«الفراشة» … مسرحية كلاسيكية
شاهدتُ في الأوبرا فِرقة المسرح الحر المجاهدة وهي تَعْرِض مسرحية الفراشة، تأليف الدكتور رشاد رُشدي، رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وهي مسرحية سَبَقَ لي أن طالعتُ نَصَّها قبل أن تُمَثَّل.
وقد أثارت هذه المسرحية في نفسي عِدَّة خواطر.
فكاتب المسرحية أستاذٌ دَرَسَ فَنَّ الدراما دراسة أكاديمية، تعتز بداهةً بالمذهب الكلاسيكي، الذي تَبَلْوَرَ بنوع خاصٍّ في فن المسرحية أكثر مما تبلور في فنون الأدب الأُخرى كالقِصَّة أو الملحمة أو الشعر الغنائي، ومن مُؤَلَّفات الدكتور رُشْدي وندواته النقدية نتبين أنه من المتحمسين للكلاسيكية، ولا ضَرَرَ في ذلك، بل فيه كل النفع؛ لأننا نَوَدُّ أن لو قامت لَدَيْنَا مدارس مختلفة في الأدب والنقد إلى أن تنصهر في نفوسنا كل هذه المدارس؛ لِنَخْلُص بعد ذلك إلى مدرسة أصيلة لنا.
ومسرحية الفراشة تُعتبر مسرحية كلاسيكية؛ لأنَّها تقوم أولًا وقبل كل شيء على الصراع، وإن كُنَّا نختلف مع صديقنا المؤلف على نوع الصراع، أو على الأصح محور الصراع الذي تجري عليه أحداثها، فالدكتور رشدي يرى في الكلمة التي قَدَّمَ بها مسرحيته إلى الجمهور أنها «تمثل للصراع بين القيم الروحية والقيم المادية التي طَغَتْ على مجتمَعِنا الحديث». ونحنُ لا نرى هذا الرأي، ومن حق الناقد أن يُخَالِفَ الأديب في تفسيره لعمله الأدبي، فالصراع في هذه المسرحية ليس بين القيم المادية والقيم الروحية، بل بين مفهوم للحياة ومفهوم آخر.
فبطلة المسرحية السيدة سميحة التي يُشَبِّهها المؤلف بالفراشة، ابنة لأحد البشوات المُتْرَفين السفهاء المنحلين، وقد مات أبوها وتزوجَتْ من أديب من الطبقة الوسطى هو الأستاذ رمزي، الذي يعتقد أن له رسالة أدبية ثقافية ووطنية، رسالة يُريدُ أن يُؤديها ويَتَّخِذَ منها هدفًا لحياته، بينما ترى الفراشة المدللة المنحلة، هي وأمها أرملة الباشا وجميع أصدقاء الأسرة من أهل النفاق والإنفاق، أنَّ الأستاذ رمزي يجب أن يُقْلِع عما يسميه رسالة ليتجه إلى كسب المال من أي طريق.
والأستاذ رمزي لا يحتقر المال ولا يجهل دَوْرَه في الحياة وضرورة الحصول منه على ما يَحْفَظ الكرامة، ويضمن الحياةَ المعقولة له ولزوجته، ويعتقد أنَّ في كسبه من العمل الأدبي ما يُوفِّر له سُبُل العيش الكريم، وقد صَرَّح برأيه في أكثر من موضع من المسرحية، وبخاصة عندما ثار في وَجْه زوجته وطلب إليها أن تنتقل معه إلى سكن خاصٍّ بدلًا من البقاء في منزل أبيها الباشا المرحوم وجوِّه الفاسد.
وعلى هذا الأساس لا يكون هناك تعارُض بين القيم الروحية والقيم المادية، فالأستاذ رمزي ممثل الروحية في المسرحية لا يَتَنَكَّر لحسن الحظ للقيم المادية ولا يُهْمِل شأنها، ولا أظُنُّ أن صديقنا الدكتور رشدي يهمل أو يتجاهل تلك القيم هو الآخر مهما تجَهَّم للمادية وبخاصة المادية التاريخية.
