مسرح الأنصار … «وحبر على ورق»
في حياتنا الثقافية اليوم ما يشهد بأن فنَّ المسرح قد أخذ يزدهر ازدهارًا واضحًا يشترك فيه الجمهور ورجال الأدب والمسرح، ثم الدولة نفسها.
فمعهد الفنون المسرحية يُعاد تنظيمه على أسس جديدة ليصبح معهدًا نهاريًّا يتخصص فيه الطلبة المنقطعون إليه، وابتداء من العام القادم سيَضُمُّ المعهد إلى جوار قسمَي «الأدب والنقد» و«التمثيل والإلقاء» قسمًا ثالثًا «للديكور»، وبذلك يُصْبِحُ معهدًا كاملًا مِن المتوقَّع أن تسخو عليه الدولة عند إقرار ميزانيته؛ حتى يتمكن من تعيين نواة لهيئة تدريس دائمة مُستقرة بدلًا من الجري وراء الانتدابات.
وفي مجال التراث الأدبي المسرحي توقَّعَ رجال الأدب وأساتذته من إدارة الفنون التعبيرية بوزارة الثقافة والإرشاد أن تتخذ العدة لتقوم بنشر ما يستحق أن يُنْشَر من مسرحيات رواد هذا الفن، التي لا تزال مخطوطة في مخازن الفِرق، أو التي طُبعت ونَفِدَتْ طبعاتها منذ حين، وذلك لكي يجد الأُدَبَاء والممثلون والنقاد وأساتذةُ الأدبِ في متناوَلِهم خيْرَ ما ظَهَرَ بلغتنا العربية من مسرحياتٍ منذ أن عَرَفَ العالَمُ العربي هذا الفن، أي: منذ مائة عام تقريبًا، ومن حق كل هذه الطوائف أن تُطَالِب مدير هذه الإدارة الجديد الدكتور علي الراعي أن يعمل على ذلك بصفته — أولًا وقبْلَ كل شيء — أستاذًا جامعيًّا يُدْرِك تمام الإدراك أهمية التراث العربي ونشْره كدعامة قوية للنهضة المسرحية التي أَخَذَتْ تظهر بوادرُها القوية.
وإدارة الثقافة بالوزارة تَعُدُّ هي الأخرى العدة لترجمةِ ونَشْرِ عدد من روائع المسرحيات العالمية، ومن أُمَّهات الكتب الأجنبية التي أُلِّفت في تاريخ الأدب المسرحي وفنون المسرح المختلفة، وهو مشروع طيب نرجو أن يسير بخطوات أسرع وعلى نطاق أوسع؛ لأننا لا نزال في حاجة ماسة إلى مزيد من الترجمة عن الآداب العالمية، وبخاصة الأدب التمثيلي.
وفي مجال التمثيل نُلاحظ أنَّ ضغط الرأي العام المثقف قد بَلَغَ أقصاه في المطالبة بإنشاء العديد من المسارح في العاصمة والأقاليم، باعتبار أنَّ وجود عدة دُور للتمثيل هي الأساس في تشجيع تكوين الفِرق التي لا تستطيع أن تعمل بدون تلك الدُّور، والتي يمكن القول بأنَّ خير عَوْن يمكن للدولة أن تقدمه للفِرق هو دُور التمثيل المبنيةُ بناءً حديثًا ملائمًا، والمزودة بما يلزمها من المعدَّات الفنية الضرورية للإخراج والتمثيل، وهناك اليوم عدة هيئات رسمية تبحث هذه المشكلة وتعمل على حلها وتوفير المال اللازم لها.
وإلى جوار الفرقة القومية نرى الدولة تُفَكِّر تفكيرًا جديًّا في إنشاء فِرقة أُخرى تسميها الفرقة العربية، التي ستُكلَّف بتقديم المسرحيات باللغة الفصحى التي تستطيع أن تَفْهَمَها جميعُ الشعوب العربية عندما يُتاح لها فرصة حضور حفلاتها، سواء في القاهرة أو في العواصم العربية الأخرى.
وفي مجال النشاط التمثيلي الحر نرى عدة فرق جديدة تكون إلى جوار فرقة المسرح الحر التي نَجَحَتْ وأكَّدَتْ وجودها وأصبحت تحظى بتقدير الجمهور والدولة على السواء، فهناك فِرقة يقوم اليوم الأستاذان الكبيران يوسف وهبي وزكي طُليمات بتكوينها، ومن المتوقَّع أن تبدأ نشاطها قريبًا على مسرح حديقة الأزبكية الصيفي الذي يُعَدُّ اليوم إعدادًا فنيًّا ملائمًا، كما أنَّ هذه الفرقة ستقدم ابتداء من نوفمبر القادم موسمًا كاملًا.
