«ماهية مراتي» … مسرحية هادفة
شاهدت أخيرًا مسرحية «ماهية مراتي» التي تقدمها فِرقة المسرح الحر في مسرح الأزبكية، وخَرَجْتُ من مُشاهَدتها وأنا غارق في الدهشة؛ لأنني لم أكد أقرأ عنها شيئًا في الصحف مع كثرة ما قرأْتُ وقرأ الناس عن بعض المسرحيات الأُخرى التي شاهدها الجمهور في هذا الموسم، بل دهشت أكثر من ذلك؛ لأنني لم أَسْمَع عبارة تشجيع واحدة قبل ذهابي إليها، حتى أَوْشَكْتُ ألا أحرص على رؤيتها، وخرجتُ من كل هذا بإحساس مؤلم أودُّ أن أعلم أسراره، ما هو السبب أو الأسباب التي حملت النقاد على السكوت عن الحديث عن هذه المسرحية الناجحة؟ أهو عدم مخالطة مؤلفها «أنور ملك قزمان» للنقاد وعدم معرفته لهم؟ أم هو لأنَّ فرقة المسرح الحر لا تَلْقَى من اهتمام النقاد مثل ما تلقاه الفرقة المصرية رغم ما تبذل من جهد صادق عنيف؟ أم لأنَّ المسرحية لا تستحق الاهتمام؟ وأنا أترك جانبًا الغرضين الأولين؛ لأنهما واضِحَا البطلان، فمعرفة النقاد للمؤلف شخصيًّا أو عدم معرفتهم له لا يصح أن يكون له الاعتبار الأول أو الاعتبار الأوحد في نقد الأعمال الفنية والأدبية.
وأنا لا أعرف المؤلف، كما أنني لا أُريد أن أوازن بين الفِرقة الحكومية والفرقة الحرة، بل وأعترف أنني أكتُب هذا المقال وبين يديَّ بروجرام ماهية مراتي؛ لكي أعرف منه أسماء الممثلين الذين قاموا بالأدوار المختلفة في المسرحية، وأمَّا الذي أعرفه جيدًا فهو المسرحية ذاتها بعد أن شاهدتها وطربت لها، وخرجت من مشاهدتها أَرْوَحَ نفسًا وأكْثَرَ نشاطًا عما كنت قَبْل مُشاهَدتها.
مسرحية المرأة الجديدة
والغريب أنَّ هذه المسرحية تعتبر من الأدب الهادف بمعناه الطبيعي الجيد غير المفتعل، مما كنتُ أحسب معه أن تَلْقَى هذه المسرحية اهتمام شبابنا من النقاد الذين يَدْعون في حرارةٍ إلى هذا النوع من الأدب.
ومسرحية ماهية مراتي غنية بأهدافها الاجتماعية والإنسانية.
فهي تمثل أولًا مرحلة جديدة خطيرة عن مركز المرأة في المجتمع وتطوُّر هذا المركز، ذلك التطور الخطير الواسع الذي نستطيع أن نُدْرك مداه عندما نقارن «ماهية مراتي» بمسرحية «المرأة الجديدة»، التي كتبها كاتبنا الكبير توفيق الحكيم منذ نيف وثلاثين سنة، فهي لا تعالج مشكلة السفور والحجاب التي عالجتها مسرحية «المرأة الجديدة»، وعَكَسَتْ ما كان لا يزال سائدًا عن ذلك من ريبة وشكوك وإشفاق على المجتمع من أن يتطرق إليه الفساد الاجتماعي والانحلال الأخلاقي نتيجة لسفور المرأة وخروجها من البيت إلى ساحات الحياة.
