المسرح المنوَّع ومشاكل الحياة
تَقَدَّمَ لدبلوم النقد والبحوث الفنية في معهد التمثيل العالي في هذا العام ثلاثة طلاب بثلاثة أبحاث يمكن أن تُعْتَبَر رسائل صغيرة.
وليكن حديث اليوم عن «المسرح المنوع» للأستاذ توفيق الحكيم، وقد تقدم ببحثٍ عنه الطالبُ صلاح الدين محمود المتخرج من قسم الفلسفة بالجامعة، قبل أن يلتحق بمعهد التمثيل، وقد تألفت لجنة الامتحان هذا العام من الدكتور شوقي ضيف، والدكتور محمد القصاص، ومحمد مندور.
وبالرَّغم من أنَّ الطالب صاحب البحث قد دَرَسَ في قسم الفلسفة بالجامعة مناهج البحث، وبالرَّغم من أنَّني أنا نفسي قد لاحظتُ بمجرد عودتي من أوروبا شدة حاجة طُلَّابنا ودارسينا إلى مناهج البحث العلمي السليم، فكان من أول ما فعَلْتُ أن قمتُ بترجمة منهجين للبحث في اللغة والأدب كتبهما أكبر عالِمَيْن عَرَفَتْهما فرنسا الحديثة في هذين المجالين، وهما الأستاذان: جوستاف لانسون، وأنطون ماييه.
أقول: بالرَّغم من كل ذلك؛ فإننا لاحظنا أنَّ الطالب قد هَجَمَ على موضوعه دون تريُّث أو تخطيط منهج، وأنَّ كل ما شغله عند بحث ونقد العشرين مسرحية التي يتضمنها المجلد الضخم الذي نشره أخيرًا أديبُنا الكبير توفيق الحكيم باسم «المسرح المنوع»، كان كل همه هو أن يَتبين ما إذا كان توفيق الحكيم قد عالَجَ في هذه المسرحيات القضايا التي أصبحت تستحوذ على لُبِّه ولب زملائه وأمثاله من الشبان أم لا.
فإذا كان توفيق الحكيم قد عالَجَ مثلًا في مسرحية «الأيدي الناعمة» مشكلة العمل وتمجيده وضرورة اتخاذه أساسًا لكسب العيش، على نحو ما توحي فلسفة ثورتنا الجديدة، رأينا طالبنا يأخذ على المؤلف أنه قد عالج مشكلة لا يراها قائمة؛ لأنَّ جميع الشبان مُستعدون الآن، بل متلهفون إلى العمل، ولكن المشكلة الآن مُشكلة البطالة وعدم وجود مجالات واسعة للعمل، وهو يُفَضِّل أن لو عالَجَ توفيق الحكيم مُشكلة البطالة ودعا إلى حَلِّها أو أوحى بحلول لها أو أَظْهَرَ خطورتها، وبالطَّبع لم يوافقه الأساتذة الممتحِنون على هذا الرأي، ونبَّهُوه إلى أن المنهج العلمي السليم يقتضيه أن ينظر فيما قَدَّمَ إليه الكاتب، وهل أَحْسَنَ تقديمه وفقًا لأصول الفن الذي اختاره أم لا، وهل خَرَجَ المؤلف من هذا الغرض إلى هَدَفٍ ظاهر أو خفيٍّ، وإلى أي حدٍّ نجح في استثارتنا لِتَقَبُّل الهدف الذي قَصَدَ إليه وتأثرنا به.
وإذا كان توفيق الحكيم قد عالج في مسرحية «نحو حياة أفضل» مشكلة ضرورة إصلاح النفوس قبل كل شيء، فإنَّ طالبنا لا يُوافقه على هذا الرَّأي، ويرى أنه قد كان من الأفضل أن يُعالج الحكيم مشكلة إصلاح حياتنا الاقتصادية أولًا؛ لأنَّه يرى أنَّ الاقتصاد هو الأساس لكل إصلاح أخلاقي مُنْتَظَر، وهنا لم توافقه اللجنة على هذا التحكم، وطالَبَتْهُ بضرورة تطبيق المنهج العلمي، ونَقْد ما كتب الكاتب بدلًا من اقتراح مشاكل أخرى قد تكون لها وجاهتها، ولكنه من الضروري أن تترك للكاتب حُرِّيته في اختيار موضوعه، وبخاصة إذا لم يكن هذا الموضوع تافهًا ولا خاليًا من النفع الإنساني أو الاجتماعي، فإصلاح الحالة الاقتصادية ليس من المحقَّق أن يكفي وحده لإصلاح النفوس والأخلاق؛ وذلك لأننا إذا كنا نلاحظ ضعفًا في النفوس والتواء في الأخلاق عند بعض الطبقات الشعبية؛ نتيجة لذل الفقر، حتى قيل: إن الجوع يورث الكفر، فإننا نلاحظ أيضًا أن الثراء الفاحش كثيرًا ما يؤدي إلى انحلال الأخلاق، ومن المؤكَّد أن إصلاح النفوس يتطلب جهودًا أخرى غير الإصلاح الاقتصادي، بل إن أرقى النظم والدساتير والقوانين يمكن أن تَفْسُد وتضيع جدواها نتيجة لفساد النفوس وضعف الأخلاق عند التطبيق.
