فصولٌ لا تُنسى
هاك ١٩٩٤
طوال أعوامي العشرين الماضية لم أَعِش أيَّ قصة حبٍّ، في مرحلة الدراسة الثانوية وحين بدأ أصدقائي بمواعدة الفتيات، كنتُ لا أُعير بالًا لأيِّ فتاة، بل كان جلُّ تركيزي على دراستي فحسب؛ فقد وضعتُ هدفًا أمامي، كنت أرى نفسي بعد عشر سنواتٍ من ذلك الوقت طبيب أعصاب ناجح. هذا أنا، أعرف ما أريد بالتحديد، الحياة بالنسبة إليَّ معادلةٌ بسيطة كحاصل جمع واحد زائد واحد يساوي اثنين. خلال تلك الفترة صارحتني ثلاثُ فتياتٍ بإعجابهنَّ بي ورغبتهنَّ في الخروج معي وبدء المواعدة، ولكنِّي قابلتُ هذا الإعجاب بالرفض لأنِّي لم أرَ الخروج مع إحداهنَّ سوى إضاعةٍ لوقتي، وهدرٍ لمالي لا أكثر ولا أقل. بقيتُ حكمًا على قلبي، متحكِّمًا بزمام أموري إلى أن جاء ذاك اليوم حين رأيتُها تركض خلف الضفدع بعد أن نزعت عنه المثبِّتات، كانت أول سنةٍ لنا في كلية الطب، عادةً أسخر من تصرفاتٍ كهذه، وربَّما أزدري أصحابها ولكنَّها الوحيدة التي كانت قادرةً على إضحاكي من ردَّة فعلها تلك، فهي لم تبالِ باستهزاء الآخرين أو حتى بصراخ الأستاذ، بل استمرت في ملاحقة ذاك الضفدع، فهي مصرَّةٌ على تشريحه. يا لها من فتاة مميَّزة تجمع بين البساطة والقوة في الوقت نفسه! لها سحرها وجاذبيتها الخاصة التي لم أرها في أيِّ أحد قبلها، تجمع بين الطفولة والأنوثة. لا بدَّ أنَّ معجزة ما قد حصلت، فقد وقعتْ عيني على مَن أعجبت، أنا هاك، بها.
منذ ذلك اليوم وأنا أتابعها، عيناي تلاحقانها أينما ذهبت، بدأ إعجابي بها يزداد. لضحكتها العالية المستهترة صوتٌ بِتُّ أهواه، السعادة لا تغادر وجهها، وكأنَّ الابتسامة هي الطابع الذي طُبعتْ فيه، على عكسي أنا. لا أعلم لِمَ هي سعيدة إلى هذا الحدِّ! لكنَّها كذلك!
بعد الاستفسار عنها علمت أنَّها غير مرتبطة في علاقة ما في الوقت الحالي كما لم تكن مرتبطةً سابقًا. شيئًا فشيئًا بدأ إعجابي يتحول إلى حبٍّ، تذكرت تلك الفتيات وكم احتجن لشجاعة حتى يصارحنَني، وكيف قابلتهنَّ ببرود. لو أنِّي أملك نصف شجاعة تلك الفتيات الآن لأذهب إليها وأصارحها، ولكنِّي أخاف أن أفاجئها، لذا فأنا أفضِّل التمهيد. أريد أن نصبح أصدقاء أولًا ومن ثَمَّ أصارحها بحقيقة مشاعري، لكن من جهةٍ أخرى أخشى إن أصبحتُ صديقًا لها أن أدخل منطقة الأصدقاء فلا أخرج منها أبدًا، بحيث إنَّها لن تفكر بي كشريكٍ مستقبليٍّ للحياة. بالفعل أنا في حيرةٍ وارتباكٍ ولا أعرف ما هو السبيل للوصول إلى تلك الشقيَّة.
ساي ١٩٩٦
كثيرًا ما سمعتُ الفتيات يتحدثْنَ عن ذلك الشاب الشبيه بالأمير المتعجرف، هاك. لا أُنكر أنَّه لفت نظري، وكيف لأميرٍ ألَّا يلفت الأنظار، فأنا أولًا وآخرًا أنثى يُثير انتباهَها شابٌّ كهاك. لكن لم أفكر فيه من ناحية عاطفية لعدَّة أسباب، أولها أنِّي لم أكن أُشغل بالي في الوقوع في علاقة حبٍّ في هذه الفترة خاصةً أنَّني في بداية مشواري الطبيِّ وهو مشوارٌ طويلٌ وشاقٌّ جدًّا. كنت أشعر أنَّ العلاقة التزام وأنَّني لن أستطيع أن أكون ملتزمةً في هذا الوقت وستكون أيُّ علاقة حبٍّ عبئًا عليَّ لا أكثر. ثاني الأسباب هو أنِّي كنتُ أعتبر هاك شابًّا بعيد المنال جدًّا، صارمًا وجادًّا ولم أكن أعتقد أنَّ فتاةً مشاكسةً مثلي ستجذب انتباهه! صحيحٌ أنِّي مشهورةٌ في الكلية، ولكنِّي مشهورةٌ فقط بتصرُّفاتي الطفولية الطائشة!
أتى ذاك اليوم حين كنَّا في التطبيق العملي لمادة الإحصاء الطبيِّ وتوجَّب عليَّ جمْع قياسات هاك من نبضٍ وضغطٍ وما إلى ذلك، وعلى هاك أخذ قياساتي أيضًا. حين بدأنا بالعمل شعرتُ بارتباكه الواضح كدتُ على وشك الانفجار ضاحكةً. أهكذا يرتبك الأمير المتعجرف في حضرة فتاةٍ عاديةٍ! أَإلى هذه الدرجة لا يُجيد هاك التعامل مع الفتيات! لكنِّي بالطبع كتمت ضحكتي وتمالكتُ نفسي ثمَّ بدأت أنا نفسي أشعر بالارتباك، وكأنَّ ارتباكه عدوى انتقلتْ إليَّ، مع ذلك ضحكت في نهاية الأمر، فلم أتمالك نفسي. في البداية توقعتُ أن أحظى بتوبيخٍ منه عن أهمية احترام زملاء المستقبل وأهمية التطبيق الجاد وأخذ القياسات بدقة، هذا ما توقعتُه بناءً على ما سمعتُه عن شخصيته، لكنَّه فاجأني بردَّة فعلٍ مختلفةٍ جدًّا! لقد ابتسم! كم كانت سعادتي كبيرةً من ردَّة فعله تلك، هاك ابتسم!
