الفصل الخامس
العلوم والمكان والطبيعة
كانت أشكال كثيرة من النهج البيني التي فحصتُها في هذا الكتاب حتى
الآن تسعى إلى الطعن في المراتبية التقليدية، التي تُنزِل الإنسانياتِ
منزلةً ثانوية بعد شواغل العلوم المُعرَّفة تعريفًا ضيقًا. ولا يزال
الانقسام الذي طال عليه الأمد بين الإنسانيات وبين العلوم يمثِّل عقَبة
كَئودًا في طريق الدراسة البينية، لكن الطعن فيها لا يزال ممكنًا.
ويستكشف هذا الفصل بعض الروابط التي أقيمت في السنوات الأخيرة بين
الدراسات الأدبية وبين العلوم، وبين الدراسات الأدبية والجغرافيا، وهو
علم اجتماعي يتناول أساسًا العلاقة بين العالم الطبيعي والعالم
الاجتماعي، في علاقتها مع الفهم الجديد للمكان والطبيعة والعالم.
ويناقش هذا الفصل بعد ذلك النقد البيئي
(ecocriticism) باعتباره ميدانًا
تمتزج فيه قضايا النقد الأدبي والثقافي، والجغرافيا والعلوم الطبيعية،
بمقولته الأساسية، ألا وهي ارتباط الطبيعة البشرية بأواصر لا تنفصل
عُراها بالطبيعة. وينظر الفصل أخيرًا في الجهود التي يبذلها بعض
العلماء لاستعمال نظرية النشوء والارتقاء، والتطورات في علم الأعصاب،
في تفسير النصوص الأدبية والثقافية.
لم تحظَ محاولة للطعن في الفجوة القائمة بين العلوم والإنسانيات
بمناقشة أوسع نطاقًا من المحاولة التي قام بها سي بي سنو
(Snow) في مقاله «الثقافتان
والثورة العلمية»، وكانت محاضرةً ألقاها عام ١٩٥٩م ونُشرت على الفور
تقريبًا، وأدت إلى مناظرات حامية الوطيس في عدة بلدان. كان سنو ينعَى
وجود «هُوة من سوء الفهم المتبادل» بين العلوم والإنسانيات، قائلًا إن
نظام التعليم البريطاني أدى إلى تفاقم الحال بإرغام التلاميذ على
التخصص في سن أصغر مما ينبغي (سنو [١٩٥٩م] ١٩٩٣م: ٤). وكما ذكرت في
الفصل الأول، كان ف. ر. ليفيز أعلى الأصوات التي صرحت بانتقاد قضية
سنو، وربما كان السبب عداء سنو الذي لا يكاد يخفيه «للمفكرين الأدباء»،
الذين كان يعتبرهم القوة السائدة في الإنسانيات. ومع ذلك، فعلى الرغم
من أن سنو كان يتهم هؤلاء المفكرين الأدباء «بالعداء الطبيعي
للتكنولوجيا»، وبأنهم «يمثلون أغبى صورة للعداء للمجتمع» ([١٩٥٩م]
١٩٩٣م: ٢٢، ٨)، فإنه كان يعبر عن تحفظات عميقة إزاء الانعزال وضيق
الأفق اللذين كان يتسم بهما جانب كبير من التخصص العلمي، وكان هدفه
الرئيسي بوضوح أن يبيِّن أن جهل الميدانَين بعضهما بعضًا أدى إلى
فقرهما جميعًا، بحيث نرى أننا «في مجتمعنا … قد فقدنا حتى التظاهر
بوجود ثقافة مشتركة. ولم يعد الأشخاص الذين تلقَّوا أعمق تعليم نعرفه
قادرين على التواصل فيما بينهم على مستوى قضيتهم الفكرية الرئيسية»
(سنو [١٩٥٩م] ١٩٩٣م: ٦٠).
والواقع أن بواعث قلق سنو بشأن التخصص ذات روابط كثيرة ببواعث قلق
ليفيز، ما دام يُسلِّم «بعدم وجود حل كامل» للمشكلة، وبأن «أحوال عصرنا
… تجعل من المحال ظهور إنسان عصر النهضة ([١٩٥٩م] ١٩٩٣م: ٦١). وهو
يقول، مثل ليفيز، إن أفضل فرص تحسين الحال هي التي يقدمها التعليم،
وخصوصًا الدراسات البينية، ولكنه، على عكس ليفيز، لا يقترح أي موضوع
محدد حتى يصبح نقطة لقاء للموضوعات الأخرى جميعًا، قائلًا إنه لا بد من
إقامة روابط مثمرة عبر الهُوة التي تفصل بين العلم والإنسانيات:
ينبغي أن تؤدي نقطة الصدام بين موضوعين، أو مبحثين علميين،
أو ثقافتين — أو كوكبتين في حدود ما يحدث — إلى إنتاج فرص
خلَّاقة. وكان ذلك، في تاريخ النشاط الذهني، هو النقطة التي
شهدت بعض الانطلاقات الكبرى. والفرص قائمة الآن، ولكنها موجودة
في فراغ، إن صح هذا المجاز؛ لأن العاملين داخل الثقافتين لا
يكلم بعضهم بعضًا.
(سنو [١٩٥٩م] ١٩٩٣م: ١٦)
رسمت محاضرة سنو الخطوط العريضة للطبيعة الأساسية للخلاف بين العلوم
والإنسانيات، وبطريقة لم تفقد أهميتها؛ فالباحثون في العلوم لا يزالون
ينتقدون الباحثين في الإنسانيات بسبب تجاهلهم المناهج التجريبية،
والاستناد إلى تفسيرات ذاتية، وأهل العلوم الإنسانية يهاجمون بدورهم
العلماء بسبب ضلال إيمانهم بإمكان تحقيق الموضوعية الكاملة، وهو تصور
ضيق للمعرفة النافعة، وامتناع عن البحث في النتائج الكبرى المترتبة على
عملهم، من اجتماعية وسياسية وثقافية. ويمكن أن يُعزَى عدد كبير من هذه
الخلافات إلى اختلاف نطاق العلوم ومادتها عن مقابِلاتها في الإنسانيات،
ولكنه يُعزَى أيضًا إلى الافتراضات المتضادة للأساليب الفعلية لتراكم
المعرفة. وأريد أن أبدأ هذا الفصل برصد أصول هذا الانقسام في الاعتقاد
بأن العلوم أقدر على الوصول إلى «الحقيقة»، الضارب بجذوره في المنهج
التجريبي، وهو الذي يمثل حجة قوية لصالح الفصل بين المباحث العلمية.
وأريد بعد ذلك أن أنظر إلى الطعون الحديثة في هذه «التجريبية»
المُسلَّم بها، وهي الطعون الناشئة من داخل العلوم نفسها، والتي عبَّدت
الطريق لإنشاء الروابط مع المباحث غير العلمية.
الطعن في المذهب التجريبي
يستند التمييز التقليدي بين الإنسانيات والعلوم إلى توكيد أهمية
البرهان التجريبي الذي قدَّمه للمرة الأولى فلاسفة المعرفة في
أوائل القرن السابع عشر، ولم يواجه أي تحدٍّ جاد إلا في الآونة
الأخيرة. وكثيرًا ما يُنسَب الفضل إلى فرانسيس بيكون في وضع
النموذج التقليدي للكشف العلمي، وكان يرى أنه السير في طريق وسط
بين الشك الكامل وبين العقيدة الدوجماطية التعسفية، فهاجم الطرائق
المعتمدة للعلم الكلاسيكي، ودعا، بدلًا منها، إلى وجوب دراسة البشر
والطبيعة في أنفسهما، بعيدًا عن التصورات السابقة الثابتة. واقترح
— تحقيقًا لهذه الغاية — في كتابه النهج الجديد للعلم
(Novum Organum
scientaiarum) (١٦٢٠م)؛
نموذجًا للتفكير الاستقرائي
(inductive)، أي الاستنتاج
المنطقي انطلاقًا من الحالات الخاصة إلى النتائج العامة، والزيادة
التدريجية لمستويات التعميم. وكان معنى هذا في الواقع العملي الحرص
في جمع المعلومات عن حالات معينة في العالم الطبيعي، واستنباط
(extrapolation) خصائص مشتركة
من هذه المعلومات، وزاد رينيه ديكارت في كتابه مقال في المنهج
(١٦٣٧م) وأعمال أخرى، من تدعيم المنهج العلمي بوضع عملية الاستدلال
(deduction) وتشذيبها، أي
الخروج بنتائج منطقية من مقدمة أو مقولة معينة. وأحيانًا ما يُشار
إلى منهج ديكارت بأنه «الشك الديكارتي»، وهو الذي يقضي باستبعاد
جميع الافتراضات غير المنطقية حتى لا تتبقى إلا النتيجة الوحيدة
الممكنة التي لا يرقى إليها الشك. وأما العنصر الأساسي الآخر في
منهج ديكارت فهو مذهب الاختزال [الاختزالية
reductionism]، ويعني تفتيت
الطبيعة، بما في ذلك الجسم البشري، إلى مقوماته، والنظر فيها، كلٌّ
على حدة، وهو نوع من النظرة الآلية إلى العالم، واعتبارها آلة وُضع
فيها الزيت اللازم لسلاسة الحركة. ويفسر هذا الضرب من الاختزالية
التفتيتية، من جانب معين، انتشار المباحث المتخصصة في الثورة
العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ إذ كُلِّفت موضوعات
مختلفة بمسئولية استكشاف جوانب منفصلة من الطبيعة.
ويعرف معظم الناس، حتى ولو لم يكونوا متخصصين في العلوم
الطبيعية، معنى المنهج العلمي الموروث من مذهب الاستقراء البيكوني
والاختزالية الديكارتية، من كتابة التجارب في المختبرات المدرسية،
إذ يستند هذا المنهج إلى الملاحظة التجريبية لاكتشاف القوانين
الأساسية للعلة والمعلول؛ «ورقة عباد الشمس اكتسَتِ اللونَ الأزرق
عند وضعها في سائل قلوي». وعلى نحو ما ذكرت في المقدمة، نشأ عدد
كبير من المباحث غير العلمية وتطور في القرن التاسع عشر وفقًا لهذا
النموذج العلمي، ومع ذلك فقد ظل الباحثون يُحسُّون إحساسًا غلابًا
بأن العلم الطبيعي يتمتع بمدخل متميز إلى الحقيقة؛ إذ كانوا يرَون
أنه تراكم معرفي بديهي للقوانين العامة التي توجد، على عكس
الإنسانيات، بصورة مستقلة عن التفسير أو العقيدة. وتنبع ثقة العلم
الطبيعي بنفسه، بصورة تقليدية، من حدوده الذاتية، بمعنى رفضه تناول
الشواغل الميتافيزيقية أو الذاتية التي تسمح بوجود أسس للشك، وقصْر
عمله على جوانب العالم البيولوجي أو الآلي التي تُتاح معرفتها
«موضوعيًّا» وبشكل «محايد»». وكما يقول جان-فرانسوا ليوتار، كان من
أحد المبررات الرئيسية للفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم
الإنسانية وجود صورة للطبيعة باعتبارها «خصمًا لا يبالي ولا يخدع،
بحيث تصبح «الطبيعة» في العلوم الطبيعية الشيء المحال إليه، وهو
شيء أبكم، ولكنه يسيرُ التوقعِ مثل النرد إذا أُلقيَ مرات بالغة
الكثرة»، وأما في العلوم الإنسانية فإن «المحال إليه (الإنسان)
مشارك في اللعبة، وهو يتكلم ويضع استراتيجية … لمعارضة استراتيجية
العالم» (ليوتار ١٩٨٤م: ٥٧).
ولم يلقَ هذا النموذج طعنًا جادًّا فيه داخل العلوم الطبيعية
نفسها حتى وضع كارل بوبر (
Popper)
فكرته عن «إمكان الخطأ»
(
falsifiability) في كتابه
منطق الكشف العلمي (١٩٣٤م)؛ إذ يرى بوبر أن الكشف العلمي لا يتقدم
من خلال العمليات الدقيقة للاستقراء والاستدلال، بل من خلال
التوليد الخلاق للفرضيات التي يمكن تخطئتها، من المحال إثبات صحة
نظرية علمية إثباتًا كاملًا استنادًا إلى ما يُستنبط من الملاحظة
التجريبية، فمن الممكن دائمًا أن نعثر على استثناءات للقاعدة في
وقت ما في المستقبل، ونحن لا نستطيع أن نقطع بأن «جميع طيور التمِّ
بيضاء»؛ لأننا، ورغم أننا شهدنا مليون طائر تم أبيض، فإن عيوننا قد
تقع على طائر تم أسود، ومن الطريف أن فكرته تأكدت حين شوهدت طيور
تم سوداء في أوستراليا. وهكذا فإن عمل بوبر يوحي بأن المعرفة
العلمية تتقدم من خلال التجربة والخطأ، لا من خلال الطلب المنهجي
المنتظم «للحقائق»:
لا يوجد شيء «مطلق» في الأساس التجريبي للعلم الموضوعي؛
فالعلم لا يرتكز على قاع صخري صلد، ولكن البناء الجسور
لنظرياته يقوم على مستنقع، إذا صح هذا المجاز. إنه يشبه
مبنًى مقامًا فوق أعمدة خرسانية. وتُدَق الأعمدة دقًّا من
أعلى داخل المستنقع، لكنها لا تصل في عمقها إلى قاعدة
طبيعية أو مفترضة، وإذا كفَفْنا عن دقِّ الأعمدة إلى عمق
أكبر، فليس السبب أننا وصلنا إلى الأرض، ولكننا نتوقف وحسب
لأننا اقتنعنا أن الأعمدة ذات صلابة كافية لحمل البناء،
على الأقل مؤقتًا.