وأخيرًا وليس آخرًا تأتي فرقة «أنصار التمثيل والسينما»، وهي فرقة عريقة النسب، إذ يرجع تكوينها إلى سنة ١٩١٣ عندما تألفت من جماعة من المثقفين هواة الأدب والفن، فكان اسمها عندئذٍ جماعة أنصار التمثيل فحسب، وكان «الدينامو» المحرك لها هو المرحوم الأستاذ سليمان نجيب، وبالرَّغم من أن نشاطها كان متقطعًا إلا أنه كان يهدف حقًّا إلى الارتقاء بالمستوى الفني لهذا الفن الجميل، ثم توقَّفَ هذا النشاط لظروف تاريخية معينة حتى عادت هذه الجماعة إلى التكوين من جديد في سنة ١٩٣٢ باسم جماعة أنصار التمثيل والسينما، واستأنفت نشاطها المتقطع الجيد مَرَّة أخرى لعدة سنوات، ثم سكتت بعد وفاة المرحوم سُليمان نجيب حتى رأى عددٌ من أدبائنا ومُمثلينا ومُخرجينا المثقفين أن ينفثوا فيها الحياة من جديد، ولكن على أن تكون هذه المرة فرقة تمثيلية كاملة مُسْتَمِرَّة النشاط الموسمي دون انقطاع أو توقُّف إذا لقيت من الجمهور والدولة تقديرًا لمجهودها الكبير.
ولما كانت أَزْمَةُ دُور المسرح لا تزال مستحكمة على أشُدِّها؛ فإن جماعة الأنصار لم تستطع أن تحصل على دار الأوبرا إلا لمدة أسبوعين، قدمت خلال الأسبوع الأول منهما مسرحية «حِبر على ورق»، وهي تقدم الآن في الأسبوع الثاني مسرحية «حُب وجواز»، والمسرحيتان من نوع الكوميديا، ونحن نطالع في البروجرامين الموزَّعَيْن أنَّ المسرحيتين معًا مُقْتَبستان، ولكننا لم نعرف ممن اقتُبِسَتا، حتى لَيُخَيَّل إليَّ أنه إذا كانت الأولى حقًّا مُقتبسة من كاتب أجنبي غير معروف ولا مشهور؛ فإنني أشكُّ كثيرًا في أنْ تكون الثانية أيضًا مقتبسة، وأكبر الظنِّ أن الأستاذ كامل يوسف قد أَلَّفَها تأليفًا، ولعل الجماعة قد حَرَصَتْ على أن تنص على الاقتباس؛ لأنَّ الفكرة التي كانت سائدةً عند جماعة أنصار التمثيل القديمة كانت ترى أن المسرح العربي يجب أن يعتمد على الاقتباس حتى تنضج حركة التأليف في عالمنا العربي.
حِبر على ورق
اقتبس هذه المسرحية الأستاذان محمد توفيق ومحمود السباع، وهما من مُخْرِجي الإذاعة.
والمسرحية من نوع الكوميديا الاجتماعية هي والمسرحية الأخرى «حب وجواز»، ولعل الجماعة قد اختارت هاتين المسرحيتين من نوع الكوميدي؛ لِمَا تَعْرف من أنَّ هذا النوع هو الذي يحظى بإقبال جمهورنا الأكبر، وبخاصة وأنَّ الحوار فيها يجري باللغة العامية، ومن البداهة أنه لا اعتراض لنا على هذا الاختيار؛ لأنه من غير المعقول أن نطالب مثل هذه الجماعة بأن تجازف بتقديم درامات قد لا تحظى من الجمهور بالإقبال الذي يغطي نفقاتها، ومع ذلك فالمسرحيتان تحتفظان في داخل نوع الكوميدي بمستوى فنيٍّ نظيف يرتفع عن مستوى مسارحنا الهزلية المعروفة التي تستقطب عددًا كبيرًا من الجمهور، بحيث تستحق الجماعة التشجيعَ في محاولتها النهوض بهذا النوع من المسرح، وإن كنتُ قد أحسَسْتُ وأَحَسَّ غيري بلا ريب أنَّ مسرحية «حِبر على ورق» تبز أختها في مستوى التأليف والأداء التمثيلي على السواء.
فمسرحية «حِبر على ورق» تنقد نقدًا لاذعًا ما يجري في الكثير من المؤسسات المالية، حيث نرى شابًّا متعطلًا يقتحم مبنى أحد البنوك، حيث يلقى زميلًا سابقًا في الدراسة ويُنْبِئه بأنه متعطل عن العمل منذ حين، وأنه أثناء مروره بأحد الشوارع رأى عددًا من الحمَّالين يقومون بتفريغ أثاث من إحدى العربات، فأقحم نفسه عليهم وعمل معهم حمَّالًا دون أن يفطن أحدٌ إلى ذلك، حتى إذا انتهت العملية رأى صاحب الأثاث ينفحه مبلغًا صغيرًا من المال سد به رمقه، وعلمته هذه التجربة أن في استطاعته أن يُقْحِم نفسه على أي عمل وأن ينتهي بالنجاح في الالتحاق بهذا العمل.