منذ ذلك الوقت بدأ قلبي ينبض حين أراه وعلمتُ أنَّ هذا ما يسمَّى بالحبِّ. خلال أسابيعَ قليلةٍ أصبحنا نُلقي التحية على بعضنا البعض في كلِّ صباح. وفي كلِّ مرة كان ارتباكه يزداد أمامي، كنتُ أشعر أنَّه شخصٌ آخر، شخصٌ لم يكتشفه أحدٌ سواي، وهذا ما ولَّد السعادة في قلبي.
مرَّت عدَّة أسابيع ثمَّ أتى ذلك اليوم حين تمَّ استدعاؤنا من قِبل الطبيب المشرف على المختبر الذي جمعنا فيه القياسات سابقًا من أجل إجراء الحسابات الخاصَّة لمادة الإحصاء. أراد المشرف أن يسألنا عن الخطأ الذي ارتكبناه خلال جمع القياسات، فقد كانت الأرقام متجاوزةً للحدِّ الأقصى لأشخاصٍ في أعمارنا، كان ذاك المشرف منزعجًا جدًّا لذلك وبدأ بإلقاء محاضرةٍ علينا عن ضرورة أخذ القياسات بدقَّة وانتباه، كلانا كان يعلم أنَّه لم يكن هناك أيُّ خطأ وكأنَّ هذه النبضات المتسارعة تُخبرنا عن ولادة حبِّنا. بعد هذا التوبيخ دعاني هاك لاحتساء القهوة، كان يحسب أنِّي أتأثر مثله لأمور بسيطة كهذه. كان يحاول التخفيف عنِّي بشتَّى الطرق، لم يكن يعلم أنِّي غير مهتمة في داخلي ولكنِّي حينها تصنَّعت الاهتمام فقط لأجله وأظهرتُ ملامح التأثر على وجهي، هاك وباندفاع قال لي: ساي، أنتِ لم تُخطئي صدِّقيني، ستضحكين إن أخبرتُكِ عن السبب وربَّما تهزئين منِّي، أرجوكِ اسمعي ما سأقوله على محمل الجدِّ.
– حسنًا هاك، لن أهزأ منك بالتأكيد.
– ساي! لم تكن قياساتي غيرَ طبيعية، لم تُخطئي بقياسها ولا بتدوينها، بل كانت تلك هي نبضات قلبي الحقيقية، تسارعتْ حين نظرتُ في عينَيك، ساي أنا أحبُّكِ!
وسكتَ بعدها، خشيتُ أنَّه قد تسرَّع في تلك اللحظة في اعترافه. بقيَ صامتًا لعدَّة لحظاتٍ، شعرتُ بثقل هذه اللحظات، أردتُ مبادرته بالقول وأنا أيضًا بدأت بالوقوع في حبِّك، لكنَّني تراجعت إلى أن يُكمل هو حديثه، وكأنِّي خفتُ أن يكون كلامه وليد هذه اللحظة وإن قابلته بالإيجاب سأتسرَّع، لكنَّه أكمل بكلِّ شجاعة: نعم أحبُّكِ ساي، ومنذ عدَّة أشهرٍ، في كلِّ تصرُّفٍ من تصرفاتك تُثيرين انتباهي، ابتسامتك التي لا تفارق وجهك هي سرُّ سعادتي في هذه الأيام، منذ أن سرقتِ انتباهي إلى الآن وأنا أشعر أنَّ حياتي تغيَّرت مائة وثمانين درجة، أرجوكِ فكِّري في الأمر.
وهمَّ راحلًا ولكنِّي أمسكتُ يده وقلت له: هاك، تذكَّر أنَّه ليس وحدك مَن حصل على قياساتٍ متجاوزةٍ للحدِّ الطبيعيِّ!
لمعت عيناه بشدة وابتسم ابتسامةً فاتنةً حين تلقَّى رسالتي تلك، كان ذلك في السنة الثالثة من دراسة الطبِّ، أمضيت بعدها مع هاك أجمل ثلاثة أعوام في حياتي. مع أنَّ هاك كان مستاءً منِّي بسبب تحفُّظي الزائد في علاقتنا العاطفية تلك، فأنا لا أسمح له بأن يزورني في منزلي إن لم تكن أمِّي فيه، لم يستطع هاك في بداية الأمر تقبُّل الموضوع إلا أنَّه اعتاد عليه لاحقًا، وعلم عن البيئة المتحفظة التي نشأتُ بها، نتيجةً لذلك بدَونا كما لو أنَّنا صديقان مع أنَّ حالة هاك واضحةٌ جدًّا للعيان، كان يهتم بي وبكلِّ أموري بكلِّ ما أوتيَ من طاقة. صديقاتي لاحظْنَ ذلك وبدأْنَ بالاستفسار والسؤال: لماذا لا ترتبطان بشكلٍ رسميٍّ؟ ألَا تفكران في ذلك؟ على فكرة أنتما لا تتناسبان مع بعضكما البعض، وهذا واضحٌ منذ البداية!
الكلام نفسه بدأتُ بسماعه من أطرافٍ عديدة. الضغط يزيد من حولي وخاصة أنَّ هذه السنة هي سنة التخرج وإلى الآن لم نتكلم عن المستقبل. هاك لديه فرصٌ عديدةٌ للاختصاص في أفضل المستشفيات بناءً على علاماته المتميزة. أما أنا في الحقيقة ففرصتي ضئيلة، لستُ مستعدةً لأن تُصبحَ علاقتُنا علاقةً عن بُعد، لا أحتمل عدم رؤية هاك يوميًّا، أنا في بحرٍ ودوامة، هل نحن بالفعل غير مناسبَين لبعضنا البعض؟ هل يفكر هاك الآن بالارتباط الرسمي؟ أم أنَّه يفضِّل أن تبقى الأمور بيننا كما هي؟ لا أريد الضغط عليه فأخسره، وفي الوقت نفسه أحلم أن نرتبط بشكلٍ رسميٍّ.
مرَّ شهران وأنا على هذه الحال، لاحظ هاك حالتي وبات يلحُّ بالسؤال بشكلٍ متكرِّرٍ: ساي ما الخطب! وأنا لا أدري بمَ أُجيبه؟ أأُخبره بالحقيقة؟ أأُخبره أنِّي بدأت أخشى على مستقبلنا وأنَّ هناك احتمالًا ألَّا نبقى معًا بعد الآن؟ أم أترك الأمور على ما هي عليه حتى لا يشعر هاك بالضغط، فالارتباط مسئوليةٌ وأخاف ألَّا يكون هاك مستعدًّا لذلك الآن.
