المسرح الكوميدي وتراث روض الفرج
لا مِرَاء في أنَّ المسرح الكوميدي أَجْدَر الفنون المسرحية في بلادنا باليقظة والاهتمام لأسباب كثيرة: مِنْهَا أنَّ فن الكوميديا منذ نَشأته الأولى عند اليونان القدماء؛ حتى يومنا هذا كان ولا يزالُ أَلْصَق فنون المسرح بواقع الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية؛ فقد كان مَصْدَرُه — ولا يزال — ما في واقع الحياة من عيوبٍ وفساد وانحراف عن مُثُل المجتمع وتقاليده السليمة وأخلاقياته المعقدة، وهو في ذلك يختلف عن الفنِّ التراجيدي والفن الدرامي الحديث اللذين استقيا من كافة المنابع كالأساطير والتاريخ البعيد وغيرهما، بحيث يمكن القول: إنَّ هذا الفن قد ظلَّ بطبيعته منذ نشأته حتى اليوم الفنَّ الواقعي الصميم، ولا غرابة في ذلك، فسلاح الضحك والسُّخرية قد كان ولا يزال أمضى سلاحٍ في مُحاربة الفساد والانحلال، وعامَّة الناس يرهبون ضَحِكَ الغير وسخريتهم أكثر مما يرهبون الآلام والمحن، مما يجعل من الفن الكوميدي سلاحًا اجتماعيًّا ماضيًا وجزاءًا صارمًا يُوقِعُه المجتمع على الخارجين عن مُثُلِهِ وتقاليده السليمة.
ومنها أنَّ جميع الشعوب شديدة الإقبال على هذا الفن الذي يجد فيه المكروبون تنفيسًا عن كربهم، كما يجد فيه السُّعداء المحظوظون متعةً وتسلية ومزيدًا من الترويح؛ ولهذا لا يجوز أن نُدْهَش إذا رأينا هذا الفن يَلْقَى رواجًا كبيرًا في عالمنا العربي عامَّة وجمهوريتنا خاصَّة مُنذ أن عرفنا فن المسرح حتى يومنا هذا …
وبسبب نجاح هذا الفن يلوح أنَّه الفن المسرحي الذي استطاع على الأخص أن يكون له تقاليد وأساليب في بلادنا، ولكنَّها لسوء الحظ ليست خير التقاليد والأساليب، وأخشى أن أقول أنها تقاليد وأساليب ضارَّة فتَّاكة أكثر منها نافِعَة فَعَّالة، وذلك بحكم أنها تكَوَّنَتْ في عصور التخلف الثقافي والإنساني العام وبين جمهورٍ كان مجنيًّا عليه، وقد قَضَتْ عليه الظروف السيئة بالجهل والتخلف وصفاقة الذوق، والكبار منَّا في السن يذكرون — بلا ريب — مسارِحَ روض الفرج القديمة الهزلية، وجمهورنا الجاهل المتخلف ذوقًا وإنسانية.
ومع كل ذلك يسوؤني أن ألاحظ أنَّنا لم نستطع حتى اليوم التخلص من تلك التقاليد والأساليب، وأخشى ألا نكون قد بَذَلْنَا أيَّ جهد صادق يهدينا إلى هذا التخلص، ولا ريبَ أنَّ السيد الدكتور عبد القادر حاتم قد أَحَسَّ — بصفته المسئول الأوَّل عن حياتنا الثقافية والفنية — بهذه الحقيقة المرة عندما التقيت به ذات يوم، فشكا لي هو نفسه مما لاحظه من إسفاف في بعض المسرحيات التي كانت تُقَدِّمها فِرقة الكوميديا نصًّا وأداء، وطلب إليَّ أن أشترك في لجنتها الفنية على أمل أن أستطيع عمل شيء نَقِي به جمهورنا هذا الأذى، واستجبت لرغبة سيادته ولكنني لسوء الحظ لم ألبث أن تبينت عجزي عن مقاومة تيار هذا الإسفاف العارم لأسباب كثيرة أكتفي بالإشارة فيها إلى عدم تحديد الاختصاصات، وتصارُع المصالح، وانعدام الهدف والرَّغبة في التخطيط السليم، فضلًا عن العلة الكبرى وهي رواسب الماضي وامتداداته عند الكثير من المؤلفين السيئ الظن بالجمهور وعند المخرجين والممثلين، بل والمشرفين أيضًا، حتى دبَّ اليأس في نفسي وأحسسْتُ أنني أخوض معركة دون كيشوتيه بغير سلاح، فعدتُ لأزرع حديقتي كما فعل كنديد فولتير من قبل قانعًا من الغنيمة بالإياب.
