بين «سقوط فرعون» و«فيجارو»
اجتمعتُ مع الزميلين الدكتور علي الراعي والأستاذ أحمد رشدي صالح في ندوة النقاد حول الميكروفون، ومعنا الأستاذان ألفريد فرج مؤلف مسرحية «سقوط فرعون» والأستاذ حمدي غيث؛ لنناقش هذه المسرحية، ويخيل إليَّ أن هذه المناقشة قد ساهمت أيضًا في إيضاح بعض الأصول المسرحية، وهي أصولٌ لم يخترعها النقاد وإنما استمدوها من تحليل روائع الأدب التمثيلي خلال القرون وفي الآداب المختلفة.
ولقد حرصتُ في مستهل هذه النَّدوة على أن أُوَضِّح حقيقةً يجب أن نتبناها جميعًا، وهي وجوب الدفاع عن ارتباط الأدب بالمسرح، بحيثُ لا يصح أن تهاجم أي مسرحية لأنها جاءت مسرحية أدبية بأسلوبها وجمال معانيها، وبخاصَّة في بلادنا التي ظَلَّ فيها المسرح منفصلًا عن الأدب عشرات السنين، لم يخلق فيها مسرحياتٍ نعتبرها جزءًا من أدبنا المعاصر، حتى كتب شوقي والحكيم وتيمور للمسرح فابتدأ الأدب التمثيل يظهر في بلادنا، ومسرحية «سقوط فرعون» تُعْتَبَر — بلا ريب — عملًا أدبيًّا ذا قيمة ذاتية، ولكن الزملاء أضافوا أنه لا تَعَارُض بين القيمة الأدبية والأصول المسرحية، بل إنَّ هذه الأصول هي التي تُمَيِّز الأدب التمثيلي عن غيره من فنون الأدب، ولا بدَّ من العناية بهذه الأصول والدفاع عنها.
وجرت بعد ذلك مناقَشات حامية أو شبه حامية عما يُسَمَّى بأصول المسرح، وسألنا الأستاذ حمدي غيث — نحن النقاد — عما نَقْصِد بعدة كلمات مثل البناء المسرحي والصراع الدرامي والحبكة وما إليها.
والواقع أنَّ لهذه الألفاظ وأمثالها معانيها المحددة، وإن كنتُ أخشى أنَّ هذه المعاني قد لا تكون واضحةً لدى الجميع.
فمسرحية «سقوط فرعون» مثلًا قد كان من الممكن أن تُبْنَى بناء واضحًا مُحكمًا لو أنها اقتصرت على مأساة إخناتون، كما كان من الممكن أن يتضح هَدَفُها ومجراها لو أنها اسْتَغَلَّت الصراع الداخلي الذي كان المؤلف يستطيع أن يثيره في نفس بطلها، أو لو أنها بسطت طرفي الصراع الخارجي.
فالمسرحية في وضعها الحالي تقومُ على صراع خارجي، أي: بين أفراد مُختلفين يعتنق كل منهم عقيدةً مُعَيَّنة، فإخناتون يعتنق السلام المطلق، وكهنة آمون وأتباعهم يعتنقون فكرة الحرب العدوانية وضرورة الالتجاء إليها والمحافظة على الإمبراطورية المصرية وإخضاع المستعمرات بالقوة محافَظَةً على مصالحهم، وذلك بينما يعتنق الشعب فكرة السلام المسلح وضرورة الالتجاء إلى الحرب للدفاع عن الوطن فحسب.
وهذه العقائد الثلاث تكاد تسير جنبًا إلى جنب في المسرحية، مما يُسَبِّب الغموض الذي شكا منه النقاد، وليس بصحيح أنَّ هناك عقائد قد تطورت في ضوء الأحداث التي تجري بالمسرحية، وقد كان المؤلف يستطيع أن يُعالج هذه القضايا المختلفة، ولكن على أساس التطور لا التجاوز؛ وذلك بأن يُصَوِّر الشعب مثلًا مناصرًا في أوَّل الأمر لفكرة السلام؛ حتى إذا أصبح الخطر يتهدد حدود الوطن لمحاولة المستعمرات غزو مصر، بعد أن استطاعت التحرر نتيجة لسياسة السلام التي اعتنقها فرعون وشعبه، عند هذه المرحلة كان المؤلف يستطيعُ أن يستغل صراعًا عنيفًا في داخل نفس فرعون بين عقيدة السلام المطلق التي يُبَشِّر بها وضرورة الدِّفاع عن الوطن التي أَخَذَ الشعبُ ينادي بها ويتحمس لها بعد أن رأى الوطن مهددًا.