هاك ١٩٩٩
مرَّت ثلاثة أعوامٍ على بدء مواعدتي لساي. كانت بحقٍّ من أجمل أيام عمري ولكنَّ ساي في الفترة الأخيرة كانت تتغيَّر لا أدري بحقٍّ ما خطبُها! هي تزعم أنَّها بخير وأنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرام، ولكنِّي بعد أن عرفتُها على مدى هذه الأعوام الثلاثة أعلم علم اليقين أنَّ هناك خطبًا ما. حاولت سؤال أصدقائها المقرَّبين ولكنَّهم تجنَّبوا الإجابة. بقينا على هذه الحال شهرين كانت خلالها ساي حاضرةً وغائبةً في الوقت نفسه، كانت معي وليست معي. أعلم أنَّه ليس لديها أيُّ مشاكل عائلية، إذن ما الأمر ساي؟ أرجوك أعلميني! لم تَعُد تقابلني بتلك الابتسامة التي أعشقها، ساي لو تعلمين مقدار الألم الذي أعانيه من تغيُّرك المفاجئ لأشفقَ قلبُكِ على حالي.
بعد عدَّة أيام عرفتُ أخيرًا ما بها بالصدفة، حين كانت في المختبر تتحدَّث مع صديقاتها دخلتُ فجأةً لآخذَ أغراضًا لي نسيتُها هناك. سمعتهنَّ يتحدَّثْن عن استحالة ارتباطٍ رسميٍّ بيني وبين ساي، عن عدم استعدادي له، عن عدم تناسب شخصياتنا، وأنَّنا، أنا وساي، كقطبَي المغناطيس! أشفقتُ على ساي، كم كانت تتحمل من غير أن تنبس ببنت شفة! لا، لا أريد لساي أن تشعر بعدم الأمان معي، أريدها أن تعلم أنَّ كلَّ أمورنا ستبقى على ما يرام. لذا لم أتردَّد، مضيتُ مباشرةً واشتريت خاتمين، فأنا هكذا وكما هو معروف عنِّي، إذا قرَّرت نفَّذت.
في وقتٍ لاحقٍ من اليوم ذاته وقبل أن تبدأ المحاضرة اعتليتُ مكان الطبيب المحاضر قبل وصوله حيث كان جميع الطلاب في أماكن الجلوس. طلبتُ الزواج منها على الملأ كلِّه، لا بد أنَّ هذه الفتاة قد أصابتني بشيءٍ من جنونها!
دُهش الجميع، تركتهم في ذهولهم وتوجَّهت نحو أميرتي حيث كانت تجلس، قبضتُ على يدها وألبستها الخاتم من غير أن أنتظر سماع جوابها، نظرتْ إليَّ باندهاشٍ شديد، رأيتُ لآلئَ تنهمر من عينَيها. دخل الطبيب المحاضر عندما أنهيت طلبي. مضيتُ وجلستُ إلى جانبها وبدأت المحاضرة. أمسكتُ بيدها ثمَّ همست في أذنها: دموعك، لا أريد أن أراها، فعلتُ كلَّ شيءٍ وسأفعل، فقط لأسمع صوت ضحكتك وأرى ابتسامتك، أريد أن أراها الآن وحالًا!
مسحتْ دموعها وأحكمتِ القبض على يدي، التفتتْ إليَّ بنظرتها البريئة، بنظرتها الجميلة، وللمرَّة الأولى أرى ساي وهي لا تقوى على الكلام. علمتُ في تلك اللحظة أن ارتباطي بساي هو أفضل شيءٍ أقوم به في حياتي بعد الوقوع في حبِّها. يا لحبيبتي ساي!
ساي ٢٠٠٦
لن أنسى حين قال لي يومًا ونحن في السنة الخامسة من دراسة الطب «ساي! عليكِ أن تصبحي طبيبةً نفسية، أنتِ قريبةٌ إلى قلوب الجميع، ولا أحد يجد صعوبة في التحدُّث إليكِ بشفافية، روحك سمحةٌ ومتصالحةٌ مع كلِّ شيءٍ، لذا تستطيعين استيعاب آلام الناس.» وحقًّا تمَّ ما قاله، تخرَّجنا وقمت باختيار هذا الاختصاص. ما زلت أذكر هدية زواجنا حين أدخلني هاك إلى مبنى من أرقى المباني في مدينتنا، في البداية ظننتُ أنَّه سيدعوني إلى أحد المطاعم هناك. لكنَّنا حين تجاوزنا قسم المطاعم، قلت في نفسي لا بدَّ أنَّ هاك يحتاج للتكلم مع محامٍ بخصوص بعض الإجراءات، ومرَّةً ثانيةً تجاوزنا قسم المكاتب إلى أن وصلنا إلى قسم العيادات، هنا سألتُ هاك إن كان يعاني من أيِّ شيءٍ صحي. لم يُجبني، فتح باب إحدى تلك العيادات وصدمتي كانت كبيرة: ساي، أعطيني رأيكِ!
– رأيي بماذا؟
– بعيادتكِ المستقبلية.
توقفَت الكلمات في فمي وقفزتُ وضممته إليَّ، كم كنتُ سعيدةً بهذه المفاجأة!
أعوامٌ خمسةٌ مرَّت بعد زواجنا وحين كنا على مشارف دخولنا العام السادس، أشياءُ كثيرةٌ اختلفت. أعترفُ أنَّ هناك تقصيرًا من طرفي اتجاه هاك، فأنا أتعامل معه كما لو أنَّني طفلته المدللة، تلك الطفلة التي تعلَّمت على الأخذ ولكنَّها لا تُتقن العطاء، ليس بسبب أنانيتي، لكنَّي بالفعل لا أعلم ماذا عليَّ أن أقدِّم لهاك، هو مكتملٌ بذاته!
شيئًا فشيئًا ومع مرور الوقت بدأتْ تراودني مشاعر جديدة حينما أرى الأطفال، أنا أيضًا أريد طفلًا لنا يُشبه هاك في كلِّ شيء. بدأتُ بالتحدث مع هاك في خصوص هذا الموضوع ولكنَّه رفض، سبَّب هذا الرفض السريع جرحًا كبيرًا في داخلي، لماذا يرفض هاك الطفل؟ ألم يكن هذا حلمه بالأصل ولكنَّنا آثرنا تأجيله إلى أن أنتهيَ من اختصاصي! هاك ما الذي تفكر فيه يا ترى؟ إلى الآن لا أستطيع قراءة الحالات المزاجية له مع أنَّه يعرف ما يدور في بالي من غير أن أتحدَّث بكلمة! هل لأنِّي أبسط منه بدرجاتٍ كثيرة!
