طوفان مسرحة القصص
طغت على موسم التمثيل في القاهرة هذا العام ظاهرةٌ خطيرة هي: «طوفان مسرحة القصص»، ثم تقديمها بالفِرق التمثيلية الكبيرة في القاهرة، بحيثُ رأينا ثلاثَ فرقٍ تُقَدِّم في وقت واحد تقريبًا ثلاثَ قصص ممسرحة، ففرقة المسرح الحر قدَّمَتْ قصَّة «بين القصرين» للأستاذ نجيب محفوظ ممسرحة، والفرقة القومية قدمت قصة «في بيتنا رجل» للأستاذ إحسان عبد القدوس، وفِرقة أنصار التمثيل والسينما قدمت قصة «قنديل أُم هاشم» للأستاذ يحيى حقي.
ومبدأ مسرحة القصص الشهيرة مسلَّم به في أوروبا وأمريكا؛ كوسيلة لتقديم روائع القصص في قالب جماهيري يُجَسِّد أحداثها ويُبْرِز مضمونها الإنساني في قالب درامي يجذب الجماهير، ويعمق مفهوم القصة في النفوس، فضلًا عن المتعة الفنية في ذاتها، ولكن ما يصح في أوروبا وأمريكا لا نظنه يصحُّ في بلادنا؛ حيثُ لا يزال عدد الفِرق التمثيلية ودُور المسرح محدودًا، وحيثُ لا نزال في حاجة لتشجيع التأليف المسرحي والأدب المسرحي اللذين لا يمكن أن ينتعشا ما لم يَجِدِ المؤلفون فرقًا ودُورًا مسرحية تَعْرض إنتاجًا وتنفخ فيه الحياة وتصله بالجمهور.
ومن المعروف أنَّ المسرحيات لا يُقبل الجمهور على قراءتها كما يُقبل على قراءة القصص؛ لاعتقاده أنَّ المسرحيات تكتب لتُمَثَّل لا لتُقْرأ، وأنَّها بدون تمثيل كالجثة الميتة، والتمتع بقراءتها لا يتوفر إلا لقلة من القراء ذوي الخيال الذين يستطيعون — وهم يقرءون — تَصَوُّرَ الأحداث حيةً متحركة متطورة، وعندما نرى فِرقًا ثلاثًا من فِرقنا التمثيلية الكبرى تعرِض قصصًا ممسرحة لا ندري إلى أين يتجه مؤلفو المسرحيات بإنتاجهم الأدبي، بحيث يصبح طوفان المسرحة خطرًا يهدد التأليف المسرحي والأدب المسرحي في بلادنا بالغرق والاختناق، وذلك بينما يتسع النشاط التمثيلي في أوروبا وأمريكا للتأليف المسرحي ومسرحة القصص على السواء، بحكم وفرة الفرق التمثيلية ودُور المسرح.
والظَّاهِرَة الأُخرى التي أثارت النُّقاد على طوفان المسرحة هي ما أحَسُّوه من أنَّ فِرقنا المسرحية تَقْبَل القصص الممسرحة بدافعٍ تِجَاري في الغالب، وهو الحرصُ على الاستفادة المادية من شُهرة تلك القصص، وشهرة أسماء كاتبيها دون الاهتمام بالنَّاحية الفنية والإنسانية الخالصة، فبعض القصص التي مُسْرِحَتْ هذا الموسم لا يصلح إطلاقًا للمَسْرحة، مثل قصة «بين القصرين» التي لا تُعْتَبَر في ذاتها قصةً كاملة، بل جزءًا من قصة كبيرة تتكون من الثلاثية المعروفة: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية».
