواقع
والمعرفة، ولم يقع الانفصال بين الفلسفة والعلوم إلا منذ
فترة بالغة القِصَر في تاريخ الثقافة، وكان ذلك نتيجة
التخصص المنهجي، وهو الذي جعلهما بعيدتين عن متناول أي أحد
وكل أحد. والميول الفائقة التقنية للعلم الحديث تؤدي إلى
خلق صيغ يتزايد طابعها التركيبي، ويُعتقد أنها تتفق مع
ازدياد طابع الصدق للحقيقة. ومن عواقب ذلك أن أصبحت
الحقيقة تفلت من النظر فيها على ضوء الحكمة، بما في ذلك
حكمة أهل العلم أنفسهم.
(إيريجاراي ١٩٩٣م: ٨١)
ويتجلى هدف الجمع بين العلوم الطبيعية والإنسانيات بأوضح صورة في
انشغال النظرية النسوية بالجسد. ويُعتبر الاهتمام الحديث بالجسد في
الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وخاصة في النظرية النسوية، إلى حد
ما؛ محاولةً لهدم التقسيم التقليدي للمباحث العلمية، وهو الذي
سلَّم هذا المجال الدراسي إلى العلوم الطبيعية، خصوصًا إلى الطب
والبيولوجيا، تاركًا نواتج الذهن والنفس التي يُفترض استقلالها
لغير العلوم (non-sciences). وبصفة
خاصة تشير كريستيفا إلى المكانة الثنائية للجسد باعتبارها نتاجًا
للبيولوجيا وللغة والثقافة في فكرتها عما تطلق عليه مصطلح «كورا»
(chora) [أي: رابطة الغذاء مع
الأم]. وهي تستعير هذا المصطلح، في جانب من معناه، من كتاب أفلاطون
تيمايوس، حيث يستخدمه في الإشارة إلى حالة مائعة تقوم بدور الرابطة
بين النفس والجسم، وبين عالم الفكر وعالم الحواس، ولكنها أيضًا
تستعير المصطلح من اللفظ البيولوجي كوريون
(chorion)، وهو الغشاء الخارجي
للجنين في الطيور والزواحف والثديِيَّات، ويشكل صلة بين جسد الأم
وجسد الجنين. ويشكل «الكوريون» في معظم الثدييات شرايين دموية داخل
بطانة جدران رحم الأم (واسمها العلمي
endometrium)، ويشترك الكوريون
مع البطانة في تكوين المشيمة، وهي التي تمكِّن الأم من توفير
الغذاء وغيره للجنين.
وتستخدم كريستيفا مصطلح «كورا» للجمع بين هذه المعاني الفلسفية
والبيولوجية، إذ تُعرِّفه بأنه مساحة تشبه الرحم بين الأم والطفل،
وهي تسبق مرحلة اللغة، كما أنها مائعة، وتقع خارج النظام الرمزي
الأبوي، وتُعتبر النقطة التي يبدأ فيها الطفل فصل نفسه عن الأم
ويصبح ذاتًا مستقلة (كريستيفا ١٩٨٤م: ٢٥–٢٨). وتقول كريستيفا، بصفة
أعم، إن الحمل يمنح المرأة خبرة تهدم الحدود القائمة بين الذات
(self) والآخر، وتقوِّض
الأفكار التقليدية عن الهوية الفردية (١٩٨٦م: ٢٠٦). ويتضح من هذه
الحجج، كما يبين مايكل بين (Payne)
أن «كريستيفا حين تكتب عن الجسد فإنها، على العكس من لاكان ودريدا،
تجعله يوحي بأن له عظمًا ولحمًا وهورمونات» (١٩٩٣م: ١٦٨). كما تقول
في الوقت نفسه بوجود صلة وثيقة بين الفسيولوجيا وعلم النفس واللغة،
وهي التي لا يمكن فهمها داخل التقسيمات التقليدية للمباحث
العلمية.