تنازلت عن هذا الطلب لفترة ولم أَعُد أتحدَّث عنه، وظننت أنَّ كلَّ شيءٍ سيكون على ما يرام بعد مدَّة. وأتى ذاك اليوم، حين رأيت هاك في العيادة بوجهٍ شاحبٍ، حينها علمتُ أنَّ هناك خطبًا ما، ارتعشتُ في داخلي، ولكنِّي أظهرت الصلابة. أعلم أنَّنا لم نَعُد كما كنَّا حين التقينا عصافير تحلق في الحبِّ، أمورٌ كثيرةٌ تراكمت بيننا ولكن إلى الآن لا أرغب في الابتعاد عن هاك.
دخل هاك إلى العيادة بعد انتهاء دوامي فسألته ما الخطب؟ أجابني إنَّه قادمٌ بصفته مريضًا، ثمَّ جلس على كرسي المرضى، سألته: ما علَّتك، فأجابني: أنتِ، أنتِ وجع قلبي أنتِ ألمي، أحبُّكِ ولا أستطيع الشفاء من حبِّك لكن لم أَعُد أستطيع الاحتمال، أريد الشفاء من هذا المرض، ساي! أريد الانفصال!
لا، لستُ مستعدةً بعدُ، أعلم أنَّ التراكمات الصغيرة أثَّرت على حبِّنا وأحدثتْ مشاكلَ كبيرةً، لكنِّي كنت دائمًا وأبدًا أتمنَّى أن نجد الحلول. لم أستطع في تلك اللحظة أن أبوح عمَّا في داخلي، فأنا أعرف هاك كباطن كفِّي، حين يعزم على أمرٍ ما فإنَّه سينفِّذه؛ لذا لا توسلاتي ولا دموعي كانت لتجديَ أمامه إلا أنَّها ستزيد على جرحي ذلًّا. أجبته بالموافقة من غير أن أزيد في الكلام. هنا بدأ هاك بسرد مبرِّراته للانفصال، في البداية لم أكن أُصغي لما يقول، كنتُ شاردةً في عالمي وسواد المشهد أمامي، لكنَّني تذكَّرتُ أنَّ هاك الآن يتكلم بصفته مريضًا ومن واجبي أن أُصغيَ إليه بانتباه. عاد وأكَّد أنَّه أحبَّني وما زال ولكن حياتنا معًا أصبحتْ مستحيلةً، كرَّر لي أنِّي لستُ السبب الوحيد بل كلانا، لم يَضع هاك كلَّ اللوم عليَّ، وبدأ بالسرد: ساي، حين أحببتك علمتُ أنَّ هناك طفلةً في داخلك لا تستطيع أن تنضج وأنَّ هناك فوضى في تفاصيلك لا تستطيع أن تنتظم. أمَّا أنا فكنت على عكسك تمامًا، فأنا في داخلي إنسانٌ ناضجٌ لا يستطيع أن يجاريَ تلك الطفلة، وإنسانٌ منظَّمٌ لم يحتمل تلك الفوضى. كنتُ آمل أن أتغيَّر قليلًا أو أن تتغيري أنتِ قليلًا فنتفاهم بشكلٍ أفضل لكن للأسف لم نساعد بعضنا البعض أبدًا. كلٌّ منَّا بقيَ في عالمه وقوقعته رافضًا الانفتاح على عالم الآخر، رافضًا أن يأخذ بيده. نعم، نحن متحابَّين لكنَّ بقاءَنا معًا لا يزيدنا سوى الألم، أنا لن أزيدك سوى الجروح. حقيقةً، أنا أخشى من ذاك اليوم، أخشى من اليوم الذي سيأتي ونكره بعضنا البعض؛ لذا أريد الانفصال قبل مجيئه، لا أحتمل فكرة أن تكرهيني ساي!
وافقتُ هاك في هذه النقطة لأنِّي أنا أيضًا لا أريد أن يأتيَ اليوم الذي يكرهني هو فيه. مضى، وحين وصل إلى الباب قال لي: عليكِ أن تنضجي أكثر ساي، أتمنَّى لكِ حياةً سعيدة.
عن أيِّ حياةٍ تتحدَّث أنت يا هاك!
هاك ٢٠٠٦
بدأنا العام السادس من زواجنا بطلبٍ جديد من ساي، ألَا وهو الطفل. حين سمعت طلبها رفضتُ مباشرةً، وصرت أفكِّر وحدي: ساي ألَا يكفيني ما بي لتزيدي عليَّ برعاية طفل؟! ألَا تكفيني رعايتك! أرجوك تعلَّمي الطهي على الأقل قبل التفكير في إنجاب طفلٍ، أم ماذا تنوينَ إطعامه! ساي أرجوك فكِّري بعقلانيةٍ، أم تريدين ترك العيادة والعمل الذي كان حلمك من البداية وعاهدتني ألَّا تتخلي عنه! أنا أيضًا أريد طفلًا لنا ولكنِّي أشعر أنَّ ساي ليست حملًا لهذه المسئولية. ومع هذا الطلب في بداية هذا العام بدأ هذا التفكير هو هاجسي ليلًا نهارًا، لا أفتأ أفكِّر متى ستستطيع ساي تحمُّل مسئوليةٍ أكبر! متى ستنضج أكثر حتى تستطيع تحمُّل مسئولية عائلة! لا أُنكر أنِّي أنا من بالغت في تدليلها ولكنِّي كنت سعيدًا ولم أكن أدرك ذلك أصلًا، لكن مع هذا الغزو الفكريِّ الذي اجتاحني لم أَعُد أحتمل تلك الفكرة، بدأتْ فكرة الطفل تسيطر عليَّ بشكل كامل، ولكن لا أرغب بطفلٍ ترعاه ساي. تغيَّرت معاملتي لها، بتُّ أغضب من كلِّ تصرفاتها، كانت تقابل غضبي بالبكاء، أنا نفسي لم أَعُد أعلم ما حلَّ بي، لم أَعُد هاك الذي عشق تلك الفتاة، أعلم أنِّي ما زلت أحبُّها ولكن عقلي يأبى أن يوافقني بعد الآن، بكاؤها أصبح يستفزُّني لأنِّي أُشفق عليها من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى أريدها أن تنضج وألَّا تواجه كلَّ مصاعبها بالبكاء، فما هكذا تُحلُّ المشاكل. أصبح الصراع في داخلي يقتلني، استرجعتُ كلامَ مَن حولنا عن أنَّ ارتباطنا منذ البداية كان خطأ، فكَّرت كثيرًا وطويلًا وفجأةً قررت إصلاح هذا الخطأ، نعم، قرَّرت الانفصال عن ساي لأُريحَها وأريحَ نفسي. في البداية فكرت في الانفصال المؤقَّت، ولكنَّه ليس حلًّا جذريًّا، أريد حلًّا جذريًّا لكلِّ تلك المشاكل. لذا عزمتُ على الطلاق! ذهبتُ إلى عيادتها وبكلِّ ما أوتيت من قسوةٍ أعلمتها بقراري، تركتُ روحي عندها وذهبت، لستُ نادمًا لأنَّ حياتنا معًا أصبحتْ مستحيلة، أرواحنا تشتاق لبعضها البعض ولكن تعايشنا معًا بات صعبًا، أخاف من اليوم الذي ستتمنى فيه أنَّها لم تلتقيني، أخاف عليها من لوم نفسها على حبِّي، على إعطائي كلَّ ما هو جميل، وأخاف أن تكرهني!
