بين «القومي» و«العالمي»
منذ ثلاث سنوات فَزِعَ الرَّأي العام المثقَّف من الفكرة التي أَخَذَتْ تظهر داعيةً عندئذٍ إلى حلِّ مؤسسة المسرح والموسيقى، وإدماج المسارح التي كانت تُشْرِف عليها، مثل: المسرح القومي بشعبيته ومسرح الجيب، والمسرح الغنائي، ومسرح العرائس، مع ما كان يُعْرَف عندئذٍ بمسارح التليفزيون، تحت إشراف الهيئة العامَّة للإذاعة والتليفزيون والمسرح والموسيقى.
وكان معظم المثقفين المخلصين المستنيرين يرَوْن أنَّه إذا رَجَحَتْ فكرة الإدماج؛ فليكن هذا الإدماج لمسَارِح التليفزيون تحتَ إشرافِ وتوجيهِ المؤسَّسة بعد تعزيزها بمزيدٍ من الخبراء المثقفين، وباستقلالٍ ماليٍّ يضمن لها القُدرة على العمل والنمو، وكان هذا الرَّأي يستند إلى جودة ونظافة النَّشاط التنفيذي الذي تشرف عليه المؤسسة بالمقارنة مع نشاط مسارح التليفزيون، وبخَاصَّة وأنَّ المؤسسة كانت قد أَخَذَتْ تهتم بخَلْقِ وتدعيم هذا الفن الخطير، ومدِّ رِسَالته إلى المحافظات، وبالفعل سَاهمت المؤسسة عندئذٍ في خَلْق وتكوين عدة فِرق في المحافظات مثل فِرق الإسكندرية ودمياط والسويس وطنطا ودمنهور، حيث مَدَّتْها بالخبراء والمخرجين والمسرحيات، وظلت تُساندها حتى عملت فعلًا كل هذه الفِرق ولاقت نجاحًا كبيرًا.
والظاهر أنَّ إدارة مسارح التليفزيون اهتزتْ نَتِيجَةً لصيحات الخطر التي أَطْلَقَها الرَّأي العَام المثقف المخْلِص المستنير، كَمَا خَشيتْ أن تتجه فكرة الإدماج نحو تحويل هذه المسارح إلى المؤسسة، فاستماتت لكي تقدم في السنة التالية موسمًا مسرحيًّا سَلَّمَ الرأيُ العامُّ المثقفُ في فرح واغتباط بأنَّه كان يَفْضُل كثيرًا الموسمَ السابقَ في اختيار المسرحيات، وفي تجويد الأداء الدرامي ونظافته.
وفي العام الماضي تمخضت فكرة الإدماج لسُوء الحظ عن إلغاء المؤسسة، وتحويل اختصاصاتها إلى الهيئة العامَّة للتلفزيون والإذاعة والمسرح والموسيقى، حتى أصبحتْ الهيئة بتكوينها الحاضر عَاجِزَةً عن أن تَحْمِلَ كل هذه المسئوليات على النحو السَّليم الذي يمكن أن يستريح له ضمير هذه الأمة، التي بنت ما يَقْرُب من الألف مصنع، وشيَّدَت السد العالي، ولكنَّها لسوء الحظ لا تزال تجاهد في سبيل بناءِ أعزِّ وأهمِّ ما تملك، ألا وهو الإنسان والمواطن الاشتراكي الصالح المخلص المستنير.
وأكتفي مؤقتًا بأن أُدَلِّل على هذه الحقيقة بأن أُقدم بعض التأملات الواضحة في جهازٍ كانت الكثير من البوادر تُشير إلى قُدْرَتِه على أن ينهض بدور خطير في بناء الإنسان والمواطن الاشتراكي، الذي نرجو لا في القاهرة وَحْدَها، بل وفي كافة المحافظات ومُدن الرِّيف وقراه، بل ومن الممكن أن يمتد تأثيره القوي وإشعاعُهُ المضيء إلى العالم العربي كله، وقد ينهض بمهمة السفارة الثقافية إلى العالم أجمع باسم الشعب المصري، بل الشعب العربي كله.
وأُرَكِّز تأملاتي المتواضعة على أول موسم شهدناه نحن المثقفين في ظل الإدماج الذي تم بطريقة عكسية، أُدْمِجَ بواسطتها الجيدُ تحت سيطرةِ وإشرافِ الرديء، حتى أَوْشَكَ الرديء أن يطرد الجيد من حياتنا على نحو ما يقول قانون الاقتصادي الهولندي الشهير «جرتمام» عندما قال: إنه حيث تُتَدَاول عُمْلَتان لا بدَّ أن تطرد الرديئةُ الجيدةَ من السوق.
وأربأ في هذا المقال عن المقارنة بين نشاط مسرحنا العتيد ونشاط المسرح العالمي التليفزيوني في هذا الموسم الحالي منذ بدايته إلى نهايته المنتظرة، ومدى ما لقي كلٌّ مِنْهُما من رعاية وتشجيع وتدعيم، مع المقارنة بين أحقية كل منهما في الرِّعاية والتشجيع والتدعيم، وهل وُزِّعَ كل ذلك بينهما وفقًا لمدى قدرة كل منهما على تحقيق هدفنا الأسمى، وهو بناء معنوياتِ وعقولِ وأذواقِ وأخلاقياتِ شَعْبِنا على النَّحو الأسلم والأنفع والأجمل والأكثر عمقًا وإخلاصًا.