ولقد هالنا — نحن الممتحنين — شدةُ انفعال شبابنا ببعض القضايا دون غيرها، ورغبتُهم المُلِحَّة في أن ينصرف أدباؤنا وشعراؤنا إلى معالجة هذه القضايا دون غيرها، وإلا رفضوا أن يستجيبوا لما يُقَدِّمه إليهم هؤلاء الأدباء والشعراء من فنون الأدب المختلفة، حتى قال أحد زملائنا الممتحِنين إن شبابنا قد أصبحوا الآن في حالة تُذَكِّرُه بالبيت العربي القديم الذي يقول:
فشبابنا اليوم يُشْبِهون إلى حدٍّ بعيد بني جشم الذين لا يريدون أن يعترفوا بشيء غير قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة عمرو بن كلثوم في حالتنا هذه هي المشاكل التي أصبحت تَشْغَل شبابَنا في هذه الأيام، بل وكثيرًا من غير الشبان.
ولقد أَخَذْتُ أفكر — بَعْدَ مناقشةِ هذا الطالب — في سبب هذه الحالة النفسية المسيطرة، وهل هي ترجع إلى مذهب سياسي معَيَّن؟ وانتهى بي التفكير إلى أنَّها في الواقع نتيجة طبيعية للحالة النفسية التي أخَذَتْ تسودنا جميعًا مُنذ أن هبَّت ثورتنا؛ لتقضي على آثار الذل والفقر والاستبعاد، ففتحت النفوس في لهفة للحياة العزيزة الكريمة، واتجهت بقوة دافقة إلى ضرورة إعادة بناء هذه الحياة على أُسس سِليمة، وأَخَذَ شبابُنا يتطلعون إلى المصير ويُطالبون بتجنيد كافة القوى الذهنية والفنية للدعوة إلى تمهيد السبيل لهذا المصير الذي ينتظرهم، وهم يؤمنون بأنَّ الحياة الاقتصادية هي الأساس المتين الذي يجب أن تُبنَى عليه هذه الحياة، فلا الحرية ولا الكرامة ولا الإنسانية يمكن أن تُصَان ما لم تَسْتَنِد إلى حياة اقتصادية سليمة.
وشبابنا لا يجهلون — بلا ريب — مناهجَ البحث ولا روح العلم، وأساتِذَتُهم لا يُقَصِّرون في تبصيرهم بكل ذلك ودعوتهم إليه، ولكن صوت الحياة أَخَذَ يعلو على صوت الأساتذة، والرَّغبة في حياةٍ أكرم أَخَذَتْ تستحوذ على قلوب الشُّبان على نحوٍ لا يُقاوَم، وهم بطريقٍ إراديٍّ يبحثون في كل أدبٍ وفَنٍّ عَمَّا يُروي نفوسهم ويُشْبع رغبتهم ويومِضُ أمامَ أبصارهم ببريق من الأمل يُبَشِّر بالمصير الذي يأملون.
وفي الحق إِنَّنا نحن الأساتذة الممتحِنين قد ذُهِلْنا عندما رأينا طالبًا جامعيًّا مثل صلاح الدين محمود يغفل كل منهج، وكل خطة علمية في البحث ليهجم على موضوعه، ولا يبحث فيه إلا عن الضَّالة التي تَشْغَله، وذلك بالرَّغم من أنَّ مثل هذا البحث كان يحتاج من النَّاحية العلمية إلى منهج وتخطيط، بل وتعريفٍ مبدئي بالموضوع، وبخاصة وأنَّ الأستاذ الحكيم هو نفسه قد أعطى الطالب في مُقدمة مُجَلده إشارات كان من الممكن أن يجدَ فيها أساسًا أو أسسًا لتخطيط موضوعه تخطيطًا منهجيًّا سَليمًا، حيثُ قال: «إنَّ هذا المجلد يضم مسرحيات منوعة في أسلوبها وفي أهدافها، ففيها الجدي والفكاهي، وفيها ما كُتِبَ بالفصحى وبالعامية، وفيها النفسي والاجتماعي والريفي والسياسي ونحو ذلك.»
وبفضل هذه الإشارات كان الطالبُ يستطيع أن يُقَسِّم موضوعه، وأن يُبَوِّبه بدلًا من أن يهجم عليه هذا الهجوم الذي يشبه انقضاض طائر جارح على كومة يبحث فيها عن ضالته.
وبالرَّغم من أنَّ البحث كان يتسع لعدة دراسات فنِّية ولُغوية، إلا أنَّ الطالب كما قلنا قد رَكَّز اهتمامَه على مُناقشة المشكلات التي عالجها الأستاذ الحكيم في هذه المسرحيات المنوعة، والحكم على تلك الموضوعات والموازنة بينها وبين غيرها.
وبالرغم من أنني وزميليَّ الجامعيَّيْن نُؤثر المنهج العلمي، إلا أننا لم نستطع إلا أن نلتمس للطالب العذر عندما رأيناه يندفع اندفاعًا إلى البحث عما قد أصبح اليوم شاغله وشاغل أمثاله من الشبان، وهو الحياة ومشاكلها وضرورة الإسراع في بنائها.