(بوبر [١٩٥٩م] ١٩٧٢م: ١١١)
ولكن بوبر في الوقت نفسه لا يتخلى تمامًا عن العلم في سبيل
النسبية، لأنه يقول إنه إذا كانت النظريات تقبل النقض
(disprovable)، فإن لنا أن
نقبلها مؤقتًا حتى يحين تكذيبها، وهو ما يسمح له بوصف بعض ميادين
العلم بأنها «شبه علمية»، ليس لأنها لا تستطيع أن تزعم امتلاكها
للحقيقة المطلقة، ولكن لأن نظرياتها لا تقبل النقض. وأما أكبر
مجالين ينتميان إلى أشباه العلوم في نظره فهما التحليل النفسي
والماركسية؛ لأنهما يستندان بالضرورة إلى نظريات حدسية عن اللاوعي،
والحتمية التاريخية للثورة الشيوعية. وعلى الرغم من عدم مناقشته
الدراسات الأدبية مناقشةً مباشرة، فالواضح أنها تُعتبر شبه علمية
وفق تعريفه؛ لأنها تعتمد أساسًا على التفسير النصي لا على تراكم
الأدلة القابلة للنقض، وإذن فإن بوبر على الرغم من تشكيكه في
المنهج العلمي التقليدي، لا يزال يؤمن بإمكان وجود المعرفة
الموضوعية، قائلًا إنها متاحة في العلوم الطبيعية، لا في
الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية، ويعرِّفها بأنها «معرفة من دون
عارف … معرفة من دون ذات عارفة» (بوبر ١٩٧٣م: ١٠٩).
وأما التحدي الأشدُّ راديكاليةً للمذهب التجريبي الواثق من نفسه
في العلوم الطبيعية، والأشهر والأكثر استشهادًا به في جميع تلك
العلوم فهو الذي جاء به توماس قون
(Kuhn) في كتابه بناء الثورات
العلمية (١٩٦٢م). وتقول حجته إن المعرفة العلمية لا تنشأ في فراغ،
بل في داخل «نماذج» معينة، ويمكن اعتبار مفهومه للنموذج
(paradigm) نسخة ذات تعريف
أضيق، وذات توجه مؤسسي أكبر من النطاق المعرفي
(epistême) عند فوكوه؛ ذلك أنه
لا يسمح إلا بوجود أنواع معينة من الإنتاج المعرفي في داخله.
وهكذا، ففي «العلم المعياري» الذي يجري داخل نماذج خاصة، يغلب على
المكتشَفات المزعجة التي تطعن في الطرائق السائدة للتفكير أن تَلقى
التجاهل أو الحطَّ من قيمتها. وهكذا فإن الثورات العلمية تعتمد على
«تحولات في النماذج»، بمعنى أن يُستبدل نموذج معين بنموذج آخر،
والمثال على ذلك التحول عن النموذج البطلمي الذي يعتبر الأرض
مركزًا للكون، إلى نموذج كوبرنيق الذي يضع الأرض وسط مجموعة من
الكواكب التي تدور في فلك حول الشمس.
ويجوز تفسير مذهب التركيب [التركيبية
constructivism] العلمي عند
قون بطريقتين متنافستين؛ فلنا أن نعتبره وعيًا جذريًّا بالعلم
باعتباره ثمرة للسياسات المؤسسية والسياقات الثقافية، حيث «لا يعلو
معيار على موافقة الجماعة المختصة». ووفق هذه الصياغة نجد أن بعض
النظريات الناجمة في أُطر نماذج منفصلة، مثل فيزياء نيوتن
وأينشتاين، لا تقبل القياس على الإطلاق؛ لأن كلًّا منها منشغل
بتوكيد قيمة الحقيقة في نموذجه الخاص، ومن المحال «جعله مقطوعًا به
منطقيًّا، أو حتى مرجحًا، للذين يرفضون دخول دائرته» (قون ١٩٧٠م:
٩٤). ولنا أن ننظر إلى نظريات قون، من ناحية أخرى، باعتبارها
قبولًا أكثر اعتدالًا للنماذج بصفتها شرطًا لازمًا للتطور العلمي؛
إذ إن قون، مثل بوبر إلى حد ما، يفصل بين العلوم المُنمذَجة، أو
«السابقة للنَّمذجة»
(preparadigmatic)، أي التي لا
تخضع لنموذج واحد، وبين «اللاعلوم»، أي التي ليس لديها نماذج على
الإطلاق، وتعاني — من ثم — ضعفًا راجعًا إلى عدم الاتفاق حول أولى
المسائل الأساسية الخاصة بالمنهج والإجراءات (قون ١٩٧٠م: ٨).
وعندما نُشرت أطروحته أول مرة في الستينيات، تأثر عدد كبير من نقاد
الأدب في البداية بهذا الجانب من عمله، معتقدين أن موضوعهم يحتاج
إلى وضع نموذج واضح حتى يستطيع اعتبار نفسه مبحثًا علميًّا
حقيقيًّا (سوسنوسكي ١٩٩٥م: ٣٦).
وكان عمل بول فييرابند
(Feyerabend) [الباحث النمساوي
(١٩٢٤–١٩٩٤م)، الذي عمل في جامعة بيركلي الأمريكية ٣٠ عامًا]، وكان
من تلاميذ بوبر في كلية الاقتصاد بجامعة لندن؛ يمثِّل تطويرًا
لأفكار قون؛ إذ يقترح «فوضى معرفية» تكاد تأخذ بالنسبية الكاملة،
وتطعن فيما جاءت به حقبة ما بعد التنوير من رفض للسحر والدين
والأساطير، وتفضيل للعلم «المحترم». وهو يقول إن المنهج العلمي
المعتمد يدعو إلى ما يناسب الحالة الاقتصادية والسياسية الراهنة من
آراء في العالم الطبيعي والفيزيقي، ويخفي أصولها تحت قناع «من
الأحكام الجمالية، وأحكام الذوق، وضروب التحيز الميتافيزيقي،
والرغبات الدينية» (فييرابند ١٩٧٥م: ٢٨٥)، مؤكدًا أن العلم هو
الدين الحديث، ولا يستطيع أن يزعم امتلاك سلطة نهائية أكثر من فنون
الشعوذة أو السحر. ولكن إذا كانت حرية ممارسة شعائر أي دين، أو
الغنوصية، أو الإلحاد مكفولة في معظم الدساتير الحديثة، فإنه لا
توجد حرية انشقاق عن المعرفة العلمية، ما دامت تُعلَّم وتُنشَر
باعتبارها الحقيقة العالمية في المدارس والجامعات وفي غيرها. وهكذا
يقول فييرابند إننا «يجب أن نحرر المجتمع من القبضة الخانقة للعلم
الذي تحجَّر أيديولوجيًّا، مثلما قام أسلافنا بتحريرنا نحن من
القبضة الخانقة للدين الحق الوحيد!» مضيفًا: إن العلم يجب تدريسه
في المدارس، ولكن فقط باعتباره ظاهرة تاريخية، جنبًا إلى جنب مع
باقي «الخرافات»، مثل أساطير المجتمعات «البدائية» المزعومة التي
تسعى أيضًا لشرح العالم الطبيعي والفيزيقي (فييرابند ١٩٧٥م:
٣٠٧-٣٠٨).
ويدعونا الإنصاف إلى القول بأن العلماء لم يقبلوا آراء فييرابند
قبولًا شاملًا، ولكن انتشار عمله ومناقشته على نطاق واسع، إلى جانب
عمل قون وغيره من العلماء «التركيبيين»، يدل على أن العلماء قد
ابتعدوا كثيرًا عن الإيمان البسيط بالمذهب التجريبي؛ إذ تزداد
النظرة اليوم إلى العلم رسوخًا لا باعتباره وصفًا محايدًا للظواهر،
وقائمًا على نِشدان المعرفة الخالصة، بل باعتباره نهجًا لمعرفة
معنى العالم، وهو نهج يخضع لتأثير السياقات التي تُصاغ فيها
المشكلات العلمية وتُناقَش و«تُحَل». وهذا الاعتراف بالطبيعة
التفسيرية للعلم يقدم إمكانية التشكك في الفصل بين العلوم
والإنسانيات، وهو الفصل الذي يقوم من زاوية معينة على الحفاظ على
التمييز بين «الحقائق» الموضوعية، و«التفسيرات» الذاتية.
العلم باعتباره ثقافة
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الرأي يتجه في كثير من مجالات العلم
الراهنة إلى أن الظواهر الطبيعية يحكمها عدم اليقين، والفيض [أي:
التدفق والتغير]، وليس من اليسير البتُّ فيها دائمًا من طريق
التجريب. ولنضربْ أمثلة قليلة على هذا العلم الجديد؛ خذ النظرية
النسبية، المتعلقة بكيفية سلوك الأشياء حين تنطلق بسرعات هائلة،
وبدرجة تستعصي على القياس معياريًّا، فهي تقول إن بعض مجالات
العالم الخارجي التي نميل إلى اعتبارها ثابتة، مثل الزمن، تتصف في
حقيقتها بالنسبية، وتقول النظرية الكمية
(quantum) إن الجزيئات دون
الذرية لا تتصرف وفق القوانين الكلاسيكية، وإن عدم القدرة على البت
في حركتها تضع حدودًا على دقة قياسنا، وتقول نظرية فوضى الكون [في
الفيزياء الحديثة] إن النُّظم المعقدة التي تحكمها قوانين حتمية،
وينبغي أن تكون، نظرًا لذلك، خاضعة لتوقعاتنا؛ تتَّسم في الحقيقة
بالفوضى؛ لأن حساسيتها للظروف المبدئية تُنتِج نطاقًا هائلًا من
المتغيرات (بحيث يمكن مثلًا لفراشة ترفرف بجناحيها فوق مدينة ملتون
كينز [في إنجلترا] أن تتسبب في هبوب إعصار في جزيرة جواديلوب
[الفرنسية في البحر الكاريبي])، وتهدف هندسة الخطوط المنكسرة
المتصاغرة (fractal) إلى إثبات أن
الأشياء المركَّبة، مثل نُدَف الثلج والأشجار وسواحل البحر ذوات
عدد لا نهائي من الأبعاد الكسرية التي يستحيل من ثَم حصرها، كما أن
التطورات في الرياضيات، مثل نظرية جوديل
(Gödel) [والمقصود نظريتا
النقص اللتان وضعهما]، ونظرية المنطق المشوش، تقول إن بعض
المعادلات الرياضية لا يمكن إثبات صحتها أو خطئها، وإن علينا أن
نتعامل وحسب بسلسلة من المقولات الممكنة.
ولم يتخلَّ العلم عن بحثه عن قوانين حتمية أو المعرفة الشاملة،
بل إن التقدم المطَّرد في تصميم الحاسوب وعمله، دفع كثيرًا من
العلماء العاملين في الميادين السابقة الذكر إلى الاستمساك
بإمكانية اكتشاف «نظام عميق»، أي القواعد الجبارة التي تحكم
النُّظمَ جميعًا حتى أعقَدَها. فعلماء الفيزياء، على سبيل المثال،
لا يزالون يميلون إلى الإيمان بإمكانية العثور على «نظرية لكل
شيء»، أو على الأقل، على نظرية قادرة على أن تصل آخر الأمر إلى شرح
لأصول الكون، والجزيئات الأساسية التي يتشكل منها. وسوف تتيح لنا
مثل هذه النظرية، كما يقول ستيفن هوكنج
(Hawking) في عبارته المشهورة،
«أن نعرف فكر الله» (١٩٨٨م: ١٩٣). ومع ذلك فلا يزال صحيحًا أن
العلماء المعاصرين لا يوافقون دائمًا على المثل الأعلى البيكوني
الذي يقضي بقصر التعامل على الأدلة المجسدة الملحوظة، فهم يميلون
على الأرجح لاستخدام الحدس، والتفسير، والتخمين، و«التجارب
الفكرية»، إلى جانب الملاحظة التجريبية.
