«خيال الظل» بين الفن والصناعة
عبَّر الشاعر الفرنسي الكبير جان راسين عن الكلاسيكية المتينة في المسرح عندما قال: إنَّ الفن هو أن تَصْنَع شيئًا من لا شيء … وكان يقصد بذلك الدعوة إلى وحدة الحدث الدرامي وبساطته المادية، على نحو يُتيح للفنان تعمق الغوص في النَّفس البشرية واستخلاص الأبعاد التي ترسم الشخصيات الدرامية وتنجح في إيهامنا بحقيقة الواقع الإنساني الفعلي أو الممكن؛ ولذلك لم يكن عبثًا أن يُطالب الكلاسيكيون الأُصَلَاء بقيام المسرحية الدرامية على نحو يُظْهِرُنا على حقائق النفس البشرية العميقة، وما يتصارع في داخلها للسيطرة على سلوك تلك الشخصيات وتوجيهه.
ثم أعلن الرومانسيون في القرن التاسع عشر الميلادي ثورتهم العاتية على الكلاسيكية ومفاهيمها ومبادئها الفنية الدقيقة المحكَمة، ومنذ تلك الثورة انفتح الباب على مصراعيه أمام الاجتهادات المذهبية والفردية في الأدب الدرامي كله؛ حتى انتهينا إلى مسرح بريخت الملحمي، الذي نَسَفَ الأساسَ العامَّ للفن المسرحي بإحلال فكرة الإيهام والإقناع العقلي محلَّ التأثير الوجداني، عن طريق المشارَكة والاندماج بين الجمهور والممثلين على أساسٍ من قوَّة الإيهام للواقع، بل وجاء أنصار اللامعقول ليُشَوِّهُوا معالم المسرح كله، زَاعِمينَ أَنَّ من واجب هذا الفن — نزولًا على التطور المحزن الذي نزل بالبشر — أن يُقَدِّم للناس صورًا مُفَكَّكة غير مفهومة ولا قابلة للفهم، كمرآة للحياة التي يَحْيَوْنَها اليوم فعلًا.
ولكن هذه الموجة اليائسة المتمردة على الحياة والمنطق لم تلبث أن أَخَذَتْ في التقلص والانقشاع، بدليل ما نراه من مراحل التطور الأخير لأَنْبَهِ أنصار اللامعقول شأنًا وأغزرهم إنتاجًا، وهو يوجين يونسكو؛ إذ نراه ينتقل من اللامعقول إلى ما يمكن أن نُسميه بالرمزية التعبيرية، والتي تُحَاول داخل الإطار الفني والعقلي الضروريَّيْن لهذا الفن أن تُجَسِّد بعض حقائق حياتنا الإنسانية المعاصرة السيئة عن طريق الرمز الشفاف الذي يوحي في وضوح بهذه الحقائق، بل ويُعَبِّر أيضًا عن إحساس البشر نحوها، وهو إحساس يَغْلُب عليه الحزن والتشاؤم.
ومع ذلك؛ فإنَّ الثورة التي شَنَّها الرُّومانسيون على الكلاسيكية قد فَتَحَتْ أبوابًا أُخرى في هذا الفن لستُ أدري متى سنأخذ في إيصالها والعدول عنها هي الأخرى، ومِنْ بين تلك الثغرات تعقيد أحداث المسرحية تعقيدًا مُسرفًا يحجبُ الرؤية الذهنية والانفعال الوجداني أو يكاد؛ لأنَّه يُلْقِي بالمشاهد في أحراش درامية حالكة، قد تشهد ببراعة كاتبها ومهارته المعتَمِدة على الخيال في صناعة هذا الفن على نحو ما حدث في المليودراما ومسرح الجراند جينيول وما يُشبهها، وهو الجانب الذي يُقابل النوع البوليسي في فن القصة، وفي هذا ما يَخْرج بالأدب الدرامي من مجال الفن الصحيح إلى مجال الصناعة الدرامية، فالصِّناعة تبني عشرات المداخن في المصنع الواحد، أمَّا الفن فيكتفي بمئذنة أو مئذنتين أو برجين في المسجد أو الكنيسة اللذين يُعْتَبَر الفن وجماله وجاذبيته من مُقَوِّماتها الأساسية التي تفتح القلوب والعقول لنداء السماء وخشية الرب.
ولقد ظلَّ صديقنا رشاد رشدي يدعو إلى الاهتمام بالشكل والتركيز عليه إلى حدِّ التضحية بالمضمون في سبيل هذا الشكل، حتى قَدَّمَ لنا أخيرًا مسرحيةً أحسبها أقرب إلى الصناعة البارعة منها إلى الفن الإنساني الشفاف، وتلك هي مسرحية «خيال الظل» التي خُيِّل إليَّ وأنا أشهدها — رغم تمتعي بالقدرة على الرؤية بالبصر والبصيرة — أنَّه قد قادني إلى أحراش مُلتفة لم أتبين فيها الطريق الرئيسي من تفريعاته، أو على الأصح الطرق الموازية له، ومع ذلك يُحَاول المؤلف — بقدرة قادر — أن يجعلها تلتقي، وهي حتى بفرض نجاحه في التقاء بعضها بالبعض الآخر لم تُضِف شيئًا إلى فكرة المسرحية الأساسية، وهي ما في الحياة من عيوب وفساد وانحراف عن مُثُل المجتمع وتقاليده السليمة.