بل إنَّ الثلاثية كلها ليست قصة درامية، بل قصة استعراضية تحليلية تُصَوِّر مفاهيم شعبنا وتَطَوُّر تلك المفاهيم في الفترة الطويلة التي تمتد من ثورة ١٩١٩ حتى ثورة ١٩٥٢، وكل ذلك فضلًا عن سوء مسرحة هذه القصة، وذلك لأنَّ الأُستَاذ نجيب محفوظ في «بين القصرين» قد حَرِصَ — في دِقَّةٍ — على أن يُصَوِّر «وجهي الميدالية» في حياة شعبنا، فصوَّر على وجهٍ منهما روح النِّضال الوطني والسمو الأخلاقي والاجتماعي عند شخصية «فهمي»، طالِب الحقوق وابن «السيد أحمد عبد الجواد» بطل القصة، وقد استُشْهِد «فهمي» في إحدى مظاهرات ثورة ١٩١٩ الوطنية الخالدة، كما صوَّر اشتراك «السيد أحمد عبد الجواد» نفسه في حفر الخنادق، والتبرع للضحايا والمشاركة الإيجابية في ثورة الوطن، بينما صَوَّر على الوجه الآخر نواحي الضعف والانحلال التي لا يمكن أن يبرأ منها أيُّ مجتمَع في شخصية الابن الآخر «ياسين»، وفي شخصية السيد أحمد عبد الجواد نفسه وتكالُبه على النِّساء، وتناقُض سلوكه داخل بيته وأُسرته وخارجه، حيثُ الاستهتار في الخارج والصرامة والتزمُّت في الدَّاخل، وركَّز مَن أعدَّ المسرحية اهتمامَه على الوجه المُسِفِّ في «الميدالية»، مِمَّا شوَّه القصة وأساء إلى كاتبها نجيب محفوظ، وإن يكن الجمهور لسوء الحظ قد أقبل إقبالًا فظيعًا على هذه المسرحية؛ مما يقطع بأنه ما يزالُ جمهورنا قاصرًا لم يصل بعد إلى سن الرُّشد العقلي والأخلاقي.
وقِصَّة «قنديل أم هاشم» للأستاذ يحيى حقي قصة مرهفة، تتركز قيمتها في روعةِ ما فيها من تحليل وتصوير لمشاهد الحياة في حي السيدة زينب، بحيثُ لا يمكن مسرحتها بغير أن تبدو المسرحة هيكلًا عظيمًا عتيقًا، والصراع في القصة صِرَاع داخلي يجري في نفس «دكتور إسماعيل» الذي نشأ في حي أم هاشم وتشرَّب في طفولته معتقَدات أهل حيه الساذجة في بَرَكَة القنديل، وزيته الذي يَستخدمه أبناء الشَّعب في علاج أخطر أمراض العيون الرَّمدية، ثم سافر إلى إنجلترا؛ حيث تعلم طِبَّ العيون وآمن بالعلم، وتبيَّن ما فيه أهل حَيِّه القديم من ضلالة، ثم عاد بعد تعليمه إلى حيه حيثُ أحسَّ بصراعٍ عنيف يجري في نفسه بين إيمانه بالعلم، وعاطفية إيمانه الديني السابق، الذي لم يكن بُدٌّ من أن يتحرك في نفسه من جديد بعد أن عاد فانغمس في نفس البيئة، وجاء مَن أَعَدَّ المسرحية فلم يَفْهَم حقيقة معنى القصة؛ ولذلك بناها على صراعٍ بالٍ بين العلم ممثَّلًا في «الدكتور إسماعيل» والشعوذة ممثلة في «حسين» حلاق الحي، مما جعل هذا الصراع يبدو كمُصَارعة الثيران، فضلًا عن أنه صراع لم يَعُدْ له وجود في شعبنا الذي عَرَفَ الطِّب والأطباء، ويُطالب كل يوم بتوفير العلاج العلمي لأمراضه.
وأمَّا قصة «في بيتنا رجل» للأستاذ إحسان عبد القدوس؛ فهي القصة الوحيدة التي تبدو مُمْكِنةَ المسرحة؛ لأنها تقوم على الأحداث المثيرة قبل كل شيء، بحيثُ يبدو أنَّ مسرحتها أفادَتْها بنفثها الحياة في تلك الأحداث وتجسيدها على خشبة المسرح، وعلى هذا الأساس لا نرى ضيرًا في قبول فِرقنا القومية تمثيلها، وعلى أية حالٍ ففِرقتنا القومية هي الفِرقة الوحيدة التي لها لجنة قراءة مُستنيرة خبيرة، تستطيع أن تفصل في نجاح المسرحة أو فشلها وأن تقي الفِرقة أخطار الزلل.
وعلى أَيَّة حالٍ ففي اعتقادنا أنَّ النُّقاد قد كانوا على حق في دقِّ نواقيس الخطر ضد طوفان مسرحة القصص في موسمنا التمثيلي الحاضر، والأمل معقودٌ في أن تستطيع هذه الحملة إيقافَ هذا التيار الضار بحركتنا الأدبية والتمثيلية على السواء.