ومن المشكلات الأخرى التي تكتنف الفصل التقليدي بين الجسد
والثقافة؛ أن الجسد كيان مادي بيولوجي، ومنتَج ثقافي نستطيع تغييره
باتباع نظام غذائي معين، مثلًا، أو بالاختراق أو الوشم أو بحقن
السليكون في الثدي، أو بجراحات التجميل. وتقول كريستيفا إن الطبيعة
المادية للجسد كثيرًا ما تتعرض للإنكار أو لتخفيض قيمتها في ثقافة
الحياة اليومية، وإن أحد أعراض ذلك أن تعريف المرأة يستند إلى
جسدها (من خلال الحيض والحمل على سبيل المثال) بأسلوب لا يتسم به
تعريف الرجل. وتقول حجتها إن المرأة التي تريد أن تشغل مكانًا في
النظام الرمزي، عليها أن تقمع طبيعتها المادية بوصفها بأنها غير
نظيفة، وهي تستخدم مصطلح «النبذ» أو «الطرح»
(abjection) في وصف أشياء، من
بينها تخلُّصُ الجسم من دم الحيض، والقيء، والفضلات، فالمنبوذ
(the abject) هو المستبعَد
«المطروح خارج نطاق كل ما هو ممكن، ومحتمل، ومقبول» (كريستيفا
١٩٨٢م: ١). وهكذا فإن عمل كريستيفا يلفت انتباهنا إلى مادية الجسد،
خصوصًا جسد الأنثى، مع القول أيضًا بأن الجسد، في حدود إحاطتنا به
وفهمه، ناتج من نواتج الثقافة والتمثيل يتميز بفقد طابعه المادي،
وسبيل إنتاجه «نبْذ» تلك الجوانب التي لا يمكن الكتابة عنها أو
تمثيلها.
الاتجاهات المِثلية في المباحث العلمية
النظرية المثلية (Queer theory)
[الميول الجنسية المثلية بشتى أشكالها] نظرية تغذو النظرية
النسوية، وتوسع نطاق شواغلها البينية، بتطوير اهتمام النظرية
النسوية بشفرات تحديد الجنسين واختلافاتهما، وتحويله إلى استطلاع
للبناء الثقافي للطابع الجنسي. والنص الذي استفادت هذه النظرية منه
فائدةً مثمرة إلى أقصى حد في هذا الصدد هو المجلد الأول من كتاب
ميشيل فوكوه «تاريخ الحياة الجنسية» (١٩٧٦م)، وهو الذي يفحص فيه
كيف تبني اللغة والثقافة أشكالًا «سائدة» من الحياة الجنسية،
وأشكالًا «منحرفة» منها (deviant).
ويقول فوكوه إن الحياة الجنسية أصبحت بارزة في العصر الحديث، وذلك
على وجه الدقة «لأن علاقات السلطة جعلتها هدفًا ممكنًا»، ولأن
«الانفجار الخطابي» حول الجنس [أي التفكير فيه والكلام عنه] في
القرون القليلة الماضية قد أدى إلى «إنتاج الحياة الجنسية في
ذاتها» (١٩٨١م: ٣٥، ١٧، ١٠٥). وهذه الفكرة التي تقول إن الحياة
الجنسية بناء ثقافي مرتبط بقضايا السلطة والمعرفة، وليس من
المعطيات الطبيعية؛ هي التي تجعل النظرية المثلية نظرية بينية. فلو
كانت النظرية تتعلق فقط بدراسة الميول الجنسية المثلية، وتمثيل
المثليين، والتمثيل الذاتي للمثليين، والطعن في قوانين العلاقات
بين الجنسين ومواقفهما، لكانت مذهبًا تخصصيًّا (a
specialism) ذا قضايا محددة بدرجة كبيرة، ولكن
النظرية المثلية تنهل من نظرية ما بعد البنيوية والتحليل النفسي
بحيث تجعل من بناء الجنسية المثلية إشكالية، باعتبارها مقولة
تأسيسية موحدة عن الهوية الفردية والجمعية، ومن ثم فهي تتعلق،
بصورة أوسع كثيرًا، بضروب الخطاب والمعارف التي تنظم الحياة
الجنسية برُمَّتها، وبالعمل الثقافي الذي يجري للرقابة على هذه
الحدود الجنسية أو هدمها.
