كواحةٍ في صحراء
هيروكي
درستُ علوم الاقتصاد في جامعة طوكيو، منذ صغري وأنا أهوى العمليات الحسابية، الإدارة، والتخطيط. لذا حينما أنهيتُ دراستي لم يكن صعبًا عليَّ أي اتجاه سأختار، فمن الواضح أنِّي سأتابع عملي في المجال البحثي، فبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، قمتُ بافتتاح مركز بحوثٍ خاصٍّ بي، ومع الأيام أصبح هذا المركز أحدَ أكبر المراكز البحثية في مجال العلوم الاقتصادية على مستوى العالم، وما زلت أحاول الإشراف قدر الإمكان على كلِّ تفاصيل البحوث المقامة في مركزي البحثي.
حيث إنَّه مع زيادة التخصص، أصبح لدينا في المركز العديدُ من الأقسام، ومنها ما هو بعيد كلَّ البعد عن اختصاصي الخاص. لذا في بعض الأحيان أحتاج إلى مدربين خاصين في مجالات معينة ليقوموا بتدريب الباحثين والطلاب والمشرفين، وأوَّلهم أنا البروفيسور هيروكي.
لم أشعر يومًا أنِّي اكتفيتُ من التعلُّم والقراءة والبحث، كما لم أشعر يومًا أنِّي سأكتفي أو سأصلُ لمرحلة الإشباع، ساعدني على ذلك، شغفي المبالغ فيه، وتفرغي التام له. فأنا الآن في الخمسين من عمري وما زلتُ عازبًا من غير شريكة أو ولد؛ لذا كان وقتي ملكًا لي، واستطعتُ الإبحار في مجال عملي وتحقيق أغلب ما خطَّطت له في حياتي.
أنا هنا أقطن مع عائلة من نوع آخر، فأغلب الطلاب والباحثين يقضون أيام الأسبوع ويبيتون في المبنى التابع للمركز، فلهم شققٌ صغيرة هنا، يسافر أغلبهم في عطلة نهاية الأسبوع ليعودوا إلى منازلهم وعائلاتهم. أمَّا أنا فيقع منزلي الخاص في الشارع المجاور للمركز. اعتدتُ أن أمضيَ ليلتَي الجمعة والسبت أُطالع الكتب في مكتبة المركز، بينما يخلد مَن بقي في المركز للنوم. كلُّ شيءٍ هادئٌ هنا، لا صوت ولا إزعاج ولا تدخُّل ولا أسئلة. فأنا أجلس وحدي، أنتقي الكتب التي أريدها بهدوء وعندما أشعر بالتعب أغفو معظم الأحيان في المكتبة. لكن الأمور لم تَعُد كما كانت سابقًا، فقد أصبح هناك شخصٌ آخرُ يشاركني مكتبتي التي كانت هادئة، إنَّها الدكتورة ساي شوجا.
عندما قرأت السيرة الذاتية للدكتورة ساي من بين العديد من المتقدمين لفت انتباهي طريقة كتابتها لها، لديَّ طريقة خاصة باختيار الموظفين والباحثين في مركزي، فأنا لا أعتمد فقط على ما يتمُّ كتابته من مهارات وتاريخ طويل من الخبرة، هناك شيءٌ أراه بين السطور، لكن في حالتها لم يكن هناك سطورٌ أصلًا، هي بضع كلماتٍ كما لو أنها تُعرِّف بها عن نفسها في موقع تواصل اجتماعي مع قليل من الأمور المهنية.
ما حدث هو أنه قد أبدى بعض الباحثين والطلاب في قسم الاقتصاد السلوكي حاجتَهم لخبراء وعلماء نفس، فلم أكتفِ بمختصِّي المجال النفسي والاجتماعي، بل قمت بوضع إعلانٍ لأطباءَ نفسيِّين أيضًا، فأنا أحبُّ التكامل بين العلوم وضم بعضها مع بعضها الآخر. قمتُ بانتقاء ثلاثة ملفاتٍ من بين مائة ملف قام أصحابهم بالتقدم لتلك الوظيفة، كان ملف الدكتورة ساي أحدهم. حين أتت الدكتورة ساي إلى المقابلة كدتُ أن أطردها من المكتب لولا الآداب العامة للظرف الذي نحن فيه. بدأتِ المقابلة بطريقة غريبة وانتهتْ بطريقة أغرب، وكنتُ على وشك رفْضها إلا أنني ترويتُ قليلًا. خلال العشرين عامًا الماضية، قمت بإجراءِ أكثر من ألف مقابلة مع موظفين، باحثين، دكاترة، وطلاب، لم أرَ في حياتي أحدًا منهم أتى إلى المقابلة بملابس رياضية وحذاء رياضي! لكن تلك الطبيبة فعلت! لا أحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم، لكن ليس إلى هذا الحدِّ! ألَا تستطيع أن ترتديَ ملابس عادية، أَمن الضروريِّ أن تختبر عدم انحيازي للشكل إلى هذا الحدِّ!
حاولتُ أن أكون حياديًّا قدر الامكان، فقد علمتُ عن مدى مهارة الدكتورة ساي في اختصاصها وتميُّز أسلوبها وانفراده عن غيرها من الأطباء النفسيِّين. وهذا كان واضحًا من المقابلة، لا أعلم ما هي الصفة الأنسب لتلك المرأة، حقًّا هي متفردة بطيشها مع أنَّها في الأربعين من عمرها، إنَّها شخصٌ مرحٌ جدًّا، صوتها مرتفع أغلب الوقت ولا أعلم لِم كلُّ هذا المرح والفرح!
بعد طول تفكير، وجدت نفسي أختار ملفها من بين الثلاثة، أعتقد أنَّ هناك شيئًا جديدًا تستطيع إضافته لنا. تواصلَ معها الموظفون المسئولون عن الأمور الإدارية وتمَّ الاتفاق على أن تعمل بدوامٍ جزئيٍّ في المركز لأنها لا تستطيع الاستغناء عن العمل في عيادتها. دوامها الجزئي سيكون في أيام العُطَل، ستأتي إلى المركز يوم الجمعة مساءً وتغادر يوم الأحد؛ أي إنَّها ستبيت في المركز ليلتين لأنَّ بلدتها بعيدةٌ عن المركز. فالدكتورة ساي تستطيع التفرغ أيام العطل فهي غير ملتزمة مع عائلة أو أطفال، فقد علمتُ أنها كانت متزوجة ولكنها انفصلت عن زوجها منذ مدة طويلة. لكن لم أعلم أنها أيضًا تُمضي ليلها بين الكتب، المشكلة ليست هنا، المشكلة أنَّ الدكتورة ساي لا تستطيع الجلوس بهدوء حتى في المكتبة. في الليلة الأولى، اعتقدت أنَّ كلَّ شيءٍ سيكون على ما يرام، لكن ما حدث هو أنَّني لم أستطع أن أقرأ ولا حتى صفحة واحدة! بينما هي قرأتْ كتابها، واستمتعت بوقتها، وأفسدت عليَّ كلَّ شيء! لم أُبدِ استيائي مباشرة، لكني قررتُ أن أنبهها إن تكرر الأمر، سأُخبرها أنَّ المكتبة ليست مكانًا لتبادل الأحاديث والأكل، إنَّها لا تكفُّ عن التِهام رقائق البطاطا والحلويات واحتساء الشاي طيلة فترة مكوثها في المكتبة. سأجد لها حلًّا إن عاودت ما فعلتْه الليلة القادمة.
وكما توقعت في اليوم التالي، حلَّ الليل، وفي الساعة العاشرة، ذهبتُ إلى المكتبة لأراها قد سبقَتني إلى هناك واحتلتْ مكاني أيضًا، يا للوقاحة! تجاهلتُ الأمر، وألقيتُ التحية وجلبتُ كتبي. بينما بدأت هي بالكلام والمضغ والضحك.
– دكتورة شوجا، أودُّ التركيز، هل لي بذلك؟
– أوه! لقد أزعجتك، أنا آسفة حقًّا، لكن أرجوك نادني باسمي الأوَّل، لا أحد يناديني باسم شوجا أبدًا ولم أعتدْ عليه طيلة حياتي.
– حسنًا كما تشائين!
عاد كلٌّ منَّا إلى كتابه، استطاعتْ أن تجلس لمدة ساعتين بشكل هادئ ثم عادت إلى حركتها المفرطة. مضتْ تلك الليلة وكنتُ سعيدًا أنها في الليلة القادمة ستكون قد عادت إلى بلدتها.
خلال شهرها الأوَّل في المركز، كنتُ أراها في المكتبة، لكنَّني لم أكن ألاحظها أبدًا في المركز. شيئًا فشيئًا بدأتُ أراها في حديث الجميع. الجميع هنا في المركز يتحدثون عنها، عن أسلوبها المتميِّز. عندما سمعت ذلك اطمأنَّ قلبي أنَّني اخترتُ لهم الشخص المناسب. أصابني بعض الفضول لأرى أداءَها، وليتني لم أرَه!