وقد استولى النقاد الأدبيون والثقافيون على عدد كبير من هذه
التطورات العلمية (الأمر الذي أحزن العلماء التجريبيين التقليديين
في بعض الأحيان) في سبيل وضع مداخل بينية؛ إذ يرى هؤلاء النقاد أن
الأشكال الجديدة للعلم لم تغير وحسب أسلوب فهمنا للعالم الطبيعي
الفيزيقي، بل إنها تشكل جانبًا من تساؤل فلسفي أوسع نطاقًا عن
طبيعة الواقع نفسها، في ثقافة «بعد حداثية» يحكمها عدم الحسم
والنهايات المفتوحة والتشتت، إذ يقول ليوتار في تحليله «لحال ما
بعد الحداثة»، إن أشكال العلم المذكورة تسهم في إثارة الشك العام
فيما يمكن أن يُعرَف وما يمكن أن يُعتَقد في الثقافة المعاصرة:
لما كان العلم بعد الحداثي يشغل نفسه بأشياء من قبيل ما
لا يقبل الحسم، وحدود السيطرة الدقيقة، والصراعات المتسمة
بالمعلومات غير الكاملة، والكسر إلى ما لا نهاية
(fracta)، والفواجع،
والمفارقات البراجماطية، فإنه يُنظِّر لتطوره باعتباره غير
مستمر، فهو فاجع، لا يقبل التصحيح، قائم على المفارقات.
إنه يغير من معنى كلمة المعرفة في تعبيره عن الأسلوب الذي
يمكن به إحداث مثل هذا التغيير؛ إذ إنه لا ينتج المعروف،
بل ينتج المجهول.
(ليوتار ١٩٨٤م: ٦٠)
ويقيم الفيلسوف الفرنسي جان بودريار
(Baudrillard) بعض الروابط
البالغة الجسارة بين النقد الثقافي بعد الحداثي والعلم الجديد، فهو
يصور في كتابه وهْم النهاية، مثلًا، سلسلة من الروابط الموجية بين
ميادين العلم المختلفة والإحساس بعد الحداثي «باختفاء التاريخ»، أي
تدهور أية حكاية عن التقدم التاريخي في عالم يدفعه الطابع الفوري
والزائل. وهو يستند إلى التشبيه «بسرعة الهرب التي يتطلبها الشيء
للتحرر من مجال جاذبية نجم أو كوكب» قائلًا إن «التسارع المطرد
للحداثة، والتكنولوجيا، والأحداث، ووسائط الاتصال، وجميع صور
المبادلات — الاقتصادية والسياسية والجنسية — تدفعنا إلى اكتساب
«سرعة الهرب»، وتجعلنا ننطلق خارج المجال الإحالي للواقع والتاريخ»
(بودريار ١٩٩٤م: ١). أي إن التاريخ، مثل الكون، سوف «يتوقف وينطفئ
مثل الضوء والزمن بجوار كتلة ذات كثافة لا نهائية» (بودريار ١٩٩٤م:
٤). ولا تنحصر القضية عنده في أن التاريخ قد انتهى، بل تقول إنه
ارتد منقلبًا على نفسه: «فحين تجاوز قمة الزمن، وذروة قوس التطور،
والانقلاب الصيفي [للشمس]، بدأ الانحدار الهابط للأحداث، وبدأت
الأشياء تجري القهقرَى. ويبدو أن الزمكان التاريخي مقوس مثل الفضاء
الكوني» (بودريار ١٩٩٤م: ١٠). ويقدم بودريار هنا مفاهيم كثيرة
مختلفة من ميادين متخصصة من الفيزياء النظرية، مثل مجالات
الجاذبية، وسرعة الهروب، والكتلة الحرجة، والزمكان، حتى يعبر عن
الإحساس العام بالسيولة وعدم اليقين في الثقافة المعاصرة.
وأدت هذه المداخلات النظرية إلى صدور رد فعل مضاد من العلماء
الذين أغضبهم الاستيلاء على مباحثهم العلمية على هذا النحو، وكان
أشهر هذه الردود ردًّا ذاع سوء سمعته وحظِيَ بضجة إعلامية كبيرة،
وهو ما يُسمى «فضيحة سوكال»
(Sokal)؛ إذ قام سوكال، أستاذ
الفيزياء، في صيف ١٩٩٦م، بنشر مقال في مجلة أمريكية للدراسات
الثقافية يزعم فيها أنه يقيم الحجة على أن العلم لا يملك قدرة خاصة
على إدراك الحقيقة، ولكنه ثمرة وحسب للأيديولوجيات السائدة (سوكال
١٩٩٦م أ). وبعد ظهور المقال بقليل كشف سوكال عن أنه كان خدعة، وأنه
كان غاصًّا بالتُّرَّهات، وببعض الكلمات التي جمعها بأسلوب القص
واللصق، مقتطفًا إياها من أقوال كبار فلاسفة العلم، الذين انبرى
الآن لمهاجمتهم بسبب تقويضهم «للتصور المعياري للبحث العلمي،
باعتباره بحثًا عن الحقائق، أو ما يقترب من الحقائق، عن العالم»
(سوكال وبريكمون ١٩٩٨م: ٥). وزعم أنه يرحب بأي فرد يرى أن قوانين
الفيزياء متاحة للتفسير، ويدعوه إلى تفسيرها بالقفز من نافذة شقته
في الطابق الحادي والعشرين (سوكول ١٩٩٦م ب: ٦٢).
واشترك سوكال مع جان بريكمون
(Bricmont) في إصدار كتاب
يرُدَّان فيه على الخلاف الذي نشأ في أعقاب موقف سوكال، ويتوسعان
فيه في ذلك الرد، بانتقاد استعمال النظريات والمفاهيم العلمية في
النظرية النقدية بعد الحداثية، ويقولان إن المفكرين الفرنسيين، مثل
ليوتار وبودريار، إلى جانب آخرين مثل جاك لاكان، وجوليا كريستيفا،
ولوس إيريجاراي، وجيل ديلوز، قد استولَوا على بعض الأفكار من مجال
الرياضيات ومجال الفيزياء، ناثرين في كتاباتهم أسماء بعض المفاهيم
وأصحاب النظريات من دون أن يفهموها في الواقع، أو أن يدركوا
الفوارق الفكرية الهائلة القائمة فيما بين التخصصات المختلفة
(سوكال وبريكمون ١٩٩٨م: ١٧٨). وهم يزعمون أنهم لا يعارضون زيادة
التفاعل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، لكنهم يريدون وضع
«الشروط المسبقة» لمثل هذا الحوار، ومن بينها الإقرار بأن «العلوم
الطبيعية ليست مجرد مستودع للاستعارات التي تُستخدم في العلوم
الإنسانية» (سوكال وبريكمون ١٩٩٨م: ١٧٤، ١٧٧). والسؤال، فيما يبدو،
كيف يستخدم هؤلاء النقاد بعد الحداثيين الأفكار العلمية؛ إذ إن
ليوتار يستخدم العلم الجديد أساسًا لسلسلة من التأملات حول الطبيعة
المؤقتة للمعرفة في الثقافة المعاصرة، ولكن بودريار ينتفع انتفاعًا
مباشرًا، إلى حد أبعد فيما يبدو، بالسلطة الفكرية للمفاهيم العلمية
نفسها؛ إذ يقيم رابطة بينها من خلال القياس وبين بعض المفاهيم
الأخرى في النظرية الثقافية. وليس من الواضح في كل حالة كيف يمكن
لهذه الأفكار العلمية العويصة ذات الطابع التقني الخاص، وغير
المعروفة في الثقافة على نطاق واسع، أن تغذو المعنى بعد الحداثي
العريض لعدم الحسم، وعدم القطع بشيء في أية مقولة.
ولكننا نستطيع إنشاء مجال بيني أشد خصبًا يتمثل في فحص طرائق
اتساع رقعة الأفكار العلمية حتى تتجاوز ميدان البحث المتخصص، وتشكل
جانبًا من جوانب الثقافة؛ كيف تغذوها الفلسفات السائدة، والشواغل
الاجتماعية، والصور التي تمثل المجتمع، وكيف تتفاعل عند انتشارها
على نطاق واسع مع «اللاعلم». ويقترح «سنو» في مقال لاحق لمحاضرته
عن «الثقافتين»، أن البيولوجيا قد تُعتبر أفضل نموذج للعمل البيني
ما بين العلوم والإنسانيات؛ لأنها يمكن أن تُفهَم من دون دراسة
للرياضيات، كما أنها تؤثر بصورة أساسية في الصور التي يرسمها الناس
لأنفسهم، وطرحهم أسئلة كبرى عن أصول الحياة، وعلاقتنا بأنواع
الكائنات الحية الأخرى، وطبية النفس (سنو [١٩٥٩م] ١٩٩٣م: ٧٣-٧٤).
ونظرية الانتخاب الطبيعي التي وضعها داروين، والتي تقول إن نشوء
الأنواع وارتقاءها
١⋆
يجري من خلال قدرة التكيف عند أفضل القادرين على البقاء والتكاثر؛
مجرد مثال واضح على عدم انحباس التطورات العلمية انحباسًا صارمًا
داخل المباحث، ودليل على ما يقيدها من عوامل خارجية. خذ مثلًا
الصيغة الأصلية التي وضعها داروين في كتابه أصل الأنواع (١٨٥٩م)،
تجد أنه يستبعد الإشارة المباشرة إلى البشر وعلاقتهم بالأنواع
الأخرى، ربما مراعاةً للطابع الديني المحافظ في العصر الفكتوري
الذي يضمر الكتاب طعنًا فيه. كما أن الكتاب أيضًا، على نحو ما ذكره
جيليان بير (
Beer) وغيره، يلجأ إلى
المراوغة إزاء قضية الفاعلية: فإذا كان داروين لا يقصد أن يقول إن
الانتخاب الطبيعي من فعل فاعل ذي غرض أصلي أو خالق يريد الخير، فإن
العبارة نفسها لا تبتُّ في إمكان وجود «قوة تتولى الانتخاب»
المذكور، وكثيرًا ما يستخدم الكتاب صيغة اسم الفاعل «المُنتخِب»
[بكسر الخاء]، أو «المُفضِّل» [بكسر الضاد]، في الإشارة إلى
الطبيعة (بير ١٩٩٦م أ: ٢٤). وليس هذا دليلًا وحسب على تأثر داروين
نفسه بالمجتمع الفكتوري، بل دليل على أن العلم يرتبط ارتباطًا
محتومًا بألوان أخرى من الخطاب؛ لأنه يستخدم اللغة، وليست اللغة
على الإطلاق وسيطًا خالصًا لنقل الواقع، لكنها بناء بشري يتضمن
المجاز، والنسق السردي، وتحويرات المجتمع والثقافة. وهكذا، فعلى
الرغم من أن داروين كان يقصد إبعاد البشر عن مركز تصويره لأصل
الأنواع بتوكيد الدور الذي تنهض به المصادفة والطوارئ، فإن اللغة
التي يستعملها لبسط نظرياته توحي بالقصد والفاعلية والعمد.
كانت الرابطة بين العلماء وبين الثقافة العريضة غير العلمية
رابطة معترفًا بها على نطاق واسع في منتصف القرن التاسع عشر، أي في
الوقت الذي كتب فيه داروين كتابه، وكان العلماء كثيرًا ما يحاولون
مخاطبة جمهور من أقران لهم غير متخصصين، بلغة غير تقنية، معتمدين
على «الحكايات (stories) المشتركة»
في تلك الفترة، إلى جانب الأدب، والكتاب المقدس، واللاهوت (بير
١٩٩٦م ب: ٨). وكتاب أصل الأنواع يستشهد بشيكسبير وميلتون، واللاهوت
الطبيعي، وهو متأثر تأثرًا عميقًا بكتاب توماس مالتس
(Malthus) «مقال عن مبدأ
السكان» (الذي ظهرت طبعته السادسة والأخيرة في عام ١٩٢٦)، وهو يقدم
رؤيا للنهاية، مصورًا عالمًا زاد اكتظاظه بالسكان عن كل حد، وتدفعه
المجاعات، ويعاني الأمراض، ويتسم بالنضال والتنافس للحصول على
الموارد الشحيحة، كما يوصي الكتاب الطبقات «الدنيا» بالتعفف عن
الجنس. ولا شك في الدلالة الكبرى لما يتسم به كتاب داروين من
نهايات مفتوحة، وحالات تناصٍّ واضحة، واستعمال ضروب مختلفة من
المجاز، والأشكال السردية، وأنماط بالغة التنوع من الخطاب العلمي
وغير العلمي في بناء بعض حججه. يقول الكتاب إنه من المحال ملاحظة
حدوث النشوء والارتقاء في عمر إنسان واحد، ومن ثم لا يمكن إلا أن
نستنبطه من الأدلة الناقصة، مثل سجلات الحفريات والتشريح المقارن،
وهو ما لا يتفق اتفاقًا صارمًا مع توكيد بيكون للملاحظة التجريبية.
وهكذا فإن داروين استطاع — من خلال تجاوز الإطار العلمي المحدد
لذاته في العادة — أن يصوغ نظرياته في غيبة مقدار كبير من الأدلة
المعضِّدة.
