فن المسرحية
أخذ طلبة دبلوم معهد الصحافة بجامعة القاهرة يُلِحُّونَ عليَّ لكي أُحَاضرهم عن كيفية تأليف المسرحية الناجحة، وأثار إلحاحُهُم في نفسي تساؤلًا مُشفقًا؛ حتى خشيتُ لو استجبتُ إلى رَغْبَتهم أن أكون كمن يلقن تلاميذه كيفية العوم في الفصل، ثم يرسلهم بعد ذلك إلى البحر؛ فيغرقون فيه.
ومع ذلك فإن رغبتي الدائمة في أن استجبت لكلِّ مَطلب ثقافي يتقدم به إليَّ طلابي جَعَلَتْني أُطيل النَّظر في الكيفية التي أَستطيعُ بها أن أُعِينَهم على تحقيق طموحهم الأدبي المشروع، وعند ذلك تذكرت مدارس الأدباء التي أنشأتْها البلاد الاشتراكية التي زرتُها حديثًا، مثل رومانيا والاتحاد السوفيتي، وهي مدارس تَدْخُلها براعم الأدب لتتفتح وتُثْمِر ثمرات ناضجة بفضل الدرس والنقد والتثقيف.
ولكنه من الواجب أن نذكُرَ أنَّ هذه المدارس لا يلتحق بها من يريد أو من يحمل درجة علمية مُعَينة، بل ولا تَعْقد مُسابقة للالتحاق، وإنما يُقْبَل فيها مَن قام فعلًا بمحاوَلات أدبية، يُمكن أن تُسْتَشَفَّ منها بذرةُ الموهبة؛ لأنَّ هذه المدارس أو غيرها لا يمكن أن تخلق تلك البذرة، وإنما تستطيع أن تَتَعَهَّدها — إذا وُجِدَتْ — بالرَّي والسقيا حتى تنمو وتُثمر.
ومع ذلك فإِنَّنِي أَعتقد أنَّ الأستاذ يستطيع أن يوجه طَلَبَتَه ذوي الطموح الأدبي الوجهةَ الصالحة لتحقيق الطموح، بأن ينصحهم أولًا وقَبْل كل شيء بأن يقرءوا — في عناية وإمعانٍ ودراسةٍ وتحليلٍ — كلَّ ما يمكن أن يقرءوه من عيون المؤلفات في الفن الذي يريدون ممارَسته؛ كالمسرح، أو القصة، أو الشعر، وكم أَوَدُّ أن لو أَخَذَتْ جامعتنا في دراسة الأدب بالمنهج الفرنسي القائم على شرح النصوص، والحديث عن أصول الأدب ومذاهبه وفلسفته، بمناسبة هذا الشرح وفي أثنائه؛ حتى تنهض ثقافةُ الطلبة الأدبيةُ على أساسٍ حِسِّيٍّ واضح من النصوص المختارة من كبار الأدباء والشعراء.
ولكنَّه لما كان هذا المنهج السليم يحتاج إلى تخصُّص، وإلى تعدُّد الأساتذة الأَكْفاء، واتساع ساعات الدراسة، كما أخشى ألا يستطيع طلبة الصحافة في المعهد — وهم غير متفرغين — القيامَ بدراسةِ وتحليلِ عدد كبير من المسرحيات التي من السهل إرشادهم إليها، فقد رأيت أن أَقْنَع بمحاضرتهم عن بعض الأصول العامة للتأليف المسرحي، ضاربًا — ما استطعت — الأمثالَ ببعض المسرحيات التي أرجو أن يكون لهم بها إلمام؛ إمَّا عن طريق القراءة وإما عن طريق المشاهَدة بدُور المسرح.
وكان من الطبيعي أن أُحَدِّثهم أَوَّلَ الأمر عن المصادر التي يُمكن أن يستقوا منها ما يُريدون تأليفه من مسرحيات.
وأوَّل هذه المصادر وأسهلها مأخذًا هو التاريخ، وإن يكن من الواجب أن يَفْطِن الأديب الناشئ إلى أنَّ عَمَلَه غَيْرُ عَمَلِ المؤرِّخ، فهو لا يكتب القِصَّة أو المسرحية التاريخية لمجرد التعريف بالماضي أو بَعْثِه أو استخلاص العبرة منه، بل هو يختار من أحداث التاريخ ما يراه مواتيًا لعلاج مشكلة إنسانية خالدة تَصْلُح لكافة العصور، أو ما يرى فيه وسيلةً لعلاج مشكلة من مشاكل عصره، ووعاءً يصُبُّ فيه بعض الحقائق والتوجيهات التي يفتقر إليها مُجْتَمَعُه، أو أفرادُ وطنه، كما أنه لا يسعى في أدبه إلى عَرْض الحقيقة التاريخية المجرَّدة، بل يسعى إلى بَعْث الشخصيات التاريخية، أو الأفراد العاديين من الشعب الذين حَمَلُوا قِيَمًا خاصَّة، وتمخضَتْ حياتهم عن دلالات مُتميزة، ومن أجل ذلك لا أظنُّ أنَّ الأديب يستطيع أن يَعْثُر على ضالته المنشودة في كتب التاريخ الحديثة التي يُصْدِرُ المؤرخون المحدثون في تأليفها عن منهج علمي محدَّد، ويفسرون التاريخ تفسيرًا خاصًّا بكل منهم، وإنما يستطيع الأديب أن يَجِدَ ضالته في مَصادر التاريخ ذاتها؛ لأنَّ تلك المصادر هي التي تقدم إليه المادةَ الخام التي يستطيع أن يتصرف فيها بِحُرِّية أكبر وفقًا لهدفه وأصول فَنِّه.