هيروكي
كان انطباعي سيِّئًا جدًّا، لن أنسى ذاك المشهد ما حييت. عندما كنت أتجوَّل بين قاعات المركز تذكَّرت أنَّها تكون في القاعة الكبيرة للمركز في يوم الجمعة. طرقتُ باب القاعة ودخلت، فرأيتها وهي واقفةٌ على الطاولة في قمة حماسها كما لو أنَّها تُقدِّم عرضًا مسرحيًّا! لا أعلم عن ماذا كانت تتحدث، ولا أعلم ضرورة وأهمية ومبرر حماسها ووجودها فوق الطاولة في تلك اللحظة، لكن هذا المشهد لم يعجبني بتاتًا!
ما أزعجني أكثر هو أنَّها حين رأتني ألقتِ السلام وبقيتْ على حالها، بل إنها دعتْني للدخول وحضور المحاضرة وهي بهذا الشكل المزعج، بلا أيِّ شعورٍ بخطأ الموقف. لم أُطِل وقوفي، أجبتُها أنَّ لديَّ أعمالًا أخرى وعدتُ إلى مكتبي غاضبًا جدًّا. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أرى تصرفاتٍ طائشةً هنا وهناك، بينما الجميع يمتدحها. هذا الشيء الوحيد الذي جعلني أطيل من صبري عليها. أمَّا في المكتبة فبتُّ أتجنَّبها كي لا تُزعجَني، فإن كانت في الجناح اليميني للمكتبة، كنت أنتقل إلى اليساري أو العكس. أنا في المركز لا أتسامح إطلاقًا مع أيِّ شيء قد يُعطِّل عملنا وإنجازاتنا، وطالما أنَّ تأثيرها إيجابيٌّ، فلا بأس! أنا لا أدعُ الأشياء الشخصية تؤثر على قرارتي، فطبيعة عملي تجبرني على التعامل مع كافة أنواع الناس، فاعتدتُ التعامل مع الجميع بشكلٍ دبلوماسيٍّ، وصارت لديَّ خبرةٌ لا بأس بها في معالجة هذا النوع من الأمور. إلَّا أنَّها رغم تجنُّبي رؤيتَها ما زالت تُصرُّ على اختبار صبري!
في المركز نقوم بشكل أسبوعي تقريبًا بإرسال أوراق بحثية لمجلات علمية عالمية ومؤتمرات وورش عمل. لذا بالمقابل، نستقبل ردودًا فيما يتعلق بتلك البحوث بشكل أسبوعي أيضًا، مفادُها فيما إذا ستتم الموافقة عليها أم لا، وعن التعديلات التي علينا أن نُجريَها في حال تمَّ اعتماد البحث وقبوله للنشر. أما أنا فتصلني النتيجة النهائية حينما يتمُّ قبولها بشكلٍ نهائيٍّ عن طريق رسالة تُرسَل إلى بريدي الإلكتروني من قِبَل الكاتب الأساسي للورقة البحثية سواء أكان طالبًا أم باحثًا، وذلك لكي أقلِّل قدر الإمكان عددَ الرسائل التي تصلني في اليوم، فيتسنَّى لي قراءة الرسائل التي تتطلَّب ردِّي بشكلٍ شخصيٍّ. لكن كيف ستستطيع تلك المرأة المندفعة أن توقف حماسها وألَّا تُرسل الورقة البحثية التي شاركتْ بها والتي تمَّ قبولها بشكل مبدئي؟ كلَّما تقدَّمت الدكتورة ساي خطوةً في عملها كانتْ تُرسل لي نسخةً عن تلك الرسائل، وبذلك باتت تظهر لي في بريدي الإلكتروني حتى إن لم تظهر لي في الواقع!
السيدة الدكتورة شوجا
شكرًا على رسائلك، لكن لا داعي لإعلامي بكلِّ الخطوات التي تقومين بها، يكفي أن يتمَّ إعلامي حالما تنتهي كلُّ المراحل بأنَّ العمل تمَّ قبوله وسيُقدَّم في التاريخ والمكان المحدَّد.
أنا أثق بكلِّ الباحثين في مركزي، وأنا هنا المدير ولستُ على اطلاع كامل بكلِّ التفاصيل، كما أنَّ بريدي الإلكتروني لا يتسع لكلِّ هذا العدد من الرسائل.
أشكر تفهُّمك، تحياتي،
لم تردَّ على رسالتي أبدًا، ولم تَعُد تُرسل أيَّ معلوماتٍ ورسائلَ بعد ذلك. تجاهلتها فهذا جيد، لا أريد أن أرى اسمها يوميًّا في صندوق البريد الإلكتروني. مضى عدة أسابيع وهي مختفيةٌ تمامًا، لم أعلم أين هي، فافترضتُ أنَّ لديها إجازة، فلستُ أنا مَن يُشرف على الإجازات، وأنا لا أعلم متى يكون الموظف في إجازة، إلا إن قمتُ بسؤال مشرفِه. ثم يبدو أنَّه مرَّ وقت طويل وأنا لا أراها في الأرجاء حتى إنِّي نسيتُ وجودها هنا.
هيروكي
مضى على وجود الدكتورة ساي معنا أكثر من شهرين، أعتقد أنَّه قد حان الوقت لأُعلمها بالمهمة الأخرى التي كنتُ أتطلَّع لها؛ فقد كان أحد أهمِّ الأسباب الأخرى التي دفعتني لتوظيف طبيبٍ نفسيٍّ في المركز هو أن يرى خفايا لا أستطيع أن أراها أنا بين الموظفين، أريده أن يتحدَّث إليهم، يساعدهم حينما يرى أنَّ هناك خللًا ما في وضعهم النفسي. كنت أودُّ الإفصاح عن تلك الرغبة حالما أجد الفرصة المناسبة؛ لذا قررت أن أحتكَّ مع الموظفين أكثر لأرى مدى تقبُّلهم للدكتورة ساي بشكل عام. في معظم الأحيان أتناول طعام الغداء في مكتبي الخاص نظرًا لضيق الوقت، فأطلبه إلى مكتبي ونادرًا ما أذهب إلى المطعم الخاص بالمركز، لذا صرتُ أتردَّد على المطعم أكثر وأحاول أن أتحدث أكثر مع الموظفين بين ساعات العمل، وعندما سألتُهم عن الدكتورة ساي من خلال حديثي معهم اكتشفت أنه لا داعي لإخبارها بهذه المهمَّة أبدًا! فقد قامت الدكتورة ساي بالمهمة وحدها. جميع الموظفين اعتادوا أن يزوروا مكتبها ويتحدثوا إليها عن أمورهم ومشاكلهم بانفتاح شديد، شعرت مجددًا بفخرٍ لمهارتي في اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، هذا جيدٌ، لكن ما عكَّر صفوي مجددًا حولها هو أنَّ الجناح الأيمن للقرَّاء في مكتبة المركز سيتمُّ إصلاحه؛ أي إنَّني سأضطر للجلوس في الجناح نفسه مع تلك المشاكسة، وأنا حقًّا لا أحبِّذ ذلك، فهي امرأةٌ مفرطةُ الحركة، وأنا لا أنعم بجلسة قراءةٍ صافية إلا إن كانت المكتبة هادئةً جدًّا. أذكر أنَّها كانت قد كتبت في سيرتها الذاتية أنَّها تحبُّ ممارسة اليوغا، أشكُّ أنَّها تستطيع الجلوس ولو لدقيقة واحدة بهدوء، فكيف لها أن تمارس اليوغا؟ لا بد أنَّها يوغا على طريقتها الخاصة!
أتى الأسبوع المقبل، وبدأت المعاناة: تدخل الدكتورة إلى المكتبة فتُحدِث كلَّ أنواع الضجيج والفوضى وتزعجني. ذات ليلةٍ أتتْ راكضةً وهي تحمل أكوابًا من الشاي والعصائر، وكعادتي تمتمتُ في نفسي: ستُوقعها، وستُتلف الكتب حولها! وما إن أنهيت جملتي تلك حتى رأيتُ كتابي ملطخًا بالقهوة، لكن ليس ممَّا في يديها، بل ممَّا في يدي. فلقد سكبتُ قهوتي على أحد الكتب القيِّمة. ذُعِرتُ وبدأتُ بنفض القهوة عن الكتاب بطريقة عشوائية، فصرختِ الدكتورة ساي: مهلًا توقف!
وضعتْ أغراضها ثمَّ أتتْ بمنديلٍ خاصٍّ وبدأتْ بتجفيف الكتاب بخفَّة شديدة. راقبتُ حركات يديها وهي تقوم بتجفيفه بعناية فائقة، لقد كانت طريقتُها بارعة ونظراتها للكتاب كانت ساحرة. في قلبي لمتُ نفسي على الظنِّ السيئ بها دومًا، وهذه المرة أنا الذي سكبت قهوتي على الكتاب وهي مَن قامت بتنظيفه. ثم قامتْ، بحسِّها الأنثوي، بتنظيف الطاولة والأرضية مع أنَّها ليست مضطرةً لفعل ذلك، ثم نظرتْ إلى قميصي وقالتْ: بروفيسور، قم بتبديل قميصك حالًا!
عندما قالتْ لي ذلك بصيغة الأمر، أعادتْ لي ذكرياتٍ كنت قد نسيتها تمامًا، فمنذ سنين لم أسمع صيغة الأمر من أنثى! كان ذلك قبل عشرين سنة، حين قالتْ لي والدتي قبل وفاتها بسويعاتٍ: آكي! وأنت تعيش حياتك، لا تنسَ أن تحياها، لا تنسَ أن تكون لك عائلة.