وبسبب نشأة المباحث الأكاديمية داخل السياق التخصصي للجامعة
البحثية، أصبح من الأرجح أن يوجهوا بحوثهم إلى القراء المتخصصين،
وأن يتجنبوا لغة المجاز تجنبًا صريحًا. وعلى الرغم من النجاح
الباهر الذي حققته الكتابات العلمية الموجهة للجماهير في السنوات
الأخيرة، فإن معظم الدراسات العلمية تُجرَى داخل نطاق المباحث
المتخصصة، وكثيرًا ما يتعذر فهمها على العلماء العاملين في تخصصات
أخرى، ناهيك بغير المتخصصين، بَيد أن هذا لا يَحُول دون استمرار
كون العلم جزءًا من الثقافة، فالعلم، كما يقول ريتشارد رورتي
(Rorty)، يتقدم من خلال
استخدام المجازات بمعناها الحقيقي. ونقول بعبارة أخرى إن الأفكار
العلمية بدأت حياتها في صورة مجازات، ولكنها عندما ازداد قبولها
وزادت الأُلفة بها، غلب عليها أن تُعتبر صياغات حرفية «للحقيقة»،
بأسلوب يضفي الغموض على الطبيعة المجازية المحتومة للُّغة (رورتي
١٩٨٩م: ٢٨، ٣٧). ومن الأمثلة على المجاز ذي المعنى الحرفي الفكرةُ
الداروينية الجديدة التي أتى بها ريتشارد دوكينز
(Dawkins) عن «الجينة
الأنانية» (selfish gene)، وتفترض
نظرية الجينة الأنانية أن بعض الجينات [المورثات] لا همَّ لها إلا
تكاثرها، فالكائنات الحية يقتصر وجودها على كونها «آلات بقاء» لهذه
الجينات، وهو ما يعني أنها سوف تعمل بأساليب تضاعف من فرص نقل نسخ
من جيناتها إلى الأجيال التالية (دوكينز ١٩٧٦م). ولكن كلمة «أناني»
توحي بالفاعلية، بل بالأخلاق، أي إنها توحي بأن الجينات تسعى
دائبةً لتحقيق نتيجة معينة، في حين أنها بوضوح غير واعية أو غير
عامدة على هذا النحو. واستولى على هذه الاستعارة التي تركز على
الإنسان بعضُ الكتاب الذين يروِّجون المفاهيم العلمية للجماهير حتى
يقدموا رؤية للجينات، بل وللأفراد والمجتمعات، باعتبارها ذوات
أنانية راسخة، وإذا بالعالم دوكينز ذي الميول اليسارية يُتهم ظلمًا
في الثمانينيات بأنه مدافع عن ثقافة الإثراء السريع بين الشبان
الطامحين والسياسات الاقتصادية المحافظة لليمين الجديد. ومن ثم فإن
نظرية دوكينز مثال آخر يبين كيف تؤثر الطبيعة المجازية المحتومة
للغة في المباحث العلمية المستقلة ظاهريًّا، وتُكسِبها شواغل من
خارج التخصص.
وتشير آراء داروين أيضًا إلى استحالة تقييد العلم أو حبسه داخل
خطاب علمي خالص؛ إذ إن نظرية الانتخاب الطبيعي مثلًا سرعان ما
انتشرت على نطاق واسع في الثقافة كلها، بحيث أصبحت حلقة من سلسلة
كاملة من الحكايات (narratives)
المتداخلة. وعلى الرغم من محاولات داروين لتجنب مناقشة البشر، فإن
الصور الجماهيرية التي اتخذتها نظرياته كانت تربط ربطًا صريحًا بين
البشر والأنواع الأخرى على سُلم النشوء والارتقاء، وهو ما اتضح
وضوحًا بارزًا في ظاهرة «الداروينية الاجتماعية» في أواخر القرن
التاسع عشر، والتي كانت تمثل انصهارًا بين البيولوجيا والفكر
الاجتماعي، وفي هذا الإطار كان يُنظَر إلى مجموعات كاملة من السكان
وطبقات البشر باعتبارها نشأت وارتقت من خلال عملية انتخاب طبيعي،
وذلك وفقًا لما كان العالم الفيلسوف البريطاني هيربرت سبنسر
(Spencer) يشير إليه بمصطلح
«البقاء للأصلح». وقد تنوعت الصور التي استُخدمت بها هذه الأفكار
لتبرير السيطرة الاستعمارية على الشعوب «الهمجية»، مثل حركة تحسين
النسل (eugenics)، وسياسات حظر
الهجرة، والفصل العنصري، واقتصاد حرية التجارة، وكثير من البرامج
التي تتجاهل الفقراء وغير القادرين على كسب عيشهم. كما أثرت نظريات
داروين في عدد كبير من النصوص الأدبية والثقافية في تلك الفترة.
وبرزت فكرة «الحلقة المفقودة» بين القرود والبشر، وهي مَسْخ يُنسَب
ظلمًا إلى الموقف النظري لداروين، وسرعان ما انتشر في الصحافة
والقصص الخيالية ووسائط الاتصال الجماهيرية الأخرى، وكثيرًا ما كان
يُصوَّر في صورة بشعة كالغول أو «البعبع» أو «الآخر» العرقي (بير
١٩٩٦م ب: ١١٨). والأهم من ذلك ما يقوله بير من أن نظرية النشوء
والارتقاء كانت لها آثارها على مستوى فنون السرد في القرن التاسع
عشر؛ إذ شرعت هذه الفنون في اكتساب انشغال دارويني بالقوانين
والعلاقات والعمليات الخفية، إلى جانب اهتمام جديد بوقوع المصادفات
والإمكانيات المتعددة (بير ١٩٨٣م: ١٤٩ وما بعدها). وهكذا فمن
المحال تحقيق النجاح الكامل لجهود حصر العلم في مبحث معين أو
مجموعة متخصصة؛ لأن «المعاني المستبعَدة، أو بواقي معاني الألفاظ»
من الممكن «إخراجها إلى السطح، ويمكن أن يستعملها من هم خارج
الاتفاق أو «العقد» التخصصي، وكذلك قراء المستقبل الذين تدخلت
حلقات تاريخية مترابطة في قراءاتهم» (بير ١٩٩٦م ب: ١٥٦).
ويقدم لنا مجال التكنولوجيا أوضح طريق يمكن للعلم أن يسلكه
للتحرر من هذا «العقد» التخصصي، فهذا هو المجال الذي تتحول فيه
المكتشفات العلمية إلى نواتج ثقافية. ويُعتبر عمل دونا هاراواي
(Haraway)، أستاذة البيولوجيا
التي انتقلت إلى الدراسات الثقافية وتاريخ العلم، مرتبطًا
«بالثقافة التقنية» المذكورة بصفة أساسية. وفكرتها عما يُسمى
«سايبورج» (cyborg)؛ الكلمة
المنحوتة من cybernetic organism،
أي: الإنسان الذهني؛ تعني عندها الجمع بين الإنسان والآلة، قائلة
إننا جميعًا في الثقافة المعاصرة «كائنات خرافية، مُهجَّنة
ومُصنَّعة، وفقًا لنظرية معينة، من الآلة والكائن الحي، ونحن
باختصار «سايبورجات»» (هاراواي ١٩٩١م: ١٥٠). وليس من الصعب الإتيان
بنماذج من هذا الاندماج بين التكنولوجيا والإنسان؛
فالتطورات في الطب والتكنولوجيا
الدقيقة نجحت في إنتاج مفاصل صناعية لعظام الحوض والأطراف، إلى
جانب استزراع آذان وعيون للصم والمكفوفين، وتستطيع جراحة التجميل
تغيير مظهر جسد الإنسان، وتغيير الجنس يمكن أن ينتج أجسادًا من جنس
آخر. وعلى مستوى الحياة اليومية نستطيع أن نقول إن المرء يقترب من
السايبورج حين يستخدم عدسات ملتصقة، أو يجلس أمام شاشة الكمبيوتر،
أو يشاهد التلفاز، أو يستمع إلى التليفون المحمول، أو يرتدي لباس
الرياضة لرفع لياقته البدنية.
ولكن القضية المهمة في نظر هاراواي أن السايبورج «مخلوق من
الواقع الاجتماعي والعالم الخيالي جميعًا … صورة مكثفة من الخيال
والحقيقة المادية» (١٩٩١م: ١٤٩-١٥٠). والتكنولوجيات أشياء مادية
ووسائل سردية، وتتعلق بتخيل رؤية خاصة للمجتمع وتمثيلها، مثلما
تتعلق بتقديم حلول محددة لمشكلات عملية. وقد ظهرت السايبورجات في
الروايات الخيالية الجماهيرية، مثل رواية فرانكنشتاين، التي كتبتها
ماري شلي (١٨١٨م)، وما تلاها من روايات. والواقع أن نص شلي، مثَّل
نوع أدب الخيال العلمي الذي كثيرًا ما يعتبر هذا النص تدشينًا له،
يسمح لنا بوضوح أن نقرأه باعتباره نوعًا بينيًّا، ما دام يستند إلى
البحث العلمي، ويستخدم السرد والمجاز في تخيل إمكانيات العلم
وأخطاره في المستقبل. والمؤلفة تبني وصفها لخلق وحش فرانكنشتاين
على التطورات في التحليل والتشريح، والتجديدات التي أدخلها السير
همفري ديفي (Davy) في الكيمياء
الكهربية، وتجارب لويجي جلفاني
(Galvani)، التي تبين كيف
تتحرك أعضاء الحيوان الميت عند إمرار تيار كهربائي فيها. وهكذا
تغذو الرواية رؤية واثقة جديدة للعلماء «الذين اكتسبوا قوًى جديدة
لا يكاد يحدها حد؛ إذ يستطيعون أن يأمروا الرعد في السماء، بل
ويحاكوا العالم الخفي ساخرين بكل أطيافه» (شلي [١٨١٨م] ١٩٩٤م:
٣٠-٣١)، ولكن الرواية في تصويرها «للعالِم المجنون»، الذي يتراجع
عن تحمل المسئوليات والعواقب الناجمة عن توليد الحياة، تُبرِز
بواعث القلق الدائمة إزاء سلطة العلم القادرة على التحكم في البشر
والطبيعة والتلاعب بهما، والرؤى التي كثيرًا ما تشبه الكوابيس
للعلم الطليق دون ضابط ولا رابط، مثل الخلافات الدائرة في أجهزة
الإعلام حول استنساخ البشر، والأغذية المعدَّلة وراثيًّا (بأسلوب
فرانكنشتاين) لا تزال تثبت هذا الانصهار بين التكنولوجيا والخيال،
مع التصدي في الوقت نفسه لبواعث قلق حقيقية حول سلطة علم الوراثة
[الجينية] في التحكم في الحياة.
وتهدف هاراواي في جانب كبير من عملها إلى إحداث فجوات في مزاعم
العلم بالحياد والموضوعية، وإعادة النظر في موقعه باعتباره «معرفة
في سياق معين» (situated
knowledge) (هاراواي ١٩٩٧م: ٣) تستخدم لغة المجاز
لإعادة إنتاج شكل معين من علاقات السلطة. ولكنها لا تعادي
التكنولوجيا، بل تقول إن السايبورج يمكن أن يتخذ موقع النغل [الطفل
غير الشرعي] للمذهب الأبوي والعلم والرأسمالية (هاراواي ١٩٩١م:
١٥٤)؛ لأنه مفيد في هدم المواقع الطبقية التقليدية، والعلاقات
البالية بين الجنسين، ويرغمنا على إعادة التفكير في فكرة الهوية
برُمَّتها، بحيث يُنتِج «نوعًا من النفس الجماعية والشخصية
الحداثية التي تعرضت للتفكيك، ثم أعيدَ تركيبها». وهذا السايبورج
الذي يضم الجنسين معًا يهدد «الثنائيات المراتبية»، التي ظلت حاكمة
في الفكر الغربي منذ أرسطو، أي العقل والجسم، والحيوان والإنسان،
والعام والخاص، والطبيعة والثقافة، والرجل والمرأة (هاراواي ١٩٩١م:
١٦٣). وتقول هاراواي إن التكنولوجيا — في تفاعلها مع الثقافة،
واكتسابها وجودًا منفصلًا عن العلم «البحت» — هي التي تقوِّض بعض
الطرائق التقليدية في التفكير، وخاصة الفصل بين العلوم
والإنسانيات. إن مجال الثقافة التكنولوجية، مثل الدراسة الداروينية
للتمييز بين الأنواع، يثبت أن العلم ذو طابع بيني محتوم؛ لأنه —
على الرغم من احتمال زعمه الانحصار في إطار المبحث العلمي الذي
يفرض حدوده — يُعتبر على الدوام جزءًا من حكايات ومعارف
أخرى.
الجغرافيا باعتبارها نصًّا
تعرضت الافتراضات التأسيسية لميدان الجغرافيا أيضًا للطعن فيها
بمداخلات بعض المباحث العلمية الأخرى في السنوات الأخيرة، وكان
الدافع الرئيسي لذلك هو الاهتمام بالتصورات البينية للمكان، لا
باعتباره شيئًا محايدًا، بل شيء تنتجه الثقافة، وتعيش فيه، وتمثله
بأساليب متنوعة. وهذا النوع الجديد من الجغرافيا الثقافية يقوِّض
أية محاولة للنظر في الموضوع باعتباره «مبحثًا علميًّا يُنتظَر
إقراره، ولا يعتمد تشكيله على المنطق الداخلي للبحث الفكري بقدر ما
تمليه مقتضيات «الواقع الخارجي»» (جريجوري ١٩٩٤م: ٨). ونقول بعبارة
أخرى: ما دام المكان غير محايد على الإطلاق فلا يمكن أن نقول إنه
لا يزال ينتظر — صابرًا — أن يكتشفه الجغرافيُّ، فالواقع أنه نتاج
نطاق كامل من العوامل والممارسات المختلفة، ويتطلب النظرات العميقة
من المباحث العلمية بقصد فهمه ومناقشته.
