النصوص في التاريخ
ترتبط الدراسات الأدبية بالتاريخ، منذ اعتبارهما مباحث أكاديمية، بعلاقة وثيقة وإن تكن إشكالية؛ إذ كان الموضوعان، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، أحيانًا ما يُدرَّسان معًا في الدرجات الجامعية الأولى في الكليات المتمردة في القرن التاسع عشر، وتطورا باعتبارهما موضوعات أكاديمية ناضجة في ذلك الوقت نفسه تقريبًا. وكل مبحث من هذين يتضمن عناصر من الآخر، فكثيرًا ما تستعين الدراسات الأدبية بالمادة التاريخية، في حين أننا نستطيع أن نقول إن كل شيء له تاريخ، حتى الأدب. ولكن الصلات الواضحة بين الموضوعين لم تكن تشجع التعاون بينهما في جميع الأحوال، بل كثيرًا ما أدت إلى زيادة الميول الاستقلالية، ما دام كل موضوع يحاول تدعيم انفصاله وتفرده، وقد يكون من المفيد أن نقدم تاريخًا مختصرًا للمحاولات المبذولة داخل كل مبحث لفصل مجاله عن مجال الآخر قبل أن ننظر في الجهود البينية الحديثة الرامية للعمل عبر هذه التقسيمات.
الأدب والتاريخ
ويقدم «رينيه ويليك» و«أوستن وورين» تبريرًا نظريًّا لهذه الفكرة المستقلة عن التاريخ الأدبي في كتابهما نظرية الأدب، فهما ينتقدان مَيل المؤرخين الأدبيين إلى الاستيلاء بلا تساؤل على تقسيمات المؤرخين، قائلَين «إن الفترات المقبولة للأدب الإنجليزي خليط لا يمكن الدفاع عنه من العناوين السياسية والأدبية والفنية» («ويليك» و«وورين» ١٩٤٩م: ٢٧٧)، ويستمدان من هذه الميادين المنفصلة تاريخًا جامعًا (الإصلاح الديني في أوروبا)، وتاريخ الفن (في عصر النهضة الأوروبية)، والتاريخ السياسي (عودة الملكية في إنجلترا). وتومئ هذه الحجة إلى مذهب تاريخي يقبل القول بأن الفترات الأدبية «تركيب» في جميع الأحوال، فكثيرًا ما تُخترع بعد وقوع الحدث، وتتسم بمعنًى استرجاعي لا يشارك فيه من كانوا يعيشون ويكتبون في ذلك الوقت. ولكنَّ حلَّ «ويليك» و«وورين» لهذه المشكلة هو فصل مسار التاريخ الأدبي عن مسار التاريخ بمعناه المعتاد؛ إذ تقول حجتهما إن «النص على الفترة الأدبية ينبغي أن يقوم على معايير أدبية خالصة» باعتباره «قسمًا فرعيًّا من التطور العام العالمي» (١٩٤٩م: ٢٧٧). وعلى غرار فكرة التقاليد الأدبية العضوية التي قدَّمها ليفيز وإليوت، تقول حجة «ويليك» و«وورين» إننا ينبغي أن نفهم الأدب «في صورة نظام كامل من الأعمال، وإن إضافة أعمال جديدة تغيِّر باستمرار من علاقاتها؛ إذ تنمو باعتبارها كلًّا متغيرًا» («ويليك» و«وورين» ١٩٤٩م: ٢٦٦-٢٦٧).
ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينشأ هذا التصور للتاريخ الأدبي في الوقت الذي كان النقد الجديد والحركات النقدية المعاصرة تحاول وضع حدود واضحة لهذا المبحث العلمي؛ إذ يرى «ويليك» و«وورين» أن التاريخ مجرد «خلفية» أو «سياق» يغذو العمل الأدبي من دون أن يتدخل في المسار الزمني للتطور الأدبي. وقد أثبت هذا النموذجُ المغلق للتاريخ الأدبي، الذي يحافظ على القول بأن النص الأدبي هو الموضوع الأول للدراسة داخل المبحث، قدرتَه على الصمود والثبات على مر السنين، فإن هارولد بلوم مثلًا يقدم صورة جديدة له من خلال نظريته عن «قلق التأثير»، إذ يقول بلوم إن المؤلفين يخوضون نوعًا من النضال النفسي مع عظام المؤلفين في الأجيال السابقة، محاولين إما «استكمال» ما كتبوه، وإما إساءة فهمه إبداعيًّا، وإما تخليص أنفسهم، دون نجاح، من تأثير عمل أسلافهم. وإذا كان بلوم يعيد صوغ النظرية بالإشارة إلى عقدة أوديب والصراعات المترتبة عليها التي حددها التحليل النفسي عند فرويد، و«إرادة السلطة» عند نيتشه، فإنه يستبقي أساسًا فكرة تطور التقاليد الأدبية بصورة مستقلة عن العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية المؤثرة في ذلك التطور (بلوم ١٩٧٥م).
هل الموضوع ملائم للتعليم؟ هل هو تدريب للذهن؟ أليس من الأفضل أن يُترك حتى يكتمل التعليم؟ ألا يُعتبر جذابًا بما يكفي لضمان الاهتمام الطوعي به؟ هل يُعتبر موضوعًا مناسبًا للامتحان؟ … ألن يحل محل الموضوعات التي تتطلب انضباطًا أدق؟
ومع ذلك فإن هذه الأهداف الإنسانية كانت توجد جنبًا إلى جنب مع محاولة اعتبار التاريخ نشاطًا علميًّا، وأحيانًا ما كانت تتعارض معها، بتوفير منهجية ومبررات واضحة لها، وتضييق تركيزها ليقتصر على بعض المواد دون غيرها. وإلى رانكه يرجع الفضل — إلى حد كبير — في غرس سلطة هذا المدخل العلمي الجديد إلى التاريخ، والتمييز بينه بوضوح وبين المذهب الإنساني السائد آنذاك، وهو الفلسفة. وكان رانكه يرى أن التاريخ يؤكد ضرورة توافر الأدلة التي تثبت كل قول، من الأرشيف [المحفوظات] وغير ذلك من المصادر الأولية، والتحليل الدقيق لهذه المصادر، والتقديم الصارم للحقائق. ولكنه في الدعوة لهذا المدخل الجديد، كان في الواقع ينحِّي بعض الغايات العامة للتاريخ، في سبيل إقرار الطموحات المتواضعة للمبحث العلمي، قائلًا: «لقد خصصنا للتاريخ مهمة الحكم على الماضي، وتعليم الحاضر لفائدة العصور المقبلة. ولكن هذا العمل لا يطمح إلى أمثال تلك المهام الرفيعة، فهو لا يريد إلا أن يعرف ما حدث في الواقع» (مارويك ١٩٧٠م: ٣٥).
التاريخ علم، لا أقل ولا أكثر … ليس التاريخ فرعًا من فروع الأدب. وتستطيع حقائق التاريخ، مثل حقائق الجيولوجيا وعلم الفلك، تقديم مادة لفن الأدب … ولكن إلباس قصة المجتمع البشري ثوبًا أدبيًّا لا يُعتبر جانبًا من جوانب عمل المؤرخ باعتباره مؤرخًا، أكثر من قيام عالم الفلك بتقديم قصة النجوم في شكل فني.