أما أنا فلن يأتيَ اليوم الذي أندم فيه على حبِّي لساي، وهل هناك أحدٌ يكره الأطفال؟ فنحن نحبُّهم مهما أساءوا لنا. هذا كان حالي معها، ضقتُ ذرعًا من بعض تصرفاتها وكنتُ سريع الغضب شديد الانفعال تمامًا كالأمِّ الصارمة التي تُوبِّخ طفلتها حين تُسيء التصرف، ولكن حبِّي لها لن يتغيَّر. ما فاجأني حقًّا تقبُّل ساي للأمر وتحمُّلها لسماع قراري القاسي بشجاعةٍ من غير تلك الدموع التي عهدتُها عليها.
بعدما خرجتُ بعدَّة دقائق تذكَّرت أنِّي نسيت محفظتي في العيادة. لم أكن راغبًا في العودة ومواجهة ساي مباشرةً بعد الانفصال لكن عليَّ استرجاع المحفظة. دخلت العيادة، كان باب غرفتها مفتوحًا سمعتُ صوت انتحاب ساي وبكاءَها. لم أشأ أن أقاطعَها فعدتُ أدراجي. انتظرت ساعتين وعاودتُ الكرَّة علَّها تكون قد غادرت العيادة فقد أصبح الوقت متأخرًا. دخلتُ مجددًا فرأيتها تغطُّ في نومٍ عميق على مكتبها والدموع على خدَّيها تمامًا كالأطفال حين يواجهون المشاكل يبكون ويبكون إلى أن ينهاروا ويناموا. أخذت محفظتي وانسحبت بهدوءٍ تاركًا ورائي حبَّ حياتي.
وداعًا ساي، سأشتاق إليكِ.
ساي ٢٠١٢
مرَّت قرابة السنة أو أكثر إلى أن استطعتُ العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة عملي من جديدٍ بعد الانفصال عن هاك. ما زلت أذكر تلك الليلة كأنَّها حصلت بالأمس. أذكر أنِّي سمعت وقْعَ أقدام هاك عائدًا، كنتُ بين حالتَي الغفوة والصحو، قلتُ لنفسي حينها إن قبَّلني على جبيني كما يفعل عادةً فبالتأكيد هناك أملٌ للعودة. كم منَّيتُ نفسي أن يفعلها ولكنَّه هاك وقد اتخذ قراره. تقبَّلت الأمر، فلا خيار آخر لدي. عاودت العمل ولكن من غير رغبةٍ حقيقية فيه، حاولت أن أُشغل نفسي بهواياتٍ جديدة، عاودت اتصالاتي مع أصدقائي، كنتُ أضعف تارةً وأقوى تارةً أخرى. كثيرةٌ هي الأيام التي كنتُ أقرر فيها الذهاب إلى هاك، والتحدُّث إليه واستمالة عواطفه لنعود ثانيةً، وكثيرةٌ هي المرَّات التي وصلتُ فيها إلى باب بيته، ثمَّ في آخر لحظة كنتُ أعود أدراجي بنفسيَّةٍ محطَّمةٍ وروحٍ مرهقة. كنتُ في حاجةٍ إلى أن أشغل نفسي بقضية أهم من انكسار قلبي وتشتُّت روحي. فانشغلت في تلك الأثناء بابن صديقتي الذي كان يعاني من مرض التوحُّد، لطالما جذبني هذا الموضوع ولطالما رغبت في العمل مع أطفال التوحُّد. بدأت أتابع حالة الطفل، أحببته جدًّا وشعرت أنِّي أعوِّض فيه قليلًا من شعور الأمومة الذي أفتقده وبشدَّة. لطالما حلمت بطفلٍ من هاك، يشبهه بشدَّته ورقَّته. لكن للأسف هاك هو الذي لم يرغب في طفلٍ لنا، كان يعزو ذلك إلى ضغط العمل وأنَّنا لا نملك وقتًا لذلك. كان يريدني أن أحقق طموحي الطبي وألَّا يشغلني أمر الطفل. لم يكن يدري أن طموحي بات بأن أُصبح أمًّا لطفل!
من المضحك أنَّ صديقاتي كنَّ يقترحن عليَّ بكلِّ جدِّيةٍ أن أقوم بعملية زرع لجنين، كما لو أنَّهن لا يعلمن طبعي ورفضي لتلك الحلول، كم هو ساذجٌ أن تذهب فتاةٌ لطبيبٍ لتحقق أمنيتها بأن تصبح أمًّا، لا أستطيع أن أتقبَّل تلك الأمور، فتناسيت أحلامي بالطفل. مرَّت الأيام بحلوها ومرِّها، لم تَعُد فكرة الانفصال أو الطفل هي شغلي الشاغل كما كانت من قبل، فقد عاودت الانغماس في العمل. بعد عدَّة شهور أُقيمت ورشة عملٍ لأهالي مرضى التوحُّد مع أطباء عصبية مختصين بذاك المرض وكان من ضمن الأطباء المحاضرين الدكتور هاك!