فكم من مسرحية قُدِّمَتْ لفرقتنا البائسة بعد تغيير اسمها القديم والتمويه بجدتها، مع أنها من تراث روض الفرج العتيد، أو على الأكثر من تراث نجيب الريحاني أو الكسار أو عزيز عيد، وكم من مرة وُضِعَتْ بين يدي مسرحيةٌ مع همسة مؤذية في أذني تطلب الموافقة عليها؛ لأنَّ صاحبها كتبها خصيصًا لأحد نجوم الهزل مثل فؤاد المهندس أو محمد عوض أو أمين الهنيدي، على نحو ما كان يفعل الريحاني والكسار منذ أكثر من ثُلث قرن عندما كان كل منهم يُمْلِي على المؤلفين شخصية نمطية تحجر في أداء دورها، مثل شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص، الذي كان عندئذٍ يبيع القطن بالمال الوفير الذي يتأبطه لينفقه في سفاهة على غانيات عماد الدين آنذاك، وشخصية عم عثمان النوبي بربري مصر الوحيد الذي كان الكسار يتقمصه ويكشف كَبَوَّابٍ سوءات أولاد الذوات المنحلين الذين يسكنون العمارة ويحولون شققها إلى مواخير وخمارات.
وليس بعد ذلك دليلٌ على ضحالة مثل هؤلاء الممثلين وجمودهم وتحجرهم في هذه الشخصيات النمطية المكررة، وكذلك يفعل نجوم الكوميديا في عصرنا الحاضر، بل ويُقلدهم آخرون تقليد القردة، ولا زلت أَذْكُر كيف أَقْحَمَ المخرج روبير صايغ وأحد الممثلين الشبان لازمة استنشاق النشوق في مَسْرَحِيَّة لم أعثر فيها قط على هذه «التقليعة» عندما قرأت نَصَّهَا، ولكنني لم ألبث أن تبينت أن هذه التقليعة إنما أخذها المخرج والممثل عن أمين الهنيدي في دور الدرويش في مسرحية «حلمك يا شيخ علَّام» لأنيس منصور، وكانت هذه المسرحية المفترى عليها تحمل في الأصل عنوان: «معقولة دي»، وإذا بي أشاهدها على المسرح باسم «الدنيا حظوظ»، وقد مسخها المخرج والممثلون مسخًا مُخزيًا جَعَلَ من مأمور الضرائب الذي كان في النص شخصية شريفة نزيهة نصَّابًا مُدَلِّسًا في سبيل الفوز بابنة أحد الممولين، وبالطبع تحايلت الفرقة لكي تفلت من مشاهدة اللجنة الفنية للبروفة النهائية لهذه المسرحية خوفًا من الاعتراض على مسخها على هذا النحو، وزعموا أنَّ السبب في ذلك كان حلول الصيف وتفرق أعضاء اللجنة، وهذا عُذْر أقبح من الذنب، فقد كان لدى الفرقة عناويننا جميعًا.
ومن أقبح الأساليب التي ورِثها نجوم الكوميديا عن روض الفرج محاولة كل نجم باستمرارٍ أن يُضْحِك الجمهور من شخصه لا من مواقف المسرحية وحوارها، وهذا أقبح أسلوب، بل على الأصح أقبح آفة يمكن أن يَنْكَبَّ بها فن التمثيل الكوميدي كله، وهي السر فيما يُقحمه هؤلاء النجوم على المسرحيات من حركات وأقوال ومواقف التماسًا للتأثير الرَّخيص في الجمهور، وإضحاكه من أشخاصهم المبجلة بدلًا من التزام الدور والقناعة به.
والحجة التي تَتَرَدَّد عن نقص النصوص الكوميدية الجيدة حجة مردودة، وأنا أؤكد عن خبرة أنَّها ليست إِلَّا ستارًا لتغطية سوء الاختيار الذي يحدث أو يملى على الفرقة ورفض كوميديات أكثر جودةً وأقوم سبيلًا، وأنا فوق ذلك لا أدري لماذا نَحْرِم مسرحنا الكوميدي من تقديم بعض المسرحيات الكوميدية المترجمة التي تُعالج عيوبًا إنسانية مشتركة، وبخاصة عندما ترتفع الأصوات بعدم وجود نصوص مؤلَّفة جيدة، وأكبر الظن أنَّ سبب كل هذه «اللخبطة» هو عدم وجود إدارة قوية تخطط للمسرح على نحو ما أَنْشَأَتْ مؤسسة السينما إدارةَ للتخطيط، بالرَّغم من أنَّ مؤسسة السينما تضم شركات للإنتاج لكل منها قدر كبير من الاستقلال المالي والإداري، في حين أن مسارحنا كلها «سلطة» بعضها على بعض …
وإذا كانت إحصائيات الشباك تشهد بنجاحِ المسرح الكوميدي في جذب الجمهور وتحقيق أرباح، فأنا لا أعتبر ذلك مقياسًا للنجاح، وأكبر الظن أنه نوع من القصور الذاتي، بل وأخشى أن أقول: إنه دليل الانحطاط لا الجودة والرقي؛ لأن جمهورنا لسوء الحظ لا يزال مجنيًّا عليه في هذا الميدان بالذات.