«سقوط فرعون» أو السلام المسلح
حضرتُ منذ أيامٍ مسرحيةَ «سقوط فرعون» تأليف الأستاذ ألفريد فرج، وإخراج الأستاذ حمدي غيث بمسرح الأوبرا، حيث تعمل الآن فرقتنا المصرية، ولاحظتُ أثناء العرض أن المشاهدين كان أحدهم يسأل الآخر عما يُريد المؤلف أن يقوله في مسرحيته، كما أنَّ بعضهم كان يسأل البعض الآخر في نهاية كل فصل عما إذا كانت المسرحية قد انتهت أم لا تزال لها بقية.
ومسرحية «سقوط فرعون» من نوع المسرحيات ذات القضايا، أي: من المسرحيات الذهنية التي تُعالج قضية من القضايا، والقضية في حالتنا هذه هي قضية السلام، فالفرعون إخناتون الذي عُرِفَ في تاريخ مصر القديمة بالدعوة إلى التوحيد وإلى المثالية الأخلاقية يَعْتَنِق في المسرحية سياسة السلام المُطْلَق، ويدعو إلى هذه السياسة، ويرفض أن يلجأ إلى الحرب لأي سبب كان، بينما كهنة آمون الرَّجعيون يرفضون هذه السياسة ويَدْعُون إلى الحرب للمُحَافَظة على المستعمرات المصرية في آسيا وأفريقيا، وأرسل هؤلاء الكهنة واحدًا منهم إلى قائد جيش إخناتون ليُغْريه بالخروج على سياسة فرعون وتسيير الجيش لقمع المستعمرات، وينجح الكاهن اللبق الداهية في مُهمته فيغري القائد بهذه السياسة، بل ويغري أيضًا زوجة فرعون نفرتيتي بنفس السياسة.
ويحسُّ فرعون بهذه المؤامرة فيأمر بوضع قائده وزوجته في السجن، ولكن القائد لا يلبثُ أن يهرب من السجن ليقود جيشه إلى الحرب، ويدرك إخناتون أنَّ سياسة السلام المُطْلَق التي يدعو إليها لا سبيل إلى تحقيقها، بل وينتهي به الأمر إلى الاعتقاد بأنَّ هذه السياسة لا يستطيع أن يعتنقها ويبشر بها إلا نبي، وأمَّا الملوك فلا سبيل إلى اعتناقهم مثل هذه السياسة غير العملية، وعلى أساس هذا الاعتقاد يتنازل عن المُلك لابنه الأكبر مفضلًا أن يتفرغ لنشر رسالة السلام في الأرض كنبي متجوِّل، وما أشبهه عندئذٍ بالسيد المسيح نبي المحبة والسلام، كما أن الممثل القدير الأستاذ حسين رياض رسول كهنة آمون إلى قائد جند إخناتون قد ذكَّرَنا بشكل واضح رائع بأنطونيو في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، وبنوع خاص بخطبة أنطونيو الشهيرة في شعب الرومان، وهي الخطبة التي استطاع فيها أن يؤلِّب الشعب الروماني ضد الرجل الفاضل بروتس، مستخدمًا ذلك الدهاء العميق الذي يهدهد به الشعب المحب لبروتس الشريف، ويُسَلِّم فيها بنبل بروتس ثم ينتقص من هذا النُّبل شيئًا فشيئًا حتى يأتي عليه، وعندئذٍ يَسْهُل عليه أن يُثير الشعب ضد بروتس الذي تآمر على قتل يوليوس قيصر، وأكبرُ الظَّن أنَّ الأستاذ ألفريد فرج قد تأثر في التعبير عن الدعوة إلى السلام بتعاليم الإنجيل السمحة الخيرة.
لسان السياسة
وفي المشهد الذي يجري داخل السجن نرى ضمن السجناء شاعرًا مصريًّا اتخذ منه المؤلف لسانًا معبِّرًا عن السياسة التي يرتضيها الشعب، ولا غرابة في ذلك، فالشُّعراء والأدباء رُبَّما كانوا أَقْدَرَ من غيرهم على الإحساس برأي الشعب واتجاهه.
وهذه السياسة هي سياسةُ السلام المسلح، فالشعب لا يُقِرُّ سياسة الحرب والعدوان والسيطرة على المستعمرات؛ لأنها سياسة لا يستفيد منها غير طالبي الثراء والمجد الشخصيَّيْن، ولا مصلحة للشعب فيها، بل عليه غُرْمها؛ لأنَّه هو الذي يَدْفَع ثمنها من دَمِه وعَرَقِه، ولكنه من جهة أخرى لا يوافق على سياسة السلام المُطْلَق التي دعا إليها إخناتون؛ لأن السلام الأعزل سرعان ما يقع فريسةً للمعتدين، والشعب إذا كان لا يريد أن يستخدم القوة لإرغام المستعمرات على الخضوع، إلا أنَّه لا يُريد أيضًا أن تغزو تلك المستعمراتُ أَرْضَه وتَمْتَهِن كرامته، وبالفعل ينضم الشعب إلى فرعون الجديد في حرب أهلية تقوم بين فرعون وعامة الشعب من جهة، وقائد جيشه وكهنة آمون وأتباعهم ذوي النفوذ والسيطرة من جهة أخرى.