قرَّرت حضور ورشة العمل تلك، أريد مواجهة كلِّ متاعبي، أريد استجماع قواي وإظهار شجاعتي لنفسي، أريد أن أُثبت لنفسي أنِّي قد تخطَّيتُه! لكن للأسف أثبتُّ لنفسي العكس تمامًا، فأنا لم أتخطَّاه إطلاقًا. حين رأيته، كانت على يمينه زوجته، كان ذلك المشهد كالصاعقة! إذن هو لا يفكِّر أبدًا بالعودة لي! لطالما حلمتُ بالعودة ولطالما منَّيت نفسي بها! فأولًا وآخرًا ما حصل بيننا هو مجرد خلافاتٍ بسيطةٍ بسبب حدَّة طبعه وقلَّة نضجي. كنتُ أمنِّي نفسي دائمًا أنَّها مجرد فترةٍ وستمرُّ وسنعود كما كنَّا، وما يلزمنا فقط هو الوقت للاستراحة.
لكن ما رأيته في ذاك اليوم قطَّع كلَّ أوصال الأمل. حين التقتْ أعينُنا أشحتُ النظر عنه، هو ملكٌ لامرأةٍ غيري، دبَّتْ نار الغيرة في قلبي، أحرقتني، أردت الانتهاء ومغادرة المكان بأسرع وقتٍ ممكن، لم أَعُد أحتمل رؤيتهما معًا. مَن هي تلك التي تُمسك بيده؟ مَن هي تلك التي يستيقظ على صوتها صباحًا؟ مَن هي تلك التي باتتْ تشارك هاك حياته؟ تعرف كلَّ شيءٍ عنه؟ مَن هي تلك التي تجلس بجواره في كلِّ مكان؟ مَن هي تلك التي أصبحتْ زوجةً لهاك! كم هذا مؤلمٌ!
حين عدتُ للمنزل بدأتْ أفكارٌ أخرى تدبُّ في رأسي: ماذا لو لم أستطع تجاوز هاك؟ ماذا لو لم أحبَّ أحدًا غيره؟ هل سأستمرُّ في حياتي كآلةٍ للعمل فقط؟ شعرت بالجزع، أردتُ الهرب مرةً أخرى؛ لذا قررت السفر، سافرتُ لمدَّة نصف عامٍ مرةً أخرى كما فعلت بعد طلاقي من هاك ولكن هذه المرَّة للتأمل فقط. لذا ذهبت إلى الهند، مارستُ طقوس اليوغا، تأمَّلت كثيرًا وفكَّرت كثيرًا. علمت في النهاية أنَّ الحياة مستمرةٌ ولن تتوقف عندي أو عند هاك، شاهدتُ حالاتٍ عديدةً من الظلم والقهر والضعف، وعلمتُ أنَّ هناك مَن يتألَّم أضعافًا مضاعفةً عنِّي، وليس لديهم حتى رفاهية الهرب من هذا الألم كما أفعل أنا الآن. قررتُ أن أعمل شيئًا لهذه الإنسانية؛ لذا عند عودتي تطوَّعتُ في منظمات عالمية وبتُّ أشارك في مؤتمرات وورش عمل حول العالم، ومنذ ذلك الوقت أصبحتُ أقضي شهرًا ونصفًا تقريبًا من كلِّ صيفٍ في إحدى الدول النامية في أفريقيا وجنوب أمريكا.
هاك ٢٠١٢
لستُ من الأشخاص الذين تقف الحياة أمامهم من أجل مشكلة، على هذا تربيتُ، أواجه مشاكلي وأموري بعقلانيةٍ تامة، ولا مجال لأدعَ عواطفي تؤثر على مسار عملي. في اليوم التالي من قراري بالانفصال عن ساي ذهبتُ إلى عيادتي التي كانت بجوار عيادتها. ساي تغيَّبت كما هو متوقعٌ وبقيتْ على هذه الحال أكثر من شهر. في هذه الأثناء تعاقدتُ مع أحد المستشفيات على أن أكون رئيسًا لقسم الأمراض العصبيَّة ولكن بشرط التفرغ التام وترك العيادة، رأيتُ أنَّ هذا هو الحلُّ الأفضل لي ولساي، فأنا لا أريد حين عودتها للعمل أن تنتكس مرَّةً أخرى بسبب رؤيتي، كما أنَّ العرض كان مغريًا حقًّا. سمعت من أصدقائنا فيما بعد أنَّ ساي استغرقت قرابة نصف السنة حتى عاودت العمل.
مرَّت الأعوام وبدأ مَن حولي بالإلحاح عليَّ بفكرة الارتباط مرَّةً أخرى، بالنسبة إليَّ لم أَعُد أبحث عن الحبِّ، بل أريد امرأةً تتفاهم معي بشكلٍ أكبر، تستطيع تقبُّل نضجي الزائد، تستطيع التصرف كسيدة مجتمعٍ حقيقية تمامًا مثل والدتي، فتزوجتُ تاميا، سيدة مثقَّفة، تعمل موظفةً في بنك. كانت شخصيَّة تاميا مطابقةً لشخصيتي تمامًا، اتفقنا في أغلب الأمور، ولكن للأسف أرواحنا لم تلتقِ. لم أشعر بذاك الحبِّ الذي شعرتُه اتجاه ساي ولكنِّي كنتُ مصرًّا على المضيِّ قُدُمًا.
بعد عدَّة شهورٍ من زواجي تمَّ إقرار ورشة عملٍ لي مع بعض أهالي أطفال التوحُّد وبعض الأطباء، كانت صدمتي كبيرةً حين رأيتُ ساي أمامي، كانت قادمةً مع إحدى صديقاتها التي يعاني طفلها من هذا المرض، حين رأيتها أدركتُ شيئًا واحدًا فقط: أنِّي لم ولن أستطيع تجاوزها أو نسيانها، أدركتُ أنَّها ستبقى حبِّي الأوحد. حين التقتْ أعيننا، أشاحتْ بنظرها عنِّي، أدركتُ مدى الجرح الذي سبَّبتُه لها، فليس من طبع ساي إلا الابتسام حتى مع مَن أساءوا إليها.