وهذا هو ما يُسَمَّى بالصراع الدرامي الداخلي الجبار الذي استغله عباقرة الفن المسرحي، وهو صراع من الواضح أنَّه لا يمكن أن يقوم في النفس البشرية الواحدة إلا إذا قام بين فكرتين حبيبتين كلتيهما إلى تلك النفس، التي تتمزق بينهما تمزُّقًا يحبب البطل إلى النفوس ويحمل المشاهدين على مُشَاركته في تلك المأساة، والفكرتان الحبيبتان هما فكرة السلام وفكرة حب الوطن، وقد كان المؤلف يستطيع أن يستغلها أَرْوَعَ استغلال، وأن يتصور من المواقف والأحداث ما يُغَذِّي هذا الصراع، وعندئذٍ كان يجتمع لمؤلفنا الشاب كل ما يُريد من أدب ومسرح في عمل مُتَكامل سليم الأصول واضح الأهداف مستقيم في خَطِّ سَيْره وفي بنائه الدراسي، بدلًا من ذلك الحشد الكبير من الأفكار والاتجاهات التي لم يستطع المؤلف أن يضع كلًّا منها في موضعه من بناء المسرحية، بل تَرَكَها مختلطة متضاربة غير منظومة في سلك درامي موحد.
فيجارو والفن المسرحي
وأنا لا أريد إطلاقًا أن أعقد أية مقارنة بين «سقوط فرعون» وكوميديا «زواج فيجارو» التي قَدَّمَتْها الفرقة المصرية باسم «زواج الحلاق»، ولكنني مع ذلك أودُّ أن أُوَضِّح إلى أي حد استقام لبورماشيه الأديب الفرنسي فن المسرح والقيم الأدبية والإنسانية معًا في هذه الكوميديا العالمية الخالدة.
«زواج فيجارو» تكون الحلقة الثانية من ثلاثية مسرحية ألفها بورماشيه قبل قيام الثورة الفرنسية الكبرى بسنوات قليلة، والثلاثية هي «حلاق أشبيلية» و«زواج فيجارو» و«الأم الآثمة»، وبطل المسرحيات الثلاث هو فيجارو الذي كان حلَّاقًا في المسرحية الأولى ثم خادمًا في المسرحيتين التاليتين.
ولعل هذا هو السبب في تسمية الفِرقة المصرية للمسرحية بزواج الحلاق، مع أنَّ الحلاق كان قد أصبح خادمًا، وعلى أية حال فالفرنسيون يطلقون أحيانًا في لغتهم الحديثة لفظة فيجارو على الحلاق، حتى أصبح هذا الاسم مُعَبِّرًا عن المهنة على نحو ما أصبح اسم العلم «الحاتي» معبرًا في لهجتنا المصرية الحديثة عن صانع الكباب.
وفكرة «زواج فيجارو» في خيطها الدرامي موحَّد بالغ البساطة؛ فالخادم فيجارو يُريد أن يتزوج من الخادمة سوزان، دون أن يستغل سيده الكونت حق النبلاء القديم في الدخول بزوجات أتباعهم، ومن أوَّل المسرحية إلى نهايتها لا نشهد إلا حِيل فيجارو الداهية الخارق الذكاء للوصول إلى هدفه، وقد وَصَلَ فعلًا باتفاق استطاعت الخادمة سوزان أن تعقده مع سيدتها روزين زوجة الكونت، على أن تتنكر كل منهما في زي الأخرى، وأن تذهب الكونتيس في زي سوزان إلى الموعد المضروب مع الكونت الوقح، وبذلك تنتهي المسرحية بهزيمة منكرة للسيد الكونت وانتصار رائع لفيجارو وخطيبته ممثلي الشعب الثائر لكرامته الواسع القدرة والدهاء.