كيف تنبَّأت والدتي أنَّني لن أكوِّن عائلةً طوال تلك السنين؟ لا أعلم. نعم، لقد نسيتُ صيغة الأمر ونسيتُ ذاك الأمر ونسيتُ أمورًا كثيرة. مرَّ ذاك الشريط من الأفكار أمامي بينما كانت الدكتورة ساي تنظف الأرضية ونسيتُ حتى أن أشكرها، نظرتْ إليَّ مجددًا وقالت: بروفيسور هل تسمعني؟
– نعم، سأقوم بتبديله، شكرًا.
عدتُ إلى غرفتي وأنا ما زلتُ أرى وجه والدتي، ومدينٌ لتلك المشاكسة، لكن من حسن حظي أنِّي قمتُ بردِّ الدين في الأسبوع الذي تلاه مباشرةً. وذلك حين وصلتِ الدكتورة ساي من بلدتها وكانت تودُّ القيام بركن سيارتها. حين رأيتُها أصبتُ بالدهشة، فهي لا تمتلك أدنى فكرة عن كيفية المناورة لركن السيارة بطريقة صحيحة، رغم أنَّ مواقف السيارات عريضةٌ في مرآب المركز ومع ذلك كانت تصارع المقود والمرايا. كنتُ أراقبها وهي لا تعلم أنَّ أحدهم في المرآب. ظلَّتْ تحارب ما حولها عشر دقائق إلى أن أشفقتُ عليها، تركتُ سيارتي وتوجهتُ نحوها: دكتورة ساي، أأساعدك؟
– لا مانع لديَّ، فقد انتهت طاقتي تمامًا، منذ الساعة الخامسة وأنا خارج المنزل، وعندما أكون مرهقةً، لا أستطيع التركيز إطلاقًا، تفضَّل المكان لك.
وانتقلتْ إلى المقعد المجاور من غير أن تخرج من السيارة بحركة رشيقة جدًّا لتعطيَني المجال. كانت سيارتها صغيرةً مقارنةً على ما اعتدتُ عليه، عدَّلتُ وضْعَ الكرسي الأمامي كي يناسبَني. كان صوت الأغاني عاليًا جدًّا وكانت الدكتورة ساي تُكمل انسجامها مع تلك الأغاني مع أنَّنا على وشك النزول. تفوح من سيارتها رائحةٌ لطيفة على عكس الكثير من سيارات أصدقائي التي تفوح منها رائحة السجائر أو الطعام السريع. على المرآة الأمامية هناك أشكالٌ صغيرة تتراقص هنا وهناك. كلُّ شيء في هذه المساحة الصغيرة كان لطيفًا، وبه تفاصيل لطيفة لم أعتَدْ أنا شخصيًّا عليها. عندما ألقيت نظرةً سريعة على الحائط الذي خلف السيارة كي لا نصطدم به، لاحظت وجودَ كثيرٍ من الأشياء على المقاعد الخلفية، يبدو أنَّها مثلي، لا تستخدمها أبدًا، أو بالأحرى لا أحد يستخدمها، فأنا لا أذكر أنَّ أحدهم قد جلس على المقاعد الخلفية لسيارتي، ومَن لا يعلم هذا الشعور لا يستطيع تمييزه في سيارات الآخرين.
على أيِّ حال، قمتُ بركن السيارة في مكانٍ مناسب فشكرتني جدًّا، نزلنا من السيارة فسمعتُ صوتًا كما لو أنَّه صوت انفجار، لا أعلم لمَ أغلب السيدات يقمْنَ بإغلاق أبواب السيارة بهذه الطريقة! فقد لاحظتُ هذه الملاحظة منذ بدأت التعامل مع زملائي وزميلاتي في العمل أكثر. نعم فقد بدأتُ مشاركتهم العديد من النشاطات يوميًّا. بتُّ أتردَّدُ أكثر على مطعم المركز لمشاركة الموظفين طعام الغداء، أحتسي فنجان قهوة مع بعضهم، أتنزَّه قليلًا بين ساعات العمل مع الطلاب، أشاركهم أحاديثهم العامَّة التي لا علاقة لها بالعمل أو الأبحاث.
بدأتُ بحفظ وجوههم أكثر وربْطها مع أسمائهم، فسابقًا لم أكن أعلم إلا الأسماء وهي مرتبطة بالإنجازات، كما لو أنَّنا آلات! أمَّا الآن فأنا مستمتعٌ جدًّا بمعرفة تفاصيل عن حياتهم الشخصية، عن طريقة كلامهم وتعابيرهم، عن شخصيَّاتهم وآرائهم. هكذا يكون حالي في كلِّ أيَّام الأسبوع، ما عدا يومَي الجمعة والسبت. فهناك موظفٌ واحدٌ يسرق انتباهي، تلك الابتسامة، هاتان العينان، وتلك الحركات العفوية، التعابير الطفولية، حركة اليدين، الثواني القليلة التي تسكن بها، ثم الانفجار العظيم حين يحلُّ حماس الكون عليها، لمعة عينيها حين تتحدث عن شيءٍ تحبُّه كما لو أنَّها برقٌ يضرب في السماء. بتُّ أستمتع بمراقبتها رغم انزعاجي الدائم منها في المكتبة، فما زالتْ تلك المرأة تُحدث الكثير من الضجة هنا وهناك، وما زالتْ تُزعجني في المكتبة في الليالي التي تقضيها في المركز. مضتْ عدَّة شهورٍ على هذه الحال. لن أنسى ذاك اليوم حين نفد صبري، فقلتُ لها بينما هي منهمكة في التهام أطعمتها غير الصحية: سيدتي، هل تعلمين ضرر ما تفعلين؟
أجابتني بصوتٍ بالكاد يُفهَم وما زال فمُها ممتلئًا بالطعام: عن أيِّ ضرر تتحدث حضرة المدير؟
كان ذاك واضحًا، حضرة المدير، إنَّها تسخر منِّي! تمالكتُ أعصابي وأجبْتُها: هذه الأشياء المبتذلة التي لا تتوقفين عن تناولها، سيدتي، عليك أن تذكري أنَّها مضرَّة بالصحة. عليك الاهتمام بصحتك في هذه المرحلة من عمرك!
– عمري؟
ضحكتْ بصوتٍ عالٍ، اقتربتْ مني وقالتْ لي بصوتٍ خافتٍ: سيدي، عليك أن تتذكر أنَّ الغليون مضرٌّ بالصحة، عليك الاهتمام بصحتك خاصة في هذه المرحلة المتقدمة من عمرك!
وكأنَّنا في نِزال، ما هي إلا نصيحة أردتُ أن أُسديَها لها. لقد طفح الكيل حقًّا، أخذتُ كُتُبي، نهرتُها بنظرة ازدراءٍ وخرجتُ من المكتبة. بعد أن رميتُ هذه الكلمات: لقد أصبح هذا المكان غيرَ صالحٍ للمطالعة!
عدتُ إلى غرفتي وأنا غاضبٌ وحانقٌ عليها. كانت تلك ليلة الأحد، أي في صباح الأحد ستغادر ولن أراها للأسبوع المقبل، وذلك أفضل!
مضت أيام ذلك الأسبوع بثقلٍ، كنتُ وبلا شعورٍ أنتظر عودة يوم الجمعة. لم أُعِرْ ذلك الشعور اهتمامًا. لكن حين أتى يوم الجمعة، أتت الدكتورة ساي في ذلك اليوم إلى الاجتماع الدوري حيث كان علينا أن نجلس معًا في مهامٍ بعد الاجتماع. كانت الدكتورة ساي على غير طبيعتها، فقد بدتْ هادئةً جدًّا، تبتسم بين الحين والآخر بينما في حالتها الطبيعية تملأ المكان بالضحك. ابتسامتها كانت مصطنعةً وجافَّة. هل ذلك بسبب ما حصل الأسبوع الماضي؟ سألت نفسي، لكن هذا أفضل، عليها أن تلتزم الهدوء أكثر وتحترم المكان. مضى ذلك اليوم وحين حلَّ الليل، ذهبتُ إلى المكتبة، لم تكن الدكتورة ساي قد أتت بعد. وضعتُ كتبي، وبدأتُ بالقراءة، لم أكن أستطيع التركيز مطلقًا فقد كنت أنظر إلى الساعة والباب طيلة الوقت، أين هي؟ لقد انتصف الليل ولم تأتِ بعد!
بقيتُ بعدها أكثر من ساعتين في المكتبة لكنَّني لم أقرأ شيئًا. هل حقًّا كنتُ أنتظر تلك المزعجة؟ هل اعتدتُ على التركيز بوجود ضجيجها اللامتناهي؟ أم أنِّي قلقٌ عليها؟
هيروكي
عزيزي البروفيسور هيروكي
أشكرك على الدعوة، لكنِّي لن أستطيع القدوم.
منذ متى والدكتورة ساي تردُّ بطريقة مهنيَّة؟ توقعتُ أنَّها ستشرح سبب عدم مجيئها، فهي دائمًا تشرح وتسترسل، ألم تُدرك معنى المهنيَّة إلَّا الآن!