ساي! كانت حياتي قبلكِ تسير على نهجٍ واحد، كانت حياتي قبلك منطقية، لكلِّ نتيجةٍ سبب. كانت حياتي عقلانية إلى أبعد الحدود، دخلتِ حياتي فتلاشى هذا المنطق، عشتُ معكِ أيامًا جميلةً ومع ذلك افتقدتُ خلالها أيامي السابقة، وأردت العودة إلى السلام الذي كنت أحظى به، وبعد الانفصال عنكِ عدتُ وعادت حياتي المنظَّمة المنطقيَّة كما كانت ولكنِّي خسرت الروح التي أعطيتِني إيَّاها لهذه الحياة. أدركتُ حين رأيتُها أنِّي أفتقدُ هذه الروح، إنِّي أشتاقُ إليها حقًّا. وأنا مَن كنت أظنُّ أنِّي أنعم بالسلام، أدركت في هذه اللحظة أنَّه لا معنى لهذه الحياة المنطقيَّة ما لم يدخلها جنونُها ويوقظها من رقودها. أكملت محاضرتي بحرقة قلبٍ لم أشعر بها من قبل كما سأكمل حياتي. لم أستطع الكلام معها فأنا كنت أقرب الناس إليها وأعرفها، فحين سأذهب للحديث معها سيفتح جرحٌ حاولتْ بكلِّ قواها إيقاف نزيفه.
لِمَ لم أحاول العودة إلى ساي؟
سألتُ نفسي هذا السؤال مئات بل آلاف المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ كنت أُقنع نفسي بحجةٍ واهية، فتارةً أزعم أنَّنا لن نستطع التعايش، وأنِّي لن أتغيَّر مهما حاولتُ، ولن أستطيع تقبُّل ساي بكلِّ طيشها. وتارةً أُقنع نفسي بأنَّ ساي لم تَعُد ترغب فيَّ، ولم تَعُد تهتمُّ لأمري. أمَّا أوهى الحجج كانت أنِّي لا أريد لكرامتي أن تُهان. فأنا مَن تخلَّيتُ عنها ولربَّما حين أطلب العودة ستثأر منِّي، ولن تقبلني، مع أنِّي أعلم علمَ اليقين أنَّ هذا ليس من شِيَم ساي.
هاك ٢٠١٧
لم تمضِ حتَّى سنة واحدة بعد ارتباطي بتاميا حتَّى جاء القرار من قِبَلها بالانفصال. تفهَّمتُ الأمر؛ فهي لم تشعر ولو ليومٍ من الأيام بحبِّي لها، لم تشعر بأيِّ شغفٍ في هذه العلاقة. وأنا مَن كنت أظنُّ أنَّ الحبَّ سيأتي بعد الزواج. لكن للأسف لم يكن الموضوع بتلك البساطة كما خطط له عقلي. إنَّ للقلوب والمشاعر تركيبةً معقدةً أكثر مما نتخيل، فكيف لإنسانٍ لا يُشبهنا في شيءٍ أن نهيم غرامًا به، وكيف لإنسانٍ آخر أقرب إلى تفكيرنا، ومع ذلك لا نستطيع أن نُكنَّ له تلك المشاعر؟ تابعتُ حياتي مرَّةً أخرى وحيدًا. تعمَّقت في دراسة مرض التوحُّد لدى الأطفال وبدأتُ بإجراء الأبحاث. لا أُنكر فضل ساي في هذا الموضوع فهي كانت مَن تدفعني دائمًا لهذا التخصص في البحث، فلطالما أحبَّت الأطفال وكانت تتمنَّى أن تُصبح أمًّا. قلت لها في يومٍ من الأيام: تستطيعين أن تُجاريَ طفلك حتى سن العاشرة، بعدها سينضج أكثر منك ولن تستطيعي مجاراته، أجابتني: حينها سيبدأ دورك.
إلى الآن لا أستطيع نسيان أحاديثنا، ضحكاتنا، كلماتنا، حتى مشاكلنا بتُّ أحنُّ إليها! قد أبدو لبعض الأشخاص كما لو أنَّني أشبه للكمال، شخصٌ ناجحٌ في حياته العملية وحاصلٌ على عدَّة جوائز في مجال الطب، ولكن لو نظر أحدهم إلى داخلي وواقعي فسيرى ذاك الشرخ العظيم، سيرى كم أعاني وأتخبَّط عاطفيًّا، سيرى كم حرمتُ نفسي من الحياة الاجتماعية إمَّا باختياري أو لأنِّي لم أستطع التأقلم مع باقي المجتمع. أنا وأمثالي قد نظنُّ أنفسنا أنَّنا دومًا على صوابٍ وأنَّ غيرنا هو المخطئ، قد نعتقد أنَّنا أفضل وأعلى من الانخراط في الأحاديث اليومية وأنَّ وقتنا الثمين لا يجب أن يضيع على ترهاتٍ كهذه، لكن في النهاية نصل لنقطة ونُدرك أنَّ نجاحنا فقط في الحياة العملية لا يعني شيئًا إذا لم يشاركنا الآخرون فرحتَنا وتعبنا، نجاحنا وإخفاقنا، أحلامنا وآلامنا.
بعد مرور عدَّة سنواتٍ من انفصالي عن تاميا سمعتُ بخبر زواج ساي، كان جرحًا في الروح، حاولت الانغماس في العمل أكثر لتناسي هذه الفاجعة. لا أدري ماذا كنت أنتظر أو لماذا صُدمت؟ فهذا حقُّها الطبيعيُّ! وانفصالنا ليس وليدَ هذه اللحظة! كنت وما زلت أنانيًّا، لربما كنت أتمنَّى من ساي أن تبقى أسيرةَ حبِّي، أن تُغلقَ على نفسها كلَّ الأبواب من بعدي. كم أحسد ذلك الرجل الذي ارتبط بها!
أما ما جرى معي فإنَّني أصبحت لا أغادر المستشفى إلا للنوم، وبعد عدَّة شهور من الضغط الجسدي والنفسي بدأت حالتي الصحية بالانهيار. قمتُ بإجراء التحاليل والفحوص اللازمة ليتبيَّن لي بعدها أنِّي مصابٌ بمرض السرطان في الرئة. يا للقدر! وأنا الذي لم يُشعل سيجارةً في حياته! تبيَّن لي أنْ ليس لكلٍ سبب نتيجة، وأنَّ الأقدار تأتينا بما لا نتوقعه، تبيَّن لي كم كانت ساي محقَّةً حين كانت تقول دومًا: هي حياة واحدة فلنعشْها بسعادة!