ويعني هذا أيضًا أن النظرية المثلية، مثل الكثير من أشكال
«النظرية»، تتعلق بإنشاء مبحث علمي معرفي، وكيف يتحكم ذلك في فهمنا
للهويات والرغبات والأعراف الجنسية. ويقول فوكوه، مثلًا، إن
الجنسية المثلية أصبحت منذ أواخر القرن التاسع عشر فئة لها اسمها
المحدد أو نوعية محددة، بعد أن كان الحب المثلي من قبل مجرد نشاط
تمارسه أنواع متعددة من الناس. وكانت هذه التسمية الصريحة للمثلية
معترَفًا بها في اللوائح القانونية، وفي الخطاب الطبي والبيولوجي،
والطب النفسي، وهو ما اجتمع في المبحث العلمي الجديد المسمَّى «علم
الجنس» (sexology) (فوكوه ١٩٨١م:
٤٣)، الذي كان يسعى إلى تطبيق السلطة «الموضوعية» للعلوم الطبيعية
على ما كان بوضوح مشروعًا ثقافيًّا، ألا وهو الحظر القانوني
للمثلية الجنسية، واعتبارها شيطانية. وفي الوقت نفسه تقريبًا كان
التحليل النفسي الفرويدي يرصد جذور الحياة الجنسية في الاختلافات
البيولوجية، ويرى أن السلوك الجنسي القائم على الإنجاب والأسرة
النووية هو المعيار الطبيعي. وكثيرًا ما تعتبر النظرية المثلية أن
موضوع دراستها هذه المناهج التعليلية
(aetiological) للحياة الجنسية
— فعلم العلل بحث في الأسباب والأصول — من النظريات الأولى الخاصة
بعلم الجنس إلى المحاولات الحديثة لوضع المثلية الجنسية في إطار
«علمي»، وتعريفها تعريفًا «علميًّا».
وعلى سبيل المثال، زعم عالم أمريكي متخصص في طب الأعصاب في عام
١٩٩١م أنه وجد صلة بين الغدة النخامية في المخ
(hypothalamus) وبين المثلية
الجنسية، وفي عام ١٩٩٣م أُعلنَ عن اكتشاف حظِيَ بدعاية على نطاق
واسع، وهو اكتشاف «جينة مثلية» (gay
gene) مفترَضة، في طول الكروموزوم
X الذي يؤثر في التوجه الجنسي
للرجال (لوفاي Le Vay ١٩٩٤م؛ هامر
وكوبلاند ١٩٩٥م). وعلى الرغم من المناظرات المطوَّلة بين أصحاب
النظريات المثلية حول أهمية هذه الاكتشافات، فإن معظمهم كان يبدي
القلق إزاء استخدامها في وصف المثلية الجنسية بالمرض واعتبارها صفة
جوهرية، وتعريفها في إطار المباحث العلمية الراسخة فقط، مثل
البيولوجيا، أو علم الأعصاب، أو علوم الوراثة. وكما يقول «مايكل
وورنر» (Warner) إن الحاجة إلى
نظرية مثلية تنبع من أن «القضايا الخلافية حول الحياة الجنسية
تتضمن مشكلات لا تستطيع اقتناصَها اللغاتُ التي وُضعت لتسميتها»
(١٩٩٣م: ١٥).