ولا تزال هذه الخلافات تجمع بين المتانة والمرونة داخل المبحث العلمي، بل إن المناظرات الجارية الحامية الوطيس حول الاتجاه «بعد الحداثي»، أو التحول إلى اللغة في التاريخ — وهي التي تُعتبر في جوهرها نقدًا لمزاعم وصف التاريخ بالموضوعية العلمية، وذلك بتوكيد أنه لا يستطيع التعامل إلا مع النصوص والحكايات لا مع «الواقع» — يمكن اعتبارها استمرارًا للخلافات التي شغلت المبحث العلمي منذ نشأته (جينكينز ١٩٩٧م). ومع ذلك فإنه من الصحيح أن التاريخ قد زاد اكتسابه في السنوات الأخيرة للمذهب الانعكاسي [أي تداخل ذات المؤرخ فيما يرويه] فيما يتعلق بمبرراته النظرية وممارساته الخاصة. ومن الأرجح أن المؤرخين لا يؤمنون اليوم بأن الحقائق «تتحدث عن نفسها» وحسب، ويعتقدون أن عملهم يتضمن مهارات أدبية ونقدية في التفسير النصي والبحث العلمي.
ويتضح من هذه المناقشة أن مكانة التاريخ باعتباره أدبًا، وعلاقته «بالحقيقة» التاريخية، كانا ولا يزالان يمثِّلان إشكالية معينة. أضف إلى ذلك أن محاولة رسم حدود واضحة حول المبحث المذكور بتوكيد الطبيعة المتميزة لمصادره، وهو ما يشبه إلى حد ما التوكيد المُقيِّد للأعمال المعتمدة في الدراسات الأدبية؛ تتعرض للطعن المتزايد في صحتها. والحق أن المرء يستطيع أن يرى أن عددًا كبيرًا من المناظرات داخل المبحث العلمي للتاريخ حول نطاقه، واختصاصاته، وتماسكه الداخلي، يشبه المناظرات الجارية داخل الدراسات الأدبية. وهكذا فإن المداخل البينية التي تحاول الطعن في الحدود الفاصلة بين هذين المبحثين العلميين كثيرًا ما كانت تستند إلى هذه الخلافات التي طال أمدها.
الماركسية والثقافة
تُعتبر الماركسية من أشد الأُطر تأثيرًا في التفكير حول العلاقة بين الأدب والتاريخ، فالماركسية نظام فكري بيني بالضرورة من حيث إيمانه بأن العمليات التاريخية تشكل إنتاج الفن والثقافة والأفكار، فالماركسية تؤكد أولًا، وقبل كل شيء، ترابط الأفكار بالأشكال المادية، وتقول إن الروابط المذكورة تتغير باستمرار بسبب التطور الجدلي للمجتمع والثقافة، وهو الذي ينشئ تناقضاتهما الداخلية، ويحلها آخر الأمر. وكان الفلاسفة الماركسيون في القرن العشرين يبدون اهتمامًا متزايدًا بالطرائق التي تُنقل بها التطورات التاريخية بوسائط من نصوص أدبية وثقافية، وكيف تتحول أشكالها وتفصح عن نفسها فيها. وكان هذا التحول إلى الثقافة نتيجة، من جانب معين، لسلسلة من حالات خيبة الأمل التاريخية. وهي التي كانت تعني أن اندلاع ثورة سياسية واقتصادية لم يعد يبدو وشيكًا، وكانت الحالات المذكورة تتضمن نشأة المذهب الستاليني الشمولي في الاتحاد السوفييتي، والطبيعة المضادة للديموقراطية في نُظم الحكم الشيوعية الأخرى في شتى أرجاء العالم، ونجاح الاقتصادات الرأسمالية في البقاء وما تُظهِره من متانة ومرونة.
تقول الماركسية الكلاسيكية إن القوى التاريخية للرأسمالية ذات تأثير قاطع في الأدب والفن والثقافة. ويقول ماركس في تصدير كتابه مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (١٨٥٩م) إن «البناء الفوقي» للمجتمع، وهو الذي يتكون من مؤسساته القانونية والسياسية، ومن الأشكال الثقافية والفكرية فيه، تحدده البنية التحتية، أو «القاعدة» الاقتصادية، تحديدًا كاملًا، وإن هذه البنية نفسها نتيجة للنموذج التاريخي للإنتاج (مثل الإقطاع أو الرأسمالية). وأثناء تطور النقد الثقافي الماركسي على امتداد القرن العشرين، نجد أنه ابتعد تدريجيًّا عن هذا النموذج الهرمي «من القمة إلى القاعدة»، وأنه ذو طابع اختزالي، لكنه وُوجِه بمشكلة تحديد العلاقة على وجه الدقة بين التغير التاريخي وبين الأشكال الثقافية، كما جعل يناقش الماركسية أيضًا باعتبارها معرفة، فهل هي مبحث علمي يتمتع بمعاييره الداخلية اللازمة لإنشاء أشكال الحقيقة الخاصة؟ وهل هي صورة للمعرفة البينية، التي يمكن استعمالها للجمع بين المباحث العلمية القائمة واستخلاص معناها؟ أم تُراه مجرد نظام معرفي من بين نُظم معرفية كثيرة؟ وأودُّ أن أستكشف بعض هذه القضايا فيما يتعلق بثلاثة من أصحاب النظريات الرئيسية — ثيودور أدورنو، ولويس ألتوسير، وفريدريك جيمسون — لأنهم يبدون اهتمامًا خاصًّا بالصلة بين الثقافة والتاريخ، والعلاقة بين الماركسية وبين المعرفة في المباحث العلمية.
كانت البحوث التي أجرتها مدرسة فرانكفورت — وهي التي ظهرت أول الأمر في معهد البحوث الاجتماعية في تلك المدينة في أواخر العشرينيات، والتي ضمت نقادًا مثل أدورنو، وماكس هوركهايمر، وهربرت ماركوزه — بحوثًا بينية بصفة خاصة، وكانت تهدف إلى وضع «نظرية نقدية» تتولى الربط بين الفلسفة وبين بعض العلوم الاجتماعية الجديدة، وهو ما يتمشَّى مع دعوة ماركس للفلاسفة إلى الجمع بين عملهم وبين النقد الاجتماعي السياسي. ولكنَّ أدورنو وزملاءه رفضوا الماركسية التقليدية؛ لأنها تتضمن تبسيطًا مُخلًّا يؤدي إلى عجزها عن شرح الأنشطة في المجتمعات الرأسمالية المعقدة، ولم يكن لديهم أمل يُذكَر في قيام البروليتاريا [الطبقة العاملة] بالثورة، مؤمنين بأن هذه الطبقات قد فقدت القدرة على التغيير الثوري بسبب اندماجها الكامل في المجتمع الرأسمالي الجماهيري. أما مهمة النظرية النقدية فكانت شرح السبب الذي حال دون حدوث الثورة، وكانت إجابتها تقول إن الرأسمالية قد أحكمت قبضتها الأيديولوجية على المستضعَفين.
سوف تتحسن الموسيقى إذا استطاعت التعبير بعمق أكبر — في ضروب التضاد في داخل لغتها الخاصة — عن الحاجة الماسة للحالة الاجتماعية، وعن الدعوة للتغيير من خلال اللغة المشفرة للمعاناة. لا ينبغي للموسيقى أن تحدق برعب عاجز في المجتمع، فهي تؤدي، بدقة أكبر، وظيفة اجتماعية حين تقدم المشكلات الاجتماعية من خلال مادتها الخاصة، ووفقًا لقوانينها الشكلية الخاصة.