يُنسَب إلى الباحث الأمريكي كارل أ. سوير
(Sauer)، إلى حد كبير؛ فضلُ
إنشاء الجغرافيا الثقافية الجديدة في بعض أعماله، مثل الإنسان في
الطبيعة (١٩٣٩م)، والأرض والحياة (١٩٦٣م)، وهي التي كانت تسعى
لتبين أن المناظر الطبيعية ليست في الواقع «طبيعية»، بل نتاج
ثقافي، وذلك بإقامة بعض الروابط بين الجغرافيا وبعض الموضوعات
الأخرى، مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم الآثار والتاريخ.
ويتعلق العمل الأحدث من جانب بعض النقاد، مثل هنري ليفيبير
(Lefebvre)، وإدوارد سوجا
(Soja)، وديفيد هارفي
(Harvey)، في حالات كثيرة
بالمكان نفسه، و«كيف يمكن جعل المكان يخفي بعض العواقب عنا، وكيف
نشهد علاقات السلطة والانضباط منقوشة في الطابع المكاني الظاهر
البراءة للحياة الاجتماعية» (سوجا ١٩٨٩م: ٦). ويتصدى ليفيبير بصفة
خاصة، مثلًا، لأصول «المعنى الهندسي البحت» للمكان في المنطق
الديكارتي، وهو الذي يتصور أن المكان «مساحة فارغة»، أو «شيء مديد
(res
extensa) لا نهائي، ومطلق،
وخَصِيصة ربانية يمكن إدراكها في لحظة حدس واحدة» (ليفيبير ١٩٩١م
ب: ١، ١٤). وهو يقترح بدلًا من ذلك الانشغال «بمكان الممارسة
الاجتماعية، والمكان الذي تشغله الظواهر الحسية، بما في ذلك ثمار
المخيِّلة، مثل المشروعات والإسقاطات والرموز واليوتوبيات»
(ليفيبير ١٩٩١م ب: ١١-١٢).
ويمكن الانتفاع بهذه الفكرة الجديدة عن المكان، مثلًا، في فهم
المدن؛ فالمدن، كما هو واضح، كيانات مادية، وهي نواتج لبعض الشواغل
التاريخية للجغرافيا، والأرض، ورأس المال، ولكنها أيضًا ذوات طابع
نصي، ومن زاوية معينة، من المحال أن تفهم المدينة على الإطلاق إلا
باعتبارها نصًّا؛ إذ إنها تَكتسي درجةً كبيرة من التعقيد والشَّبه
بالتِّيه، بحيث تستعصي على الحصر في كيانها الكلي المادي، وكل ما
نستطيع الوصول إليه في أية حال لا يزيد عن تفسير انتقائي لها. ويرى
مارشال بيرمان (Berman) — الذي
يركز على المدينة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
— أن المدينة هي التجلي الصريح لرؤًى متنافسة للحداثة. فالكثير من
الأبنية الشامخة وناطحات السحاب في نيويورك، مثلًا، كان القصد
المحدد منها أن ترمز لحداثة الحياة المدنية، خالقة «غابة من رموز
الشاعر الفرنسي بودلير»، التي يصارع بعضها بعضًا في سبيل السيادة،
«ويحارب بعضها بعضًا للوصول إلى الشمس والضوء، ويعمل كلٌّ على قتل
صاحبه، وتصهر بعضها بعضًا وكياناتها أيضًا في الهواء» (بيرمان
١٩٨٣م: ٢٨٩). وقد يفسر لنا هذا سبب وجود أعلى مبانٍ في العالم في
أفقر المدن؛ فالقصد منها إيجاد الحداثة، وإعلان أن المدينة
مستقبلية وتتطلع إلى الأمام. وهذه التشكيلات النصية داخل المدن
ترتبط أيضًا بعلاقات السلطة، وتنتج نوعًا من الجغرافيا الرمزية
التي تقرر من يستطيعون أن يعملوا أو يقيموا أو حتى يدخلوا أماكن
بعينها. وكما تقول شارون زوكين
(Zukin) «إن منظر المدن
وملمسها تتجلى فيهما قرارات حول ما — ومَن — ينبغي أن يكون ظاهرًا
أو لا يكون» (١٩٩٥م: ٧). وهكذا فإن المداخل البينية للمدينة يغلب
عليها إضفاء الطابع النصي على المكان الاجتماعي داخل الواقع المادي
للمدينة نفسها، مع الربط بين هذا وبين تمثيلها في أنواع النصوص
الأخرى، مثل الروايات والأشعار والأفلام وسوى ذلك من وسائط الاتصال
الجماهيرية.
ويمكن الانتفاع بهذه الأفكار البينية عن المكان في دراسة الخطاب
الاستعماري وخطاب ما بعد الاستعمار. ويستكشف أحدُ النصوص التأسيسية
لنظرية ما بعد الاستعمار — وهو كتاب الاستشراق الذي وضعه إدوارد
سعيد — طرائقَ إقامة الغيرية العنصرية على أسس الجوهرية الجغرافية،
ويعني بها «الفكرة التي تقول بوجود أماكن يسكنها أشخاص أصليون
«مختلفون» اختلافًا جذريًّا، ويمكن تعريفهم على أساس دين ما، أو
ثقافة ما، أو جوهر عرقي يختص به ذلك المكان الجغرافي» (سعيد
[١٩٧٨م] ١٩٩٥م: ٣٢٢). وهكذا فإن الاختلافات الملحوظة بين «الشرق»
و«الغرب»، على سبيل المثال، نتاج «لجغرافيا خيالية» تساعد «الذهن
على تركيز إحساسه بنفسه بإضفاء طابع درامي على المسافة والاختلاف
اللذين يفصلان بين ما هو قريب منه وما هو بعيد عنه» (سعيد [١٩٧٨م]
١٩٩٥م: ٥٥). والجوهرية الجغرافية المذكورة تظهر بوضوح وجلاء في بعض
المصطلحات مثل «الشرق الأدنى»، و«الشرق الأوسط»، و«الشرق الأقصى»،
وهي التي تُعرِّف العلاقة النسبية بين الأقاليم المختلفة من منظور
ذي مركزية أوروبية خالصة.
ويرصد إدوارد سعيد كثيرًا من العوامل التي أدت إلى تحويل شكل
الجغرافيا باعتبارها مبحثًا علميًّا في نهاية القرن التاسع عشر،
ومن بينها الربط بين نشأة الأنماط والأساطير الغربية عن الشرق، وهي
التي أدت إلى الاستيلاء على الشرق باعتباره «الآخَر». وعلى نحو ما
ذكره اللورد كيرزون، نائب الملك في حكم الهند سابقًا، إلى الجمعية
الجغرافية الملكية عام ١٩١٢م، كانت الجغرافيا قد تحولت من علم
«بليد متحذلق» إلى «أشد العلوم انتماءً إلى العالم كله … وأصبحت
خادمة التاريخ» (سعيد [١٩٧٨م] ١٩٩٥م: ٢١٥). كان ارتقاء الجغرافيا
إلى أرفع مراتب العلوم الاجتماعية يرجع مباشرة إلى المشروع
الاستعماري؛ إذ أصبحت المعلومات الطبوغرافية مَوردًا ثمينًا،
مرتبطًا بتكديس الثروة والهيبة والسلطة. وكانت الجمعيات الجغرافية
نفسها تنهض بدور مهم في تشجيع السياسيين وغيرهم من الأطراف المعنية
على القيام بالمزيد من الفتوحات الإمبريالية، بل ذكر أحد الفرنسيين
من أعضاء هذه الجمعيات أنها «أُنشئت للتغلب على السحر المُهلِك
الذي يَغُلنا بأصفاده إلى سواحل بلادنا» (سعيد [١٩٧٨م] ١٩٩٥م:
٢١٨). وهكذا فالبحث النقدي الذي يُجريه سعيد في مجال ما بعد
الاستعمار يهدف إلى هدم الفكرة التي تقول إن الجغرافيا علم محايد،
من خلال إشارته إلى طبيعتها الثقافية المُلِحة، وكيف «يكتسب المكان
معنًى عاطفيًّا، بل وعقلانيًّا، بما يشبه العمل الشعري، وهو الذي
يحوِّل الأمكنة البعيدة الخالية، أو التي لا اسم لها، إلى معنًى
محدد» ([١٩٧٨م] ١٩٩٥م: ٥٥).
ويركز جانب كبير من البحث في الجغرافيا الثقافية على عملية رسم
الخرائط، أي كيف أنها تجرد «المكان الاجتماعي»، وتقيمه باعتباره
مفهومًا عالميًّا متجانسًا يقبل القياس، فكانت الخرائط المبكرة
للأراضي المجهولة، مثل أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا، كثيرًا
ما تُعتبر أعمالًا فنية، ومن ثمار الخيال لا العلم، وبها صور
مرسومة من وحي الحدس للوحوش الشائهة والأقزام التي كانت تعويضًا عن
المعرفة الطبوغرافية، ولكن الخرائط بدأت تعلو قيمتها، اعتبارًا من
عصر النهضة الأوروبية، بسبب «موضوعيتها»، ما دامت الدقة قد غدت ذات
أهمية سياسية واقتصادية، وإن لم يكن ذلك قد وسم الخرائط بالحياد،
فالخرائط تمثيل نصي محتوم بسبب استحالة تقديم الواقع بصورة مختزلة،
أي إن الخرائط تؤكد معالم معينة على حساب معالم أخرى، وتضاف إليها
رموز ونصوص شارحة، وتصدر قرارات بشرية بشأن مقياس الرسم، والتوجه
والإسقاط (أي منهج تمثيل السطح الكروي بسطح منبسط). فخريطة العالم
التي تستخدم نظام البسط الذي وضعه ميركاتور
(Mercator) [١٥١٢–١٥٩٤م]
مثلًا، والتي تُستخدم على نطاق واسع منذ القرن السادس عشر، تشوِّه
أحجام اليابسة؛ بحيث تبدو أوروبا وأمريكا الشمالية أكبر مما هما
عليه في الواقع، والأهم من ذلك أن الزيادة الهائلة في أعداد
الخرائط المتداولة في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت ترتبط
ارتباطًا مباشرًا باستعمار الدول الأوروبية لسائر مناطق العالم، أي
إن عملية «اكتشاف» الأراضي في أيام الاستعمار كانت تستمد الدعم من
رسم الخرائط، وهو الذي أصبح طريقة للاستيلاء النصي على الأماكن،
وإطلاق أسماء جديدة عليها، وإضفاء الصبغة الطبيعية سياسيًّا
واقتصاديًّا على الحدود التي وُضعت
وترتيبات السلطة. أضف إلى ذلك
أن المساحات الخالية في الأراضي التي لم تُكتشف على الخرائط التي
وصلت إلينا من عهد الاستعمار، كانت تعني، كما يقول بل آشكروفت
(Ashcroft)، وجاريث جريفيث
(Griffith)، وهيلين تيفين
(Tiffin)؛ «أرضًا لا يملكها
أحد (terra
nullius) حرفيًّا، بمعنى أنها
مكان مفتوح (بِكر) يدعو من يريد، وحيث كانت المخيِّلة الأوروبية
تستطيع إسقاط نفسها، وحيث يستطيع اختراقَها المكتشفُ الأوروبي (من
الرجال عادة)» (أشكروفت وآخرون ١٩٩٨م: ٣٢).
ويُعتبر أدب الرحلات نوعًا خاصًّا يمكنه الاستفادة من بحث نقدي
بيني يستند إلى بعض هذه القضايا في الجغرافيا الثقافية، فهو شكل
بيني بطبيعته بسبب تكوينه الذي يمزج بين الأنواع الأدبية؛ إذ
كثيرًا ما يخلط خلطًا قلقًا بين الخيال والسيرة الذاتية والتاريخ،
والتحقيق الصحفي، والتاريخ الطبيعي. ويغلب على أدب الرحلات أن
يكتبه الرحَّالة الأوروبيون أو الأمريكيون الذين يكتشفون عالم
المستعمرات أو ما بعد الاستعمار، وهو، كما تقول ماري لويز برات
(
Pratt)، مهتم أساسًا «بالحاجة
المُلِحة التي تشعر بها المدينة الكبرى لتقديم صورة ما يقع على
الهامش منها، وما يمثل الآخرين لها، وإعادة تقديمها المرة تلو
المرة إلى نفسها» (برات ١٩٩٢م: ٦). وهكذا فإن أدب الرحلات يتضمن
أيضًا نوعًا من رسم الخرائط، أو قل إنه جغرافيا خيالية تُحيل
الخبرة بمكان غير مألوف إلى حكاية تُروى. ويقول دنيس بورتر
(
Porter):
يعمد كتاب أدب الرحلات منذ البداية إلى التصدي، بصورة لا
واعية إلى حد ما، لأزمة من الأزمات، ومن ثم يقولون بتثبيت
العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه؛ إذ يشغلهم شكل من أشكال رسم
الخرائط الثقافية الذي يدفعه الحرص على وضع خريطة عالمية،
وتحديد مركز لها في مكان ما، وتقديم حكايات إيضاحية،
وتحديد هويات ثابتة للمناطق والأجناس التي تسكنها.
