الصحافة … وواجب الأمانة والاحترام نحو الجمهور
قامت بعض الصحف والمجلات بدعاية مُفرطة لمسرحية «الأحياء المجاورة» التي قَدَّمتها إحدى فرق مسرح التليفزيون للجمهور ممهورة بعبارة: «بقلم أنيس منصور.» وقالت الصحف والمجلات: إن الأستاذ أنيس منصور قد أحدث في عالم المسرح حدثًا كبيرًا بتأليفه لهذه المسرحية التي يقوم بعرضها ممثل واحد وممثلة واحدة وجهاز راديو.
واستهل الأستاذ أنيس منصور حملة الدعاية بعِدة مقالات تحدَّث فيها بإسهاب عن حيرته في اختيار اسمٍ لمولوده الجديد البِكر، وأَخَذَ يُشْعِرُنا بمَشَقَّات المخاضِ التي مَرَّ بها! ثم تمخَّضَتْ تلك الدعاية عن نتيجة عكسية؛ وذلك لأنَّها وَصَلَتْ إلى حد إثارة فضول عدد من النُّقاد والمثقفين أنفسهم لمشاهدة هذه المسرحية، وبخاصة وأنَّ مسرح التليفزيون قد اختار لأدائها ممثِّلَيْن كبيرَيْن لهما شعبيتهما، وهما السيدة سناء جميل والأستاذ حمدي غيث. ومن هنا أتت النكسة.
إذ اتضح لهؤلاء النقاد والمثقفين أنَّ المسرحية ليست من تأليف الأستاذ أنيس منصور، وأنه لم يُعانِ مشقة ولادتها، فهي قد وُلِدَتْ من زمن بعيد في خارج بلادنا ومُثِّلَتْ بلُغتها الأصلية على الأوبرا، ثم تناولها الأستاذ سيد بدير بعد ترجمتها بالإعداد للإذاعة، بل وتَحَمَّلَ مشقة البحث لها عن اسم جديد وهو «مَن القاتل»، وأمَّا اسمها الإنجليزي فهو «الأحياء المجاورة» الذي لم يُغَيِّر منه الأستاذ أنيس منصور شيئًا، ولا ندري سِرَّ تلك المشقة التي عاناها في البحث لها عن اسم، اللهم إِلَّا أن تكون مشقة ترجمة الاسم الإنجليزي! بل إنَّ الأُستاذ السيد بدير كان قد تحمَّل منذ أكثر من عشرين عامًا مشقةَ ترجمة هذا الاسم، بفرض وجود تلك المشقة!
وبالرَّغم من تبين النقاد لكل هذه الحقائق المفزعة إلَّا أنهم ظلوا فترةً طويلة يكتفون بالتلميح إليها بدلًا من التصريح والنقد المباشر، وهذه ظاهرة غريبة يجبُ أن نبحث عن أسرارها، وأقَلُّ ما توصف به التخاذلُ في أداء رسالة الصحافة كاملةً، وفي مُقدمة تلك الرسالة عدم كتمان الحقيقة عن الجمهور ولو كانت مُحْرِقة.
المسرحية والرقابة
وأنا بعد ذلك لا أدري كيف أباحت الرِّقابة على الأعمال الفنية مثلَ هذه المسرحية التي تَسْخَر، بل تجرح وتُمَرِّغ في الوحل فلسفة حياتنا الجديدة، وتؤذي إيذاء شديدًا حِسَّنا الأخلاقي والاجتماعي؛ وذلك لأنها ليست مسرحية بوليسية تافهة فحسب، بل هي أيضًا مسرحية هجائية مفزعة لطائفة المدافعين عن حقوق العمال مُمَثَّلين في شخصيةٍ بَطَلُها الذي جَعَله الأستاذ أنيس منصور عضوًا في مجلس إدارة مصنعٍ ممثِّلًا لمصالح العمال.
فهذا الممثل يبدو لنا في المسرحية غيرَ مؤمن برسالته، بل ومُسْتَخِفًّا بها، فضلًا عن أنَّ ما استطاع أن يحصل عليه من مزايا العُمال لا نلبث أن نتبين من المسرحية أنه لم يَحْصُل عليه بفضل مجهوده الخاص أو قوَّة دِفَاعه عن الطَّائفة التي يُمَثِّلُها وإيمانه برسالته، بل حصل عليه؛ لأنَّ مُدير المصنع ومالِك سلطة الإعطاء أو الحرمان الفعلية كان قد نجح في اتخاذ زوجته عشيقة له، حتى مَلَّها وانصرف عنها إلى غيرها، فثارت كبرياؤها المجروحة وانتقمت منه بقتله، غير أنَّ الشبهة حامت حول زوجها بدعوى أنَّه كان خصمًا للمدير بحكم وَضْعه كممثل للعمال في مجلس الإدارة، ولكن الزَّوجة بعد ليلةٍ حافلة بالقلق والانزعاج نتيجة ما يُذيعه الراديو من بحث عن القاتل تنتهي بالاعتراف لزوجها بكل ما حدث، وفي هذه اللحظة يظهر التجديد الضخم الفج المثير لكل شعور إنساني سليم، وأكبر الظن أنَّه التجديد الأساسي الذي أدخله الأستاذ أنيس منصور على المسرحية الإنجليزية؛ إذ نراه يجعل الزوج يرفع ذراعيه في حركة شبه راقصة؛ ليقول لزوجته عندما أخبَرَتْه كيف أن المدير قد أسكرها بالخمر فاستسلمت له، فيرد هذا الزوج المُخْزَى يقول: «وعندئذٍ وَصَلْتِ إلى مرحلة انعدام الوزن!» ولعلَّ الأستاذ أنيس منصور قد ظنَّ أن في مثل هذا القول الرخو السمج نكتةً لطيفةً استمَدَّها من غزاة الفضاء!
فلمصلحة مَن يقدَّم لجمهورنا مثل هذه المسرحية التي تسخر بشكل مخزٍ جارح من فلسفة حياتنا كلها، ومن رجولتنا، ومن إنسانيتنا، ومن المرأة التي هي أُمُّنَا وأختنا وزوجتنا وشريكتنا في معركة الحياة، وليس الاعتبار الأخلاقي هو وحده الذي أفزعني في هذه المسرحية، بل ما ينطق به حوارها كله من استهتار «وزروطة» وتَنَدُّر في غير محله وتظَرُّفٍ بالِغِ السماجة.
والشيء الخطير في مثل هذا الوضع هو أنَّ ناقدًا مثلي، لا يستطيع أن يَمْنَع عن جمهورنا أَذَى مثل هذه المسرحية، وإِنَّما يجبُ أن يَنْهَضَ بهذا العمل الإنساني الضروري لجنةُ قراءة أو ما كانوا يُسَمُّونَه في إدارة التليفزيون بوحدة النصوص، ثم جاء السيد عبد الرحيم سرور، رقيب المصنفات الفنية فألغاها ليستقل هو بالعبء كله، وها نحن نَشْهَد كل يوم ما يَقْطَعُ بعَجْز رِقَابَتِه عن أداء مهمتها، وإنني أهيب بالسيد وزير الثقافة والإرشاد القومي أن يتدارك هذا الوضع الضار، كما أهيب بإخواني من رجال القلم الشرفاء أَلَّا يتهاونوا في واجبهم المقدس نحو شعبنا وثورتنا وأدبنا، وفنوننا التي يجب أن تقوم على تدعيم هذه الثورة وحمايتها، لا على التحايل والتمويه لطعنها من الخلف وتقويض أسسها المعنوية.