فأذكر أنَّه كان من المقرر عند المؤسسة قبل أن تَنْزِل بها الضربة القَاضِية أن يُقَدِّم مسرحنا القومي بفرقتيه عدة مسرحيات هادفة من الرَّوائع العالمية مثل «الرجل والسلاح» لبرنارد شو، على أن يُخْرِجها مخرجنا الجاد المثقف الأستاذ عبد الرحمن الزرقاني، ومسرحية «لكلٍّ حقيقته» لبيرانديللو ويخرجها الأستاذ كمال يس، ومسرحية «مدرسة الزوجات» ويخرجها الأستاذ محمد عبد العزيز، ومسرحية لشكسبير يخرجها الأستاذ كمال عيد، ومسرحية «الذباب» أو «الندم» لسارتر ويخرجها المخرج القدير سعد أردش، و«بيرجنت» مسرحية أبسن الشعرية الضَّخمة، ثم وَقَعَ الإدماج، فلم يُقَدِّم مسْرَحُنا القومي — رغم الثروة البشرية الضخمة التي يملكها من مخرجين وممثلين — غيرَ مسرحية واحدة من كل هذه المجموعة من الروائع، وهي مسرحية «الذباب» أو «الندم».
وبالرغم من المجهود الضَّخم الذي بُذل في إخراج وأداء هذه المسرحية العاتية أبى سوءُ الطالع إلَّا أن يُوقِفَ عَرْضَها بعد أحد عشر عرضًا؛ لأنَّ بطلة هذه المسرحية — وهي الممثلة القديرة سميحة أيوب — كانت مطلوبةً لدور في مسرح الحكيم الناشئ لأداء دَوْر في مسرحية اسمها «خيال الظل»، وكأن خيال الظل أنفع وأجدى على مجتمعنا المسكين من «الندم» التي تدعو إلى الشجاعة والرجولة في تحمل مسئوليةِ ما نأتي وما ندع عن اختيارٍ حر كريم، واقتناع عقلي كامل، وترفض الندم الذي قد يظنه البعض تكفيرًا عن حماقاتٍ يأتونها راضين أو مساقين.
وبالرَّغم من فقر المسرح العالمي التليفزيوني في العناصر البشرية القادرة، سواء للتوجيه والاختيار، أو في الإخراج أو التمثيل رأيناه يُنْفِق بسخاء، بل عن بذخ في إخراج العديد من المسرحيات إخراجًا بَلَغَ أحيانًا حدَّ الفضيحة الفنية، مثل ما حدث في مسرحية «هملت» التي أَخْرَجَهَا كبير فناني ومستشاري الهيئة الأستاذ السيد بدير.
وبالرَّغم من فشل هذا الاستهلال فشلًا ذريعًا امتد نشاط هذا المسرح العالمي التليفزيوني واستفحل، بينما انكمش المسرح القومي، انطوت فرقتاه في فِرقة واحدة جَمَعَتْ في عروضها بين المسرحيات المحلية والمسرحيات العالمية، ولم تصل حصيلتُها في الموسم كله إلى أكثر من خمس مسرحيات، هي «شمس النَّهار» لتوفيق الحكيم و«سكة السلامة» لسعد الدين وهبه و«الندم» لسارتر و«طيور الحب» لعبد الله الطوخي، ثم المسرحية الأخيرة التي نرجو أن يتم عَرْضُها في هذا الموسم أيضًا وهي مسرحية «الحلم» لمحمد سالم.
وذلك بينما ستبلغ حصيلة المسرح العالمي غير المضمونة الجودة إلا في القليل النادر، على الأقل اثنتي عشرة مسرحية من بينها، ما كان يجبُ أن يُرْسَل إلى مسرح الجيب مثل «الدرس» مسرحية اللامعقول لأوجين يونسكو، ومنها ما لا يمكن عَرْضُه إلا بلُغَتِهِ الأصلية وهي الفرنسية مثل «المتحذلقات» لموليير التي لا تعرضها المسارح الفرنسية المعاصرة نفسها؛ لأنها تَسْخَر من ظاهرة لم يَعُدْ لها وجود في فرنسا ذاتها، وهي ظاهرة الحذلقة اللغوية التي انتشرت في فترة محددة انقضت منذ ما يقرب من ثلاثة قرون، وهي فترة حكم لويس الرَّابع عشر في فرنسا أيام حذلقة نساء الصالونات الأرستقراطيات.
والأدهى والأمرُّ من كل ما سَبَقَ ما ترامى إليه سمعي أخيرًا من أنَّ هناك نية مبيَّتة لمَنْع مسرحنا القومي العتيد الراسخ القِدَم في الفن مِنْ عَرْض الرَّوائع العالمية المترجَمة في الموسم القادم؛ لكي يحتكِرَ المسرحُ العالمي التليفزيوني هذه الرَّوائع العالمية، ويُنْزِل بها ما يُريد من ويلات، بينما يقتصر المسرح القومي على تقديم المسرحيات المحلية للناشئين وغير الناشئين، وكأنَّه سيتحول هو الآخر إلى مسرح تجارب ينطبق عليه حكمة شعبنا المرة الحزينة التي تقول: «يتعلموا الزيانة في روس اليتامى.»
وأنا لا أملك — لسوء الحظ — غيرَ الصراخ ومناجاة ذوي الأمر فينا أن يكفوا عن شعبنا المسكين كل هذه الويلات، وأن يُولُوا مُشْكِلَتَنا الكبرى — وهي مشكلة بناء الإنسان المواطن الاشتراكي المخلص المستقيم — الاهتمامَ الواجب …