أتى يوم الحفل وكان يوم السبت، لا أعلم ما هو سبب رفضها للمجيء، لا بدَّ أنَّ لديها أصدقاء تشاركهم المهرجان. كنت أتخيَّل كم ستكون فوضويَّة في المهرجان وكيف ستقوم بتجربة كلِّ الألعاب وكلِّ أنواع الطعام، وسيكون صوت ضحكتها أعلى ما في المهرجان. وبينما كنت أتخيَّل مدى اندفاعها بدأتِ الألعاب الناريَّة بالانطلاق. وفجأةً لاحظتُ أنَّ أحدهم يقف في شرفة الطابق السفلي، استغربتُ جدًّا، من ذاك الذي يأتي إلى المركز ويجلس وحيدًا في ساعةٍ كهذه؟ دقَّقتُ أكثر فإذا هي ساي! تركتُ المكان من فوري وانطلقتُ إلى الطابق السفلي، فقد دفعني الفضول لأرى ما بها. عندما اقتربتُ من باب الشرفة سمعتُ صوتًا وكأنَّه صوت بكاء.
– دكتورة ساي؟
قامت بمسح دموعها مباشرة.
– أهلًا بروفيسور هيروكي، عِمْتَ مساءً، كيف حالك؟
– بخير، ما بكِ؟ ولمَ أنتِ هنا وحدك؟
– لا شيء، أنا بخير، شعرتُ أنَّني أودُّ استنشاق هواءٍ طلقٍ فخرجت، تُصبح على خير.
– انتظري قليلًا، أودُّ أن أسألَكِ سؤالًا واحدًا فحسب.
– تفضَّل.
– لِمَ لم تأتي إلى الحفل؟ لِمَ لم تعودي ترتادِين المكتبة؟ هل بسبب ما صدر مني من كلماتٍ في المكتبة المرَّة الماضية؟
ابتسمتْ ثمَّ قالتْ: لا أبدًا، ليس هذا هو السبب. ثمَّ أليس هذا أفضل؟ تستطيع الآن مطالعة كُتُبِك بهدوء.
ثم مضتْ. ما تزال ليستْ بمزاجها الطبيعي وتهرَّبت من مواجهتي وهي تبكي. لم أُرِد أن أتدخَّل في شئونها أكثر. انتهتِ الحفلة فعدتُ إلى المكتبة، لكنَّني لم أقرأ شيئًا، ظللت أفكر: لماذا هي حزينة؟ في الأسبوع التالي لم تأتِ أيضًا إلى المكتبة ليلة السبت. كما لم أستطع القراءة، كنتُ أنظر إلى كُتُبِها وأطعمتها التي كانت تحتفظ بها في حال احتاجت إليها على أحد رفوف المكتبة، لا أعلم لماذا أفتقدُها؟ لكن حينما حلَّت ليلة الأحد، أتتْ ساي إلى المكتبة وجلستْ لفترةٍ قصيرة جدًّا. كأنَّها تؤكِّد لي ألَّا علاقة لما حدث بتوقفها عن ارتياد المكتبة، ثمَّ مضتْ. كانت أشدَّ حزنًا من الأسبوع الذي مضى، مع أنَّها كانت تحاول أن تكون على طبيعتها وتضحك وتتحدث. لكنَّ في عينَيها حزنًا عميقًا أستطيع أن أراه بسهولة. لحقتُ بها فرأيتها في الشرفة تنتحب بصوتٍ خافتٍ جدًّا، لا بدَّ أنَّها من ذلك النوع الذي يخفِّف آلامَ الناس ولا يرغب في أن يشاركَه أحدٌ أحزانَه. ساي تُخفي شيئًا في قلبها، أردتُ أن أُجبرَها على إخباري بما يُزعجها، لكن كيف أستطيع أن أتحوَّل إلى ذلك الشخص العفويِّ الفضولي وأسألها بشكلٍ مباشر، لا أستطيع ذلك حقًّا. وجدتُ طريقةً أخرى لأتمكَّن من سؤالها من غير أن تراودها أيُّ شكوك حول غايتي الحقيقة، غايتي الحقيقة؟ لِمَ أنا مهتمٌّ جدًّا؟ أبدو غريبًا بعض الشيء!
– دكتورة ساي!
– بروفيسور هيروكي منذ متى وأنت هنا؟
– الآن، دكتورة ساي هناك أمرٌ عليَّ أن أُخبرَكِ به غدًا؛ لذا من فضلك تعالَي إلى مكتبي في الصباح.
– حسنًا!
– الجوُّ باردٌ قليلًا الليلة، لا تبقَي هنا في الخارج.
– شكرًا، سأكون بخير.
– كما تشائين.
ساي
ككُلِّ عامٍ، وكطقسٍ من طقوس أشهر الصَّيف الجافِّ، تثقلني ذكرياتي، ويمرُّ هذان الأسبوعان بمرارةٍ شديدة. منذ عشرين سنة، تمامًا في بداية الصيف، بدأ حبُّنا أنا وهاك. كنَّا في السنة الثالثة في أثناء دراسة الطب. أخبرَني هاك أنَّه قد وقع في حبِّي منذ المرة الأولى التي رآني فيها في المختبر بينما كنت أصرخ وأُلاحق الضفدع الذي كان علينا أن نشرِّحَه. في ذلك اليوم اشتهر اسمي في أرجاء الكلية، ساي التي أفسدت المختبر، فلقد أفسدتُ المختبر بأكمله وأنا ألاحق الضفدع الذي أضعتُه، حيث إنَّني أزلت المثبِّتات من عليه بدافع الفضول! يا لها من شهرةٍ وسمعةٍ سيئة. لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد كنتُ أُطرد في بعض الأحيان من المحاضرات بسبب ثرثرتي المتواصلة. أذكر أنَّه في يوم من الأيام قام المسئول عن المختبر بتأنيبي بشدة، لكنِّي حقًّا لم أكن قد فعلت شيئًا خاطئًا. دافعَ هاك عنِّي في لحظتها بشراسةٍ ونُبل. أحببتُ هاك، أحببتُه ليس بسبب هذا الموقف، بل لأنَّه كان حولي ويدعمني دائمًا. يساعدني على التركيز ويعطيني ملاحظاتٍ مهمَّة لم أكن لأسمعَها في حياتي، كان لطيفًا وحنونًا جدًّا. عشنا قصة حبٍّ رائعةٍ، كان هاك هادئًا يحبُّ أن يراني وأنا أقفز في كلِّ مكان، كان يقول لي دائمًا: إنَّ كلَّ أحزانه وهمومه تزول حينما يرى ابتسامتي. توَّجْنا حبَّنا بالزواج، عشْنا خمس سنواتٍ من الانسجام والتناغم. كلانا بقيَ كما هو، وكلانا أحبَّ الآخر كما هو. لكن شيئًا فشيئًا بات هاك يُبدي استياءَه من تصرفاتي، رغم أنَّني لم أتغير مطلقًا. بدأتْ مشاكل لم تكن موجودة بالظهور، شعرت أنَّه يختلق المشاكل من لا شيء، لم أكن أفهم ما يودُّ الوصول إليه تمامًا. أذكر في ذلك اليوم حين اقترحتُ عليه فكرة إنجاب طفل، كانت ردَّةُ فعله عنيفةً جدًّا وأبدى رفضه للفكرة. بعد مرور سنة وصل بنا الأمر إلى حدٍّ لا يُطاق، كنت أرى في عينيه أنَّه لم يَعُد راضيًا عن أيِّ شيءٍ صادرٍ من قِبَلي، وبدأتُ أنا بفقدان كلِّ طاقة الحبِّ التي امتلكتُها له.
الطلاق! كيف وصلنا إلى هذا الحدِّ، لا أعلم. لكنِّي أعلم أنَّني لغاية ذلك الصيف، كنت أحاول كلَّ جهدي ألَّا أخسرَه. لكن لا بدَّ أنَّه قد اتخذ قراره وانتهى الأمر.
أنا في مزاجٍ سيِّئٍ الآن، كان عليَّ أن آخذ إجازةً من عملي وألَّا آتيَ إلى المركز. أشعر كما لو أنَّ تلك الذكريات تخنقني، بدأ حبُّنا بالصيف وانتهى بالصيف، والآن مضى على طلاقنا عشرُ سنين. ما زلتُ أذكر كلماتِ وداعه الأخيرة حين قال لي «عليكِ أن تنضجي أكثر ساي، أتمنى لكِ حياةً سعيدة.» رائحة أشجار الفاكهة تُشعل كلَّ الذكريات في قلبي. لذا حين أخرج إلى شرفة المركز أرى دموعي تذرف من غير شعور. لستُ نادمةً على شيءٍ، لكنَّني أرثي ذكرياتٍ عشتُها وعشتُ تفاصيلها.
ولكي يزداد الأمر سوءًا، رآني البروفيسور هيروكي مرَّتين وأنا أبكي. أضحكني عندما سألني إن كنت لا أرتاد المكتبة بسبب ما قاله لي فيها عن إزعاجي له، هل هذا سؤال يُسأل لساي؟ لا بد أنَّنا سنُصبح صديقين في المستقبل. رغم أنَّه لا يتحمَّلني مطلقًا، إلا أنَّه لطيفٌ ومحترمٌ، وأنا أُقدِّره جدًّا، سأُخبره عندما يتحسَّن مزاجي إن كان يقبل صداقتي، سأعتزُّ به حقًّا إن أصبحنا أصدقاء.
