الحاجز الوهمي
هناك اصطلاح يعرفه رجال المسرح هو «الحاجز الوهمي»؛ ولهذا الاصطلاح تاريخ طويل ذَكَّرَتْني به مسرحية أرجو أن يَشْهَدها جمهورنا عما قريبٍ، وهي مسرحية «الناس اللي فوق».
ففي المسرح القديم عند اليونان كانت المسرحية تبتدئ بما يُسمى «البرولوجوس»، كما أن الكوميديا كان يتخللها ما يسمى ﺑ «البريازيس».
أما «البرولوجوس» أي: التقدمة، فقد كانت عبارةً عن مقطوعة يُقَدِّم بها أحدُ الممثلين المسرحيةَ إلى الجمهور نيابةً عن مؤلفها، وفيها يُحاول أن يستثير اهتمام هذا الجمهور موضوعها، وأن يُشَوِّقه إلى أحداثها، في حين أن «البربازس» أي: الاستطراد الذي يقع في منتصف الكوميديا، كان يعرض فيه المؤلف بلسان أحد الممثلين أيضًا على الجمهور مُشكلةً أدبية أو اجتماعية قد تمتُّ وقد لا تمتُّ لموضوع المسرحية بسبب قريب أو بعيد.
ثم تطوَّر المسرح بعد ذلك، وأَخَذَتْ تَسُود فيه فكرة أنه يَعْرض قطاعات من الحياة، ويُحاول أن يكون مرآة أو مِجهرًا لهذه القطاعات في وضعها الطبيعي وفي ذاتها، دون اتصال بالجمهور ولا إشراك له في أحداث المسرحية، ولا خضوع لرأيه فيها.
ومن هنا نشأت فكرة «الحد الرَّابع» التي تقول بأنَّ المسرحية يجبُ أن تجري أحداثها داخل جدران أربعة لا ثلاثة، باعتبار أنها قطاع من الحياة قائمٌ بذاته مُستقلٌّ عن جمهور المشاهدين، وإذا كان هناك جمهور قد اشترك في تلك الأحداث التي تعْرضها المسرحية؛ فإن مكان هذا الجمهور هو على خشبة المسرح، أي: داخل الجدران الأربعة، لا في الصالة التي لا يجوز أن يتصل جمهورها بتلك الأحداث، وإلا اعْتُبِر دخيلًا عليها مفسدًا لطبيعة القطاع الذي يُراد عرضه من الحياة.
ولما كان من غير المعقول أن يأخذ المسرح بحَرْفِيَّةٍ مثلَ هذا الوضع الذي لا يستقيم إلا في نَظَرِ منطق الفن النظري، فقد حاوَلَ رجال المسرح أن يصححوا هذا الوضع باصطلاح «الحاجز الوهمي»، أي: أنه وإن لم يكن هناك حائط رابع يعْزِل الجمهور عن المسرحية، إلا أنَّ هناك حاجزًا وهميًّا يُؤدي نفْس المهمة، سواء عند رَفْع الستارة أو عند إنزالها، وأنَّ هذا الحاجز الوهمي يجبُ احترامه لتستقيم نظرية هذا الفن عند المؤلف والمخرج والممثلين على السواء، وكل ذلك خوفًا من أن يُصبح المسرح تهريجًا واستثارةً رخيصة للمشاهدين أو استجلابًا سَهْلًا لرضاهم.
هذا هو الوضع الذي استقر عليه المسرح بعد تَطَوُّر طويل، ولكن مؤلف مسرحية «الناس اللي فوق» شاء أن يخرج على هذا الوضع في مسرحيته، وهو لم يخرج عليه بواسطة «برولوجوس» أو «بربازس» كما كان القدماء يفعلون، بل خرج عليه في خاتمة المسرحية، حيث أراد أن يُشْرِك الجمهور في تلك الخاتمة، فجعل بَطَلها الباشا المنهار يستنجد بذلك الجمهور؛ لينقذه أو ليُواسيه في شدة الفزع الذي انتابه نتيجةً لانهياره.
ونحن بالبداهة لا نحرص على التمسك بالحاجز الوهمي لذاته، كما أننا لا نرفض أيَّ تجديد، ولو كان هذا التجديد رجوعًا إلى وضْع قديم عفى عليه الزمن، ولكننا نُحَذِّر من مثل هذا التجديد الذي نخشى أن ينقلب إلى تهريج، أو مُحاولةٍ رخيصة للنجاح واستدرار تصفيق الجماهير بإشراكها في خاتمة المسرحية، ونحرص على أن يُمَهِّد المؤلفُ لمثل هذه الخاتمة تمهيدًا دقيقًا ماهرًا؛ حتى تأتي خاتمة طبيعية، وتأتي مشارَكة الجمهور فيها طبيعية، وكأنها ضرورة ناتجة عن أحداث المسرحية، لا حيلة مُفْتَعَلَة لنجاح رخيص.
وعلى أية حال؛ فأنا لا أريد أن أَسْبِق الأحداث، ولا أحاول أن أحكم اليوم على محاوَلة مسرحية «الناس اللي فوق»، وإنما أترك ذلك إلى حين البدء في تمثيل مسرحيته فعلًا؛ لأنَّ التمثيل هو الذي ينفث الحياة في المسرحية، ويُظهر مدى ما فيها من طبيعية أو افتعال، وإن كنتُ أرجو وأتوقع النجاح لمؤلف المسرحية الأستاذ نعمان عاشور في تجديده الجريء.