ولسوء الحظ يُقْتَل فرعون في هذه المعركة ويَخْلُفه على العرش أخوه الأصغر توت عنخ آمون، الذي ينتهي به الأمر إلى أن يعود إلى عبادة آمون والخضوع لكهنته، فيستبْدِلُ اسمه بتوت عنخ آمون، وبذلك يُخَيَّل إلينا أنَّ سياسة الحرب والعدوان هي التي انتصرت في النهاية، وإن كنَّا نحسُّ أن هوى المؤلف مع سياسة الشعب، أي: سياسة السلام المسلح للدفاع عن النفس والوطن لا للعدوان على الغير، وذلك بدليل ما نسمعه في ختام المسرحية من تبشير إحدى شخصياتها بانتصار سياسة السلام الشعبية بعد أن تتغير الظروف ولا يعود هناك فراعنة، ويُصبح الأمر كله إلى الشعب.
هل انتهت المسرحية؟
هذه هي القضية التي حاول ألفريد فرج أن يُعالجها في مسرحية «سقوط فرعون»، وإن كنتُ أخشى أنَّ كثيرًا من المشاهدين سيَرَون أنني قد خَلَعْتُ على المسرحية وضوحًا لم يتوفر لها، وأنا لا أبرئ نفسي من هذه التهمة، بل أعترف لهم في تواضُعٍ أنني لم أستطع أن أُدْرِك هذه الخطوط الرئيسية في المسرحية إلا بعد جهدٍ وإدمانِ فِكْرٍ، كما أعترف أيضًا بأنني هممتُ أحيانًا بأن أتساءل كغيري من الحاضرين في نهاية الفصول عمَّا إذا كانت المسرحية قد انتهت أم لا تزال لها بقية؛ وذلك لأنَّ بناء المسرحية غير واضح، وليست لها قِمَّة أو حتى قمم محسوسة، فالمسرحية تسير في خط مُتَعَرِّج ولا تنهض في بناء هَرَمِيٍّ واضح، وفي كل فترة من فتراتها يُعَالِج المؤلفُ نفسَ القضية ثم يعود إليها من جديد، وهكذا في فصول المسرحية الأربعة، وكأنَّ هذه القضية كُرة من الكاوتش يضربها المؤلف مرة فتصعد ثم تهبط، ونحسب أنَّ اللعبة قد انتهت، ولكنه يعود فيضربها من جديد وهكذا دواليك في فصول المسرحية المتعاقبة.
وبالرَّغم من أنَّ المسرحية قد كُتِبَت بأسلوب شعري جميل حينًا وخطابي مُثير حينًا آخر، إلا أنَّ كل هذه المزايا الأدبية لم تستطع — في نظري — أن تَشْفَعَ لِضَعْف البِنَاء الدرامي عند المشاهدين، حتى خُيِّل إلى معظمهم أن المسرحية ليست دراما، بل حوارًا أو على الأصح محاورة غنائية.
الأسلوب التجريدي الرمزي
وأما عن الإخراج؛ فقد اتَّبَعَ فيه الأستاذ حمدي غيث الأسلوب التجريدي الرمزي، فلم يَبْنِ معبدًا ولا أقام مدينة أخيتاتون، بل رمز للمعبد بمدخله وللمدينة بأسوارها، وقد بَذَل في هذا الإخراج مجهودًا ضخمًا يشهد بالذَّكاء والمهارة والقُدرة، ولكن الإخراج الرَّمزي لا يَكْمُل كما هو معروف إلا باستخدام مؤثرات الضوء والصوت التي تُعِين على خَلْق الجو، وتُوحي للمُشَاهدين بما يُعَوِّضُهم عن المشاهدة الحسية المباشرة، والظَّاهِرُ أنَّ المؤلف لم يُمِدَّ المخرج بمثل هذه المؤثرات أو المناسبات التي يمكن استخدامها فيها، وإن كنتُ قد أحسَسْتُ أنَّ الممثلين قد بذلوا كل جهد ومهارة في نفث الحياة في هذه المسرحية، وفي التغلب على ما يمكن أن يُصيب المشاهدين من مَلَلٍ بسبب التكرار في المعاني، أو من ضيق بسبب الغموض في الاتجاه العام في المسرحية، وكم كان رائعًا ممثلنا الفذ حسين رياض عند مطلع المسرحية في المشهد الذي أَخَذَ يحتال فيه لكي يغري قائد إخناتون بالتخلي عن سياسته واعتناق سياسة الحرب والسيطرة بالسلاح.