ولكن أصحاب النظريات المثلية يميلون إلى الإشارة إلى الطبيعة
القلقة، المحاكية، الأدائية للهويات الجنسية، والطرق التي يؤدي بها
ارتداء ملابس الجنس الآخر، والمواقف المخنثة، والأجساد المتجاوزة
لجنس الفرد، والقراءات المثلية للنصوص «التقليدية»؛ إلى هدم
الأفكار الثنائية عن الذكر والأنثى، والمثلي والتقليدي. ومنذ عهد
قريب، حاولت جوديث بطلر (Butler)
صاحبة النظريات المثلية والنسوية، وربما كانت صاحبة أكبر تأثير في
النظرية المثلية؛ أن تطعن في الفكرة التقليدية عن الجسد باعتباره
العامل المتحكم في التوجه الجنسي آخر الأمر، إذ تسعى لتجاوز
الانقسام الجنسي/الاجتماعي، وهو الذي يَعتبِر الأول «طبيعيًّا»
والأخير بِناءً اجتماعيًّا، إذ ترى أنه يضع قيودًا على جانب كبير
من النقد النسوي والنظرية النسوية. وتقول بطلر: «من المحال الرجوع
إلى جسد لم يسبق تفسيرُه بمعانٍ ثقافية … بل سوف يتبين أن الجنسَ —
تعريفًا — نوعٌ اجتماعي في جميع الأحوال» (بطلر ١٩٩٠م: ٨). وهكذا
تحاول بطلر اتخاذ خطوة تشبه خطوة كريستيفا؛ إذ تنتقد محاولة العلوم
الطبيعية للحجْر على الجسد البيولوجي وعزله باعتباره مجالًا ذا
أهمية محايدة، وتعيده إلى مجال التحليل النصي والنظري.
ويهدف العمل البيني المادي الخاص بالإعادة المذكورة، وهو الذي
يقوم به ألان سينفيلد، صاحب نظرية الميول المثلية؛ إلى أن يبين كيف
تقتحم الأشكال المنشقَّة للحياة الجنسية، دائمًا، مجال الأشكال
السائدة، على الرغم من محاولات قمعها وإخراسها. ويهتم عمل سينفيلد،
بانتظام، بالدور الذي نهضت به المعادلة التاريخية بين الميول
المثلية الجنسية ومجال الفن والأدب والثقافة، وهو دور «السر
المعروف»، أي جعل «الحب المثلي» مقبولًا ما دام ظل مضمرًا، على
هامش المجتمع، وما دام لا يحاول الخروج على الحدود التي ترسمها
الثقافة (١٩٩٤م أ: ٦٤). وهو ينظر، على سبيل المثال، إلى أهمية
أوسكار وايلد، والأحداث التي أدت إلى حبسه عام ١٨٩٥م، بصفتها لحظة
حاسمة في خلق «صاحب الميول المثلية» باعتباره نمطًا اجتماعيًّا
محددًا، وبروز الحساسية المثلية في القرن العشرين القائمة على
أفكار «التخنيث» و«المخنث». وهو يرصد التاريخ الثقافي للرجل
المخنَّث من «العايق» أو «الغندور» في القرن السابع عشر إلى مَثيله
عند وايلد، قائلًا إن «الخنوثة» أو «الغندرة» لم تكن تُعتبر ميلًا
جنسيًّا مثليًّا حتى محاكمات أوسكار وايلد، بل كانت مفهومًا مثار
خلاف كبير؛ إذ أقامت رابطة بين البطالة البارزة، والانحلال،
والفساد الخلقي العام وبين الفن والطبقة الفارغة
[(leisure class)، وهو تعبير
ماكس فيبر (Weber)، ويرادفه عندنا
«الأيدي الناعمة» عند توفيق الحكيم]. وكان هذا التشكيل الثقافي
نتيجة إلى حد ما للانشقاق في الطبقة المتوسطة، وكان يحاكي القيم
الأرستوقراطية الجمالية محاكاة ساخرة، باعتبار ذلك نمطًا لتحدي
القيم الرجولية البورجوازية التي تعتنق شِرعة العمل، وبناء
الإمبراطورية، والتجارة (سينفيلد ١٩٩٤م ب: ٩٨).