هذا هو الخط الدرامي للمسرحية، ولكن كم من أحداث مُضحكة مُثيرة تنتظم في هذا المسلك، ثم كم من مقطوعات أدبية رائعة في الحوار الذي تقدح منه شرارة الذَّكاء، وكم من عمق في سبر أغوار النفوس وفضْح ما فيها من تناقضات، فالكونت يريد أن يخطف زوجة تابعه، ومع ذلك يغار غيرة شديدة على زوجته هو ويشقى بهذه الغيرة، والفتى اليافع شيروبان وصيف القصر يفيض قلبه رغبة في الحب، ولكنه لا يستطيع أن يحدد هدفًا لهذا الحب، فكل امرأة تثيره أكبر الإثارة في طفولة متوثبة، وهو يتخبط بين الكونتيس وسوزان وفانشيت ابنة البستاني، بل الخادمة العجوز مارسين.
وأخيرًا نرى فيجارو نفسه الواسع الحيلة الشديد الثقة بنفسه يُغْلَب على أمره في إحدى مراحل المسرحية، وقد خُيِّل إليه أنَّ خطيبته سوزان قد استجابت لرغبة الكونت الآثمة، وأنها هي التي ستذهب إلى الموعد المضروب لا الكونتيس نفسها، وعندئذٍ يُلقي فيجارو مونولوجه ذا الشهرة العالمية، وفيه يستعرض حياته ويُقارن بين ما كان له فيها من جهاد، وبين حياة الكونت الذي لا فضْل له، إلا أنه قد تحمل آلام الولادة من أب نبيل! ويشكو الحياة شكوى ثائرة مرة مُتمردة، كانت من الأسباب الأساسية في مُصَادرة ملك فرنسا لهذه المسرحية عند ظهورها وإلقاء مؤلفها في سجن الباستيل.
مسرحية «زواج فيجارو» تُعْتَبر نموذجًا كاملًا لما يُسَمَّى في النقد الأوروبي بالمسرحيات الحركية، وذلك لكثرة الأحداث التي تجري فيها، وتعاقُبها في سرعة خاطفة، مع انتظامها كلها في خيط درامي واحد، ومع ذلك فكم فيها من قيم أدبية وإنسانية وفكرية لم تفسد بناءها الدرامي ولا طغت عليه، بل نبعتْ من الدراما ذاتها على نحو طبيعي غير مفْتَعَل، ففيها الحقائق النَّفسية العميقة والأفكار الثورية الخالدة، والخطرات الأخلاقية الكاشفة، ولكن كل هذه القيم الأدبية والفكرية لا يفتعلها المؤلف، بل يُهيئ لها الأحداث.
وثورة فيجارو نفسها وتعبيره عن تلك الثورة يجريه المؤلف على لسانه، إلا في اللحظة المواتية عندما يُخَيَّلُ إليه أنه قد انهزم، وأنَّ الكونت سيفوز بخطيبته المحبوبة، فهنا يفيضُ الكيل عن هذا المونولوج الخالد، وهكذا لا نحسُّ في هذه المسرحية بأي تعارُض بين الفكرة والأدب من جهة، والفن المسرحي من جهة أُخرى، بل نراهما يسيران جنبًا إلى جنبٍ، ويخدم الفن المسرحي الفكرة والأدب خدمة تزيد من قيمتهما روعة وتأثيرًا.
التمثيل والإخراج
لقد كانت مَسرحية زَواج فيجارو من بين الأعمال الأدبية الفرنسية التي كان من المقرر علينا أن نَدرُسها في السربون لنيل إجازة الليسانس في الأدب الفرنسي، وقد حاضَرَنا عنها أُسْتَاذ كبير هو المسيو جف عامًا بأكمله، وحَلَّل كل صغيرة وكبيرة فيها؛ لذلك أخذتُ أقارن طوال مُشَاهدتي للمسرحية بين طريقة أداء ممثلينا لها وبين طريقة الفهم التي استقرت عليها دراستنا، ولا مَفرَّ لي من أن أعترف بعدة جوانب من النقص أو العجز في طرق الأداء التي شَهِدْتُها بمسرحنا.