هيروكي
لم أستطع النوم جيدًا تلك الليلة وأنا أحاول أن أنمِّقَ ما أودُّ أن أقوله لها، من غير أن تشعر حيال فضولي بأيِّ شيء. مشكلتي أنَّها خبيرةٌ نفسيَّةٌ وعليَّ أن أكون أبرع منها في ذلك المجال. مرَّت ساعات الليل ثمَّ طلعت الشمس أخيرًا، توجَّهتُ إلى مكتبي لانتظار تلك المشاكسة التي باتتْ تُزعجني حتى في عدم وجودها حولي. خطَّتي كانت بأن أُخبرها أنَّها وبصفتها الطبيبة النفسية للمركز فعليها أن تكون بمزاج جيد لأنَّها ستؤثر على البقيَّة. حينها سأُجبرها على الاعتراف وأن تُخبرني بالذي يُزعجها. تبدو الخطَّة ساذجةً جدًّا، لكن لا بدَّ أن أجعلها تضعف فتخبرني لِم هي حزينة. أودُّ حقًّا أن أعلم لِم هي حزينة، وأن أساعدها. طرقتْ ساي باب المكتب ودخلتْ، كانت تبدو أكثر إشراقًا عن ذي قبل، وهي بحالة جيدة وبمزاج جيد جدًّا. فقد حيَّتني تحيةً عسكرية وهي تقول: صباح الخير سيدي.
– أهلًا دكتورة ساي تفضلي.
– شكرًا.
وجدتُ نفسي مع مزاجها الجيد في مشكلة، فلقد أُفسدت الخطة بالكامل، كيف سأبدأ الحوار وما الذي عليَّ قوله؟ فأنا مَن استدعاها. حاولتُ أن أختلق موضوعًا متعلِّقًا بالعمل أتحدَّث فيه، لكن تلك المرأة لم تكن لتقتنعَ أنَّني جلبتُها منذ الصباح الباكر لأُخبرَها بمعلوماتٍ ثانوية عادةً ما أُرسلها عبر البريد الإلكتروني في نهاية كلِّ أسبوع. ازداد الأمر سوءًا أنَّها في مزاجها الاعتيادي، هذا يعني أنَّني لن أنتهيَ منها بسهولة، حين أنهيتُ كلامي معها وقلت لها: حسنًا دكتورة ساي هذا كلُّ ما في الأمر!
اقتربتْ منِّي، وحدَّقتْ في عينيَّ وهي تقطب حاجبَيها، شعرتُ بإحراجٍ شديد، ثمَّ قالتْ: بروفيسور هيروكي! هل تريد أن تُقنعني أنَّك قد استدعيتَني لتقول لي هذه الأمور فقط؟
– نعم!
– كنْ معي صريحًا، أشعر أنَّ هناك شيئًا آخرَ تودُّ أن تقوله، هذا واضحٌ تمامًا. كما أنَّ هذا الشيء يبدو محرجًا لذا حاولتَ التراجع عنه وبدأت بالحديث عن شيءٍ آخر. بروفيسور هيروكي، إن كنتَ تفكر بالاستغناء عن خدماتي في المركز بسبب الضجة التي أُحدثها هنا، فاعلم أنَّني أحبُّ هذا المكان ولا أريد أن أتخلَّى عن عملي. أخبرْني إن كانتْ لديك أيُّ ملاحظاتٍ وسأكون عند حسن ظنِّك، لا تقلق. أمَّا أن تفكر بإقصائي فلن أسمح بذلك مهما كلَّف الأمر.
ارتحتُ عندما اعتقدتْ ساي أنَّ الأمر كذلك، فأجبتُها: ملاحظات! نعم لديَّ الكثيرُ منها، على أيِّ حال لا تقلقي لن نستغنيَ عنكِ. وبالمناسبة جلبتُ مجموعة كتبٍ جديدة، لا تفوتيها.
– بالطبع لا، عند العاشرة، لكنْ لديَّ طلب!
– ما هو؟
نظرتْ إليَّ بخجلٍ، شعرتُ أنَّها ستطلب أمرًا محرجًا جدًّا.
– هل أستطيع أن أجلب معي القليل من الحلويات إلى المكتبة؟
تلك المرأة لا تفكر إلا بالطعام مع أنَّها رشيقةٌ جدًّا. أومأتُ لها بالإيجاب، ثمَّ خرجنا لتفقُّد العمل في الخارج. وأخيرًا عادتْ ساي إلى حالتها الطبيعية، مع أنني ما زلتُ أودُّ أن أعلم ما كان بها، وأن أشعر بأنَّني قريبٌ منها. لا أفهم نفسي، لكنَّني بتُّ مهتمًّا لأمرها.
هيروكي
مرَّت عدَّةُ أسابيعَ صعبة من العمل الشَّاق في المركز، كان الفريق بأكمله يعمل بجدٍّ شديد. كنَّا نَصِل الليل مع النهار، إلى أن خفَّتْ وطأةُ العمل قليلًا. حينها عُدْنا إلى نقاشاتنا الأسبوعية أنا وساي. فلقد أصبحنا أصدقاء، ووجدت أنَّ النقاش معها ليس إزعاجًا كما كنت أظن سابقًا، بل كان يُغني طريقة تفكيري جدًّا. كنتُ أستمتع بمناقشة المواضيع التاريخية والنفسية والعملية معها، فهي تمتلك معارف واسعة الطيف، أحببتُ نظرتَها إلى الأمور، نظرتُها ليست إيجابيةً فحسب، بل كانت ملهمةً جدًّا. فهمتُ الآن طريقتَها بالطبِّ النفسيِّ، وكيف أنَّها تُداوي الناس بفهم أعماقهم وإعطائهم ما ينقصهم، لا بما يقوله الطبُّ النفسيُّ؛ لأنَّ لكلِّ شخصٍ احتياجاتِه الخاصَّةَ حتى لو تماثلت الأعراض. حدثتني كثيرًا عن أمور كنتُ غافلًا عنها. أحسد ساي، لأنَّها تمتلك الشجاعة بأن تكون الطبيبة والعالمة والمرأة بطريقتها الخاصة. إنَّها لا تضعُ نفسَها بأيِّ قالبٍ يفرضه عليها المجتمع؛ لذا فهي صادقة ومحبوبة، نعم محبوبة!
مع الأيام، بدأ قلبي يخفق عند سماع اسمها، دقَّاتُه تتسارع حين أراها، وأتعرَّق حين أتحدَّث معها. وكثيرًا ما أنسى المكان وأتأمَّلها حين نكون في قاعةٍ واحدة. أنتظرُ الأيام التي تأتي بها بفارغ الصبر، وألاحقها حيث أكون متذرعًا بألف سبب. وصل بي الحدُّ أن قمتُ بالبحث عنها على شبكة الإنترنت، لأقرأَ كلَّ ما تقوم بتدوينه. كلُّ ما يصدر منها لطيفٌ وجميل، جميلٌ كجمال عينَيها، لم تَعُد رؤيتها عن بُعد خلال تلك الدقائق أو الساعات القليلة كافيةً لي. تفكيري يدور حولها: متى ستأتي؟ ماذا تحبُّ؟ ماذا ستقول؟ ماذا ستقرأ؟ متى ستضحك؟ أجلس في المكتبة تائه الفكر، حين لا تأتي أضيع، وأفقد صوابي في انتظارها، أمَّا حين تأتي فأضيع في التفكير فيها. هل تفكر بي؟ أم أنا وحدي الذي لا أملك تركيزي منذ أن رأيتُها؟
ليتني بقوتها! تلك الواثقة من نفسها تقتحم بضوضائها سكينتي وتتركني مذهولًا على أنقاض مكتبتي. أدركتُ أنَّ قلبي متعلقٌ بها كثيرًا، بل أدركتُ أنَّ هذا ما يسميه البشر، حبًّا! وفقًا لما تؤمن به من أفكار، على الإنسان أن يعبِّر عمَّا يشعر، هذا يعني أنَّه عليَّ أن أُعلمَها بما أشعر من غير تحفُّظاتٍ، أي أن أُخبرَها بمشاعري الحقيقية نحوها! لا أدري ماذا ستكون ردَّة فعلها. لكنَّني تعلمتُ منها أن أكون مبادرًا وألَّا أخشى العواقب حين أومنُ بما أفعل.
أتى اليوم التالي، الساعة العاشرة، ها هي ساي قد أتتْ. سأكون شجاعًا الليلة وأُخبرها بالأمر، لكن المشكلة أنني أشعر بتوعُّكٍ صحي. لستُ على ما يرام وأخشى أن يزداد الأمر سوءًا. فإن كان كذلك فسأؤجل الموضوع ليوم الغد. فأنا أريد أن أكون بكامل تركيزي.
– بروفيسور هيروكي كيف حالك؟
– هيروكي، أخبرتُكِ أن تناديني هيروكي وحسب.
– حسنًا لا بأس، هيروكي الوسيم كيف حالك؟
– وسيم؟ قلتُ لكِ هيروكي فقط!
– فقط؟ ألم يُخبرْكَ أحدٌ قبلي أنَّكَ وسيم؟
– عدنا لمزاحك!