الأستاذ رمزي ليس إذن عدوًّا للقيم المادية في مسرحية الدكتور رشدي نفسه، وإنما هو عدو لفَهْم خاصٍّ لوظيفة المال في الحياة، فهو من أولئك الذين يؤمنون بأنَّ خير المال ما أغناك عن سؤال الناس، وأنَّ المال إذا أصبح هدفًا في ذاته أو وسيلة للترف والانحلال والفساد وَجَبَ احتقارُه ومحارَبَتُه.
ولقد كان من الممكن أن يتخذ الأستاذ رمزي موقفًا أكثر إيجابية من الفراشة وأهلها، ولكنه فيما يبدو كان مُخَدَّر الإرادة بالحب الذي استأنسه للفراشة وأهلها، حتى رأيناه يستسلم لما دبرته الفراشة بواسطة أصدقاء أسرتها من تعيينه مديرًا لإحدى الشركات بمرتب مائة وخمسين جنيهًا في الشهر بدلًا من الخمسين أو الستين التي كان يكسبها شهريًّا من الأدب.
وظلَّ الأستاذ رمزي مديرًا للشركة ومنقطعًا عن الأدب لمدة أربع سنوات، ولكنه وَجَدَ نفسه غريبًا في ميدان المال والأعمال، غيرَ قادر على أن يتكيف مع ما فيه من أوساخ، حتى انْتَهى به الأمر إلى الفصل من الشركة على أَثَر ضَبْطِه لأحد أبناء الباشوات وهو يختلس من الشركة، وبخروجه منَ الشَّركة رأينا الفراشة تنصرف عنه ظَانَّةً أنه قد انتهى وتحطَّمَ، وتُصَادِق الفراشة رجلًا مُنحَلًّا من أصدقاء الأسرة، هو سامي بك الذي صاحَبَ أو على الأصح ادعى العشق لسميحة ولأختها ناهد الأرمل الشابة في نفس الوقت، وينتهي الأمر بالفراشة إلى طَلَب الطلاق من الأستاذ رمزي وتُصَارحه بأنها تَطْلُب الطلاق لتتزوج من سامي الذي تحبه، ولا يطيق رمزي هذه الصدمة فينتحر كمدًا.
ومخازي هذا الوسط المنحل لا تقتصر في المسرحية على سميحة التي تحكي الفراشة في نزواتها المجنونة، بل تمتد إلى عدد من الأزواج والزَّوجات المنحَلِّين من أصدقاء الأسرة مثل عدلي بك وزوجته سناء، التي نعلم في آخر المسرحية أنها قد انتهزت فرصة سفر زوجها عدلي إلى الخارج في إحدى المهمات؛ لكي تتفق مع سميحة على السفر إلى الأقصر، حيثُ تلتقي سميحة بسامي بك، وتلتقي سناء بعشيق لها لم نَرَهُ، اسمه الدكتور خيري، وكأن سناء قد أصبحت فراشة أخرى، وكان من الممكن أن تكتفي المسرحية بفراشة واحدة.
وأمَّا الفتاة هدى؛ فقد كان وجودُها في المسرحية عَامِلَ توازُنٍ هامٍّ؛ وذلك لأنها وإن تكن من أقرباء الأُسرة إلا أَنَّها كانت أكثر شرفًا وكرامة، فهي لم تُطِق الحياة مع الزَّوج الغليظ الثري توفيق بك الذي اختارته لها الأسرة، فانفصلت عنه بعد ستة أشهر لا لتنخرط في الفُحْش، بل لتَلْتَحِق بالجامعة حتى تواصل دراسَتَها التي قطعها الزواج، ثم لتتزوج بعد ذلك من الصحفي المكافح الوطني الذي يتفق معها في مفاهيم الحياة، وهو الأستاذ «صلاح» صديق رمزي الذي نُكِبَ بالفراشة وكأنه نَحْسُه المحتوم.
