المسرح القومي وحافظ أمين
عدتُ من الخارج في أول أغسطس، فعلمتُ أنَّ المسرح القومي قد قَدَّمَ أخيرًا ثلاث مَسرحيات قصيرة للأديب حافظ أحمد أمين فسُرِرْتُ لهذا، وقالت الصحف والمجلات: إنَّ الأستاذ يستحق أن تَصِلَه فِرْقَتنا القومية بالجمهور؛ لأنَّ لديه ما يقوله وما يستحق أن يُقال، وقد اختار لقوله القالب الدِّرَامي، وبالفِعل كانت لجنتنا قد أَقَرَّت عدة مسرحيات من تأليفه مثل «القضية نمرة ٧» و«المدير الجديد» و«كلام جرايد» وعدد آخر غيرها، ولكن لسوء الحظ لم تَقُم الفِرقة بتقديم أي منها.
ثم أُتيحت لي الفرصة في رأس البر أن أشهد المسرحيات الثلاث التي قَدَّمَتْها الفرقة لهذا الكاتب في شهر يوليو أثناء غيابي في الخارج، ولكني رأيتُ فِرْقَتَنا تُقَدِّم هذه المسرحيات القصيرة الثلاث من إعداد حافظ أمين لا من تأليفه، وهي مسرحيات جيدة تحمل كل منها فكرة أصيلة؛ تحسن تجسيدها في صورة درامية مُتْقَنة.
وأولاها مسرحية «الضحية»، وهي مُعَدَّة عن قصة «جي دي موباسان» الشهيرة «كتلة الشحم»، وكتلة الشحم غانية يَحُثُّها مواطنوها البرجوازيون لكي تُقَدِّم جسدها لضابط ألماني في الحرب السبعينية كشرط لأنْ يُعطيهم جوازَ المرور إلى مدينة الهافر، حيثُ كانت لهم مصالح مادية ضخمة، ولكن الغانية ترفض شَرْط الضابط الألماني وضَغْط مواطنيها البرجوازيين، وهذه الفكرة أصيلة يشترك فيها موباسان مع خاله كاتب فرنسا الأكبر فلوبير الذي كان يُعَرِّف البورجوازيَّ بأنَّه مَنْ يُفكر بحقارة، والمسرحية الثانية واسمها «سور العشاق» تُجَسِّد فكرةَ أنَّ المنع إغراءٌ، فرُبَّما تتظاهر أسرتان بالعداوة لكي توثقا رابطةَ الحب بين ابن أحدهما وبنت الآخر، والمسرحية الثالثة وهي «تعدد الأزواج» تجسد فكرة عميقة في فلسفة القوانين، وهي أنَّ القوانين إنما تُعَبِّر عن واقع المجتمع، فإذا تَغَيَّر هذا الواقع لا بدَّ أن تتغير تلك القوانين، وبالفعل نرى رجلين وامرأة تتحطم بهم سفينة على جزيرة مهجورة، فتنبت لدى الرجل الآخر فكرة مُطَالَبة زميله بقبول مبدأ تعدد الأزواج إذا رَضِيَت الزَّوجة، وهي فكرة لم تتحقق في المسرحية طبعًا، كما أنها تبدو لنا شاذة، ولكنها مع ذلك تُعْتَبَر تصويرًا كاريكاتيريًّا عميقًا للفكرة الفلسفية التي ذَكَرْتُها.
لقد ارتحتُ إذن لمشاهدة هذه المسرحيات الصغيرة الثلاث التي أَعَدَّها كاتبنا الموهوب حافظ أمين، وبخاصَّة وأنَّ الممثلين قد أجادوا التمثيل في حدود أدوارهم الصغيرة بطبيعتها، ونجحوا في إيضاح الأفكار التي تُجَسِّدها المسرحيات الثلاث، ولكني خرجتُ مع ذلك من قاعة المسرح المتواضع برأس البر وأنا أتساءلُ: لماذا فَضَّلَت الفرقة القومية البدءَ في تقديم حافظ أمين للجمهور بهذه المسرحيات المُعَدَّة، ولم تبدأ بتقديمه في مسرحيات من تأليفه، مع أنَّ لديها رصيدًا من هذه المسرحيات التي أَجَزْناها في لجنة القراءة.
وأنا أُلِحُّ في هذا السؤال وسأظلُّ أُلِحُّ حتى أجد جوابًا مقنعًا؛ لأنني مؤمنٌ بأنَّ حافظ أمين يستحق أن نُعَبِّد أمامه الطريق؛ لأن لديه ما يقوله، وأنا أُقَدِّر مشقة البدء في الحياة الثقافية والفكرية والأدبية في بلادنا، وقد مَرَرْتُ بنفس التجربة في مطلع حياتي، ولا زلتُ أَذْكُرُ بالفضل وسأظل أَذْكُرُ اليدَ الكريمة التي مدها إليَّ أستاذي الراحل الدكتور أحمد أمين عندما تفضل بوصلي بالجمهور لأوَّل مرة على صفحات مجلة «الثقافة» التي كان يرأس تحريرها في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وذلك بعد أن اقتنع بضميره العادل أنَّ لديَّ ما يستحق أن يُقال للجمهور.
والآن هل ترانا نحنُ الجيلَ اللاحقَ نستطيعُ أن نمد مثل هذه اليد الكريمة للجيل الذي يلينا ما دُمْنَا قد آمَنَّا بأنَّ هُناك كاتبًا يَسْتَحِقُّ أن نُعَبِّد أمامه السبيل، وبخاصة إذا أُتيحت لنا هذه الفرصة النبيلة التي تُمَكِّننا من أن نَقْفُوَ أَثَرَ سلفنا الصالح الكريم العادل في شخص ابن أستاذنا الراحل الدكتور أحمد أمين طيَّب الله ثراه، وهذا الابن هو حافظ أحمد أمين الذي أطالب في عنادٍ وإصرارٍ بأن يُقدمه مسرحنا القومي إلى الجمهور في مسرحياته التي أَلَّفَها وأجازَتْها لجنة القراءة، وهي في رأيي لا تقل جودةً عن المسرحيات المُعَدَّة التي سُرِرْتُ برؤية الفِرقة القومية تُقَدِّمُها له.