– لا أمزح، انظر إلى المرآة، لكن دقيقة، أنت لستَ على ما يرام!
– ما الذي تعنينه؟
– هل تشعر بالتعب؟ فوجهُك شاحبٌ جدًّا. أي إنَّك حقًّا لستَ وسيمًا في هذه اللحظة لذا لا تنظر إلى المرآة الآن. أخبرْني ما الذي يؤلمك؟
– لا شيءَ، توعُّكٌ طفيفٌ لكنِّي بصحة جيدة.
دنتْ مني ووضعتْ يدها على جبهتي لتتحسَّس حرارتي، لكن كان ذلك محرجًا جدًّا. وازداد الأمر سوءًا حين طلبت مني أن تُجريَ لي فحصًا عامًّا. أعلم أنَّها طبيبة وتمارس عملها، لكن المشكلة أنَّها تعتقد أنِّي أنظر إليها كصديقةٍ لا أكثر، لكن الحقيقة ليست كذلك. لذا لم أكن أودُّ أن تقترب مني أبدًا، شعرتُ أنَّ ذلك خيانة لمشاعرها. لذا كان لا بد أن أُبعدَها عنِّي في تلك اللحظة.
– ساي، أرجوكِ أنا بخير، لا أحتاج شيئًا.
نهضتُ من مكاني، بينما نظرتْ إليَّ باستغراب شديد: هيروكي؟ ما الذي دهاك؟ ألَا تثقُ بي؟
– ساي، ليس الأمر كذلك، لا تُسيئي فهمي.
– إذن ما الأمر؟
– سألتني ما الأمر! حسنًا! أنستطيع التحدُّث في الشرفة؟
– نعم بالتأكيد!
ساي
عندما أخبرني هيروكي بمشاعره الحقيقية تجاهي، صُعقت حقًّا. فأنا لم أتنبه إطلاقًا لمشاعره، كيف حدث ذلك من غير علمي؟ على أيِّ حال، فلقد كان جوابي له سريعًا جدًّا: هيروكي اعذرني أرجوك، أنا لا أريد أن أُقحمَ نفسي في هذه المواضيع مجددًا.
– لستِ مضطرةً لإعطاء أيِّ إجابةٍ الآن، لكن وَجب عليَّ أن أوضِّح لكِ طريقةَ نظرتي إليك. لم أكن مرتاحًا وأنت تعاملينني بعفويَّةٍ بينما أكنُّ لكِ مشاعرَ خاصةً، فكان لا بدَّ أن تعلمي بذلك وبعدها تستطيعين أن تتصرفي معي بالطريقة التي تحلو لكِ.
– هيروكي أقدِّر صراحتك، وأشكرك عليها. لكن أرجوك، لا تهدر مشاعرك في مكان غير مناسب.
– ساي، لن نتحدث اليوم أكثر. أراكِ غدًا، اعتني بنفسك.
– بل أنتَ اعتنِ بنفسك، حرارتُكَ مرتفعةٌ جدًّا. اذهب إلى المركز الطبيِّ حالًا.
– حسنًا.
ابتسمتُ ومضيتُ إلى غرفتي، أفكر مجددًا بما قاله وأفكر بالذي سأفعله الآن. لا حاجة للتفكير بهذا الأمر، فحتمًا لن أغيِّر شيئًا في حياتي. هيروكي رجل محترم، خلوقٌ وذو طباعٍ حسنة، لكنَّه رجلٌ وأنا يكفيني ما لقيتُ من الرجال. لا أودُّ أن أكرِّر تجربتي السابقة. هاك أيضًا، أحبَّني بشدَّة ولمدَّة أطول، وعشنا ذكريات جميلة جدًّا. أحبَّني كما أنا بجنوني، بغبائي وبجميع عيوبي. ثمَّ ماذا؟ ثمَّ شيئًا فشيئًا تراجع عن كلِّ ذلك. هل هو الملل؟ لا أدري حقًّا، لكن ما أعلمه الآن أنِّي قاسيتُ الكثير إلى أن التأمَ جرحي القديم. أعيش الآن باستقرار مع نفسي، ولستُ أرغب في أن أضع نفسي مجددًا في خطر جديد، لا أشعر أنِّي بحاجةٍ لأن أبقى بجانب رجل، يكفيني أصدقائي وتكفيني بالدرجة الأولى، ساي، كما هي. لكن كيف سأتعامل مع الأمور من الآن وصاعدًا. عليَّ أن أرتِّب أفكاري من جديد، فأنا لن أترك المركز مهما كلَّف الأمر، كما أنَّه ليس من المريح على الأقل في هذه الفترة أن أبقى أمامه، لا بدَّ أنَّ الحلَّ الوحيد هو ألَّا آتيَ إلى المركز، وأن أقوم بمهامي من غير المجيء إلى المركز وإرسال نتائجي عبر البريد الإلكتروني والقيام بالاجتماعات عبر وسائل الاتصال، وسنرى بعدها ماذا سأفعل!
هيروكي
لم أكن أتوقع أن تتهرب منِّي، ليستْ ساي مَن تتصرَّف بهذه الطريقة. قمتُ بالموافقة على طلبها بأن تعمل من بلدتها عن بُعد من غير المجيء إلى المركز، لكن بعد أن تُنهيَ بعض الأعمال هنا. أي أنَّها ما زالت مضطرةً إلى المجيء إلى المركز خلال الأسبوعين القادمين. وهنا بدأت المشاكل، كانت ساي تتصرف معي بغرابة. لقد ضايقني الموضوع بشدة، ربما لم تَعُد مرتاحةً بالتعامل معي، أتفهَّم ذلك. بالتأكيد لم تكن تأتي إلى المكتبة، بل كانت تقضي معظم أوقاتها بعد العمل في حديقة المركز الخارجية. في أحد الأيام، لم أستطع منعَ نفسي من اللحاق بها للحديث حول ما تفعله بنا. لحقتُ بها وناديتُها: ساي.
– بروفيسور هيروكي أهلًا بك!
– بروفيسور؟ هل عدنا للألقاب من جديد، هل يعني أنَّكِ تفضلين أن أناديَك بالدكتورة ساي؟
– لا أبدًا، نادني بما شئت أنت تعلم أنِّي لا أحب الألقاب والمراسم والبروتوكولات مع كلِّ الناس، فكيف مع أصدقائي!
– جيد، ما زلتِ تذكرين أنَّنا صديقان!
– نعم ومَن قال غير ذلك؟
– أفعالُكِ وتصرفاتُكِ.
– هيروكي أرجوك، لا تتحدث عن هذا الموضوع مجددًا.
استدارت وكادت ترحل إلا أنَّني ناديتُها مجدَّدًا: ساي! لكن هذا ليس عدلًا منك، تُرغمينني على أن أرضى بجوابك. أنت حرة بقرارك، لكن لستِ حرةً بجعلي أتراجع أو أستسلم. عليكِ أن تفهمي ذلك، ثمَّ إنَّ هروبك من أمامي لن يُفيدَك في شيء، لا تحسبي أنِّي سأغيِّر رأيي بعد أسبوعين، شهرين أو حتى عشرين سنة. ساي! أنا شخصٌ عشتُ حياةً مكرسة للعلم والأبحاث، لم أتزوج ليس لأنِّي لم أجد الوقت لذلك كما يظنُّ معظم الناس، لا! أنا لم أتزوج لأنَّني طيلة السنين لم أجد تلك المرأة التي تدخل قلبي عنوةً، ترغمني بأن أعشقها بكلِّ صفاتها وبكلِّ ما فيها. وأودُّ أن أُعلمك بأمرٍ ربَّما لا تعلمينه عن البروفيسور هيروكي، هو أنَّه عنيدٌ جدًّا، ولا يستسلم!
سكتتْ طويلًا ولم تُجبني بأيِّ ردٍّ، بل بقيتْ تنظر إليَّ كمَن يستجدي الآخر ليتركه وشأنَه، سألتُها بهدوء: ساي! هل ستبقين صامتةً؟ ألَا من ردٍّ؟ طيلة الشهرين الماضيين كنتُ أحدِّثك عن الكثير من أموري الشخصية، حدَّثتُكِ عن مشاكلي في حياتي بعفوية تامة ولم أشعر أنَّني أتكلم أمام شخص غريب. لكن أنتِ، وحتى حين يكون الأمر متعلقًا بنا، فإنَّك تفضِّلين الصمت. هل تجدين ذلك منطقيًّا؟ أنتِ لا تبدين بحالة جيدة منذ أن حدَّثتُكِ في الأمر. لِم لا تصارحينَني بما تشعرين وتصارحينَني بسبب رفضك لإعطاء فرصةٍ لنا؟ لِم تسمحين لنفسك أن تواسي الجميع، بينما تمنعين الناس عن إسداء حتى لو قليلًا من المساعدة لك؟ لِم لا تقبلين أن يكون أحدٌ بجانبك بينما أنت بجانب الجميع دومًا؟ لِم لا تسمحين لمشاعر الناس أن تغمرك بينما تغمرين الجميع بكلِّ ما تستطيعين من مشاعرَ ونصائحَ ووقتٍ وتعاطفٍ؟
– هيروكي، أنا لستُ من ذاك النوع الأناني، كلُّ ما في الأمر أنَّ تجربة زواجي السابقة كان لها تأثيرٌ سلبيٌّ على حياتي. لا أحبُّ الحديث عنها، لا لأنَّني أودُّ أن أحتفظ بالألم لنفسي، لا، بل لأنَّ الحديث عنها يؤلمني بشدَّة. هناك جانبُ ضعفٍ في حياة كلِّ إنسان، وأنا أمتلك هذا الجانب. ما آلمني حقًّا ليس أنَّنا افترقنا أنا وزوجي السابق، بل أتألم لأنَّه لم يُبرِّر، لم يتكلم، لم يكن صريحًا، لِم بدأ يكرهني؟ لِم لم يُخبرني أنَّني صرتُ بغيضةً لديه في وقت مبكر؟ لِم تغيَّر فجأةً؟ لِم بات يكره المرأة التي كان قد أحبَّها؟
– ساي لا أريد أن تتألمي أكثر، أنا أعتذر على إصراري بجعلك تتحدثين عن هذا الأمر، لكن أرجوكِ، أعطينا فرصة، لا أودُّ أن أُزعجَكِ أكثر من ذلك.