فهذه المرحلة قد تخطيناها وانتصرنا على الريب والشكوك، وجاءت المرحلة الجديدة — مرحلة «ماهية مراتي» — التي نناقش فيها ضرورة عمل المرأة كما يعمل الرجل؛ كي يتعاونا على الحياة، بل وتَوَلِّي المرأة مناصب الرِّياسة والفوز بالثقة في الانتخابات النقابية، ولقد جرى هذا الحديث في «ماهية مراتي»، حيث لَمَحْنا شبح امرأة تدعو للمساواة بين الجنسين وإمكان المفاضلة بين أفراد جنس وأفراد جنس آخر، وإذا كانت هذه المرأة لم ترأس قسمي المصنع فحسب، بل فازت أيضًا على الرجال في انتخابات النقابة، وإذا كنت لم أشهد هذه المرأة المتفوقة على خشبة المسرح؛ فإنني أجزم بأنها لم تَعُدْ غريبة على مجتمعنا.
مغامرة صحفية
وأمَّا عن ضرورة عمل النساء في مجتمعنا الحديث تضامنًا مع الرَّجل في حمل أعباء الحياة، فهذا هو محور المسرحية؛ حيث نشهد عددًا من النساء الإيجابيات الناضجات الوعي، فهذه طالبة تعمل كمسارية في الأتوبيس، ثم تنتقل إلى العمل كوكيلة محامٍ، وتتعلم الآلة الكاتبة لهذا الغرض بعد أن التحقت بكلية الحقوق لتمشي هذا العمل الجديد مع دراستها الجامعية، ولا تزالُ تجدُّ حتى تحصل على الليسانس وتصبح محامية هي الأخرى رغم تواضُع نشأتها الاجتماعية.
وهذه فتاة جامعية أُخرى تعمل في الصحافة وتتزوج الأستاذ خيري المحامي بعد أن تعرَّفَتْ به خلال مغامرة صحفية قامت بها مع أخيه المدرس الأستاذ صلاح الذي ظَنَّهَا فريسة لطيشه، حتى إذا اكتشف أنها هي التي تلهو به لتُعِدَّ ريبورتاجًا صحفيًّا عن حياة غير المتزوجين من الشبان أُسْقِطَ في يده، وتَلَقَّى درسًا صالحًا عن ضرورة احترام المرأة بعد أن تَثَقَّفَتْ واكتمل وَعْيُها.
بل هذه سيدة متوسطة الثقافة هي السيدة نوال التي تَزَوَّجَ منها الأستاذ صلاح المدرس لقرابته لها، ومع ذلك تخرج السيدة نوال عن سلبيتها إلى إيجابية فعالة لتعمل في الصباح في مكتبٍ قَرَّرَ زوجها أن يفتتحه لإرشاد القادمين من الرِّيف عن مظانِّ قضاء حاجاتهم مقابل أجر زهيد ولكنه نافع، وسماه مكتب «دليل المحتار»، وذلك بعد أن اتضح للزوجين أن الضيق المادي هو سبب تنغيص حياتهما الزوجية.
مشكلة تغيُّر العقلية
والمسرحية بعد ذلك تُعَالج مُشكلة إنسانية خطيرة، هي مشكلة تغيير العقلية واستعصاء هذا التغيير أحيانًا، حتى لنلمس أن هذا التغيير لا يمكن أن يَتِمَّ تمامًا إلا بعد الانتقال من جيل إلى آخر، فالشيخ عبد الكريم والد خيري وصلاح لا يزال يحتفظ بمعتقدات الريف ويتمسك بها في عُنفٍ يُثير الضحك، فهو لا يتصور أن تعمل المرأة، بل ولا أن تُسْفِر، وهو لا يزال يفضل المرأة ذات الإرث على المرأة القادرة على العمل والكسب، وهو يغضب وينفعل أشد الانفعال لما يُشاهده من مغايرةِ عقليةِ الجيل الجديد الممثَّل في ولدَيْه لعقليته القديمة المحافِظة.
