«الناس اللي فوق» وفن الأوتشرك
تضاربت آراء مَن يتصدون في الصحف والمجلات؛ لنقد المسرحيات حول مسرحية «الناس اللي فوق» التي قدمها الأستاذ نعمان عاشور للفرقة المصرية، والتي تمثَّل الآن بمسرح الأزبكية، فقال البعض: إنها تُصَوِّر الحياة المصرية قبل الثورة، ورأوا في هذا التفسير حديثًا مُعادًا، وطالَبُوا بأن يَتَّجِه أدباؤنا إلى المستقبَل بدلًا من استمرار العودة إلى التنقيب في الماضي، بينما رأى آخرون أنَّه لا ضرر من الحديث عن ذلك الماضي؛ لأنَّ من لا ماضيَ له لا يمكن أن يكون له حاضر ولا مُستقبَل، وقال نفرٌ ثالث: إنَّ المسرحية خالية من كل موضوع، بل وزعم نفرٌ رابع أن مسرحية «الناس اللي فوق» ليس فيها من أولئك الناس غير عربة الرولزرويس التي بيعت في المسرحية منذ الفصل الأوَّل وانتهى أَمْرُها، وأمَّا بقية المسرحية فمن حثالة المجتمع، وأخيرًا زعم نفرٌ خَامِسٌ أنَّ الممثلين الذين أَدَّوْا هذه المسرحية كانوا يبحثون عن مؤلف يُقَدِّم لهم موضوعًا يستوعب كفايتهم الفذة.
وعندما يستعرض الإنسان كل هذه الآراء يكاد يُصْعَق، فالمسرحية لا تُصَوِّر الماضي؛ لأنها مِنْ أَلِفِها إلى يَائِها تتحدث عن «الناس اللي فوق» بعد الثورة، وهي إذا كانت تُلْقي أضواءً على الأصل الاجتماعي لأناس كانوا قد زحفوا من الحضيض إلى القِمَّة؛ فإن كل هذا لا ينفي أنهم كانوا قد أصبحوا فعلًا من الناس «اللي فوق»، وأن هذا الوضع الذي كانوا قد اكتسبوه لم يكن مقصورًا على الرولزرويس، بل كان يَشْمَل «الناس اللي فوق»، وتوضح كل هذا البذخ الذي كان يعيش فيه عبد المقتدر باشا وزوجته الشابة السيدة رقيقة، وخليل بك شقيق الباشا المدلَّل المستهتر، بل وقنديل أفندي نفسه كسكرتير للباشا، الذي تولى الوزارات المختلفة خلال خمسة وعشرين عامًا، والمسرحية فوق ذلك تَعْكس في عبد المقتدر باشا وأسرته ومن يحيطون به عقلية وأخلاق «الناس اللي فوق»، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتصور كيف رأى بعضُ الصحفيين أنَّ «الناس اللي فوق» هي «الناس اللي تحت»، وأن المؤلف لم يأتِ في هذه المسرحية بجديد، وأنَّ كل ما فعله أنه قَلَب مسرحيته السابقة عن «الناس اللي تحت» وجعلها عن «الناس اللي فوق».
وأمَّا الرأي الذي يقول بأن المسرحية ليس فيها موضوع درامي محدد، فهو رأي قد يكون له بعض العذر، فالمسرحية لا تقوم على بناء درامي على نحو ما أَلِفَت الأصول العامة لفن المسرحية.