وفي حركة خاطفة نراه يقرر الالتحاق بالعمل في البنك، بل ويتربع على كرسي زميله الخجول القليل الحيلة الذي لا يعرف من الحياة غير النظام والترتيب، ويتناول صاحبنا دفتر التليفون ويفتحه حيث يقع مصادَفَةً على اسم صاحب مصنعِ أسمنت اسمه «بسطويسي»، فيُقرر أن يكتب خطابًا باسم مدير المكتب إلى مؤسسة مالية أخرى يسألها فيه عما تم في مشروع «بسطويسي»، ويستطيع بلباقته واحتياله أن يحمل المدير على توقيع هذا الخطاب موهمًا إياه أنه موظف في البنك، وأنَّ هناك فعلًا مشروع «بسطويسي» الذي يستحق الإنجاز، وبعدة حيل ومفاجآت غريبة ينجح هذا المحتال في أن يُقْنع المدير وعضو مجلس الإدارة المنتدب ومدير المؤسسة المالية الأخرى، بل وممثلي الغرفة التجارية بوجود هذا المشروع الموهوم، وينتهي الأمر باتفاق الجميع على النهوض بالمشروع؛ إذ تكشف المصادفة عن أن مصنع «بسطويسي» موجود فعلًا، ولكنه متوقف عن العمل لحاجته إلى المال، فيقرر الجميع مد المصنع بالمال اللازم، ويعمل المصنع ويزدهر ويُكَافَأُ المحتال بتعيينه مديرًا لهذا المصنع، بل ويتزوج أيضًا من بنت مدير البنك الساذج، وبذلك خلق هذا المحتال مشروعًا واحتل مركزًا كبيرًا بالحبر على الورق، ولا شيء غير ذلك.
والمسرحية كما قلنا تنتقد غباوة وغفلة رجال الأعمال الممثلين في المسرحية، فبمجرد أن يخترع المحتال هذا المشروع الوهمي نرى حضراتهم يتنافسون على تبني فكرة المشروع ونِسْبَتِها إلى أنفسهم، ويتهم بعضهم البعض بضَعْف الذَّاكرة وعدم الدقة في العمل، ومن خلال غباوتهم وغرورهم وغفلتهم ينْفُذ المحتال إلى ما يريد.
والمسرحية تقوم على عدد من المصادَفات بالإضافة إلى كاريكاتير الحياة في تلك الأوساط العجيبة، وعلى الغباء والتخبط الأقرب منها إلى واقعها الفعلي، ولكنها مع ذلك تحمل سمات هذا الواقع وإمكان حدوث مثل هذه التخبطات، وإذا نظَرْنا إلى المسرح على أنه مجهر للحياة، وأنَّ من حقه أن يُبالِغ في تجسيم بعض حقائقها حتى تتضح خفاياها وتبْرُز سماتُها، أَمْكَنَنَا أن نقول: إنَّ المسرحية قد ظلت في حدود النقد الواقعي لجانبٍ من جوانب الحياة، كل ذلك فضلًا عن أن طبيعتها الكوميدية فيها ما يمكن أن يُبَرِّرَ ما في بنائها من مصادَفات، وما في أحداثها وأخلاق شخصياتها من مبالَغات في التجسيم.
وأمَّا التمثيل والإخراج فقد كانا من النوع النظيف، ولولا الدقة في الإيقاع المسرحي ونجنُّب المبالَغة المسرِفة في الأداء لأمْكَن أن تنقلب هذه المسرحيةُ الصعبةُ الأداءِ إلى مجرَّد تهريج مسرحي رخيص، وقد نجح جميع الممثلين في أداء دورهم، وكان الأستاذ أمين وهبة — وهو من أعضاء الجماعة المخضرمين — رائعًا في أداء دور المدير الطيب الساذج إن لم نَقُل المغفَّل، وبخاصة عندما يشتبك مع عضو مجلس الإدارة المنتدب الذي مَثَّلَه الممثل الممتاز أحمد أباظة.
حب وجواز
وأمَّا مسرحية «حب وجواز» فهي الأخرى كوميديا اجتماعية خفيفة، ولكنها فقيرة الأحداث بطيئة الحركة، وبخاصة في الفصلين الأول والثاني، ولولا مهارة الممثلين وفي مقدمتهم الأستاذان كامل يوسف وعثمان أباظة ومحمود مختار وأحمد أباظة والسيدات قدرية قدري وزوزو ماضي وآمال شريف وآمال زايد (أم طلعت) لما استطاعت المسرحية أن تَقِيَ الجمهور شَرَّ الملل والركود.
ومع كل ذلك فإننا نحيِّي الجماعة ونرجو لها مزيدًا من النجاح الذي يُبَشِّر به ما لاحظناه من إقبال الجمهور الرائع، ومن ترحيب الأوساط الأدبية والرَّسمية بعودتها إلى النشاط الفني الممتاز.