(بورتر ١٩٩١م: ٢٠)
والواقع أن أدب الرحلات، باعتباره نوعًا أدبيًّا، يرتبط ارتباطًا
مباشرًا بالطرائق الأخرى لرسم خريطة العالم. وعلى الرغم من أن
الرحلات في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت انتهازية وتجارية
بصورة حصرية تقريبًا، فقد ظهرت منذ بداية القرن الثامن عشر أنواع
جديدة من الرحَّالة، مثل علماء
البيولوجيا والنبات والجغرافيا، وكانوا في البداية يتلقَّون
الرعاية من الحكومات والتجار، لكنهم اكتسبوا زخمًا مستقلًا بعد
حين، وتشير برات إلى الأنشطة المختلفة التي كان هؤلاء الرحالة
يقومون بها قائلة إنها كانت صورًا «مضادة للفتح»، وكانت تمثل — وفق
تعريفها — استراتيجية بريئة في الظاهر يطبقها الأوروبيون لضمان
سيطرتهم على رعايا المستعمرات، ودعم المشروعات الصريحة للإمبريالية
السياسية والاقتصادية (برات ١٩٩٢م: ٢٨). وكانت رحلات الاستكشاف
التي قام بها الجغرافيون وعلماء التاريخ الطبيعي من أوائل نماذج
أدب الرحلات، مثل كتاب داروين رحلة السفينة ذا بيجيل (١٨٤٠م)، إلى
جانب عدد كبير من حكايات الرحلات التي تنتمي إلى أعراف «مضادة
للفتح». ونقول بعبارة أخرى إن هؤلاء، على الرغم من معارضتهم في
حالات كثيرة للعنصرية والإمبريالية، يعيدون إقامة الفرضيات
الاستعمارية من خلال إضفاء الطابع الرومانسي على كل ما يتسم
بالغرابة، والبدائية، و«الأصالة» السابقة للحداثة. ويقول علي بهداد
(Behdad) إن كثيرًا من كُتاب
أدب الرحلات «مستشرقون متأخرون»؛ إذ إنهم، في محاولتهم «للتصالح مع
فقدان ما كان يحقِّق رغائبهم، أي اختفاء الشرق وانحلاله … تحت
أثقال الاستعمار الأوروبي» يُظهِرون «ولوعًا تغذوه الغرابة بالآخر
الذي تغرب شمسه … لكنه يؤكد في الوقت نفسه التناقضات الأيديولوجية،
والمِحَن السياسية للهيمنة الاستعمارية ويفضحها» (بهداد ١٩٩٤م: ٦٦،
١٤). ويقول بهداد إن نزعة الغرابة تمثل طريقة للتخلص من الإحساس
بالذنب بسبب التوسع الإمبريالي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على صورة
الآخر التي يمثلها رعايا المستعمرات، بالأسلوب نفسه الذي كانت
أنشطة راسمي الخرائط ودارسي التاريخ الطبيعي تتسم بالانفصال
ظاهريًّا عن المشروع الاستعماري مع ارتباطها في الواقع ارتباطًا
وثيقًا به. فإذا قرأنا الخرائط والنصوص الأدبية التي «ترسم خريطة»
العالم بمثل هذا الأسلوب، استطعنا أن نرى أن الشواغل الجغرافية
ثقافية وبينية في كل حالة، حتى وإن حاولتْ أحيانًا توكيد حيادها
بتعريف نفسها بأنها مبحث علمي.
النقد البيئي والعلم
تجتمع بعض النظرات العميقة الجديدة من مجالَي الجغرافيا الثقافية
والعلوم الطبيعية مع المباحث العلمية في الإنسانيات في ميدان النقد
البيئي (ecocriticism). ويستكشف
هذا الميدان، بصفة عامة، العلاقة بين الأدب والأشكال الثقافية
الأخرى وبين العالم الطبيعي، وكثيرًا ما تضم إلى ذلك التزامًا برفع
مستوى الوعي بالقضايا البيئية. وهكذا فإن له برنامجًا ذا شقَّين؛
الشق الأول تناول الظواهر «الطبيعية» التي تنتمي عادة إلى
الجغرافيا والبيولوجيا، مبيِّنًا أنهما من نواتج القوى الثقافية
والتاريخية، وقد اكتسبا معنًى وطابعًا مجازيًّا، والشق الثاني فحص
السؤال التالي: كيف تؤدي الثقافة إلى الانفصال عن الطبيعة، وتنتج
فوارق مراتبية بين ما هو بشري وما هو غير بشري؟ ويبين جوناثان بيت
(Bate) أن هذه المراتبية راسخة
في بعض الكلمات الأساسية، مثل كلمة
culture التي كان لها معنًى
زراعي يومًا ما [ولا يزال قائمًا في دراسة البكتيريا، ويقابل كلمة
«المزرعة»] ولكنها، منذ أن استخدمها ماثيو أرنولد، أصبحت تعني
العمل الفكري والروحي الذي يختلف عن العمل أو الجهد البدني؛ ومثل
كلمة environment [البيئة] التي
ظهرت في القرن التاسع عشر لوصف الظواهر الخارجية للطبيعة، المنفصلة
عن الإنسان، وتعني حرفيًّا «العالم الذي يحيط بنا» (بيت ٢٠٠٠م: ٥،
١٣٨).
ويُعتبر كتاب رايموند ويليامز «الريف والمدينة» من النصوص
المؤسِّسة للنقد البيئي؛ إذ يفحص المعاني الثقافية المرتبطة
تقليديًّا بهذين الكيانين الجغرافيين، قائلًا إن الأول يمثل
«الهدوء والبراءة والفضيلة البسيطة» إلى جانب «التأخر والجهل
والقصور»، وإن الأخير يرمز «للعلم والاتصال والنور» إلى جانب
«الضجيج والانشغال والطموح». والواقع، كما يبين ويليامز، أن
المدينة والريف يتسمان معًا بالتنوع الشديد والروابط المتبادلة،
منذ أن غيَّرتهما الثورة الصناعية جميعًا، وأعلنتْ مَقدَمها بإنشاء
الرأسمالية الزراعية (ويليامز ١٩٧٣م: ١٨). وهو يضرب مثالًا من
الرومانسة المنثورة الطويلة أركاديا Arcadia، التي
كتبها السير فيليب سيدني (١٥٩٠م)، التي تُعتبر نصًّا أساسيًّا في
التقاليد الرعوية، وإن كانت قد كُتبت، في الواقع، في مُتنزَّه
أُنشئ بتسوير قرية كاملة وطرْد جميع مستأجري الأرض (ويليامز ١٩٧٣م:
٢٢). وهكذا فإن الأسطورة الرعوية التي تصور الريف في صورة منتجع
منعزل يبتعد فيه المرء عن الحضارة الحديثة؛ اختراع حديث نسبيًّا،
يستند إلى الرغبة في إعادة كتابة الماضي كرد فعل على التصنيع
وتكاثر المدن. ولكن كتاب ويليامز يَشي أيضًا بضمير بيئي حي، فإذا
كان يقر بأن الطابع الرعوي أسطورة، فإنه يراه نتاجًا لبواعث قلق
تاريخية حقيقية على عالم يعلي من قيمة «طرائق الانتفاع والاستغلال،
بدلًا من قبول الناس والأشياء والاستمتاع بهم وبها» (ويليامز
١٩٧٣م: ٢٩٨).
وما دام النقد البيئي يدرك أن أفكار الخلاص النابعة من الطبيعة
كثيرًا ما تستمد قوتها من الثقافة، فإنه يحلل استيلاء الثقافة على
الطبيعة، ويربط «بيت» استغلال الطبيعة المذكور بالمشروع العدواني
للعلم الذي جاء به التنوير، خصوصًا المذهب التجريبي عند بيكون،
والفلسفة الثنائية عند ديكارت؛ إذ إن بيكون يقول في العديد من
أعماله إن العلم سوف يتيح للناس يومًا ما أن يتحكموا في أحوال
الجو، ويغيروا نسق فصول العام، ويزيدوا من إنتاجية المحاصيل،
فالمرء يدرس الطبيعة حتى يتمكن من السيطرة عليها (بيت ٢٠٠٠م: ٧٧).
ويقول أدورنو وهوركهايمر إن العلم «البيكوني» كان قائمًا على «كسوف
بال العالم»، وهي فكرة «أبوية» تقول «بالتوافق بين ذهن الإنسان
وطبيعة الأشياء … وعلى الذهن البشري الذي يقهر الخرافة أن يسيطر
على طبيعة كاسفة البال» (أدورنو وهوركهايمر [١٩٧٢م] ١٩٩٧م: ٣-٤).
ومن أمثلة هذه السيطرة «الأبوية» على الطبيعة النظامُ الذي وضعه
لينيوس (Linnaeus) لتصنيف الطبيعة.
كان هذا النظام الذي صاغه كارلوس لينيوس أول مرة في كتابه نظام
الطبيعة (Systema
Naturae) في عام ١٧٣٥م، ولم
يلبث أن هيمن على دراسة الطبيعة بحلول نهاية القرن الثامن عشر؛
يفرض نظامًا من وضع الإنسان على العالم الطبيعي، من خلال مجموعة
مصنَّفة من الأسماء باللغة اللاتينية التي تنظمه بوضوح في أنواع
وأجناس ومراتب وطبقات وممالك.
ومن العناصر الأساسية الأخرى في إخضاع الطبيعة المذكور عنصرُ
الثنائية بين الذهن والجسد، الذي كان ديكارت أول من وضعه في كتابه
تأملات (١٦٤٢م)، ويصرُّ فيه «على أن تلك الأشياء التي ندركها بوضوح
وجلاء باعتبارها مواد مختلفة، مثلما نقرُّ بالاختلاف بين الذهن
والجسم، هي في الحقيقة مواد يختلف بعضها عن بعض اختلافًا جوهريًّا
… فقد يفنى الجسد البشري بكل سهولة، ولكن الذهن خالد بسبب طبيعته»
(ديكارت ١٩٥٥م: ١٤١). كانت الجهود التي بذلها ديكارت وغيره من
العلماء والفلاسفة في القرنين السادس عشر والسابع عشر للفصل بين
الجسد، الذي كان يعمل بصورة آلية في نظرهم مثل سائر ما في الطبيعة،
وبين الذهن الإنساني المستقل، تطورًا بالغ الأهمية في العمل على
فهم الطبيعة، فقد مهَّد الطريق لإجراء دراسات تفصيلية أشد دقة
للجسد البشري، كما كان مبررًا لتشريح الكائنات الحية؛ إذ كان من
المعتقَد أن الحيوان لا ذهن له ولا نفس مثل البشر. وكانت لهذا
التقسيم أهميته أيضًا في فصل العلوم الطبيعية عن الإنسانيات؛ إذ
كانت الأولى مكلَّفة بالسيطرة على «الآخر» المحايد في الطبيعة، وهو
الذي يتضمن جسد الإنسان، وأما الأخيرة قد تركت لها نواتج الذهن
والثقافة التي صنعها البشر، وتتمتع باستقلال ظاهري.
والنقد البيئي يطعن في أنواع الفصل المذكورة بين المادة والذهن،
وبين الطبيعة والثقافة، وبين العلوم الطبيعية (مثل البيولوجيا
والجيولوجيا) والموضوعات الإنسانية (مثل النقد الأدبي، والدراسات
الثقافية والتاريخ الثقافي). ومن أساليب سعيه لتحقيق ذلك تِبيانُه
أن فهم العلم للطبيعة منتج ثقافي في جميع الأحوال. وتستكشف هاراواي
هذه القضية في دراستها لعلم الثديِيَّات العليا
(primatology)، أي دراسة
الثدييات الرئيسية [مثل أنواع القرود المختلفة]، قائلة إن القضية
دائمًا ما تتضمن «حركة في المعاني»، تقوم على التحقيق فيما يعنيه
كون الكائن «بشريًّا تقريبًا» (هاراواي ١٩٨٩: ١-٢). فعلى الرغم من
أن علماء الثدييات العليا كثيرًا ما يعتقدون أنهم يدرسون الطبيعة
«الخالصة»، فإن فهمهم لهذه الحيوانات العليا ذو تركيز بشري محتوم،
وهم متأثرون خصوصًا بالانشغال اليهودي المسيحي «بقصص التكوين
الأول، وأصل «الإنسان» وطبيعته»، وكذلك «بقصص الإصلاح، أي إصلاح
الطبيعة البشرية وإعادة تكوينها» (هاراواي ١٩٨٩م: ٩). وتستعير
هاراواي بعض الأفكار من عمل إدوارد سعيد، إذ تقول أيضًا إن علم
الثدييات العليا في الغرب يُعتبر ضربًا من «الاستشراق القردي»
[(simian orientalism)، والصفة
تعني الخاص بالقرود] المتعلق «بتكوين النفس من المادة الأولية
للآخر، والاستيلاء على الطبيعة في إنتاج الثقافة، ونضج الكيان
الإنساني من تربة الحيوان» (هاراواي ١٩٨٩م: ١١). وهي ترى أن
محاولات العلم لفهم الطبيعة كثيرًا ما تستند إلى ترويضها وإخضاعها
لسيطرتنا، والحفاظ على التمييز التقليدي بين الإنسان الفاعل والشيء
الطبيعي الخامل. وهي تذكِّرنا، على الرغم من ذلك، «أن الطبيعة
تُبنَى وتتشكَّل تاريخيًّا، ولا تُكتشَف «مجرَّدةً» في موقع حفريات
أو غابة مدارية» (هاراواي ١٩٩١م: ١٠٦).