وتمتزج الميول المثلية والصور التي تمثلها في حجة سينفيلد
امتزاجًا معقدًا بالقضايا الواسعة للحياة الجنسية، والذكورة،
والرأسمالية، والهوية القومية، بحيث تصبح محورية في التيار الرئيسي
للثقافة بدرجة تفوق استعداد هذا التيار للاعتراف به. وتبدأ النظرية
المثلية بالعمل في هوامش البحوث العلمية القائمة، باحثة عن طرائق
تفكير ربما تكون قد تجاهلتها أو خفضت قيمتها، ولكن إذا حدث يومًا
ما أن تدعمت طرائق التفكير المذكورة، فسوف نجد أنها تسللت إلى داخل
المجالات المعرفية الراسخة، وغيرت من فهمنا إياها. وهكذا يبين
أصحاب النظريات المثلية أن المحاولات التقليدية لتصنيف الحياة
الجنسية ورسم حدودها داخل بعض المباحث العلمية، مثل البيولوجيا
والطب النفسي، قد تتطلب إخضاعها للتحليل الثقافي الصارم، ولكنها
أيضًا تؤدي إلى توسيع نطاق التأثير البحثي المتخصص في النقد الأدبي
والثقافي بإثبات أن بعض النصوص القائمة على العلاقة «المعتادة» بين
الجنسين، يمكن انفتاحها على تفسيرات تقوم على مفاهيم تاريخية،
ومستمدة من علم الاجتماع والتحليل النفسي للميول الجنسية
المثلية.
النظرية باعتبارها «ميتامبحث» علمي
بدأت هذا الفصل بحجة تقول إن الأفكار البالغة الاختلاف التي
جُمعت معًا بصفتها «نظرية» تستند إلى أساس مشترك، هو الجهود
المبذولة للطعن في الأولويات والفرضيات ومناحي القصور في المباحث
العلمية التقليدية. ولكنني أرى، على نحو ما أقول به في مناقشتي
للدراسات الثقافية في الفصل السابق، أن إنشاء مبحث علمي مستقل أمر
محتوم بصورة ما، فالحركات البينية تميل إلى اكتساب الخصائص
المؤسسية والفكرية للمباحث العلمية في غضون الاعتراف بها وتقبلها.
ومن المشكلات الخاصة «للنظرية» في هذا السياق هي أنها أحيانًا ما
تتصف بصعوبة رهيبة وتعقيد شديد، ومعنى ذلك أنها قد تبدو للمبتدئين
مُثقَلة بمصطلحات الحرفة، ومتسمة بالخصوصية كأي مبحث علمي
مستقل.
ويشير إلى ذلك ستانلي فيش (Fish)
في مقال عنوانه «ممارسة البينية أمر بالغ الصعوبة»، قائلًا إن
التطورات البينية في الدراسات الأدبية، مثل التفكيك وما بعد
البنيوية والنظرية النسوية، لم تنجح إلا في خلق «ميتامباحث» [أي:
مباحث في المباحث]، ولكل منها شفراته الخاصة، وممارساته المنغلقة
على نفسها (فيش ١٩٩٤م). وهو يتوسع في أعماله اللاحقة، ويطور هذه
الحجة ويجعلها تتضمن أشكالًا أخرى من البينية؛ إذ يقول فيش إن
البينية مستحيلة لأن المباحث العلمية لا يتسق بعضها مع بعض، فهي
تنهض بأنشطة مختلفة إلى الحد الذي يجعل أية محاولة للجمع بينها
تؤدي إلى تطفل أحدها على غيره، والانتفاع بمكانته ومصطلحاته، أو
استيلاء غيره عليه استيلاءً كاملًا (١٩٩٥م: ٨٣). ويقول إن تشويش
الحدود القائمة بين المباحث العلمية يؤدي وحسب إلى وضع مراتبيات
وأقسام جديدة، لا تختلف عما سبقها إلا في أنها لا تُدرَك أو تقدِّم
أنفسها بهذه الصورة (فيش ١٩٩٤م: ٢٣٧). ويرد فيش على هذا التهديد
الذي تمثله البينية بالرجوع إلى الإيمان البراجماطي بالكفاءة
التخصصية لمبحث علمي واضح يحمل اسمًا متواضعًا، هو الدراسات
الأدبية، والإيمان بأهمية «قدرتنا على المشاركة في عمل لا يستطيع
غيرنا أن يطالب مطالبة مقبولة بامتلاكه» (١٩٩٦م: ١٦٢). وتقول حجته
إننا نحتاج إلى الحفاظ على الحدود القائمة بين الدراسات الأدبية
والمباحث العلمية الأخرى باسم السياسة المؤسسية والهوية الذاتية
الآمنة؛ لأننا «إذا حُرِمنا الحقيقة الاجتماعية القوية الخاصة
بتنظيم المباحث العلمية، فلن يصبح لدينا ما نقوله» (فيش ١٩٩٦م:
١٦٥).