المضمون الإنساني
وفي رأينا أنَّ المضمون الاجتماعي الإنساني لهذه المسرحية هو أنَّ السعادة الزَّوجية لا يمكن أن تقوم على الحب الجنسي وحده، ما لم يتدعم هذا الحب بمفهوم مشترك للحياة بين الزوجين، فهي مأساة زواج غير متكافئ، وليس عدم التكافؤ فيها ناشئًا عن اختلاف في الطبقة الاجتماعية، أو في النظر إلى القِيَم المادية والروحية ولا تَفَاوُت السن، وإنما هو نابع من اختلاف مفاهيم الحياة، وهذا التفسير أخذناه من نص المسرحية، وأمَّا تفسير الدكتور رشدي فرُبَّما يكون له أصل في فلسفته الاجتماعية العامة، ولكن لحسن الحظ لم يَبْرُز في مسرحيته، وما أظُنُّنا في حاجة اليوم لأنْ نُهَاجِم القيم المادية ونُعَارض بينها وبين القيم الرُّوحية بعد أن أَيْقَظَتْنا ثورتنا الأخيرة إلى أهمية القيم المادية في الحياة، وأصبحت فلسفة حياتنا الجديدة تتجه وجْهة رفيعة يجبُ أن نُساعد على تعميقها؛ لأنها تتمشى مع فلسفتنا السياسية الجديدة والتفكير العلمي الحديث.
اللغة والدراما
ومسرحية الفراشة تعبر في لغتها العامية التي لا تصلح إلا للكوميديا المحلية، بينما تفضلها الفصحى في المسرحيات المترجمة والمسرحيات التاريخية، ثم الدراما الجدية بوجه عام.
ومع ذلك؛ فقد استخدم الدكتور رشدي اللغة العامية في كتابة هذه المسرحية الكلاسيكية التي يَصِحُّ أن نُسَمِّيها تراجيديا عصرية، والدكتور رشدي بعمله هذا إنما يُجَدِّد اتجاهًا عَرَفَهُ مسرحنا العربي في أواخر الربع الأول من هذا القرن، عندما كان مسرح فناننا الكبير يوسف وهبي يُقَدِّم الدرامات والميلودرامات باللغة العامية، مثل مسرحية «الذبائح» لأنطون يزبك.
وإنه لمن الأهمية بمكان أن نُلاحظ أنَّ العامية التي يكتب بها أدباء اليوم كوميدياتهم تختلف اختلافًا كبيرًا عن العامية التي اسْتُخْدِمَت في كتابة الدراما، فعامية الكوميديا عامية تحرص قبل كل شيء على اللون المُحَلَّى الذي ينبعثُ عنه جانب كبير من الإضحاك، وأمَّا عامية الدراما؛ فإنها عامية يصحُّ أن نُسَمِّيها بالعامية الجزلة، وجزالتها تأتي من جزالة المعاني التي تُعَبِّر عنها والأهداف التي ترمي إليها، حتى لأذكر أنَّ بعض من حضر مسرحية الفراشة قد رأوا أنَّ المؤلف قد حَمَّلَ حوارها العامِّيَّ من المعاني النفسية والاجتماعية أكثر مما يُحْتَمَل، وأنا بالبداهة لا أُقِرُّهم على هذا الرأي، فما يجوز أن يكون استخدام العامية سبيلًا إلى التفاهة أو السطحية ما دامت تلك العامية تستطيع أن تستوعب المعاني والخواطر الأكثر عمقًا وجدية.
الأداء التمثيلي
وأمَّا عن الإخراج والأداء التمثيلي فيُخَيَّل إليَّ أنَّ فِرقة المسرح الحر كانت تستطيع مزيدًا من التجويد والصقل في أداء هذه المسرحية الكلاسيكية بحكم ما اعتدنا أن نَشْهَد في إخراجها وتمثيلها لعدد من المسرحيات السابقة، فقد أحسَسْتُ وبخاصة في أداء دور البطل، وهو الأستاذ رمزي، وبخاصة في المقطع النهائي للمسرحية وهو مشهد انتحاره، أنَّ الحركة كانت في حاجة إلى مزيد من الطبيعية ومُشَاكَلة الحياة عندما انْتَقَلَ من غرفة النوم التي انتحر فيها إلى غُرْفَة المكتب أو رُكْن المكتب في الصالة، ولكنني مع ذلك لا زلت محتفظًا بثقتي الكاملة في هذه الفرقة المجاهِدة المثقَّفة.