ومن الطرائق الأخرى التي اتبعها النقد البيئي لسد الفجوة التي
تفصل بين العلم والإنسانيات؛ الاستفادةُ من النظرات العميقة
الحديثة في العلوم، وخصوصًا البيولوجيا، في قراءة النصوص الأدبية
والثقافية. ومن الأمثلة على ذلك استخدامُ النقاد البيئيين لمفهومَي
«الإقليم البيولوجي» (bioregion)
و«التنوع البيولوجي»
(biodiversity)، وهما يرتبطان بعمل
إدوارد أ. ويلسون وغيره من علماء البيولوجيا الواعين بقضايا
البيئة. ويقول ويلسون إن الإقليم البيولوجي منطقة تعيش على مواردها
الذاتية، ويتعذر احتواؤها داخل الحدود السياسية المعتادة التي
تقيمها الحكومات المحلية أو القومية، وتتعايش في داخلها مجموعة
كاملة متنوعة من أنواع الكائنات التي يعتمد بعضها على بعض في
البقاء. أما «التنوع البيولوجي» فإنه دون مبالغة «يحافظ على
استقرار العالم»؛ وذلك لأن خَصِيصة التنوع ذاتها في أنواع الكائنات
تسمح بإعادة التوازن عند وقوع كارثة طبيعية، على الرغم من أن هذا
التوازن يتعرض للتهديدات المتزايدة بسبب ضروب التدخل البشري
(ويلسون ١٩٩٤م: ٣٠٣، ١٣). ويتضمن التنوع البيولوجي داخل النقد
البيئي، حتمًا، إعادة النظر في الأدب المعتمد الذي تأسس بصورة
تقليدية على نصوص معارضة للأقاليم البيولوجية. ويضرب «بيت» مثلًا
من الحداثية، فهي حركة مدنية متنقلة لا ترتبط بأية دولة، وتتصل
بصلة لا تنفصم عُراها بالرأسمالية الاحتكارية المتعددة الجنسيات،
مثلما كان فن الرواية في القرن التاسع عشر ذا صلة بالدولة الأمة
وبالإمبريالية (بيت ١٩٩٨م أ: ٦٣). وفي داخل هذه الأُطر كان الكتاب
المرتبطون بأقاليم بيولوجية معينة يَلقَون التجاهل أحيانًا
باعتبارهم لا يُعتدُّ بهم وذوي أفق ضيق. ويقول بيت إن أي مشروع
للنقد البيئي قد يقتضي الطعن في الترتيب الزمني التقليدي للأدب
الإنجليزي باعتباره وضع نهج معتمد لكبار الكتاب «القوميين»،
والاستعاضة عنه برصد الآداب وفق كل إقليم على حدة (بيت ١٩٩٨م ب:
١٩).
ويُعتبر جون كلير (
Clare) مثالًا
للمؤلف المنتمي «للإقليم البيولوجي»، الذي أعيدَ تقييمه باستفاضة
في النقد البيئي في الآونة الأخيرة، وباعتباره شاعرًا من المحال
فهمُ شعره من دون الرجوع إلى الجغرافيا الثقافية وعلم البيئة معًا،
وتُعتبر عملية إصدار البرلمان لقوانين تسوير
(
enclosure) الأراضي الخلاء
والمساحات المملوكة على المشاع في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل
التاسع عشر — وهي العملية التي صاحَبَها وضعُ أولى الخرائط التابعة
لمصلحة المساحة؛ إذ كان من أهم لوازمها وضع الخرائط على نطاق شاسع
للريف — ذات أهمية أساسية لفهم حياة كلير وعمله؛ فإن قوانين
التسوير المذكورة كانت تستند إلى ضروب جديدة من فهم المكان في
المجتمعات الرأسمالية، وهو الفهم الذي يرجع زمنيًّا على الأقل إلى
فكرة جون لوك (
Locke) عن ملكية
الأراضي، الواردة في كتابه «دراستان للحكومة» (١٦٨٩م)، فهو يقول إن
فكرة ملكية الأراضي برُمَّتها ترتبط بتسويرها [أي تقسيمها إلى قطع
تحيطها أسوار]، مضيفًا: إن الناس يتمتعون بالحق في نواتج عملهم
عندما يحوِّلون الأراضي البِكر إلى مزارع محاطة بأسوار؛ لأن «الله
الذي وهب الدنيا للناس على المشاع، وهبهم من العقل ما يكفل
انتفاعهم بها، بما يحقق أفضل المزايا للحياة وقضاء الحوائج» (لوك
[١٦٨٩م] ١٩٧٠م: ٣٠٤). وكان من آثار ذلك، بطبيعة الحال، منحُ
الأفضلية لتحسين مستوى الزراعة على أيدي رواد الأعمال على الأشكال
الأخرى للتنظيم الاجتماعي للمكان. ولما كان كلير يعمل عاملًا
زراعيًّا في مقاطعة نورثهامتونشير، فقد أثَّرت فيه العملية
المذكورة تأثيرًا عميقًا، مادام تقسيم الأراضي وتسويرها قد حرم
الناس من كسب الرزق، وغيَّر صورة العالم الطبيعي بقطع الأشجار
وإقامة السدود على الأنهار، وكتب قصائد كثيرة عن ذلك:
جَاءَ التَّسْوِيرُ فَوَطِئَتْ قَدَمَاهُ
قُبُورَا
لِحُقُوقِ العُمَّالِ فَأَمْسَى عَبْدًا مَنْ
كانَ فَقِيرَا
انْظُرْ تَشْهَدْ سُورًا يَلْقَى سُورَا
وأَرَاضِيَ لِلْمُلَّاكِ مُخَصَّصَةً
وصِغَارَا
ورِيَاضًا وحُقُولًا تُعْتَبَرُ اليَوْمَ
عَقَارَا
لا تَعْدُو حَجْمَ حَدَائِقَ قُطِعَتْ قَطْعًا
بَتَّارَا
كَيْ تُرْضِيَ في النَّفْسِ صَغَارَا
مَحْبِسَ قُطْعَانٍ وأُنَاسٍ يُورِثُ قَلَقًا
ودُوَارَا
(الأرض المسوَّرة، كلير ١٩٦٥م:
١١٤-١١٥)
وترجع صدمة التسوير في شعر كلير إلى أنه كان ينتمي إلى الإقليم
البيولوجي، بمعنى أنه كان يرتبط ارتباطًا كاملًا بالمكان، إلى الحد
الذي يجعله يصوِّر أبرشيته في صورة «معرفته»، ويصوِّر كل شيء
خارجها باعتباره «خارج معرفته» (باريل
Barrell ١٩٨٨م: ١١٨). وبعد أن
انتقل في عام ١٨٣٢م من قريته هيليستون إلى نورثبره، التي لا تبعد
إلا نحو خمسة كيلومترات عن القرية، كتب يقول: «الصَّيْفُ يأتي
كالغَريبْ …/ وإِخَالُ أنَّ الشَّمْسَ تاهَتْ في الدُّرُوبْ/ بَلْ
لَيْسَ تَدْرِي أيَّ رَبْعٍ قد أَلَمَّ بِهَا»، ثم يضيف قائلًا:
«بَلْ والطَّبِيعَةُ نَفْسُها فِيمَا بَدَا/ تَبْغِي الهُرُوبْ»
(«الهروب» و«الذبول»، روبنسون وباول ١٩٨٤م: ٢٥١، ٢٥٦). ويغلب على
شعره أيضًا ضيق التركيز؛ إذ لا نجد فيه المناظر الطبيعية الخلابة،
والساحات الشاسعة لجانب كبير من الشعر الرومانسي، بل أشياء صغيرة،
مثل أعشاش الطيور، وأوراق الشجر، والفروع الدقيقة، وأكوام التراب
الصغيرة عند مدخل سرداب فأر الخلد. ولا نجد في شعر كلير شيئًا
يُذكَر عن التركيز في الإنسان الذي يشيع في القصائد الغنائية
الرومانسية، التي تفصل بين الشاعر والطبيعة بجعلها الوسيلة التي
تحقق له خبرة باطنة تعاليَّة؛ إذ يرى كلير أنه جزء لا يتجزأ من
التنوع البيئي الخاص به. بل إن إحدى قصائده، وعنوانها «نعي سوردي
ويل»، مثلًا تجعل المتكلم «بقعة من الأرض» تعاني آلام التسوير:
لمْ تَخْشَ هُنَالِكَ خَيْمَتُهُ
العَجَزِيَّةْ
أنْ آتِيَ مَسْكَتَهُ بالتَّحْريرْ
حَتَّى حَلَّ التَّسْوِيرُ الشِّرِّيرْ
فَغَدَوْتُ بِدَاخِلِهِ أَمَةً لِرِجَالِ
البَلَدِيَّةْ
(روبنسون وباول ١٩٨٤م: ١٤٧)
وقد يكون هذا، كما يبين جون باريل، أحد أسباب حطِّ النقاد من
قيمة شعر كلير، الذي لا يلتزم بالفواصل التقليدية بين «الطبيعة»
و«الإنسان» وفق ما نتوقع وجوده في الشعر الرعوي، خصوصًا في الفترة
التي تلَتِ الرومانسية. ويشير هذا الناقد أيضًا إلى أن قصائد كلير
كانت قد كُتبت أصلًا من دون علامات فصل ووصل، بحيث يقدم الإحساس
«بلغة صادرة من صور الجيَشان التلقائية الأولى للنفس السلبية
العاجزة عن إدراك أي اختلاف بينها وبين ما هو عارض عابر، وعن
الطبيعة والانطباعات الحسية» (باريل ١٩٨٨م: ١٣٠-١٣١). وإذن فإن
محرري ديوانه للنشر في لندن أضافوا علامات الفصل والوصل، في محاولة
لتحويل الشاعر إلى ذات تتمتع بالإدراك، وتحدِّد طابَعَها «قدرتُها
على تقسيم خبراتها، وتنظيمها وتأملها»، وفصل نفسها عن الطبيعة
(باريل ١٩٨٨م: ١٣٤). وهكذا فإن الطابع البيني للنقد البيئي يتعلق
بطرح التساؤل عن الشواغل التقليدية للدراسات الأدبية، بقدر ما
يتعلق بوضع طرائق جديدة لفهم الأدب؛ إذ يهدف إلى أن يثبت أن إحدى
الطرائق التي اتبعتها الدراسات الأدبية في تشكيل نفسها باعتبارها
مبحثًا علميًّا تتمثل في استبعاد مجال الطبيعة، أو بمزيد من الدقة،
مجال كل ما هو لا إنساني.
نظريات كل شيء
يقابل مشروع النقد البيئي للجمع بين الإنسانيات والعلوم الطبيعية
نهجًا موازيًا له في التأثير المتزايد للفكر الدارويني الجديد في
العقود القليلة الماضية، وهو ما يتجلى في النجاح الجماهيري لبعض
الكتب، مثل «عن الطبيعة الإنسانية» الذي وضعه إدوارد أ. ويلسون
(١٩٧٨م)، و«الجينة الأنانية» لريتشارد دوكينز (١٩٧٦م)، و«صانع
الساعات الأعمى» (١٩٨٥م) للكاتب نفسه، وهي الكتب التي ترى أن
الجينات [المورِّثات] هي الوحدات الأساسية للتطور وفق مبادئ النشوء
والارتقاء. ولكن بعض العلماء، مثل ويلسون ودوكينز، يختلفون عن
النقاد البيئيين في إيمانهم بإمكان العثور على إيضاح نهائي، أي على
«نظرية لكل شيء»، تتولى توحيد الميادين المختلفة للمعرفة. ويرد
دوكينز على تحذير هاملت لصديقه هوراشيو «في الأرض والسماء ما يزيد
يا هوراشيو/ عن كل ما يراود الأحلام في فلسفتك»، قائلًا بلسان
العالم: «أجل، ولكننا نجتهد لنعرفه» (دوكينز ١٩٩٩م: ١٣). ونشير،
بصفة خاصة، إلى أن المشروع البيني لهؤلاء الكتاب يستند إلى الإيمان
بأن جميع الثمار الثقافية للإنسان، ومن بينها الأدب، ذات أساس
بيولوجي جيني.