– أرجوك هيروكي، سأقوم بأعمالي من بلدتي بدءًا من الغد، سأتواصل مع الجميع عبر الإنترنت، لا أودُّ المجيء مجددًا إلى هنا.
– كما تشائين.
رأيتُ في عينَيها خوفًا وقلقًا، لا أعلم كيف يتمكَّن رجل في هذا العالم أن يؤذيَ امرأةً لهذا الحدِّ. مضيتُ إلى مكتبي ووافقتُ على طلبها، لكنَّني لن أتركها وشأنَها، سأدعها ترتاح قليلًا فحسب. ساي، كوني بخير وعودي لي بسرعة.
هيروكي
أتتْ حفلة آخر السنة، ومجددًا، أرسلتُ الدعوة إلى جميع الموظفين، هذه المرَّة جاءت الإجابة بنعم. علمت فيما بعد أنَّ الجميع قد أرسل لها وطلب منها أن تكون موجودةً في الحفل، فالجميع قد اشتاق إليها. فمنذ شهرين وهي لا تأتي إلى المركز، بل تقوم بأعمالها من بلدتها، فتُرسل وتستقبل كلَّ المعلومات وتقوم بمقابلاتها مع الجميع عبر وسائل الاتصال. لم أُزعجها طيلة هذه الفترة، علَّها تعود إلى المركز فأراها. كنت أُرسل إليها رسالةً واحدة فقط كلَّ أسبوع لأطمئنَّ عليها، من غير أن أُطيلَ عليها أو أضايقَها بمشاعري. كنت أتساءل: إن كان الموظفون قد اشتاقوا إليها، فماذا أقول أنا؟
حين علمتُ أنَّها ستأتي إلى حفل آخر السنة، بدأتُ أعدُّ الأيَّام عدًّا، إلى أن أتى يوم الحفل. عندما ذهبت إلى القاعة التي سنجتمع بها، رحتُ أنظر في كلِّ الاتجاهات لأراها، لكنِّي لم أرَها في أيِّ مكان. بدأ الحفل وفجأةً لمعت القاعة بضوء رآه قلبي قبل عينيَّ، إنَّها ساي قد أتت. منذ شهرين لم أرَها، كدتُ أترك كلَّ شيءٍ وأتوجَّه نحوها لأراها عن قربٍ وأتحدَّث إليها، لكنِّي لم أرغب بإزعاجها. وكنوعٍ من أنواع البروتوكولات توجهَّتْ ساي نحوي لتُلقيَ السلام، فأنا المدير وصاحب الدعوة.
– شكرًا بروفيسور على دعوتك، أتمنَّى لكَ عامًا جميلًا.
– شكرًا لحضورك ساي، أسعدَتْني رؤيتُكِ بصحة جيدة.
لم أُطل حديثي معها أكثر، فلا المكان ولا الظرف يسمحان بذلك، جلستْ ساي على طاولة بعيدة عن المكان الذي أجلس فيه، لم تكن تتحاشاني كما لم تكن تودُّ الحديث معي. تصرَّفتْ بشكلٍ طبيعيٍّ. أمَّا أنا فكنت أراقبها، فقد اشتقتُ إلى كلِّ ما يصدر عنها، وعزمتُ أن أتحدَّث معها حالما ينتهي الحفل. كانت ساي بمزاج رائع، جعلت الحفل أجمل وأروع، ألقت الكثير من النِّكات، وأقامت العديد من المسابقات، وأشعلت القاعة حماسًا، ثمَّ لاحظتُ أنَّها على وشك الرحيل، كانتْ متجهةً نحوي: بروفيسور، شكرًا مجددًا على الدعوة، أستأذنكم جميعًا فعليَّ الرحيل الآن.
– ساي، تمهَّلي قليلًا، هناك بعض الأوراق التي أودُّ أن أسلِّمك إيَّاها.
– سأتلقَّاها عبر البريد لا تُزعج نفسك وتخرج من القاعة الآن.
شعرتُ أنَّها لا تودُّ الحديث معي إطلاقًا، فلم أشأ أن أُزعجَها بإصراري: حسنًا كما تشائين.
– وداعًا!
ساي
عندما تلقَّيتُ دعوة البروفيسور هيروكي للحفل، وتلقَّيتُ عشرات الرسائل من زملائي في المركز، لم أشأ أن أُخيِّب ظنَّهم جميعًا، فقبلتُ الدعوة، كما أنَّه لا يوجد سببٌ لعدم قبولها؛ فالبروفيسور هيروكي يُراعي مشاعري تمامًا ولا يُزعجني إطلاقًا، كلُّ ما في الأمر أنِّي أحاول أن أختفيَ من أمامه لأساعدَه على نسيان ما يفكر به حولي. سأكذب إن قلتُ إنَّني لا أشعر بالإحراج أمامه، بلى أشعر، خاصةً أنَّه بات يُرسل لي رسالةً كلَّ أسبوعٍ ليطمئنَّ عليَّ من بريده الإلكتروني الخاص. كان ردِّي دائمًا مختصرًا «أنا بخير» من غير أن أُسهب أكثر.
في يوم الحفل، لاحظتُ أنَّه يودُّ أن يُحدثني؛ لذا تذرَّع ببعض الأوراق التي يودُّ تسليمها لي، أظهرتُ له بشكلٍ مباشر عدمَ رغبتي في أن أُتيحَ له فرصة التحدُّث إليَّ، فلم يُصرَّ أكثر. لكن بعد أن ودَّعتُه ومضيت، جلستُ في سيارتي عدة دقائق ولم أنطلق. شعرتُ أنِّي أودُّ أن أسمع ما الذي ينوي قولَه، فهو صديقٌ عزيزٌ عليَّ ومنذ مدَّةٍ طويلةٍ لم أتحدَّث معه، وأنا سأسافر بعد يومين لقضاء أيَّام العطلة في جنوب أفريقيا، لكن ماذا سأفعل الآن بعد أن قمتُ بتوديع الجميع!
بقيتُ في سيارتي أفكر، ثمَّ عرفت ماذا سأقول له، فاتصلت به.
– ساي؟
– نعم هيروكي، لقد تذكَّرتُ أنَّني سأسافر بعد يومين؛ لذا سأعود للمركز الآن لأستلم تلك الأوراق إن لم يكن ذلك مزعجًا!
– مزعجًا! أنتِ تعلمين أنَّه ليس كذلك، سأراكِ أمام مكتبي، متى تستطيعين الوصول؟
– بعد عشرين دقيقة.
– سأكون بانتظاركِ.
تظاهرتُ كما لو أنَّني سأعود إلى المركز مع أنَّني ما زلتُ في المرآب. خلال تلك المهلة أخرجتُ مرآتي ورحتُ أتأكَّد من مظهري، لم أعتَدْ أن أفعل ذلك أبدًا، لكنَّ هذا طبيعيٌّ، فنظرتُه لي مختلفةٌ عن نظرةِ أيِّ شخصٍ آخر. شعور المرأة في تلك الحالة يكون مضطربًا وأنا أكثر مَن يستطيع تحليله. بعض النسوة قد يعتقدن أنهنَّ وقعْنَ في الحبِّ بسبب ردَّة فعلهنَّ تلك، لم أُرد أن أُطفئَ ذلك الشعور، تركتُ لنفسي حريَّة التصرف من غير أن أكبت حقيقة أنَّني سعيدة بإعجاب أحدهم بي، وليس أيَّ أحد! إنَّه البروفيسور هيروكي.
ولكيلا أتأخر قطعتُ سلسلة أفكاري تلك وتوجَّهتُ نحو مكتب هيروكي. هناك رأيتُه ينتظرني، ألقيتُ السلام عليه، سلَّمني الأوراق وبدأ يماطل في حديثه معي، يبدو أنَّه فعلًا يودُّ أن يقول لي شيئًا. كنا نمشي بينما هو يحدثني، إلى أن وصلنا إلى الشرفة، ورغم أنَّ الطقس كان باردًا جدًّا إلَّا أنَّني كنتُ أودُّ مشاهدة نثرات الثلج. خرجنا إلى الشرفة وعندما لامس الثلج وجهي، لم أشعر ببرودته، فأنا أحبُّه كثيرًا، كانت النسمات لطيفةً جدًّا، صمتْنا لعدَّة دقائق.