وأنا لا أزعُمُ — ولا أستطيعُ أن أَزْعُم — أنَّ مؤلف المسرحية نعمان عاشور قد قصد إلى خَلْق لون جديد في مسرحنا المعاصر، وأنَّه قد ألَّف هذه المسرحية عن قَصْد ووَعْي نقدي بما يفعل، ولكنني أحسستُ، بل تيقنتُ، بأنَّ هذه المسرحية تندرج تحت لون جديد من المسرحيات ابتدعه الكتَّاب الروسيون، وعلى رأسهم مكسيم جوركي، وهو النوع الذي يُسَمَّى بالروسية «الأوتشرك» والذي لم تجد اللغات الأوروبية الأُخرى لفظة تقابلها، فاستخدمت كلها اللفظة الروسية: أوتشرك، وهي لفظة إذا كان النقاد لا يزالون مختلفين في وَضْع تعريف جامع مانع لها على نحو ما عَرَفُوا منذ أرسطو التراجيديا والكوميديا مثلًا، إلا أننا بمراجعة تحليل النقاد — وبخاصة الروسيين رواد هذا الفن — لخصائصها المميزة نستطيع أن نتبين أنهم يقصدون بالأوتشرك كل عمل أدبي يتناول بالدِّراسة قضيةً من القضايا على الطبيعة، ويعرض هذه الدراسة في صورة أدبية فنية.
وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيعُ أن نقول: إن «الناس اللي فوق» ليست مسرحيةً بالمعنى التقليدي، ولكنها «أوتشرك»، أي: أنها دراسة درامية لقضية من القضايا، وهذه القضية في مسرحية نعمان عاشور هي قضية التغييرات التي أحدثتها ثورتنا الأخيرة في البناء الطبقي لمجتمعنا، وفي عقلية وأخلاق كل طبقة من طبقات المجتمع الثلاث، وبخاصة طبقة «الناس اللي فوق»، وهي طبقة لم يكن المؤلف يستطيع أن يَقْصُر مسرحيته على تصويرها؛ لأنَّ عقليتها وأخلاقها وما طرأ عليهما من تغيير لا يمكن أن تتضح إلا باحتكاكها بالطبقتين الأُخريين.
ففي هذه المسرحية يُمَثِّل عبد المقتدر باشا وزوجتُه رقيقة هانم وأخوه خليل بك وابنتُه تيتي الطبقةَ العليا، وتمثل السيدة سكينة أخت رقيقة هانم وابنها المهندس حسن أفندي وابنتها جمالات الطبقة الوسطى، بينما تمثل الخادمة أم أنور وابنها أنور — الذي نجح في الحصول على ليسانس الحقوق وتَطَلَّع إلى الزَّواج من جمالات — الطبقة الشعبية، التي كانت تُسَمَّى بالطبقة الدنيا.
والموضوع الخطير الذي تناوله المؤلف في مسرحيته هو محاولة استخدام الفن الدرامي، أي: التخطيط النفسي في تصوير التغيرات التي أحدثتها الثورة في عقلية كلٍّ من هذه الطبقات الثلاث وأخلاقها وطريقة نظرها إلى الحياة، ومقياس الحكم على نجاحه أو فشله في هذه المحاوَلة هو أن ينظر النَّاقد في مقدار نجاحه في التقاط تلك التغيُّرات ورسمها بالخطوط الدرامية، أي: بالخطوط التي اختارها من بين تصرفاتهم، باعتبارها قَسَمَات طرأت على شخصياتهم، وأصْبَحَتْ في ملامحهم الاجتماعية.