ويُتهَم عمل أدورنو بالنخبوية؛ إذ يَفترِض أن أنماطًا معينة من الثقافة تستطيع دون غيرها الفرار من الاستراتيجيات الرقابية الخاصة بالمجتمع الرأسمالي، ولكن مزيَّة عمله من منظور بينيٍّ أنه يقول بأن هذه الأشكال الثقافية ليست مجرد تنفيذ سلبي لعمليات تاريخية، بل إنها تستطيع إجراء تأمل نقدي لطابعها التاريخي الخاص، وأن تتفاعل معه، ولو في صورة أخرى.
لا يسعى عمل أدورنو إلى ترسيخ الماركسية باعتبارها مبحثًا علميًّا أو «ميتامبحث»، بل يقدم تأملًا نقديًّا في الأحوال التاريخية الطارئة، والإنتاج الاجتماعي لأشكال مختلفة من «الحقيقة»، قائلًا «إن طبقة المثقفين التي تتظاهر بحرية تنقلاتها ذات جذور أساسية في الكيان الذي لا بد من تغييره، والذي تزعم أنها تنتقده وحسب» (أدورنو ١٩٨١م: ٤٨). وفي كتاب جدلية التنوير (١٩٤٧م) ينتقد أدورنو وهوركهايمر الفكرة التي تقول إن المعرفة، والعلم بوجه خاص، يستطيع بصورة ما الخروج على موضوع بحثه. ويقولان إن التنوير ظهر باعتباره مشروعًا منفتح الذهن، قادرًا على النقد الذاتي، ولكن هذين المبدأين تبخَّرا عندما ازداد طابع التنوير المذهبي والدوجماطيقي، وأصبح يزعم سيطرته على الذهن والجسم والعالم الطبيعي (أدورنو وهوركهايمر [١٩٧٢م] ١٩٩٧م: ٣–٦). وعلى عكس القول «بتماهي التفكير» [أي: القول بأن له هوية واحدة] الذي نشأ في مجتمع ما بعد التنوير، وتجانُس الظواهر المتفرقة في العالم، نجد أن عمل أدورنو يؤكد تعدد طبيعة الفكر؛ إذ يهدف إلى الجمع بين النقد «المتعالي» للماركسية، الذي يسعى إلى الجمع بين المنظور المتميز لقوى الرأسمالية الاجتماعية والسياسية الهائلة، وبين شكل من أشكال النقد «الحلولي»، أي الذي يفهم الأفكار والظواهر من داخلها. ويتراوح موقف أدورنو بين نظرية نقدية تحلل صور الظلم النابعة من الرأسمالية، وبين نظرية نقد ذاتي تدرك أنه من المحال أن يفلت أي منهج فكري من توثين العقل والعقلانية في المجتمع الرأسمالي.
وهكذا فإن المادية التاريخية تحاول تطهير التاريخ من الأفكار القائمة على المركزية البشرية والغائية، والتي تصوِّره في صورة شيء له أصول أُولى، ونسق مرسوم، وهدف نهائي يحدده الفعل البشرى، أما ألتوسير فيرى أن التاريخ «عملية بلا موضوع»، على نحو ما تُعتبر المعرفة العلمية «نتيجة تاريخية لعملية ليس لها موضوع أو أهداف حقيقية» (١٩٧٦م: ٥٦). ويمكننا تشبيه محاولة ألتوسير إدراك المغزى الحقيقي لعمل ماركس؛ بمحاولة لاكان «العودة إلى فرويد»، ولكن إذا كان لاكان يطعن في الطموحات العملية للتحليل النفسي، فإن ألتوسير يعيد تشكيل الماركسية باعتبارها علمًا موضوعيًّا صلبًا. وتقول حجته إن أهمية الماركسية للإنسانيات والعلوم الاجتماعية تكمن في أنها «تفتح» أمام المعرفة العلمية «المكان» الذي تعمل فيه، «والذي لم تُنتِج فيه حتى الآن إلا عددًا ضئيلًا من المعارف المبدئية … أو عناصر أو مكونات قليلة للمعرفة … أو بعض الأوهام وحسب، وهي التي يُطلَق عليها اسم غير مشروع، هو المعارف» (ألتوسير ١٩٧١م: ٧٢). وهكذا فيمكن اعتبار النهج البيني عند ألتوسير حجة لصالح سيادة العلوم؛ إذ إنها تقوم على وضع شكل شامل فائق للمعرفة، ألا وهو علم المادية التاريخية، وهي التي سوف تقدر على استعمار «اللاعلوم»، والوصول بها إلى النضج العلمي.
أي إن الممارسة النظرية معيار [النظرية الماركسية] الخاص فعلًا … وتتضمن في ذاتها مناهج محددة تستطيع بها إثبات صحة نواتجها … وهذا على وجه الدقة ما يحدث في الممارسة الواقعية للعلوم، فما إن تتشكل وتنمو حقًّا حتى تنتفي الحاجة إلى إثبات صحتها استنادًا إلى ممارسات خارجية تعلن أن المعارف التي تنتجها حقيقية، أي أنها معارف؛ إذ لا ينتظر عالم رياضيات (مهما يكن) من الفيزياء أن تعلن صحة إحدى البديهيات قبل أن يعلن هو صحتها، فصحة البديهية توفره معايير داخلية خالصة في ممارسة البراهين الرياضية … ولنا أن نقول الشيء نفسه عن نتائج كل علم.
الواقع أن هذه فكرة نوعية من علم الرياضيات، فهو مجال معرفي يتقدم من خلال اختزال العلاقات المكانية والعددية في معادلات تجريدية، لا بوضع الفرضيات واختبارها بالملاحظة التجريبية. فمفاهيم الرياضيات مثل الجبر، والتفاضل والتكامل، واللوغاريتمات؛ أبنية إنسانية تظل صحيحة وفقًا للشروط التي وضعتها لنفسها. وعلى عكس ذلك نرى أن العلوم الطبيعية، مثل الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء، تعتمد بوضوح على براهين خارجية من العالم الطبيعي أساسًا لمكتشفاتها العلمية.
ولقد هاجم عدد كبير من المؤرخين محاولة ألتوسير لفصل النظرية عن الممارسة، وإنكار حقيقة التاريخ إلا في حالة تأييده لعلم ماركسي من نوع ما، وربما لا نجد في هذا ما يدعو للدهشة ما دام ألتوسير يطعن في مبرر الوجود كله لمبحثهم العلمي، إذ يهاجم أ. ب. طومسون موقف ألتوسير متهمًا إياه بالاستيلاء على فكرة «النظرية» من الرياضيات أو من الفلسفة التحليلية، قائلًا إن عمل ألتوسير يشبه المجالات المعرفية المذكورة في أنه «يؤكد ذاته تمامًا، ما دام يدور في حلقة لا تتعلق وحسب بإشكاليته الخاصة، بل أيضًا بإجراءاته الخاصة التي تُرسِّخ نفسها بنفسها، وتضع تفاصيلها الخاصة» (طومسون ١٩٧٨م: ٢٠٤). ويقيم طومسون رابطة بين النشأة المذكورة للنُّظم النظرية المغلقة، وبين نمو التخصص في الجامعات، قائلًا إن أصحاب النظريات اليوم «منفصلون انفصالًا غير مسبوق عن الحياة العملية، فهم يعملون داخل مؤسسات ذوات أبنية معقدة، وفق «جداول» وبرامج معينة … وتتكون معرفتهم بالعالم، بصورة متزايدة، داخل رءوسهم أو نظرياتهم، من خلال وسائل ليس من بينها الملاحظة» (طومسون ١٩٧٨م: ٣٠٠-٣٠١).