– ساي، أتسمحين لي أن أسألَكِ سؤالًا؟
– تفضَّل.
– إلى متى ستُصرِّين على تجاهل الموضوع؟
– هيروكي، ليس تجاهلًا صدِّقْني، لكنَّني أنتظرك إلى أن تسأم من مشاعرك تلك، فأنت ستسأم منها عاجلًا أم آجلًا.
– ومن أين لكِ بتلك الثقة؟
– من كلِّ القصص التي سمعت عنها خلال حياتي المهنيَّة، والاجتماعية، وأوَّلُها قصَّتي الشخصية.
– أتُعمِّمين كلَّ الحالات لكلِّ الناس؟
– لا، أبدًا. لكن هناك بعض العلاقات التي باستطاعتي أن أتنبَّأ عن مستقبلها منذ البداية.
– وما هو العامل المشترك للعلاقات التي ستفشل في نظرك؟
– ليس عاملًا واحدًا فحسب، هي مجموعة عوامل.
– وفي حالتنا، لنفرض جدلًا أنَّنا ارتبطنا، لِم تعتقدين أنَّنا سنفشل؟
– في حالتي، ليس الفشل هو السبب الأهم لتجنُّبي أيَّ علاقة، إنَّما عدم رغبتي في ذلك.
– سألتُكِ في حالتنا وليس في حالتكِ وحدك، عندما أنا أكون طرفًا في تلك العلاقة، لِم تعتقدين أنَّنا سنفشل؟
– وأجبتُكَ أنِّي لا أريد أن أفترضَ ذلك أصلًا!
– لِم كلُّ هذا العناد ساي، أرجوكِ أجيبيني بعفويَّة، وتنازلي عن تلك الفكرة لعدَّة دقائق.
– حسنًا، أعتذر عن تصرفي هيروكي، لكن دعْني أفكر أولًا.
صمتُّ قليلًا ورحتُ أفكر بسؤاله لأوَّل مرة. بينما كنت أفكر كان هيروكي ينتظر بهدوءٍ وهو ينظر إلى الأفق ويفركُ يدَيه ببعضهما فالجو باردٌ جدًّا. رتَّبتُ أفكاري وأنا أتأمَّل حركاتِه ثمَّ أجبتُه: في حالتنا، سأحلِّلُ لك الموضوع كما أراه أنا، أنا لا أتكلَّم نيابةً عنكَ إنَّما أعرض وجهة نظري فحسب. أنت رجلٌ ناضج، اعتدتَ أن تقضيَ أيَّام حياتك بروتينٍ هادئٍ، ليست سنة أو سنتين، أو عشرًا، بل خمسين عامًا. الآن بدأتَ تشعر بالوحدة، لأنَّك قد حقَّقت معظم ما تصبو إليه، وتجاوزتَ مرحلة ضيق الوقت وقلة المال. لديك سعة من كليهما الآن مع صحَّةٍ جيدة وبدأتْ تمتلك الوقت لتسمع مشاعرك أكثر. في هذه الأثناء ظهرتِ امرأةٌ غريبة الأطوار، جعلتْك تراقبها بسبب غرابتها مقارنةً بما تعودتَ عليه سابقًا. أنت لأوَّل مرة تتعامل مع امرأةٍ لا تكترث لأمورٍ كثيرة، بتَّ تراقبها لتكتشف لأيِّ مدى هناك أناسٌ غريبون ويتصرفون بطريقةٍ مختلفة عما تعودتَ عليه خلال حياتِك كلِّها. مع الوقت بدأت تظنُّ أنَّ هذا الاهتمام ينبع من مشاعر الإعجاب، ولأنَّ هذه الحالة هي من المرَّات القلائل التي حدثت معك في حياتك، ولأنَّك تشعر بوحدةٍ بعض الشَّيء، ولأنَّك تودُّ أن تكتشف طباعًا جديدة وتسمع كلامًا مختلفًا، وترى مشاهد غيرَ مألوفةٍ، قمتَ بتحويل هذا الإعجاب إلى حبٍّ بمحض إرادتك. أنت تمتلك الصبر لتنتظر كثيرًا، فيكفيك أنَّك تعيش تلك الحالة التي ملأتْ لك بضعَ سويعاتٍ من كلِّ يوم. لذا فأنا أعلم أنَّك لن تسأم مع مرور الوقت من الانتظار، لكن في المقابل، مع مرور الوقت ستكتشف أنَّ وجودي ليس بتلك الضرورة التي تتخيلها الآن. لنفرض أنَّنا سنرتبط قبل أن تكتشف هذا الاكتشاف، ولنفرض أنَّني قررتُ خوض هذه المغامرة، هذا يعني أنِّي سأنجرف بكامل قوَّتي العاطفية، سأبني أحلامًا كثيرة، سأُرهق قلبي وعقلي وروحي بأمورٍ لا أنت ولا أي رجل في العالم يستطيع أن يتخيلها. ثمَّ ماذا، ثمَّ سيأتي يوم تضيق ذرعًا من حماقاتي التي ظننتَ أنَّك أحببتني بسببها، ستكره بعضًا من تصرفاتي التي خُيِّل إليك أنَّها كانت أجمل ما يميِّزني، ستسأم من كلماتي التي كنت سابقًا تنتظرها بفارغ الصبر، والكثير الكثير. ستجد نفسك متورطًا في علاقةٍ كنتَ تظنُّها الجنَّة لكنَّها أضحت …
لم يدعْني أُكمل جملتي وقاطعني مباشرةً: توقَّفي ساي، توقَّفي أرجوكِ، لم أَعُد أريد أن أسمع أكثر، لقد ظلمتني جدًّا.
– لكنَّك سألتني وأنا أُجيبك بما أفكر به.
– أعلم، لكن لم أتوقع أنَّكِ تنظرين لهذه الأمور بهذه الدرجة من التشاؤم، أخبريني إن كانت العلاقات تسير هذا المسرى، إذن متى تنجح؟ متى ومَن يستطيع تكوين العلاقات الصحيحة والناجحة برأيكِ؟ ما هو العامل الفارق والذي يجرف العلاقة تلك من الطريق التشاؤمي ذاك الذي قمتِ بوصفه إلى الطريق الطبيعي والصحيح؟
– الحبُّ، العطاء، والوفاء.
– وكيف سأُثبت لكِ أنِّي أمتلكها؟ المشكلة أنِّي حقًّا لا أستطيع برهنة ذلك من خلال الكلام، فلا أسهل من الكلام، ولا أستطيع إلَّا أن أَعدَكِ بهذه الخصال، خاصة أنَّنا ما عُدنا نلتقي أبدًا، أشعرُ بحيرة كبيرة حيال ما عليَّ فعله. ساي! لقد صعبتِ الأمور عليَّ جدًّا.
– مهلًا، أنا لم أصعِّبْها. ليس من الضرورة أن تمتلك تلك الصفات أنت فقط، عليَّ أن أمتلكها أنا أيضًا. فحتى لو تأكدتُ من تحلِّيك بها، فأنا لا أضمن نفسي أن أكون محبَّةً ومعطاءةً دائمًا. وهنا تكمن مشكلتي هيروكي؛ ولذلك أنا أحكم على أيِّ علاقة قد أفكر الخوض فيها بالفشل. أعتذر هيروكي على صراحتي، على أيِّ حال عليَّ أن أغادر الآن لقد تأخَّر الوقت وما زال أمامي طريقٌ طويلٌ لأصِلَ إلى المنزل.
– حسنًا! أسعدني وجودُكِ اليوم، ساي! أتمنَّى لنا عامًا جديدًا جميلًا كجمالِك، عامًا نجتمع به معًا، أنا متأكِّدٌ من ذلك، لن أُطيلَ عليكِ أكثر من ذلك، أودُّ أن أطلب منكِ طلبًا بشكلٍ رسميٍّ، ساي، أتقبلين الزواج بي؟
صدمني حين قال طلبه وقد أمسك بيدي وكاد يضمُّني إليه، أبعدتُه عنِّي بهدوء من غير أن أُزعجَه ووجدتُ نفسي أُجيبه حالًا: هيروكي! أنت حقًّا غريبُ الأطوار، أهذه نتيجة حوارنا؟
اقترب منِّي مجدَّدًا وقال لي: ساي، خذي كلَّ وقتك للتفكير، لا أريد أن أسمع جوابكِ الآن. واعلمي أنَّكِ في كلِّ مرة تُجيبين بها بالرفض، سأجدِّدُ الطلب؛ أي إنَّ هذا الطلب سيبقى مفتوحًا للأبد؛ لذا لا فائدة بأن ترهقي نفسك برفضه، لأنِّي لن أقبل الرفض.
تنهدْتُ وكنتُ على وشك البكاء، فقال لي: أعلمُ أنَّكِ لن تأتيَ مجددًا إلى المركز، أرى ذلك في عينيكِ، أعلمُ أنِّي تماديتُ في التعبير عن مشاعري وهذا قد يسبِّب الألم لكِ. كوني سعيدةً فحسب، لا تبتئسي، أنا على ثقةٍ بأنَّنا سنلتقيَ مجددًا، وليس كأيِّ لقاءٍ.