وننظر في هذه المسرحية فنرى الطبقة العُليا تنكشف سوءاتها بعد أن ألقت الثورة عن حياتها النقاب، فخليل بك الذي كان يتمسح بجاه أخيه الباشا ويستغل ذلك الجاه نراه أَوَّلَ من ينقلب على أخيه، وإن نَكَّر هذا الانقلاب المخزي في ثوب الشفقة بأخيه والحرص على سلامته، وما يرتفع الستار حتى نرى خليل بك هذا يهجم على أخيه — الذي أثقلته السنون والأحداث — هجومًا عنيفًا باسم الحرص على مصلحته، فيدعوه في حدَّة تَقْرُب من الشماتة إلى أن يصحو هو وزوجته الهانم من غفلتهما ويُدركا ما أحدثَتْه الثورة من تغيير شامل في الحياة، ويُقْلِعَا عمَّا اعتادا من بذخ وأبهة كاذبة، بل ويَشُنُّ على أخيه حَرْب أعصاب يوهمه فيها أنَّ من واجبه أن يتخلص فورًا من سيارة الرولزرويس رمز العهد البائد …
والناس اللي فوق إذا كان مَجْدُهم الزَّائفُ في العهد الماضي قد حَمَلَهُمْ على أن يترفعوا عمن هم دونهم، حتى ولو كانوا من ذوي قرباهم، نراهم بعد الثورة يُذَكِّرون أولئك الأقرباء الذين كانوا قد هجروهم أيامَ العز، وهذا هو ما نشاهده في المسرحية عندما نرى رقيقة هانم تعود إلى زيارة أختها المتواضعة الست سكينة بحي الحلمية، وإن يكن هؤلاء الناس اللي فوق لم يستطيعوا بعدُ أن يغيروا عقليتهم التغيير الكامل الذي تستوجبه الثورة، فهذا التغيير ليس أمرًا سهلًا ولا سريع المنال، وبخاصة عند الأشخاص الذين طال إِلْفُهم لهذا النوع من الحياة الفاسدة المتغطرسة.
وبالفعل نرى رقيقة هانم متمسكة بعقليتها؛ فهي تريد أن تزوج ابن أختها حسن المهندس من ماهيتاب بنت أحد الإقطاعيين البائدين، كما أنها لا تستطيع أن تتصور كيف يجرؤ شخص مثل قنديل أفندي سكرتير الباشا السابق أو أنور ابن الخادمة أم أنور أن يفكر في الزواج من جمالات حتى بعد حصوله على ليسانس الحقوق.
ومن خلال المسرحية نحس أنَّ المؤلف يرى أن الطبقة الوسطى هي التي استطاعت الثورةُ أن تحرر حقًّا عقليَّتَها من رواسب الماضي، وبخاصة الجيل الجديد من أبناء تلك الطبقة؛ وذلك لأننا وإن كنَّا نرى الست سكينة بنت الطبقة الوسطى لا تَقْبَل أن تتزوج بنتُها جمالات من أنور بحكم تَقَدُّمها في السن وتحجُّر عقليتها، إلا أن جمال وحسن يُرَحِّبان بهذا الزواج ويوافقان عليه رغم أنْف أمهما التي لا تزال مُتخلفة عن رَكْبِ الزمن، كما أنَّ حسن يرفض رفضًا حاسمًا أن يتزوج من ماهيتاب أو أن يعرف عنها شيئًا، ويفضل أن يتزوج من تيتي بنت خليل بك بعد أن هجرت هذه البنت المسكينة منزل أبيها المنحل الذي يُعاشر الراقصات ويهمل ابنته إهمالًا لم ترَ معه بُدًّا من أن تهجر بيته لتلجأ إلى بيت سكينة المتواضع، وتفضل هذا البيت على بيوت أقربائها الآخرين.
وأمَّا الطبقة الشعبية التي كانت تُسَمَّى بالدنيا، فإنها وإن كانت قد أَخَذَتْ تُحَاوِل أن تُقْنِع نفسها بعد الثورة بأنها ليست بأقل من الطبقتين الأخريين، إلا أنها في المسرحية لا تزالُ تُعاني من مُرَكَّب نَقْص شديد، وقد نجح المؤلف من الناحية الدرامية في تصوير هذا المركب نجاحًا رائعًا في شخصية أنور وشخصية أُمِّه، ولأول مرة — فيما أظن — يرى مسْرَحُنا الحديثُ في شخصية أنور شخصيةً دراميةً فريدة تَلْعَب دَوْرَها وتُخَطِّط ملامحَها النفسية بالصمت والسكون، أكثرَ مما تلعب ذلك الدور وتخطط تلك الملامح بالكلام والحركة، فأنور يظهر على المسرح منكمشًا ساكنًا أمام السادة القدماء، ولا يكاد ينبس بشيء غير طلب يد جمالات في ألفاظ عصبية بالغة الاقتضاب.
