البطل في الملحمة والمأساة ومسرحية «جميلة»
منذ أسابيع تحدثتُ عن مسرحية جميلة للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، وصححتُ رأيًا زعم صاحبه أنَّ بطولةَ «جميلة» في هذه المسرحية بطولةٌ ملحميةٌ لا بطولة درامية، وكنتُ أعلم أنَّ هذا الزعم إنما تسرَّبَ إلى الناقد الذي قال به مَن رأى الدكتور لويس عوض، ومضت الأيام وإذا بالدكتور لويس يكتب مقالًا عن جميلة في ملحق «الأهرام» الأخير يعود فيه إلى نفس الرأي ويفصله تفصيلًا، بل ويوَسِّع من آفاقه، وذلك بالرغم من أنني انتهزت فرصة مناقشة مسرحية «الراهب» للدكتور لويس عوض في ندوة النقاد؛ لكي أوضح له خطأ هذا الرأي، بل وضرره على أعماله النقدية، وعلى تأليفه لهذه المسرحية أيضًا.
وأنا أذكر أنَّ الدكتور لويس قد قرر هذا الرأي في الكتيب الذي أَصْدَرَه عن المسرح المصري القديم، وأعاد نشْره في كتابه الأخير «مقالات في النقد»؛ حيثُ ذَهَبَ إلى أنَّ المسرح المصري القديم قد مات؛ لأنَّه كان مسرحًا ملحميًّا ولم يكن مسرحًا دراميًّا، ويُفسر ذلك بقوله: إنَّ البطل في المسرحية المصرية القديمة كأوزوريس كان خيرًا خالصًا في مواجهة شَرٍّ خالص يتمثل في أخيه «ست»، بينما البطل الدرامي أو المأسوي لا بدَّ أن يحمل جرثومة الشر في نفسه.
وعلى هذا الأساس رأينا الدكتور لويس يغرس جرثومة شر في «أبو نوفر» بطل مسرحية «الراهب» مما يفقد «أبو نوفر» عَطْفَنا عليه وانفعالنا ببطولته، مع أنَّ هدف المأساة — كما حدده أرسطو نفسه — هو أن يُثير فينا التعاطف مع بطلها لإثارة عاطفَتَي الشفقة والذعر على مصيره.
وها هو الدكتور لويس يعود في مقاله عن «جميلة» فيردد نفْس الرأي، بل ويُوَسِّع من آفاقه على نحوٍ أخشى معه أن يُؤَثِّر في مبادئ التأليف والنقد الدراميَّيْن التي من واجبنا أن نُقررها في إيضاحٍ أمام جيلنا الجديد، وبخاصةٍ جيل الجامعات والمعاهد.
والدكتور لويس يقرر في مقاله عن جميلة ثلاث قضايا كبيرة لا أستطيع أن أُقِرَّه على أي منها، بل لا بدَّ لي من أن أقرر عَكْسها.
الملحمة والمأساة
وأوَّل هذه القضايا هي زَعْمه أن بطل الملحمة غير بطل المأساة، ولستُ أدري متى تَقَرَّرَ هذا المبدأ في أيِّ أدب عالميٍّ، فشعراء المأساة عند اليونان أنفسهم يقولون — كما يعلم الدكتور لويس عوض — أنَّ مآسيهم ليست إلا فُتاتًا تَسَاقَطَ من مائدة هوميروس، أي: من ملاحمه، وأنا لا أدري أي جرثومةِ شرٍّ نَجِدُها مثلًا في برومثيوس بطل مأساة أيسكيلوس، وهو البطل الذي كافَحَ الآلهة نَفْسَها من أجل خير الإنسان، وأنا أذكر أنني عند مناقشة الدكتور لويس في رأيه هذا ضربتُ له مثلًا ببطولة أوديب، وقلتُ: إنه كان فريسةً للقَدَر المشئوم؛ ولذلك ظلَّ مُحتفظًا بعطفنا رَغْم قَتْله لأبيه، وزواجه من أمه على غير عِلْم منه بما فَعَلَ، ولسوء الحظ كان الأثر الوحيد لهذه المناقشة هو تعميم الدكتور لويس لهذا الخطأ في مقالة عن جميلة بقوله: «والأصل في البطل التراجيدي أنه — رَغْم تَوَفُّر مقومات البطولة في شخصيته — لا بدَّ وأن تقوض حياتَه جرثومةُ خطيئة أو خطأ، وسواء تكامَلَتْ عوامل الخطيئة أو الخطأ في داخل نفسه أو سيق إليها اضطرارًا بإرادةٍ أقوى من إرادته، كإرادة القدر، أو بِقُوَّة أقوى من قُوَّتِه، فالنتيجة واحدة في كل حالة» … وأَنَا لا أدري كيف تكون النَّتيجة واحدةً في الحالتين، مع أنَّ انبثاق الشر من داخل شخصية البطل التراجيدي وتكامُله فيها يُفْقِده عَطْفنا، وبالتالي يحطم المأساة كلها، بينما تسلُّط القدر الغاشم على هذا البطل لا يُزِيدُنا إلا تعاطفًا معه، وإشفاقًا عليه، وذعرًا من مصيره، وبالتالي نجاح المأساة وضمان تأثيرها في الناس.