وحجة طومسون هي الحجة التي عرضنا لها آنفًا بأشكال مختلفة؛ فهي تتعلق بانعزال المباحث العلمية، ورفضها التأمل النقدي في عملياتها الخاصة، قائلة إن ماركسية ألتوسير لا تزيد عن كونها مبحثًا أكاديميًّا عقيمًا، وانشغالها بالصراع الطبقي أو الظلم الاجتماعي يقل عن حَدَبها على إنتاج نظريات جوفاء لا شغل لها إلا إعادة إنتاج ذواتها. وهكذا فإن موقف طومسون يتناقض تناقضًا كاملًا مع موقف ألتوسير، فإذا كان ألتوسير يقول إن «التاريخ» بناءٌ نظري يُنتفع به في خدمة العلم، فإن طومسون يقول إن التاريخ «الحقيقي» الذي يدور «خارج الإجراءات الأكاديمية» يمكنه أن يصبح عامل تصحيح للتقسيمات البحثية للمعرفة (١٩٧٨م: ٢٠٠). وتوجد صلات بلا مراء بين موقف ألتوسير وبين الحجج الأخرى التي نوقشت في هذا الكتاب من قبل، والتي تُحبِّذ تنمية المباحث العلمية المستقلة، وخصوصًا القول بإمكان وجود درب محايد يؤدي إلى الفهم العلمي، ووجود «تأثير معرفي» يتمتع باستقلاله عن العوامل الثقافية أو التاريخية، وينتج لنا حقيقة مطلقة داخل إطاره المرجعي الخاص.
لا شك في قيمة عمل ألتوسير من الزاوية البينية؛ لأنه مثل أدورنو يعيد تفسير الماركسية الكلاسيكية حتى يقيم الحجة على أن مجال اللغة والثقافة والتمثيل يرتبط ارتباطًا لا تَنفصِم عُراه بالعمليات الاقتصادية والتاريخية، خصوصًا بفضل اقتراح فكرة شاملة «للأيديولوجيا». فالغالب على معنى الأيديولوجيا في كتابات ماركس كونها «وعيًا زائفًا»، أي المعتقدات الوهمية عند الأفراد عن أحوالهم الاجتماعية الحقيقية، ولكن ألتوسير يرى أن الأيديولوجيا لا تُخفي حقيقةً باطنة من نوع ما، لكنها تشكِّل جانبًا من طريقة فهمنا العامة لمعنى العالم، وتَبنينا باعتبارنا ذواتٍ مفردةً، والأهمية الأساسية التي يوليها ألتوسير للأيديولوجيا في عمله تعني أن البناء الفوقي الثقافي يتمتع «باستقلال نسبي» عن القاعدة الاقتصادية (ألتوسير ١٩٧١م: ٣). ومن بين ما يدل هذا عليه أن النصوص الثقافية ليست مرايا وحسب للعمليات التاريخية، بل إنها تتفاعل معها وتساعد على إنتاجها، بحيث يصبح النص والتاريخ جزءًا من شبكة مترابطة من خيوط الممارسات الخطابية. والتغلغل الشامل للخطاب يعني أيضًا أن جميع أشكال المعرفة تُنتَج من داخل ما يسميه ألتوسير «إشكالية» معينة، ويعني بها الإطار الخطابي الذي يعمل مثل المبحث العلمي تقريبًا في منح الصدارة لطرائق فكرية معينة، واستبعاد طرائق أخرى (١٩٧٧م: ٣٢). ومع ذلك، فإن ألتوسير يعتقد فيما يبدو، لأسباب لا تتضح لنا في جميع الحالات، أن العلم، وخصوصًا العلم الماركسي، قادر على تجاوز الوقوع في هذا الفخ الأيديولوجي.
أما عملُ ألمعِ ناقد ثقافي ماركسي معاصر، وهو فريدريك جيمسون، فيستند إلى التوتر عند ألتوسير بين اعتقاده بأن علينا «دائمًا النظر من خلال التاريخ» (جيمسون ١٩٨١م: ٩)، وبين الوعي بأن المشروع يصبح إشكاليًّا بسبب الوساطة التاريخية من خلال النصوص والنظريات، ويزعم جيمسون في كتابه اللاوعي السياسي، الذي يتضمن أشد شرح لموقفه تفصيلًا، أهمية التاريخ باعتباره «الأساس النهائي، والحد الذي لا يمكن تجاوزه لفهمنا» (جيمسون ١٩٨١م: ١٠٠). وينتقل من هذا إلى انتقاد التحول إلى «البنيوية» في النقد الثقافي منذ الستينيات، وهو لا يعني به مجرد «البنيوية»، بل النطاق الكامل للنظريات التي تؤكد أولوية اللغة، والتي غيرت وجه الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وتقول حجته إن هذا التحول «دقَّ إسفينًا، هو مفهوم «النص» في المباحث العلمية التقليدية، باستنباط فكرة «الخطاب» أو الكتابة، وإضفائها على أشياء كانت تُعتبر من قبل «حقائق»، أو أشياء لها وجود في العالم الحقيقي» (جيمسون ١٩٨١م: ٢٩٧). وهو يتشكك في هذا الاتجاه إلى رؤية التاريخ باعتباره حكاية مشفرة من بين كثير غيرها، مؤكدًا أن «التاريخ هو العامل الذي يُحدِث الضرر … ولنا أن نثق في أن ضروراته التي تؤدي إلى الاغتراب لن ننساها، مهما اشتدَّ حَدَبنا على تجاهلها» (جيمسون ١٩٨١م: ١٠٢).
ومن مساهمات جيمسون الأخرى الإشارةُ إلى العناصر «الطوباوية» في النصوص، بالحفاظ على العقيدة الماركسية الأصلية القائلة بإمكان التحول المجتمعي الراديكالي، ملمحًا إلى أن سر أهمية النصوص الأدبية والثقافية للتحليل الماركسي قدرتها على أن تغذو هذه النزعة الطوباوية، فعلى الرغم من أن هذه النصوص ليست دائمًا مشبَعة بأيديولوجيات الفترة التي تنتمي إليها، فإن من ورائها دافعًا من الرغبة في تخيُّل عالم أفضل، وذلك بتقديم بدائل عن الترتيبات الاجتماعية المعاصرة، وتصوُّر وجود حقبة يسودها التناغم الطبقي والوحدة الثقافية في المستقبل. وتقول حجته إن «المنظور الطوباوي» يتجنب أو يتجاوز نقاط الضعف في التحليل الماركسي المختزل للأدب والثقافة (وهو الذي يقول إنهما مجرد آثار للعوامل التاريخية أو الاقتصادية)، فمن شأن المنظور المذكور التطلعُ إلى مجتمع لا طبقي، حيث تذوب التوترات والتناقضات التاريخية للمجتمع الطبقي، وحيث ينعدم التمييز بين القاعدة والبناء الفوقي، أو العمليات التاريخية والأشكال الثقافية (جيمسون ١٩٨١م: ٢٩٣). وللمرء أن يُجري مقارنة ما هنا؛ فإذا كان نموذج ليفيز للمجتمع العضوي [الموحَّد] يقوم على منهج بيني استرجاعي، متخيلًا مجتمعًا عضويًّا في الماضي يتسم بالارتباط بين الثقافة والمجتمع، فإن نموذج جيمسون ذو بينية مستقبلية؛ إذ يتخيل مجتمعًا في المستقبل ذَبُل فيه الفصل بين الثقافة والتاريخ وذوَى.