ولم يترك المؤلف هذه الحالة النفسية غامضة على المشاهدين، بل استغَلَّ أحدَ المشاهد استغلالًا ماهرًا عميقًا ليُفَسِّر هذه الحالة النفسية، وذلك عندما دهمَتْ رقيقة هانم أم نور وابنها أنور في منزل أختها سكينة عندما ذهبا لخطبة جمالات بعد أن طردت أم أنور من خدمة الباشا، فاستولى الهلع على نفس أم أنور بنوع خاص، وطلبت إلى أهل المنزل أن يَدُلُّوها على مخرج تتسرب منه إلى خارج البيت، فأخْبَرَهَا حَسَن أن منزلهم ليس له غير مخرج رئيسي واحد هو الذي ستدخل منه رقيقة هانم، ولكن لديهم سلم الخدم، وأشار إلى ذلك السلم إشارة طبيعية لا تُخْفِي أي قصد سيئ، ولكنَّ أم أنور وابنها أنور حملا الأمر محملًا سيئًا وظنَّا أن حسن الطيب النية إنما يُعَرِّض بهما عندما تفوه بلفظة سلم الخدم، وثارت ثائرتهما على نحوٍ لم يَدَعْ مجالًا للشك في أنَّ هذه العبارة قد أثارت في نفسيهما مركب النقص.
هذه بعض ملامح التغييرات التي أراد المؤلف أن يرسمها بخطوط درامية في طبقاتنا الاجتماعية المختلفة نتيجة لثورتنا الأخيرة، وهي تغييرات لم نُحَاول أن نستقصيها؛ لأنَّ المسرحية غنية بها، ولكننا اخترنا بعضها لندل على النوع الفني الذي يمكن أن تندرج تحته مسرحية «الناس اللي فوق»، وهو النوع الذي أصبح العالم كله يَعْرِفه اليوم باسم «الأوتشرك».
وأنا لا أدَّعي أن فَهْم المؤلف لِما صار إليه مجتمعنا بطبقاته المختلفة بعد الثورة فَهْمٌ لا يقبل المناقشة، ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أُنْكِر ما في معظم تخطيط هذه المسرحية من صِدْق وفَهْم ومُطابقة الواقع، فقد يستطيع بعض المفكرين أن يُنكر عَدَم قدرة الشعب على تخلصه من عُقَد الماضي، وقد يرى البعض الآخر أن الثورة لم تُحَرِّر عقلية الطبقة الوسطى بقدر ما حَرَّرَت عقلية الشعب، أو أنها قد حَطَّمَت نهائيًّا عقلية الناس اللي فوق وفسادها، ولكن كل هذه الآراء لا يمكن أن تَسْلُب هذه المسرحية قيمتها من حيث أنها دراسة ذكية للمجتمع المصري بعد الثورة، وبخاصة أن المؤلف قد استطاع بروح الفكاهة المصرية الخفيفة المتطورة في طبيعته أن يقدم هذه الدراسة لجمهورنا في صورة خفيفة مَرِحة يحبها حبًّا لا شك فيه.
وقد استطاع ممثلو فرقتنا ومُخْرِجها أن يؤدوا هذه الدراسة بروح حية أعْطَتْها كل مقومات الفن الكوميدي السليم في غير ابتذال ولا تهريج ولا اجتذاب رخيص للتصفيق، حتى ولا في خاتمة المسرحية؛ حيث يرتفع الحاجز الوهمي لكي يستنجد عبد المقتدر باشا بالجمهور؛ أي بالشعب، ويطلب إليه ألا يتركه فريسةً لمن لا يزالون متمسكين بأذيال الماضي المندثر كرقيقة هانم.