طبيعة الصراع
ويوسِّع الدكتور لويس عوض من خطأ رأيه الأساسي ويُفَرِّع عنه، فيزعم في مقاله أنَّ «الأساس في الصراع الدرامي أنه صراع داخلي في باطن النفس الواحدة، حيثُ يختلط الخير والشر لحظةً اختلاطًا ينتهي بالتأزم ثم السقوط، أمَّا الصِّراع الملحمي فصراعٌ خارجي عبئت فيه قوة الخير في مواجَهة قوة الشر، ثم يكون الالتحام بينهما»، وهذا أيضًا رأيٌ لا أدري متى تَقَرَّرَ في أي أدب عالمي، فأنا أعلم أنَّ الصراع عند رواد الفن الدرامي من شعراء اليونان القدماء قد كان خارجيًّا، وإلا فكيف يكون الصراع الدرامي داخليًّا عندما يجري بين الإنسان والقدر — كما يعرف الدكتور لويس عوض — أو بينه وبين إله ظالم كزيوس، ولم ينتقل الصراع الدرامي من خارج النفس البشرية إلى داخلها إلا عند الكلاسيكيين الفرنسيين في القرن السابع عشر الميلادي على نحو ما هو واضح في مآسي راسين وكورني، حيث يجري الصراع بين العاطفة والواجب، أو بين الحب والضمير، أو بين عاطفتين مُتَعارضتين، ثم عاد الصراع الدرامي؛ فخرج من داخل النفس البشرية إلى خارجها في ظل الواقعية الاجتماعية التي يجري فيها الصراع بين الفرد والمجتمع، أو على الأصح بين الفرد وفساد المجتمع، أو بين الفرد وتضليلات التفكير الرأسمالي الحقير.
الفن والصدق
والخطأ الثالث الذي وقع فيه الدكتور لويس عوض في مقاله عن «جميلة» هو الخلط بين الفن وصدق الحياة، وعدم إيضاحه أنَّ جميع الأصول والمبادئ الفنية لا يمكن أن تَتَعارض مع واجب الولاء للحياة والصدق في تصويرها، وأنا أذْكُر أَنَّني عندما انتقدْتُ قول جميلة في مسرحية الشرقاوي لزميلها في الكفاح وحبيبها جاسر، أنها كانت تفضل أن لو قبضوا على أهل المدينة كلها دون جاسر، قد ناقشني الشرقاوي في هذا الرأي وقال: إنه أجرى هذه العبارة على لسانها حرصًا على الصدق الإنساني، الذي يُحَتِّم أَنَّ أية بطولة لا يمكن أن تخلو من بعض لحظات الضعف، وإنه بإجرائه هذه العبارة على لسان جميلة قد احتفظ ببطلته في نطاق البطولة الإنسانية الصادقة، التي لا يعيبها مثل هذا الضعف العاطفي في لحظة من اللحظات.
إن المقياس الأول والنهائي لكل أدب وفن لا يُمكن ولا ينبغي أن يخرج عن هدفِ الصدق الإنساني الذي لا يُعْتَبَرُ التمسكُ به خروجًا على أي أصل من أصول الأدب أو الفن، وإن كنت لا أزالُ أعتقد أنَّ الشرقاوي قد شُبِّهَ له، فَزَعَم في بطولة جميلة ضعفًا لا أظنه صِدقًا في تاريخ تلك البطلة الخالدة، بل ولا أظنه صدقًا إنسانيًّا يتفق مع الموقف الذي قالت فيه جميلة هذه العبارة، وهي على حافة الموت هي وجاسر على السواء، من أجل قضية اقْتَنَعَا بها اقتناعًا كاملًا، ومن ضحى بحياته لا يَرْهَب التضحية بحبه.