المسرح والعلاج الشعري
حدَّثَني الأستاذ حمدي غيث عن مشروع جديد تعتزم إدارة المسرح العالمي أن تنهض به في الموسم القادم، وهو «ليالي الشِّعر»، ويتلخص هذا المشروع في اختيار عدد من الممثلين والممثلات المثقَّفين؛ لإلقاء عدد من روائع الشعر العربي والعالمي في جوٍّ من الإخراج الملائم الذي يَخْلُق الجو الشعري المرهف، وأنا لا زلت أَذْكُر كم طربت لمثل هذه الليالي عندما كانت تُقَدِّمها الكوميدي فرانسيس بباريس، وحتى اليوم لا زلتُ أرى بعين الأحلام تلك الليلة التي رأيتُ فيها ربة الشعر تنساب على خشبة المسرح في ملابسها البيضاء الفضفاضة، وكأنَّها ملاك هبط من السماء لتدنو من الشاعر الحزين ألفريد دي موسيه في ضوء مصباحه الخافت، وقد تحطمت نفسه بمأساة حبه العنيف الفاشل للكاتبة جورج صاند، حتى أصابه ما يشبه الهذيان ورؤية الأشباح، وإذا به يتخيل من بين تلك الأشباح ربة الشِّعر وقد أتته في ظلام الليل، مُحَاوِلة أن تُواسيه في نكبته العاطفية الفادحة، وذلك بأنْ تُذَكِّره بأنَّ محنته هذه هي التي ستفتح ينابيع الشِّعر في نفسه؛ حيثُ يدور بينهما ذلك الحوار الخالد الذي سجله الشاعر في لياليه المعروفة التي نأخذ لها مثلًا بليلة أكتوبر:
وفي رأيي أنَّ نجاح هذا المشروع يتوقف على الدقة المتناهية في اختيار الرَّوائع التي يُمكن أن تتجاوب مع النفوس، ويحضرني في هذه المناسبة رأيٌ قرَأْتُه منذ سنين لابن عبد ربه في كتابه «العقْد الفريد» عن الشعر ووظيفته العميقة، وهو رأيٌ يمكن أن يُتَّخَذ مقياسًا لاختيار تلك الرَّوائع، وذلك حيث يقول: «إنَّ الشعر فَضْلٌ في المنطق لم تستطع اللغة استخراجه، فاستخرجه الشعر بالنغم على الترجيع لا التقطيع، وما ينبغي أن تُمْنَع النفوس معاشَقة بعضها بعضًا.»
وهذا القول الذي يرجح أن يكون ابن عبد ربه قد تأثر في صياغته بالثقافة اليونانية القديمة يتضمن عدةَ حقائق شعرية بالغة الأهمية والعمق، منها أنَّ الشعر ليس تقريرًا لحقائق أو صفات مما يستطيع النثر التعبير عنه، بل الشعر فضل في المنطق، أي: بقيةٌ من الأحاسيس والانطباعات والمعالم وظلالها، لم تستطع لغة النثر استخراجه من داخل النفس البشرية فاستخرجه الشعر بالأنغام، ولكن هذا الاستخراج لا يتم إلا بالدقة والحساسية في ترجيع هذا الشعر، أي: في إلقائه؛ لأنَّ التقطيع، أي: النظم والقراءة حسب تفعيلات الخليل، لا تكفي في تحقيق مثل هذا الهدف العسير، وهذا هو الشعر الذي تهفو له النفس؛ لأنَّها تلمس فيه أعماقها الخفية الهروب؛ ولهذا لا ينبغي أن تُمْنَع النفسُ من مُعاشَقة بعضها بعضًا.
هذا، وليس من الضروري أن يكون مثل هذا النوع من الشعر كله من النوع الرومانسي الذَّاتي العاطفة، بل قد يكون من الشعر الواقعي أو الرَّمزي، ما دام هدفه لا يقف عند تقرير واقع، أو الرمز لفكرة مُجَرَّدة، بل هدفه الكشف عن انطباعات النفس الحساسة إزاء الواقع وحقائق الحياة، بل وما رواء الحياة ومظاهر الطبيعة؛ لأنَّ هذه الانطباعات هي ذلك الفضل من المنطق الذي لا تستطيع لُغة النثر التقريرية استخراجه من داخل النفس البشرية، فيَستخرجه الشعر بالأنْغَام على الترجيع لا التقطيع، فمن المؤكَّد مثلًا أنَّ قصيدة «الغراب» لإدجار آلان بو، تمسُّ شغاف القلوب رغم الرمزية، التي لجأ إليها الشاعر عندما تَصَوَّرَ ذِكرى زوجته الحبيبة تدلف إليه في جنح الظلام في صورة غراب أسطوري يأتيه من آفاق الظلام المترامي مُجسِّدًا آلام تلك الذكرى الوجيعة.
والشيء الذي أرجو الله أن يقي مشروع الليالي شَرَّه هو أن يأتي اختيار الروائع على غير أساس فني ونفسي واجتماعي سليم، كأن ننزلق إلى قصائد في المديح وغيره مما تُنَفَّر منه النفوس، ولا يفيد قائله أو سامعه أو الممدوح نفسه بشيء.
وفي اعتقادي أنَّ في تراثنا عددًا كبيرًا من الرَّوائع التي لا تزال حيَّة يمكن أن يتجاوب معها الجمهور، كقصائد العذريين والصعاليك والشيعة والخوارج، فضلًا عن روائع شِعْرنا الإنساني المعاصر من أمثال قصائد الشابي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي، فضلًا عن عدد كبير من قصائد جيل شعرائنا المعاصرين الأحياء، ولتحقيق المتعة النفسية الكاملة من مثل تلك الليالي يجبُ أن يُعْهَد بإخراجها إلى كبار مُخرجينا المثقفين ذوي الحساسية والذوق المرهفين، فقصيدة الغراب لإدجار آلان بو مثلًا، لا بدَّ لإخراجها من نجاح المُخْرج في خلق ذلك الجو القاتم الحزين الذي وَصَفَه الشاعر في هذه الرائعة الخالدة، بل ويُخَيَّل إليَّ أنَّه من الممكن أن تتضمن تلك الليالي بعض المشاهد القصيرة من مسرحيات شوقي وعزيز أباظة الشعرية مثلًا، وهي مَشَاهد قد تكون حِملًا على الحركة الدرامية في المسرحيات التي تَضُمُّها، ولكنها ستتحول في تلك الليالي إلى متعة غنائية خالصة لا تَصْدِمُ الحسَّ الدرامي عندما تأتي في سياق تلك المسرحيات عند عرضها كاملةً كمسرحيات.
هذا، ولقد يُقال: إن مثل تلك الليالي لن تجذب غير عُشَّاق الشعر، ولكنني على ثقة من أنَّ هؤلاء العشاق سيزدادون عددًا، كما أن تلك الليالي سوف تشبع حاجة أصيلة في النفوس للمُتعة الجمالية والتنفيس العاطفي، مما سيكون له أكبر الأثر في تطهير النفوس من جهة، ورفع مستوى الذوق العام الجمالي والعاطفي من جهة أخرى.