وأشد هذه المشروعات الداروينية الجديدة طموحًا مفهومُ «التوافق
العلمي» (
consilience)، وهو مصطلح
يستعيره من المحاولة التي قام أستاذ في جامعة كيمبريدج عام ١٨٤٠م،
يُدعى وليم هوويل (
Whewell)، للجمع
بين العلوم في مركَّب واحد. ويقول ويلسون إنه يلاحظ أن الحدود
الفاصلة بين المباحث في داخل العلوم تتعرض للتقويض بسبب تشكيلات
علمية جديدة، مثل الكيمياء الحيوية
(
biochemistry)، وعلم البيئة
الكيميائي، والكيمياء الفيزيائية، ومن ثم فهو يدعو الآن إلى تعاون
أكبر «بين العلماء والفلاسفة، خصوصًا حيث يلتقون في المناطق
الحدودية بين البيولوجيا، والعلوم الاجتماعية، والإنسانيات»
(١٩٩٩م: ١٠). وأما الموضوع الذي يستطيع تحقيق هذا التوافق بين
العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والإنسانيات؛ فهو
البيولوجيا، وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون ذلك مجال تخصص
ويلسون؛ وذلك لأنه يعتقد بإمكان العثور على رابطة بين «النشوء
والارتقاء الجيني»، وبين «النشوء والارتقاء الثقافي»، فما الأخير
إلا شكلٌ جديد يتجلى فيه الأول، ومن ثم فإن النشوء والارتقاء
الثقافي تتحكم فيه البيولوجيا، حتى وإن لم نكن قد اكتشفنا بعدُ
الطبيعةَ الخاصة لهذه العلاقة (ويلسون ١٩٩٩م: ١٣٩). ولما كان لدينا
جميعًا أمخاخ متشابهة بيولوجيًّا، فإن العقل ونواتجه تُعتبر في
نهاية الأمر أثرًا من آثار النشوء والارتقاء البيولوجي، فهي قائمة
للعمل على بقاء الجينات وتكاثرها، أو بعبارة ويلسون «إمساك الجينات
بزمام الثقافة» (١٩٧٨م: ١٦٧). ويقول ويلسون: ما إن ندرك أن عمليات
العقل الإنساني ذات أساس بيولوجي، حتى يصبح على المباحث العلمية أن
تعيد تنظيم نفسها:
فلنتأمل الإنسان الآن بالروح الحرة للتاريخ الطبيعي،
كأنما كنا من علماء الحيوان في كوكب آخر يقومون باستكمال
قائمة تفصيلية للأنواع الاجتماعية على ظهر الأرض. سوف
تتضاءل، في هذا المشهد الكبير، الإنسانيات والعلوم
الاجتماعية حتى تصبح فروعًا متخصصة من البيولوجيا، فما
التاريخ، وتراجم الأشخاص، والقصص الخيالية إلا بروتوكولات
الإيثولوجيا البشرية
(ethology) [الدراسة
العلمية لأنساق السلوك الحيواني]، وأما الأنثروبولوجيا
وعلم الاجتماع فهما يشكلان معًا مبحث البيولوجيا
الاجتماعية (sociobiology)
لنوع واحد من أنواع الثدييات العليا.
(ويلسون ١٩٨٠م: ٢٧١)
وكان دوكينز يهدف أيضًا إلى سد الفجوة القائمة «بين الثقافتين»
من منظور علمي بوجه خاص، وهو يَقلِب رأسًا على عَقِب عبارةً للشاعر
و. ﻫ. أودين (Auden) يشير فيها إلى
«مُركَّب» النقص الذي كان يحس به بين العلماء؛ إذ يشكو دوكينز من
أن العلماء المعاصرين غدَوا يشعرون «كأنهم من صغار الكهنة الضعاف
وسط كبار لوردات الأدب» (دوكينز ١٩٩٩م: ٢٩). وفي كتابه «فك نسيج
قوس الغمام» يلوم الشاعر كيتس على اتهام نيوتن بأنه دمر شعر قوس
الغمام حين أوضح أنه من نتائج انكسار الضوء الأبيض؛ إذ يرى دوكينز
أن العلم لا ينتقص بل يزيد من جمال العالم، ويَجمُل بالكُتاب
والنقاد إدراك ذلك، وهو ينتقد قصيدة د. ﻫ. لورانس عن الطيور
الطنَّانة قائلًا إنها «تفتقر إلى الدقة تمامًا»، وإنها تسيء إلى
العلم، مثلًا، مبيِّنًا أن المؤلف «كان يحتاج إلى درسين في النشوء
والارتقاء وفي التصنيف وحسب، حتى يكفل لقصيدته الدقة، من دون أن
تقل قدرة القصيدة على خَلْب الألباب، وإثارة التفكير باعتبارها
قصيدة» (دوكينز ١٩٩٩م: ٢٥). ومن الطرائق التي يحاول بها دوكينز
الربط بين البيولوجيا والثقافة تقديمُه مفهوم «الميم»
(meme)، والميم [مختصر لفظ
mimeme الذي سكَّه دوكينز]
مصطلح مجازي، ومعادل ثقافي للجينية، أي إنه وحدة من وحدات التراث
الثقافي، وهو يعمل عمل الجينة نتيجة النشوء والارتقاء المعرفي؛ إذ
يشير إلى أشياء مثل الأفكار والموسيقى والطقوس والنصوص التي تحيا
وتنجب، وتتوارثها الأجيال التالية؛ لأنها تؤدي نوعًا من الوظائف
الجينية النافعة (دوكينز ١٩٩٩م: ٣٠٤). ولا بد أن نقول إن هذه
الأفكار خلافية إلى حد بعيد، بل إنها إحدى نقاط الخلاف الرئيسية،
في الواقع، في «الحروب الداروينية» المريرة في العقود القليلة
الماضية. وإذا كان الداروينيون «المتشددون»، مثل دوكينز وويلسون،
يعتقدون أن كل شيء، بما في ذلك الثقافة، يمكن تفسيره بفكرة النشوء
والارتقاء، فإن الداروينيين «المعتدلين»، مثل ستيفن جاي جولد
(Gould) وستيفن روز
(Rose)، يرَون أن الحياة عملية
معقدة، لا تتحكم في كل ناتج من نواتج الوعي الإنساني سلالاتٌ معينة
من حامض الخلية النووي
(DNA).
ويرتبط بذلك كله مجال علمي آخر يتيح إمكانية صهر الثقافة
والبيولوجيا، ألا وهو مجال علم الأعصاب
(neuroscience) [أعمُّ من طب
الأعصاب neurology] الذي يتناول
على وجه الخصوص الجذور البيولوجية للذاكرة والوعي، ويزداد التشكيك
في الفصل الديكارتي بين الجسم والذهن في هذا الميدان، حيث يغلب على
المناظرات التركيز على بعض الأسئلة، مثل: هل يوجد شيء يُعتبر ذهنًا
غير فيزيقي، أو وعي ثابت يشكل «نفسًا» غير بيولوجية؟ أو إذا ما كان
الذهن لا يزيد عن كونه حاسوبًا على درجة فائقة من التقدم، وأن
«الانتخاب الطبيعي» قد جهزه لحل مشكلات منوعة عويصة. ويقول أستاذ
العلم المعرفي (cognitive
scientist) ستيفن بينكر
(Pinker)، الذي يؤمن بالفكرة
الأخيرة، إننا نستطيع أن نحيط ببناء الذهن من الطريقة التي يُصرِّف
بها الأطفال الأفعال الشاذة، فهُم من طريق التجربة والخطأ يتعلمون
أن اللغة تتكون من مجموعة مترابطة من «الألفاظ والقواعد»، فإذا
كانت بعض الألفاظ تتبع القواعد التي يمكن تعلمها، فإن غيرها لا بد
من حفظها، كل على حدة، ويضيف قائلًا إن الأنشطة المميزة تنفذها
مناطق مختلفة في المخ (بينكر ٢٠٠٠م: ١). وقد يدفعنا هذا إلى اعتبار
اللغة مفهومًا ديناميًّا، يُبنَى، ويُطوَّع، ويُنمَّى في سياقات
محددة، على أيدي الكُتَّاب والقُرَّاء، وإن ظل مقيَّدًا بعوامل
بيولوجية أساسية. يقول بينكر: «لطالما خضعتْ قضية التصريف وفق
القواعد والتصريف الشاذ؛ للتأمل والمعالجة من جانب الروائيين
والشعراء، وواضعي المعاجم ومحرريها، والباحثين في فقه اللغة وعلم
اللغة الحديث. والآن يتعرض هذا الموضوع الواقع في صلب الإنسانيات
للفحص بالأدوات البارعة الحديثة لعلم الوراثة الجزيئي وتصوير المخ»
(بينكر ٢٠٠٠م: ٢٩٩). وتناقش بعض هذه التطورات ماري توماس كرين
(Crane) وألان ريتشاردسون،
ويقولان إن نقاد الأدب ربما «يحتاجون إلى أن يشرعوا في النظر فيما
يترتب على كون المخِّ الموقعَ المادي الذي تلتقي فيه الثقافة
بالبيولوجيا، ويشكِّل كل منهما الآخر» (كرين وريتشاردسون ١٩٩٩م:
١٣١).
لا شك أن هذه المجالات البحثية تفتح آفاق الانتفاع بالمكتشفات
العلمية في تقديم نظرات عميقة في النصوص الأدبية والثقافية، وهو
شكل بينيٌّ لم يكد أحد يبدأ استكشاف إمكانياته. ومع ذلك فإن نقاد
الأدب لا يزالون يتباطئون في قبول هذا التحدي، وقد يرجع السبب في
ذلك إلى افتقارهم إلى المعرفة العلمية الكافية، لكنني أرى سببًا
آخر، ألا وهو أن مشروعات بيولوجيا النشوء والارتقاء، وعلم الوراثة،
وعلم الأعصاب قد يُشتبَه في كونها إمبريالية فكرية لا نهجًا
بينيًّا، ما دامت تحاول فهم شواغل المباحث العلمية الأخرى من
منظورها الخاص وحده. والواقع أن هذا المشروع يمكن أن يُعتبر نسخة
علمية من رؤية ليفيز لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، ما دامت
الدعوة إلى البينية مقدَّمة لنا في شكل مشروع للتكامل الفكري، وإن
تكن في الحقيقة تستند إلى المصالح المكتسبة لمبحث علمي واحد دون
غيره. وأهم ما في الأمر أن هذه المشروعات تكشف عن عجز في فهم
الأبعاد الثقافية للعلم، ومن ثم عن تقديمها باعتبارها شكلًا
بحثيًّا موضوعيًّا يستطيع الإشراف على المباحث العلمية الأقل
تطورًا.
ومن الأمثلة على الافتقار المشار إليه إلى الطابع الانعكاسي بشأن
السياقات الثقافية للعلم [أي العجز عن فحص السياق الثقافي للمبحث
العلمي]؛ الدربُ الذي سلكه الفكر الدارويني الجديد في إعادة اكتشاف
فكرة داروين عن الانتخاب الجنسي، وهي التي تقول بأن الحيوانات
تفضِّل أزواجًا تتمتع بخصائص جنسية معينة. ويقول ويلسون إن هذه
النظرة تعني أن «الذكور ينتفعون بالإقدام والعجلة والتلون وعدم
التمييز … وترى الإناث أنه من الأجدى لهن أن يتَّسمْن بالخَفَر،
وأن يتمنَّعن إلى أن يستطعن تحديد الذكر الحامل أفضلَ الجينات»
(١٩٧٨م: ١٢٥). ويسمح له ذلك بأن يقارن سلوك الإناث والذكور في
المجتمعات المعاصرة بسلوكهم في «مجتمعات الصيد والجمع» القديمة،
ففي الحالين يغلب أن تظل المرأة في المنزل لرعاية الأطفال، وأن
يخرج الرجل إلى الدنيا لكسب الرزق والإنفاق على أسرته (ويلسون
١٩٧٨م: ١٣٣–١٣٩). ويكمن الخطر هنا في أن الممارسات الثقافية
والتاريخية النوعية يمكن اختزالها في الجانب البيولوجي، ومن ثم
تبدو طبيعية ومحتومة لهذا السبب. والحق أن رد الناقدة النِّسْوية
لين سيجال (Segal) على كلام ويلسون
ردٌّ موجز ذو حلاوة، وهو «واصل أحلامك!» (١٩٩٩م: ٨٤.) وهكذا، على
نحو ما حاولتُ إثباته، يستند مشروع النقد البيئي وغيره من التطورات
البينية التي فحصتُها في هذا الفصل، في جانب منها، إلى الطعن في
صورة العلم الواثقة لذاته، فهي تستفيد من عدد كبير من التطورات
الحديثة في العلوم، لكنها تستخدم النموذج التفسيري للإنسانيات في
بحثها النقدي لمنزلتها، باعتبارها أنماطًا «خاصة» من
المعرفة.