فشخصية البطل، أي: فيجارو، كانت أقل عمقًا مما هي في المسرحية، وكان من الواجب أن نرى فيجارو أكثر خفة في مواضع العبث، وهو مالك زمام نفسه وزمام الموقف.
كما كان من الواجب — وهذا عيب خطير — أن يكون أكثر انفعلًا ومرارةً وثورةً، بل وتراجيديا في المونولوج، الذي كنتُ أتَطَلَّع في شغف إلى أن أرى إلى أي حدٍّ سيُدْرِك رُوحَه ممثِّلُنا وينجح في نقل هذه الرُّوح إلينا، وهي روح حزينة ثائرة عنيفة ساخرة في مرارة، وإذا بي لسوء الحظ أرى ممثلنا يخرجه بروح فاترة شبه لاهية، مما أفقده قوته وشدة تأثيره، باعتباره المسمار الأساسي في المسرحية كلها، وبالمثل رأيتُ اليافع شيروبان ينهض بدوره ممثلٌ تخطى دور اليفاعة لا بمظهره الجسمي فحسب، ولكن أيضًا بنضارة روحه وخِفَّتها وتوثُّبها، وهو دور اختار المؤلف نفسُه لأدائه عند أول عرض للمسرحية — بعد تعديلها والإفراج عنها — فتاةً لا فتًى؛ حتى يضمن لهذا الدور الإخراجَ الذي أراده، وإنني لأذكُر كيف أنَّ أُستاذنا في السربون كان يُلِحُّ في مقارنة شيروبان بالفراشة، وهو تشبيه يصدُق على هذه الشخصية الأثيرية، تقفز من زهرة إلى زهرة، ولسوء الحظ لم أستطع أن أشعر بأنَّ ممثِّلَنا الذي أخلص لدوره وبذل في أدائه كل جهد قد كان تلك الفراشة التي رآها أستاذنا في شيروبان.
وبالرغم من كل هذه الملاحظات وأمثالها الممكنة إلا أَنَّني مع ذلك لا أستطيع إلا أن أهنئ فرقتنا المصرية ومُخْرِجَنا الكبير الأستاذ فتوح نشاطي، وممثلينا جميعًا بهذا الاختيار الموفَّق، وبالليلة السعيدة التي أمتعونا فيها بهذه المسرحية الخالدة، التي أعتبرها من روائع المسرح ومن نماذجه التي يجبُ أن تُوضع تحت أنظار أُدبائنا ونقادنا وجميع ممثلينا، بما فيها من دروس قيمة في فن المسرح الأدبي الرفيع.
«شقة للإيجار» … بانوراما
شهدتُ الفرقةَ القومية وهي تقدم على مسرح محمد فريد المسرحية الجديدة «شقة للإيجار» للأستاذ فتحي رضوان، من إخراج فناننا المتحمس المتفاني في عمله نبيل الألفي، وكان من حولي نفرٌ من النقاد يتساءلون عن الأزمة وقمتها، وعن الصراع وطرفيه، وعن أبعاد الشخصيات وطريقة تحديد المؤلف لها، وما إلى ذلك من المقومات التقليدية للفن الدِّرامي، مما بعث الإشفاقَ في نفسي، لا على فننا الدرامي وتطوره، بل على هذا النفر من النقاد، الذين كان بودي أن أصيح بكل منهم قائلًا: لقد حَفِظْتَ يا عزيزي شيئًا وغابَتْ عنك أشياء.
وإذا كان السادة النُّقاد قد أجادوا حِفْظ بعض ما استخلصه نقاد وأساتذة الغرب من أُصول درامية استخلصوها من التحليل الرَّائع للمسرحيات العالمية، فإنني كنتُ أرجو أن يتابعوا الحفظ حتى يلاحقوا التطور العالمي الذي عَرَفَ أنواعًا جديدة من الدراما الناجحة فنيًّا نجاحًا عظيمًا، رغم قيامها على أصول ومبادئ جديدة مثل الأوتشرك، ثم المسرح الملحمي لبرتولد بريخت، الذي قَلَب جميع الأصول التقليدية للتأليف المسرحي دون أن يفشل أو يَضْعُف؛ لأنَّه احتفظ للدراما بعنصرها الأساسي وهو الحركة؛ لأنَّ كلمة دراما معناها الاشتقاقي في اللغة الرُّومانية القديمة الحركة التي لا يمكن أن يحيا المسرح بدونها أو أن يجذب إليه المشاهدين؛ إذ ينقلب إلى مناقشات أو جدل، أو — كما سمعتُ من بعض المحاضرين — إنشاء لغوي.