ويقوم المشروع البيني عند جيمسون بوضوح على إيمانه بإمكانية وجود معرفة شاملة ونهائية لكل شيء، وهي التي يراها قائمة في الماركسية. وإذا كان يُسلِّم بأن المعرفة الشاملة مستحيلة، لأن «الكيان الشامل أو الكُلي يتعذر تمثيله، مثلما يتعذر الوصول إليه في شكل حقيقة نهائية من نوع ما» (١٩٨١م: ٥٥)؛ فإنه يقول إن البحث عن منظور شامل ينبغي أن يكون على الأقل هدفًا منهجيًّا للعمل الفكري، وإن الماركسية تقدِّم هذا من حيث «اشتمالها على طرائق أو نُظم تفسيرية أخرى، أو إذا عبَّرنا عن هذه الفكرة تعبيرًا منهجيًّا، قلنا … إن حدود هذه الطرائق أو النُّظم يمكن التغلب عليها دائمًا، والحفاظ على نتائجها الإيجابية، من خلال إضفاء الصبغة التاريخية الراديكالية على عملياتها الذهنية» (جيمسون ١٩٨١م: ٤٧). ولنا أن نقول بصفة عامة إذن إن الإمكانيات البينية داخل النقد الثقافي الماركسي قد تطورت في اتجاهين رئيسيين؛ أما الأول فكان تميُّزها بأسلوبها الذي يزداد باطراد تعقيده، وتكاثر ظلال معانيه في إثارة الأسئلة حول العلاقة بين الأدب والثقافة والتاريخ. وأما الثاني فهو أنها كانت تتسم في بعض الأحيان بالإيمان بإمكان الجمع بين المباحث العلمية المختلفة في إطار مشروع تركيبي جامع تقدمه الماركسية، ويُعتبر شكلًا مميزًا وعلميًّا للمعرفة في ذاتها [أي من أجل المعرفة]، وهو الذي يسميه جيمسون «الأفق المطلق لشتَّى ضروب القراءة والتفسير» (١٩٨١م: ١٧).
المعرفة والسلطة
على الرغم من أن عمل ميشيل فوكوه يعارض السعي إلى الجمع المذكور [بين المباحث العلمية] معارضةً مباشرة، فلقد كان له أيضًا تأثير كبير في مساعدة المؤرخين الثقافيين والنقاد الأدبيين على التفكير من خلال العلاقة المعقدة بين النصوص وبين تاريخ كل منها. ومن بالغِ الصعوبة تحديدُ انتماء عمله لأي مبحث علمي خاص؛ إذ إنه يجمع بين التزام المؤرخ بالغوص في أعماق مادة أرشيفية عويصة، وبين اللَّوذعيَّة الفلسفية والتحديد الانتقائي لمادة موضوعه. وكان فوكوه قد انتُخب عضوًا في هيئة التدريس في «كوليج دي فرانس» عام ١٩٧٠م ليشغل كرسي أستاذية خُلق خصوصًا له، واسمه «تاريخ نُظم الفكر»، وهو ما يبدو وصفًا دقيقًا لعمله، إذ يتعلق جانب كبير منه بالأبنية الفكرية والمؤسسية التي تسمح بإقامة بعض أشكال المعرفة، ومن ثم فمن الواضح أنه يتناول طبيعة المباحث العلمية وإمكان القيام بالعمل البيني. ويسترجع فوكوه في بداية كتابه «نظام الأشياء» كيف ضحك الناس على قصة وضعها خورخي لويس بورجيس، يصف فيها هذا الكاتب الأرجنتيني موسوعة صينية تتضمن تقسيم الحيوانات إلى سلسلة من الفئات التعسفية فيما يبدو، مثل فئة «الانتماء إلى الإمبراطور»، أو الفئة «المرسومة بفرشاة رهيفة من شعر الجمل»، أو فئة «من كسر لتَوِّه إبريق الماء»، أو فئة «التي تبدو من مسافة شاسعة في صورة الذباب» (١٩٧٠م: ١٥). ويرى فوكوه أن الطابع العشوائي لهذا التصنيف يوحي بأن التقسيمات الفكرية التي نعتبرها طبيعية قد تبدو أيضًا سخيفة من منظور آخر.
من الأهداف الرئيسية عند فوكوه إقامة «أركيولوجيا المعرفة» [تعريب أحمد زايد، والمقصود علم آثار معرفي]، بالكشف عن نُظم فكرية لا تزال في اللاوعي عند العلماء والباحثين وغيرهم، لكنها ما انفكَّت تنجح في تشكيل ما يفعلونه، ووضع حدود له. ويقول إن المعرفة في الحقبة الحديثة اكتسبت تدريجيًّا مزيدًا من التنظيم والتخصص، وكان الفكر في عصر النهضة الأوروبية ينظمه «مبدأ الحراك»، كما كان العالم «كتابًا هائلًا مفتوحًا»، وكانت «الكلمات تتألق فيه بضوء التشابه العام مع الأشياء» (فوكوه ١٩٧٠م: ٢٣، ٢٧، ٤٩). وأما في العصر الكلاسيكي، من منتصف القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، فقد ترسخت ضروب القطيعة، وبدأت عملية التنظيم والتصنيف، وإن كان ذلك في الإطار الشامل لنظام عالمي عام، وأما عند ميلاد العصر الحديث منذ عام ١٨٠٠م تقريبًا، فقد «انغلقت المعرفة على ذاتها»، وشرعت العلوم والفلسفة والمباحث العلمية الأخرى في تقسيم «الفوضى الرتيبة للساحة الشاسعة» (فوكوه ١٩٧٠م: ٨٩، ١١٣).
ويتعرض فوكوه في كتابه «نظام الأشياء» بصفة خاصة «للعلوم الإنسانية»، التي ظهرت في القرن التاسع عشر وحاولت خلق علم للسلوك البشري، وهو يرى أن العلوم الإنسانية الرئيسية هي الاقتصاد وفقه اللغة والبيولوجيا، وهذا الأخير عادةً ما يُعتبر من العلوم الطبيعية، ولكن يبدو أن فوكوه يُدرِجه هنا بسبب الجذور البيولوجية لعلوم الذهن والنفس. وظهرت من خلال هذه الموضوعات الثلاثة ضروبٌ منوعة من المباحث العلمية التي تركز على المجتمع البشرى (مثل علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم الجريمة، والعلوم السياسية، وعلم الاقتصاد)، وعلى الثقافة (مثل النقد الأدبي، ودراسة الفن، والأساطير)، وعلى العمليات النفسية (مثل علم النفس، والطب النفسي، والتحليل النفسي). ويرى فوكوه أن العلوم الإنسانية خلقت إحساسًا بمعنى إنسانية الإنسان؛ إذ إنها ظهرت «عندما شكَّل الإنسان نفسه في الثقافة الغربية باعتباره الكيان الذي ينبغي أن يُتصوَّر وأن يُعرَف في الوقت نفسه (فوكوه ١٩٧٠م: ٣٤٥). وتقول حجته إن إحدى الطرائق التي تتوسل بها المجتمعات الغربية الحديثة في السيطرة على الناس و«تأديبهم» تكمن في التفويض للعلوم الإنسانية بسلطة البتِّ فيما يشكِّل «المعايير» العالمية للسلوك البشري، وهي عملية تحدد أيضًا معنى «الانحراف» [أو الشذوذ]. وهكذا فإن تشكيل هذه المباحث الأكاديمية يثبت إحدى النظرات الثاقبة في عمل فوكوه، ألا وهي العلاقة الوثيقة بين المعرفة والسلطة.