وأروع من كل هذا أنَّ المسرحية تُؤكِّد لنا أنَّ هذا التطور الواسع في حياة المرأة ومركزها الاجتماعي، وبالتالي في الحياة الاجتماعية كلها، لم ينشأ عنه فساد ولا انحلال، بل على العكس من ذلك، نشأت عنه حصانة اجتماعية قوية، فالفتاة المثقفة المستنيرة مثل حكمت قد أصبحت تستطيع فَهْم نفسية الرجل الفهم العميق، وأنْ تُجَنِّبَه وتُجَنِّب نفسها المآسي التي يمكن أن تنشأ عن الغباء وعدم الفهم، وهذا هو ما نلمسه في موقفنا من الدكتور خيري عندما ظن بسوءِ تفاهُمٍ عارضٍ أنَّ زوجته الصحفية ثريا قد خانته مع زميلها وصديقهما المشترك الأستاذ مجدي، فظنَّ وهو يحترق بنار الغيرة ويتحسر على جنة الحب والوفاء أنه يُحِبُّ حكمت التي تعمل في مكتبه، ولكن حكمت المثقفة فهمَتْ حالته النفسية على حقيقتها، وكشفت له في صراحة وشجاعة عن تلك الحقيقة النفسية، وبصَّرته بأنَّ ما يظنه حيالها ليس إلا التماسًا لتعويضٍ عَمَّا ظَنَّ أنه قد فَقَدَهُ في قَلْب زوجته.
وإنْ كَانَ المؤلف لم يَفُتْهُ أن يسجل في مسرحيته بعض المتاعب والظنون العارضة التي لا بدَّ وأن تنشأ في مرحلة الانتقال الجديدة التي تجابه فيها المرأة كل مسئوليات عملها في المجتمع، وقد تتعرض حياتها الزوجية إلى بعض المتاعب من جراء هذه الأوضاع الجديدة، وأهم هذه المتاعب هي الظنون السيئة على نحو ما نشاهِد في المسرحية عندما نرى الدكتور خيري يثور ويفور وينذر بالويل والثبور عندما يَعْثُر على خِطَاب وجَّهَه مجدي إلى زميلته الصحيفة ثريا زوجة الدكتور خيري، وفيه يُطالبها بأن تحتفظ بالسر المشترك بينهما وألا تبوح به لزوجها، ثم يتضح بعد ذلك بأنَّ السر ليس غرامًا ولا علاقة غير شريفة، بل سرًّا سياسيًّا ومهمة صحفية خطيرة اقتضت ضروراتُ المهنة أن تُسافر ثريا ومجدي من أجلها إلى سوريا مدة شهر ونصف، وقد استوثق الدكتور خيري من هذه المهمة عندما اضطر حمدي إلى أن يُلْقِي بين يديه وثائق هذه المهمة.
المادية التاريخية
والمسرحية تصدر بعد ذلك عن فلسفة واضحة مُحَدَّدة في الحياة، وهي المادية التاريخية التي تُؤمن بأنَّ الاقتصاد هو عصب الحياة، وأنه العامل الأساسي في توجيه سلوك الناس أفرادًا وجماعات، وبالتالي في توجيه التاريخ وتفسير أحداثه ومراحل تطوره، فكل شخصية من شخصيات الرواية تحفزها أولًا المشكلة الاقتصادية وضرورة العمل لملاقاة حاجات الحياة والتسلح في ميدان العمل، الذي لم يَعُدْ لأي فرد رجلًا كان أم امرأة بُدٌّ من اقتحامه في ثقة وشجاعة ليضمن تحرُّره من ذل الحاجة ومن منغِّصات الضيق المادي، وما ينبع عنه من تهديد لسعادة الفرد وسعادة الأسرة، وبالتالي سعادة المجتمع كله.
هذه هي المفاهيم الأساسية التي أَوْحَت بها إليَّ مسرحية «ماهية مراتي»، وهي مفاهيم قريبةُ المأخذ من أحداث المسرحية وشخصياتها لم يكن لي إلا فَضْل إبرازها.