لقد أقام الأستاذ فتحي رضوان في «شقته» — التي كانت معروضة للإيجار — معرضًا لمجتمع ما قبل الثورة، ولكنَّه لم يقدم معرضًا جامدًا علق فيه اللوحات على الجدران، بل أقام معرضًا مُتحركًا متفاعلًا متطورًا، يصور التيارات المتناقضة الحائرة الباحثة عبثًا عن سواء السبيل، وما كان يتمخض عن هذا التفاعل وتلك التيارات من مآسٍ تهز أعماق الواعين المستنيرين المتتبعين من المواطنين أمثال فتحي رضوان، الذي كانت له مشاركة مستمرة في تلك التيارات، وملاحظة ووعْي باتجاهاتها وما تنطق بها من دلالات عميقة، ومن غليان لا يُعْرَف أين ينطلق وأي سبيل يَسْلك، حتى انبثقت في ضميره فكرة العلاج الحاسم الناجح الوحيد وهو الثورة، وهذا هو السبب الذي يدعوني إلى تسمية «شقة للإيجار» باسم «البانوراما المتحركة» … هو اصطلاح قد لا يجده بعض النُّقاد عند أرسطو، بل ولا عند أليوت نفسه، ولكنهم سيستطيعون أن يجدوه في أعماق نفوسهم — لو أنهم أسكتوا فيها شوشرة الذاكرة ليستقروا في تحرُّر وإخلاص — الانطباعَ العام الذي خَلَّفَتْه هذه المسرحية الناجحة على صفحة أرواحهم، وقد يُؤمنون عندئذٍ أنَّ التأثرية في النقد ليست شيئًا ضارًّا، بل مُفيدًا، مُعينًا على الابتكار في النقد، على نحوٍ يستطيع أن يجاري الابتكار في فن المسرح ذاته، بل ومن الممكن أن تُلْقِيَ هذه «التأثرية» في نفس مستنيرةٍ مدرَّبةٍ المعنى الغامضَ الذي حفظه البعض عن ضرورة نقد العمل الأدبي من داخله.
ومسرحية البانوراما المتحركة يجبُ أن يفطن الناقد إلى مقياس الحكم على نجاحها، وهو مقياس نستمده أيضًا من داخلها، ولا يحتاج إلى براعة كبيرة لاكتشافه، فهو — بمنتهى البساطة — الحركةُ الموجودة في هذه البانوراما، ونعني بها تفاعُل الشخصيات واشتراكها الفعلي الإيجابي في هذه الحركة، وتطورها النَّفسي والاجتماعي بفضل انصهارها في تلك الحركة.
وعلى هذا الأساس أُحِبُّ أن أُفَسِّر لمن كانوا يلغطون حولي — بما يُدركون وما لا يُدركون — أسبابَ ما كان يتردد بينهم أحيانًا من ركود الحركة في هذا المشهد أو ذاك، فمِن المؤكَّد أنَّ الشخصيات المتحركة المتطورة المتفاعلة التي تُوَلِّد الدراما في هذه المسرحية، قد كانت شخصيات ثلاث فقط، وهي شخصية عزت بك التي قام بها الممثل القدير حسين رياض، وشخصية اعتدال التي قامت بها ممثلتنا الصاعدة دائمًا سناء جميل، ثم شخصية ممدوح التي قام بها — فمثَّلَها ولم يستطع أن يعيشها تمامًا — الممثل الجديد حسين الشربيني، الذي نعتبره بذرة طيبة ونتوقع أن يصل إلى الإتقان الذي سنُقِرُّ له به عندما ينجح في إيهامنا أنه يعيش دَوْرَه ولا يمثله.