المذاهب التاريخية النَّصية
أعني بتعبير تاريخية النصوص الإشارة إلى الخصوصية الثقافية، والتغلغل الاجتماعي في جميع طرائق الكتابة … وأعني بتعبير نصية التاريخ أن أقول … إننا لا نستطيع الوصول إلى الماضي الكامل الأصيل، إلى الوجود المادي المُعاش، من دون وسيط يتمثل في الآثار النصية الباقية للمجتمع المَعنيِّ.
وهكذا تشغل التاريخية الجديدة الهُوة الفاصلة بين التاريخ والنقد الأدبي، وربما يكون ذلك سبب النقد الذي يوجهه إليها الباحثون في المبحثين العلميين جميعًا.
وتطعن التاريخية الجديدة في الطموحات الاجتماعية العلمية للتاريخ باعتباره مبحثًا مستقلًّا. ويقول المؤرخ «بعد الحداثي» هايدن هوايت — الذي كثيرًا ما يُستشهد بعمله في زمرة أصحاب التاريخية الجديدة من النقاد — إن كل مبحث علمي «يتكون مما يمنع ممارسيه من فعله، أي إن كل مبحث علمي يتكون من مجموعة من القيود على الفكر والخيال، ولا يوجد مبحث يزيد ما يحيط به من المحظورات عن كتابة التاريخ التخصصية» (هوايت ١٩٧٨م: ١٢٦). ويقول هوايت إن التاريخ ينبغي ألا يُعتبر علمًا؛ لأنه يستخدم لغة مجازية لا لغة تقنية، ويستخدم تقنيات سردية تشبه التقنيات المستخدمة في النصوص الأدبية، ويعتمد على فرضيات غير مصرَّح بها أكثر من اعتماده على المناهج التجريبية الخاضعة للشروط أو المبررات النظرية (١٩٩٥م: ٢٤٣). ومع ذلك فإن التاريخ باعتباره مبحثًا علميًّا يغلب عليه إخفاء طابعه السردي بامتناعه عن تأمل ممارساته الخاصة، ويستعين بتوثين «الحقائق»، ومنهجية علمية مفترضة لأية علاقة نقدية حقيقية مع الآثار النصية للماضي. ومن الطرائق التي يهدف بها التاريخيون الجدد إلى الطعن في هذا النموذج العلمي أن يبدوا أقل من المؤرخين التقليديين اهتمامًا بالعلة والمعلول [أي: السبب والنتيجة]، وسبب وقوع الأحداث، وكيف يؤدي وقوعها إلى وقوع أحداث أخرى، أي إنهم يميلون إلى رؤية التاريخ في سياق زمني حاليٍّ لا في تتابع زمني، وهو ما يعني أنهم يفضلون أن يتناولوا قطاعًا مستعرضًا من فترة زمنية واحدة، وأن يفحصوا النطاق الكامل للنصوص المنتَجة فيها، بدلًا من رؤية كيفية «تقديم» هذه النصوص في أشكال ثقافية أخرى على امتداد الزمن. فإذا حدث ونظروا إلى التاريخ باعتباره حركة دائبة فهم يفعلون ذلك في ضوء انشغال فوكوه بضروب القطيعة المعرفية التي تغيِّر من وسائل اكتسابنا للمعرفة وتمثيل العالم.
ويدل تأكيد هذا الوصف السميك على تحوُّلٍ أعمَّ داخل الأنثروبولوجيا يبتعد بها عن العلوم؛ إذ أصبحت تعزف عن البحث في الثقافات «البدائية» لاكتشاف العناصر الأساسية العالمية للثقافة البشرية، وتميل إلى حد أكبر للنظر في هذه الثقافات باعتبارها نُظمًا معقدة ذات كيانات مستقلة لا تحتمل سوى التفسير على أيدي دارس الإثنوغرافيا، لا اكتشافها اكتشافًا علميًّا. ويرى جيرتس أن هذا يمثل جانبًا من «التحول إلى التفسير» في العلوم الاجتماعية؛ حيث تمكَّن الباحثون بفضله من «التحرر من أحلام الفيزياء الاجتماعية» بزيادة انتفاعهم بضروب القياس في الإنسانيات (١٩٨٣م: ٢٣). ولما كان الوصف السميك يعني الخوض في طبقات من الخبرة الإنسانية يتراكم بعضها فوق بعض، فإن «التحليل الثقافي يشوبه نقص جوهري»، ويُعتبر «تخمينًا للمعنى، وتقييمًا لنتائج التخمين، واستنباط نتائج إيضاحية من أفضل التخمينات، وعدم اكتشاف قارَّة المعنى ورسم خريطة أراضيها التي لا جسد لها» (جيرتس ١٩٧٣م: ٢٩، ٢٠).
ويمكن اعتبار النقد التاريخي الجديد نوعًا من الوصف العرقي لمجتمعات الماضي بأسلوب جيرتس، مفسِّرًا غرابتها وخصوصيتها على ضوء ما خلَّفتْه من نصوص. ويشْبِه التاريخيون الجدد جيرتس في رفضهم القول بوجود نُظم شاملة، أو مزاعم بقدرة المباحث العلمية على التعميم، مفضِّلين ما يُسمى «المعرفة المحلية»، وكثيرًا ما يرصدون أنساقًا كبرى أو يستنبطونها من عدد ضئيل نسبيًّا من النصوص المتفاوتة، معتمدين على روايات متفرقة ومدخل الأجزاء الدالة، الذي يمكن تشبيهه بالمجاز المرسل في الكتابة الأدبية، حيث يرمز بعض المفهوم للمفهوم كله [بعض من كل]. فقد يقوم ممارس للتاريخية الجديدة، متخصص في الحداثية والحداثة، بتناول قضية اقتصادية مثل التي وضعها ف. و. تيلور في كتابه مبادئ الإدارة الاقتصادية (١٩١١م)، والتي كانت تسعى إلى زيادة الكفاءة الصناعية من خلال التحكم في سرعة العمل، باستعمال خط التجميع في الإنتاج، ودراسات العلاقة بين الوقت والحركة؛ ويضعها إلى جانب مانيفستو مدرسة التصوير في الشعر، الذي وضعه عزرا باوند ور. س. فلينت عام ١٩١٣م، وهو الذي يقدم القصيدة التصويرية باعتبارها «مركَّبًا فكريًّا وشعوريًّا في لحظة زمنية واحدة» (كولو كونتروني وآخرون ١٩٩٨م: ٣٧٤)؛ ويضع ذلك أيضًا إلى جانب نوع جديد من الإعلانات التي ظهرت في العقود القليلة الأولى من القرن العشرين، وهي التي كانت تحثُّ ربات البيوت على الانتفاع بالساعات الضائعة من خلال التجديدات الموفرة للوقت، مثل الأغذية السابقة التجهيز والغسالات الكهربائية، وهكذا فإن وضع هذه النصوص جنبًا إلى جنب يتيح النظر في طرائق تفكير جديدة في الطابع الزمني والطابع العارض للثقافة الحديثة والمجتمع الحديث، في عصر يزداد فيه تنظيم وقت العمل ووقت الفراغ جميعًا.
تتخذ الشكل الذي أصبح روتينيًّا إلى حد ما من التراكيب الأسلوبية المهذَّبة، المنمَّقة المصقولة، بحيث لا تحاول أن تتوقف وتفكر في أمر الخطوات الصعبة أو المريبة في حجة من الحجج، وهكذا فإن المثل الأعلى المحمود للدراسة البينية والتحليل عبر الثقافات، على عُسر مطلعه وإشكاليته، يُلقي حلًّا تأمليًّا وذا سهولة مُخلَّة، وهو ما يمكن أن نسميه الحل الزائف القائم على مونتاج هزيل، أو إذا شئت على تركيبات القص واللصق.