وأنا أعلم أنَّ هذه الفكرة ليست جديدة على المسرح، وأنَّ الكاتب الفرنسي المعاصر جان أنوي قد عالجها في أزمة بسيطة مُوحَّدة علاجًا مُوحيًا رائعًا في مسرحية «مُسَافر بلا متاع» المترجمة إلى العربية، والتي تعرض مأساة جندي أُصيب في الحرب إصابة أفْقَدَتْه الذاكرة، فنسي الماضي وارتباطاته ومسئولياته، وأخذ يقطع ما تبقي من شوط الحياة خفيفًا أي: بلا متاع من الذكريات التي تُثْقِل المسافر، وتكشف بوادر العلاج عن إمكان استرداده لذاكرته، وإذا به يُحِسُّ بالمتاع يُثقله من جديد ففرَّ من هذا العلاج وفضَّلَ أن يُواصل شوط الحياة مُتحررًا من عبء ذكريات الماضي تَحَرُّر المسافر من المتاع.
وهذا المتاع — أي ذكريات الماضي — هو الذي سماه رشاد «بخيال الظل»، أي: الظل الذي يُلقيه على حياة الناس فيثقلها ويُعمي سبيلها ويُرهق مَلَكات أصحابها، وقد كان رشاد رشدي يستطيع أنْ يُعَالج هذه القضية في حدود الأزمة التي اعترضت وكيل النيابة عادل الذي كان قد تزوج بعد حبٍّ عميق الفتاةَ عائدة، وكان عندئذٍ يتمتع بحاسة مرهفة يشم بها الحقيقة في تحقيقاته ويضع يده عليها، ثم ساورته الشكوك حول علاقتها بشاب هو حسن فوزي، فطلقها ومنذ ذلك الحين أخذ يُحس بحاسةٍ تزايله، إمَّا على أثر الصدمة التي نزلت به، وإمَّا على أثر زواج عايدة الذي ظلَّ يُلاحقه ويرهقه، حتى الْتقى بسيدة شابة تُشْبهها تمام الشبه، هي سلوى أرملة المستشار السابق الألفي بك، الذي حام الشك حول موته، ونُدِبَ عادل للتحقيق في ذلك.
وظل عادل يتأرجح في هذا التحقيق بين الكشف عن حقيقة موت الألفي، وعن قاتله في حالة ثبوت جريمة القتل، وبين الكشف عن حقيقة سلوى وشَبهها بزوجته السابقة عائدة، وظلت سلوى الماهرة تنقلنا مع عادل بين الحلم الذي يُخاطب فيه عايدة ويسترجع ذكريات حياته معها، وبين الواقع الذي يحقق فيه قضية الألفي بك دون أن نرسو إلى بَرٍّ في كلا التحقيقين.
وكان هذا الخط وحده كافيًا لأن يخلق رشاد فنًّا، ولكنه فَضَّل الصناعة على الفن، فراح يُدْخل في المسرحية خطوطًا متوازية حينًا ومُنْفَرجة حينًا آخر عند هذا الخط الرئيسي، مثل علاقة الفنان الريفي «زوال» الذي فَقَدَ صَوْته كمُغَنٍّ عندما اكتشف ليلة زواجه بالفتاة الريفية التي كانت تعمل في قصر الألفي بك واسمها هدية، عندما اكتشف أنها لم تكن بِكرًا، فأُصيبَ بنوعٍ من الهوس الذي اتخذ مظاهر رمزية غير شفافة مثل تحطيم العرائس وإلباس هدية عدة أثواب بعضها فوق بعض ليستر عرضها، وهذا خط أو موضوع آخر كان من الممكن تعميقه بأسلوب يُغَاير الأسلوب الذي عولجت به مأساة عادل، ولا يَقْنع المؤلف بكل هذا الحشد من العلاقات التي جعلت من المسرحية أحراشًا تحجب الرؤية، بل يُضِيفُ إليها خطأً ثالثًا مشابهًا بعض الشبه لا كله، وهو خط الفتاة الأرستقراطية الرُّومانسية المدللة «لُونا» وذكرياتها الحزينة التي تُلاحقها، فضلًا عن الشخصيات الأخرى التي لا دَوْر لها في المسرحية مثل أُخت الألفي بك وزوجها.
وفي النهاية؛ لا أريد أن أغمط المخرج والممثل القدير كمال يس هو والمجموعة الممتازة من الممثلين الذين أَدَّوْا هذه المسرحية حَقَّهم من الإعجاب والثناء، رغم ملاحظتي الأساسية على المسرحية كلها؛ من حيث غلبة الصنعة فيها على الفن الإنساني السليم.