بعد سماع هذا الخبر أردتُ فعلَ شيءٍ واحد فقط، ألَا وهو رؤية ساي، الاعتذار لها، وإخبارها أنَّها كانت على حقٍّ، أردت إخبارها أن تُكمل حياتها بكلِّ الجنون الذي عهدتُها عليه وأن تحياها بسعادةٍ بالطريقة التي تراها مناسبة، وبالفعل هذا ما قمت به، رتَّبتُ زيارةً لي في عيادتها كمريضٍ لرؤيتها والتحدث معها. لم أَعُد أنا نفسي ذاك الشخص المنطقي بعد المرض، فقبل مرضي لم أكن لأقدمَ على خطوةٍ كهذه، ولكن الآن اختلفت لديَّ الكثير من المعايير.
نعم ذهبتُ لزيارة ساي في عيادتها الجديدة، وهي الآن امرأةٌ متزوجة. إنَّني مدركٌ لهذا الشيء ولكن أريد التأكُّد أيضًا، هل هي سعيدة أم لا، فأنا أفهم كلَّ تعابير ساي. أعرف أنَّ عينَيها لا تستطيعان إخفاء المشاعر التي تعتريها من حزنٍ أو فرح.
قابلتُ هناك الممرضة ذاتها، لا بدَّ أنَّها انتقلت مع ساي، استقبلتني بالحرارة ذاتها التي كانت تعاملني بها حين كنتُ أعمل في العيادة المجاورة لعيادة ساي. لطالما أثار هذا غيظ ساي، كانت تقول لي: انظر كيف تعاملني ببرودٍ، وكيف تعاملك بلطافةٍ مبالغة. في البداية كنت آخذ الأمر على محمل الضحك وأشعر أنَّها غيرة النساء، بل كان ذلك يسعدني ويشعرني بمدى اهتمام ساي بي، ولكن قبل طلاقنا بفترة أذكر كم ضقت ذرعًا من أيِّ تعليقٍ صغيرٍ يدلُّ على الغيرة التي كنت أحبها سابقًا من ساي. وكأنَّ تفكيرنا يزيِّن الأشياء لنا حين نودُّ ذلك والعكس صحيح. فهو يعمل على تقبيح كلِّ شيءٍ جميلٍ حتى يقع ما هو مقدَّر. فالغيرة نفسها التي كنت أعشقها في البداية، أصبحت لا أحتملها، أهذا هو القدر؟
دخلت إلى عيادة ساي، وجلست على الكرسي ذاته وللمرة الثالثة، ما زلت أذكر المرَّتين الأولى والثانية وكأنَّهما حصلتَا بالأمس، ما زلت أذكر السعادة التي اعترتني في المرَّة الأولى حين فاجأت ساي وقدتُها إلى العيادة حيث لم تكن تعلم بأمرها شيئًا. أذكر كيف أجلستني على الكرسي لتجرِّب دورها كطبيبةٍ نفسيَّةٍ، وقالت: أخبرني ماذا تشعر يا مريضي الأوَّل؟ أذكر إجابتي وكأنَّها محفورةٌ في قلبي، أجبتُها حينها: أشعر بأنَّ هناك مجنونة اقتحمت حياتي، أعشقها وتعشقني، ولكن مشكلتها أنَّها تقودني لطريق الجنون معها.
لم أنسَ صوت ضحكتها حينها! لم أنسَ كيف حضنتني بقوةٍ ونظرتْ إليَّ بامتنانٍ لتُعلمني بمدى فرحها بتلك الهدية التي لم تكن تتوقعها. كما ما زلتُ أذكر الحزن الذي اعتراني في المرَّة الثانية حين أعلمتها برغبتي في الطلاق، لم أنسَ صوت بكائها حينها. لم أنسَ كيف نظرتْ إليَّ بعتابٍ وانكسارٍ وألمٍ لتُعلمني بمدى الجرح الذي سبَّبتُه لها ولم تكن لتتوقعه مني. أمَّا اليوم فأنا لا أعرف كيف أصفُ شعوري، ولكنَّه أقرب ما يكون إلى الندم منه إلى أيِّ شيءٍ آخر.
رحَّبتْ بي ساي كأيِّ مريض، أدركتُ من عينَيها أنَّها تجاوزتني وأنَّها تشعر بالسعادة والرضا التام؛ لذا لا حاجة لي بأن أسألها. في بداية الأمر لم أشأ أن أُخبرَها عن مرضي وأن أعكر صفو حياتها بخبرٍ كهذا، ولكن عليَّ أن أعلل سبب قدومي فإنِّي إن لم أُخبرها ستسأل بالتأكيد وستشكُّ في أمري، وستعرف الحقيقة سواء منِّي أم من أيِّ طبيبٍ آخر، ففي وسطنا الطبي تنتشر أخبار كهذه كالنار. حين أخبرتُها بذلك عرضت عليَّ ساي مكانًا جديدًا للعلاج في النمسا فلها أصدقاء هناك يعملون على تطوير أشعة جديدة لعلاج الأورام وهم يحتاجون لمتطوِّعين، وافقتُ على الحال لأنَّها ستكون خدمةً للبشريَّة وكنت أنا المريض المثالي، وفي نهاية الأمر أنا طبيبٌ وأُدرك قيمة المتطوِّع البشري لاختبار الأدوية والعلاجات الجديدة.
هممتُ بالرحيل والحزن والندم يعتصران قلبي على فقدانها إلى الأبد، شعرتُ أنِّي حزينٌ لفقدانها أكثر من حزني على مرضي؛ فالانفصال عنها شيءٌ قرَّرتُه أنا بنفسي وعملتُ له، أمَّا مرضي شيءٌ لم أقرِّره أنا، وعليَّ أن أواجهه بقوةٍ وألَّا أستسلم لليأس. لم يكن هدفي أن أضع نفسي في مواجهةٍ أعلم مسبقًا أنِّي الخاسر فيها، لم أرغب أن أُخبر ساي أنِّي لم أتوقَّف يومًا عن حبِّها وأنَّها الوحيدة في قلبي، فحتى لو لم تكن ساي مع هيروكي هي لن تكون معي لأنَّها تحتاج إلى حبٍّ أكثر نضجًا، إلى حبٍّ تثق فيه، إلى حبٍّ لا يتعبها كما أتعبتُها أنا. اكتشفتُ أخيرًا وبعد هذه السنين أنِّي أنا نفسي لم أكن الناضج في علاقتنا وليس العكس كما كنت أزعم. قلت لها تلك الكلمات قبل أن أغادر: ساي، كوني سعيدة أينما كنتِ ومع مَن كنتِ فالسعادة تليق بك، مشكلتي أنِّي كنت عبثًا أحاول أن أبحث عن السعادة معك، ولم أكن أُدرك أنَّكِ أنتِ السعادة بعينها،
ورحلتُ.