يقول لاكابرا إن وجهة نظر المؤرخ تُلزِمنا بطرح أسئلة عن مكانة تلك المصادر الواسعة النطاق، ومدى استقلال كل منها، وأن ننظر في كيفية تمثيلها ونفعها باعتبارها أدلة لازمة للبحث التاريخي المحدد الذي نقوم به. ويضيف: إن ما يفتقر إليه النقد التاريخي الجديد أيضًا هو الإحساس بالتفاعلات بين المستويات المنوعة للمجتمع والثقافة، أي بين الثقافة الرفيعة، والثقافة الخفيضة، والثقافة المتوسطة على سبيل المثال، أو بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وهي التي قد يقِيم المؤرخ التاريخي أو عالم الاجتماع علاقةً بينها وبين تلك المادة نفسها. وكما يقول لاكابرا، نجد أن هذا الانشغال بعلاقات السلطة في المجتمع يشكِّل برنامج العمل لجانب كبير من التاريخ الجذري، ولكن التاريخيين الجدد يميلون إلى الربط بينه وبين «النظرية الشمولية أو الميتاحكاية الإرهابية» (لاكابرا ١٩٨٩م: ١٩٤). وهو يربط هذه الفرضية بالتشاؤم السياسي للتاريخية الجديدة، أي ما نقول به من أن القوى المسيطرة دائمًا ما تقوم آخر الأمر بشفاء النصوص من أية إمكانية قد توجد «للتخريب» السياسي، أو كما يعبِّر جرينبلات عن ذلك؛ «إن الإنتاج الظاهر للتخريب … هو حال السلطة نفسه» (١٩٨٥م: ٤٥). وما أيسرَ في نظر نقاد مثل لاكابرا أن يتدهور هذا التركيز على شيوع «الخطابات» المهيمنة، فيصبح نوعًا من الشكلية النصية المتجانسة التي تمثل، على الرغم من جميع الطموحات البينية التي يعبِّر عنها التاريخيون الجدد، إنكارًا للتاريخ باعتباره «ما يضر ويؤلم»!
شيكسبير والأدب الإنجليزي
وكانت بعض هذه الانتقادات الموجهة إلى التاريخية الجديدة ذات شدة بالغة داخل حركة نقدية معاصرة تقريبًا، لكنها بريطانية إلى حد بعيد، وهي المادية الثقافية، فالمادية الثقافية تشترك مع التاريخية الجديدة في عدد كبير من ملامحها، مثل الاهتمام بالتداخلات المركَّبة بين النص والتاريخ، والصلة بين تشكيلات المعرفة وترتيبات السلطة في المجتمع، وعجز ضروب تقسيم العمل الأكاديمية التقليدية عن التصدي لهذه القضايا. والواقع أن الاختلافات بين الحركتين قد تكون مبالغًا فيها؛ إذ لا تُعتبر أي منهما كيانًا فكريًّا موحدًا، وأحيانًا ما يقومان بمهامَّ مماثلة، كما أن العلاقة النقدية بين هاتين الحركتين والمباحث العلمية الراسخة تعني أنهما تتصفان معًا بعزوفهما عن اتخاذ منهجية صارمة في تعريف أنفسهما وأنشطتهما، ولكن بعض الاختلافات المهمة في المدخل النقدي ومادة الموضوع تفصل بينهما، وتتعلق بمناقشتنا للبينية.
ومن أهم الاختلافات بين التاريخيين الجدد والماديين الثقافيين أن دعاة المادية الثقافية يرَون أنهم يتمتعون بالتزام سياسي أكبر من التاريخيين الجدد، وهو ما يفسر إلى حد ما عداءهم لأبنية المباحث العلمية وطابعها المؤسسي؛ إذ يقول ألان سينفيلد المعتنق للمادية الثقافية إن على الأكاديميين تشكيل أحلاف مع الثقافات الفرعية خارج الجامعة، مثل المناضِلات في سبيل حقوق المرأة، ومثل المحتجِّين على تدهور البيئة الطبيعية، أو المناصرين لحقوق ذوي الميول المثلية، بدلًا من أن «يغوصوا في تخصص الأدب الإنجليزي، والاختباء في الجامعات، واستخدام كلمات طويلة، فيستحيلون إلى أسماك كبيرة في بركة ماء صغيرة» (سينفيلد ١٩٩١م أ: ٧٦). ويقول سينفيلد إن انشغال التاريخية الجديدة بوقوع جميع أنواع الخطاب في شَرَك أبنية السلطة يعني تلفيق هذه المسائل الخاصة بعلاقتها بالعالم الخارجي، كما أنه مرادف بصورة لها مغزاها بفخِّ التخصص الذي سقطت فيه (سينفيلد ١٩٩٢م: ٢٩٠).
وهكذا فإن سينفيلد يُدين التاريخيين الجدد بمدحه الهزيل في غضون إقراره بتخصصهم، أي معاييرهم العليا في البحث الأدبي والتاريخي، وما يُبدونه من «دقة وبراعة وصرامة في تحليلهم للنصوص» (سينفيلد ١٩٩٢م: ٧). ويقول سينفيلد إن هذه المهارات تُستعمل وحسب في تحويل التاريخ إلى نصوص، من خلال التجديد الوحيد المتمثل في تطبيق تقنيات القراءة الدقيقة لنطاق من النصوص أشد اتساعًا عما هو مألوف في النقد الأدبي (سينفيلد ١٩٩٢م: ٢٨٥). وتقول حجته إن منهج هذا المبحث العلمي لا يراه الماديون الثقافيون كافيًا، الذين «يحاصرهم التساؤل عن غاية هذا كله»، و«يدعون إلى طرائق معرفية لا يكاد النقد الأدبي يملكها، أو يعرف حتى كيف يكتشفها»، وهي القائمة في التاريخ وفي العلوم الاجتماعية (١٩٩٢م: ٨، ٤٩-٥٠). ويضيف قائلًا: لما كانت البينية المفترضة للتاريخية الجديدة لا تغذوها مرامٍ سياسية جذرية، فمن المحتمل دائمًا أن تنزلق راجعةً إلى نهج تخصصي يحقق غاياتها، ويعيد إنتاج الأُطر التقليدية للمبحث العلمي.
ومن الأرجح تركيز أصحاب المادية الثقافية على الأدب، كما يبيِّن سينفيلد؛ لأن الأدب، وإن يكن مجرد شكل واحد من أشكال الإنتاج الثقافي، يتمتع بسلطة كبيرة وصيتٍ عريض. وهم يبدون اهتمامًا خاصًّا بشيكسبير؛ لأنه «رمز ثقافي جبار، وهو قائم في ساحة إنتاج المعنى، والناس من ثَم يريدون أن يكون في صفهم» (سينفيلد ١٩٩٤م أ: ٤)؛ إذ تركِّز قراءتهم لشيكسبير على موقعه المركزي في الثقافة البريطانية، باعتباره مصدرًا للاستغلال الثقافي والسلطة الثقافية، وفي مبحث اللغة الإنجليزية وآدابها، بصفته «حجر الأساس الذي يضمن الاستقرار النهائي، وصحة الفئة التي نسميها «الأدب»» (سينفيلد ١٩٨٥م: ١٣٥). وتمتد هذه الفكرة بوضوح إلى المدارس والكليات بل والجامعات؛ ففي بريطانيا، على سبيل المثال، نجد أن جميع تلاميذ المدارس الثانوية ملتزمون بدراسة شيكسبير، ودراسته عنصر إجباري في المستوى المتقدم (للتلاميذ ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة من العمر) في دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها. وقد تتعرض القراءة المادية الثقافية لفحص دور شيكسبير المركزي، وكيف ينهض بدور معين في التعليم المدرسي لمعظم الناس في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية والثقافية، وكيف يعجز المستضعفون المنتمون إلى خلفيات «محرومة» عن «تذوق» شعره، أو فهم الحقائق العامة العالمية التي من المفترض أن عمله يقدمها. وقد تنظر قراءة المادية الثقافية أيضًا في رسم صورة شيكسبير «باعتباره الشاعر القومي العظيم الذي تجسد مسرحياته حقائق عالمية» (سينفيلد ١٩٨٥م: ١٣٥)، وكيف أتاحت استغلاله في تقديم معانٍ سياسية محافظة تؤكد أهمية الحفاظ على الحالة الراهنة، بأسلوب يقوِّض ما تزخر به المسرحيات من إمكانات راديكالية للتصدي لبعض القضايا، مثل مكانة المرأة والرجل، والانتماء العرقي والطبقي، والحياة الجنسية.