ويقبل فيش الحجة التي يشترك فيها عدد كبير من المواقف النظرية
التي حللناها آنفًا، والتي تقول إن أيَّ مبحث علمي بناءٌ اجتماعي،
«حقيبة شاملة لعناصر متباينة، لا يجمع بينها غير معادل فكري للحاجز
السلكي المُقام حول حظيرة الدجاج» (١٩٩٥م: ٧٤). وهو متأثر بأعمال
دريدا في قوله إن جميع الأشياء والظواهر ترتبط ارتباطًا وثيقًا
باللغة والخطاب، وإن المباحث العلمية مبانٍ بلاغية لا تتمتع بهويات
منفصلة إلا من خلال علاقتها التفاضلية مع المباحث الأخرى، وبعبارة
أخرى، يقول إنها تُعرَّف بما لا تتصف به (فيش ١٩٩٥م: ١٦). ولكن عدم
وجود كيان مستقر يُسمى الدراسات الأدبية، ويتمتع بالاستقلال عن
عملياته الدائرة التي تثبت صحته ذاتيًّا، لا يعني أن علينا أن
نتخلى عنها، بل العكس هو الصحيح، أي إن كونها ذلك النشاطَ المؤقت
الذاتي التوليد هو السبب الذي يجعلنا في حاجة إلى الحفاظ عليها.
وإذا كانت التقسيمات الأكاديمية للمعرفة تنشئ حدودًا طبيعية، فسوف
تواصل البقاء بغضِّ النظر عن قوة الْتزامنا بها، ولكن الواقع يقول
إن مبحثًا علميًّا مثل الدراسات الأدبية «يحيا ويموت وفق الحماس
الذي نسأل به أسئلته، ونحرص على الإجابات» (فيش ١٩٩٥م: ٧٠). ولنا
أن نقول من زاوية معينة، إن فيش يستخدم النظرية لمعارضة النظرية،
مدافعًا عن شكل متطرف من أشكال التركيبية اللغوية، وهو ما يعني أن
محاولاتنا للتأمل النقدي في طبيعة المباحث العلمية سوف تنتهي
دائمًا إلى احتواء هذه المباحث لها، لسبب بسيط، وهو أننا لا نستطيع
أن نفكر أو نتصرف خارج أُطر نصية.
وهذه القضايا جديرة بالذكر؛ لأنها تذكِّرنا باستحالة تفادي
تحوُّل أي منهج فكري إلى مبحث علمي إلى حد ما، وأن نجاح النظرية،
باعتبارها ميدانًا طموحًا يتمتع بصيتٍ داوٍ والقدرة على التحدي
الفكري، يجعلها ملائمة بصفة خاصة لتشكيل مبحث علمي يلم شملها.
والمشكلة في حجة فيش أنه لا يقدم تبريرًا فكريًّا حقيقيًّا للإبقاء
على وجوه الفصل التقليدية بين المباحث، باستثناء القول بأنها لازمة
لتبرير ما دأب النقاد الأدبيون على فعله دائمًا، وأنهم إن طعنوا في
صحته فسوف ينهار البناء المتأرجح لمبحثهم العلمي كله انهيارًا
شاملًا، وهو ما يَستبعد، فيما يبدو، إمكانية وجود أي نوع من الوعي
الذاتي النقدي فيما يتعلق بالمباحث العلمية الراسخة، ولكني أرجو أن
أكون قد بيَّنتُ في هذا الفصل أن هذه المداخلات النظرية المنوعة
تنشأ من اشتباك حقيقي مع ما تتجاهله هذه المباحث العلمية أو
تُقصيه. ولا شك أن ذلك سيزيد من صعوبة وضع حدود لأشكال النشاط
الفكري التقليدي وتبريرها، وأما من زاوية «النظرية»، فإن تساؤلنا
الذاتي عما نفعله أفضل من مواصلة فعل ما دأبنا دوامًا على فعله إما
لدواعٍ مؤسسية عملية، وإما بسبب القصور الذاتي فكريًّا.