ومن حُسن الحظ أنَّ جميع الكتب التي كتبها المؤرخون العرب القدماء تُعتبر من مصادر التاريخ ومن مادته الخام، وهي كثيرًا ما تستطرد إلى قصص وأقاصيص فردية واجتماعية، تصلح لأن تكون مادة أدبية خصبة، وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من المؤلَّفات الأدبية القديمة في الأدب العربي؛ كالأغاني ونفْح الطيب وغيرهما، وكل ذلك، فضلًا عن مصادر التاريخ الأخرى؛ كاليوميات، والمذكرات، وكتب الرحلات، وها هي يوميات الجبرتي تُمِدُّ عددًا من شبابنا بطائفة من القصص، والمسرحيات النَّاجحة عن كفاحنا القومي ضد الغزو الفرنسي.
ولقد حدث أن أَحَلْتُ طالبًا سألني عن مصدرٍ يستطيع أن يستقي منه مادة لمسرحيات مدرسية تعليمية — على كتاب الأمثال العربية للميداني فاشتراه الطالب، ولم تَكَدْ تمضي أيام حتى عاد إليَّ وبيده مسرحية قصيرة شيقة عن غضب النعمان، وقصة ذلك الغضب التي أوردها الميداني تفسيرًا للمثل العربي السائر: «إنَّ غدًا لناظره قريب»، فاغتبطْتُ بهذه النتيجة وحرصت على إذاعتها، لعلها تُفيد غيره من رواد الأدب.
وفي عزمي أَنْ أُحدِّث طَلَبَتي عن مصادر الأدب الأُخرى كالأساطير وواقع الحياة المعاصرة، ثم الخيال الذي يستطيع أن يرتكز على حادث يوميٍّ أو نبأٍ عارض؛ لكي يخلق عملًا أدبيًّا كاملًا بفضل الخيال الذي يستطيع أن يُحَلِّق وراء دوافع الحياة ومنطق أحداثها، وطريقة تَسَلْسُل تلك الأحداث، وتأثيرها على سلوك الأفراد والجماعات.
ويُعْتَبَر الهدف وتحديده عنصرًا جوهريًّا في كل تأليف أدبي، وهو كثيرًا ما يتحَكَّمُ في اختيار المصدر الذي يُريد الأديب أن يستقي منه مادةً لأدبه، ونحنُ لا نقصد هنا بالهدف هدفًا خاصًّا، بل نُفْسِح في اختياره المجال، فقد يكون مُجَرَّدَ التسرية عن الناس، وقد يكون نقدًا للحياة أو ثورةً على بعض عيوبها، أو خَلْقَ صُوَر جمالية نَطْرَب لها وتهتز قلوبنا، كما قد يكون هدفًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا على نحو ما يفعل غالبية شبابنا الأدباء في الوقت الحاضر، وتحديد الهدف أيًّا كان يعتبر بالبداهة نقطةَ بدء هامة عند الشروع في تأليف أي مؤلَّف أدبي؛ ولهذا لا تُعْتَبَر المناقَشات التي تدور الآن حول الأدب نافلة من القول.
وبعد العثور على المادة الأولية، وتحديد الهدف الذي يُريد الأديب أن يقصد إليه، تتبقى مُشكلة ضخمة؛ هي مشكلة الأصول الفنية التي يقوم عليها كل فن من فنون الأدب المختلفة، وهي أصول قد يستطيع الأديبُ الشَّاب أن يُحِسَّ بها في غموضٍ أثناءَ قراءته للمؤلَّفات الأدبية أو مُشاهدته لها، ولكن هذا الإحساس الغامض لا يكفي، بل لا بد له من أن يتناولها بالتحليل والدراسة والاستيعاب النظري والتدريب العملي، حتى تستقر في نفسه، ويُحْسِن استخدامها، ولما كانت هذه الأصول تختلف بالبداهة من فن إلى آخر، فهي في الشعر غيرها في النثر، وهي في المسرحية غيرها في القصة، فإنني أعتذر عن الخوض فيها الآن لأتركها إلى قاعات الدرس والتحليل.