وفي غمار النقد الجاري للنهج البيني، هاجم ستانلي فيش المادية الثقافية، كما هاجم عمل ألان سينفيلد بصفة خاصة؛ فقد وضع فيش كتابًا عنوانه الصحة التخصصية، يزعم فيه أنه لا يعارض العمل البيني في ذاته، بقدر ما يعارض المشروع «البيني» كله، وهو الذي يقوم به — بحماس ديني — عددٌ من المفكرين اليساريين، باعتباره طريقة للطعن فيما يرَونه عزلة الحياة الأكاديمية. ويقيم فيش رابطة خاصة، بين هذا المشروع وبين النقد الذي يكتسي رداءً تاريخيًّا وسياسيًّا، وهو يصف هذا النقد بأنه «تاريخي جديد»، باعتبار المصطلح مصطلحًا شاملًا يتضمن مداخل المادية الثقافية أيضًا، ويهدف إلى تحويل الدراسات الأدبية إلى نهج للتصدي لبعض القضايا، مثل العنصرية، والأبوية، والعداء لذوي الميول الجنسية المثلية، والإمبريالية (فيش ١٩٩٥م: ١). ويقول فيش إن هذا خطأ في التصنيف، فلا تستطيع الدراسات الأدبية أن تعالج مثل هذه القضايا الواقعة خارج اختصاصاتها؛ إذ إنها ما إن تفعل حتى ينتفي كونها دراسات أدبية.
لا تُعتبر الأشكال المختلفة للعمل في المباحث العلمية شركاء في مهمة غائية وطوباوية واحدة، بل إنها تقوم بأداء مهامَّ محددة، وهي التي يمكن أن تختفي من وجه الأرض لو فقدت التخصصات أنفسها واستُعيض عنها بمُركَّب هائل عظيم، سواء كان مبحث المباحث كلها، أو الحقيقة التي تضم الحقائق الأصغر والجزئية.
أي إن فيش يقول إن استحالة المعرفة الشاملة تعني أن الدراسة البينية لا تزيد في شمولها على الأشكال الدراسية الأخرى، بل تستبدل نمطًا من المهام بنمط آخر وحسب، وهو يضرب المثل بخريطة أصدرتها إدارة المرور لتبيِّن المسافات بين المدن «بحيث تصبح المدن نفسها مجرد نقاط، أو مواقع في سباق التتابع، في حين يرتكز الاهتمام كله على ما يجري بينها». وعلى غرار ذلك نجد أن المداخل النقدية التي تَنشُد ارتباطات بينية ينتهي بها الأمر إلى التركيز على الارتباطات نفسها، لا على أي شيء خاص بالمباحث العلمية نفسها، لسبب بسيط، هو النقص المحتوم لأي محاولة لتنظيم المعرفة، فالخريطة البينية حين تؤدي دورها «تفشل بالضرورة في أداء مهام أخرى، فهي حين تصنِّف العلاقات فيما بين المباحث العلمية تستخفُّ بقدرة الفهم الراسخة في هذه المباحث» (١٩٩٥م: ٨٠).
وتقول حجة فيش إن المداخل البينية التي تحاول الربط بين الدراسات الأدبية وبين مشروع سياسي راديكالي؛ تشترك بقدر أكثر مما تود الإقرار به مع الفكرة الليفيزية التقليدية عن الدراسات الأدبية باعتبارها الوصي على التراث الأدبي. وفي كلتا الحالتين، يرصد فيش «الرغبة المألوفة عند الباحث الأكاديمي، وخصوصًا في الإنسانيات، في أن يصبح شيئًا يختلف عما هو عليه في الواقع»، والنغمة المتكررة بإلحاح في الدراسات الأدبية ضد التخصص تغذوها عقيدةٌ تقول «إننا إذا قدمنا الوصف الصحيح — أي الوصف الذي يستجيب استجابة كافية إلى الحاجات الكبرى للمجتمع — فسوف يصغي المجتمع لنا، وسوف يفهم آباؤنا أخيرًا سبب اختيارنا هذا المسار العلمي الذي يشبه في ظاهره قصة دون كيخوته» (فيش ١٩٩٥م: ١٤٠). ويرد فيش قائلًا إن تغيير العالم من داخل مبحث علمي ليس بالسهولة المتصوَّرة؛ لأن المباحث العلمية في جوهرها مُنكبَّة على نفسها، ومنتجة لذواتها، ومن ثم فهو يدعو إلى «الصواب التخصصي» الذي يعني قبول وجود الدراسات الأدبية باعتبارها مبحثًا علميًّا، بل واعتناقها باعتبارها أثرًا محتومًا من آثار تخصصها.
ويمكن الرد على حجج فيش بطريقتين؛ فلنقلْ أولًا إن المبحث العلمي ليس كيانًا مترابطًا وفق تصوره، فهو يفترض وجود ظاهرة معترَف بها تُسمى «الدراسات الأدبية»، وأنها تتمتع ببعض الإجراءات والمبادئ المتفق عليها، والتي يلتزم بها كل عامل داخل هذا المبحث حتى يقرر أن يجعله مبحثًا بينيًّا. ولكن الدراسات الأدبية، على نحو ما حاولتُ أن أبيِّن فيما سبق من هذا الكتاب، نادرًا ما تتسم بهذه الدرجة من الاتساق الداخلي أو التجانس. وليس النهج البيني تطورًا حديثًا استولى على المباحث العلمية في الإنسانيات من خارجها في السنوات القليلة الماضية، بل هو جانب أصيل من جوانب الطبيعة المعقدة للمباحث العلمية وتاريخها، وخصوصًا مجال الدراسات الأدبية المتَّسم بالتنوع. ولنقلْ ثانيًا إن تعريف فيش للبينية باعتبارها مرادفة لطلب الجمع بين المعارف في مُركَّب نهائي يبدو تبسيطًا مُخلًّا؛ فعلى الرغم من أن المدخلَين — المادي الثقافي والتاريخي الجديد — قد يَعتبران النص الثقافي نصًّا أكثر شمولًا من النص الأدبي، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن عملهما يغذوه دافع تركيبي، فالواقع أن انشغالهما الأساسي بالعلاقة بين المعرفة والسلطة يعني أنه من الأرجح أن يُولِّد قلقًا فكريًّا، وذلك بإنكار اعتبار تقسيم المباحث العلمية أمرًا طبيعيًّا، والطعن في المُسلَّمات الفكرية، وإثارة مشكلات وقضايا لا تتصدى لها المباحث العلمية التقليدية.