وأمَّا بقية الشخصيات التي تحتشد بها المسرحية، فالظاهر أنَّ حِرْص المؤلف على أن يُلْقِيَ أضواء على كافة قطاعات ما قبل الثورة، وأن يُجَسِّدَ نتائج دراسته العميقة الواعية لكل هذه القطاعات هو الذي دَفَعَهُ إلى حَشْدها، فنرى بعضها يظهر ثم يختفي نهائيًّا دون أن يرتبط بحركة التفاعل الدرامي في المسرحية، ويقتصر دَوْرُه على أن يُبْرِز قسمة نفسية أو اجتماعية بعينها، فالحسناء «تنهدات» تَظْهَر مثلًا في الفصل الأول، ويظهر معها صاحب العمارة «زهران» لمجرد أن يُظْهِرَنا المؤلف على انحلال زهران الأخلاقي عندما نراه يعدو كالكلب الجائع خلف الحسناء تنهدات، وهي خارجة من الشقة التي جاءت لمحاولة استئجارها، وهما شخصيتان كان من الممكن الاستغناء عنهما في سهولة؛ لأنَّ في عزت بك وسلوكه الشائن في مطلع المسرحية، وقَبْل تطوُّره وتفاعُله باحتكاكه باعتدال وممدوح، ما يكفي لتجسيد هذا الانحلال الأخلاقي عند الأثرياء تجسيدًا بالِغ القُوَّة عندما نُشَاهده وهو يقضي أمسية حمراء مع الفتاة المسكينة اعتدال، التي ساقتها ظروف حياتها البَالغة القسوة إلى بيع نفسها لتُوَفِّر الكفاف لأمها المترملة، بل لتحقق أمنية هذه الأم المنكوبة في أن تجد كفنًا وأن تُدْفَن دفنة لائقة.
وكذلك الأمر في شخصية الشيخ طولان الذي ظَهَرَ ثم اختفى نهائيًّا في الفصل الأول، واقتصر دوره على أن يُبرز لنا مدى الحيرة والتخبط اللذين كانت تتردى فيهما العناصر المتحركة الثائرة في تلك الفترة، حيثُ نُشَاهد جماعة دينية من أقصى اليمين تتعاطف وتُوَحِّد جهدها مع جماعة أخرى من أقصى اليسار ممثلة في ممدوح، مع أنَّ هذا التآزر بين الجماعتين كان يكفي لإبراز ما أحسَسْنا به في المنشور الذي ضُبط في شقة عزت بك، وتلا الصفحة اليسارية منه ضابط البوليس، ثم تلا عزت بك نفسه الصفحة الأخرى اليمينية، وإن يكن الإنصاف يقتضينا أن نُسلم بأنَّ ظهور الشيخ طولان إلى جوار ممدوح قد مهَّد عامة المشاهدين لِفَهْم هذا المنشور المزدوج، كما أنَّ ظهوره أعان المؤلف على تجسيد عقلية تلك الطائفة الدينية، ولكنَّ اختفاء الشيخ طولان، وجَهْلنا لمصيره ومدى تفاعله في تلك الدوامة الصاخبة، هو الذي يخرجه عن دائرة الحركة الدرامية المتطورة الحية في المسرحية، وكذلك الأمرُ في بعض الشخصيات الأخرى مثل ماركو الذي ظَهَرَ في الشقة لمجرد رسْم صورة للاستغلال الأجنبي في البلاد.
وبالرَّغم من هذه الملاحَظات؛ فإننا نستطيعُ أن نُؤَكِّد أن هذه المسرحية تُعْتَبر دراما كاملة عميقة واعية لمجتمع ما قبل الثورة، ويشفع لما قَدَّمْت من ملاحظات حِرْص المؤلف على استكمال البانوراما المتحركة التي عَرَّفَها في مسرحيته في حوار دسم، ينُمُّ عن فَهْم وتعمُّق لهذا المجتمع وتياراته الحائرة، واكتواء مخلص بهذه التيارات وإشفاق منها على الوطن في أسلوب واقعي جريء، بل عنيف يعري الضمائر.
ومع ذلك لا يوحي باليأس من إمكان تَيَقُّظها، بل على العكس، يُوحي بالأمل فيها، بدليل التطور الواسع الذي طرأ على عزت بك نفسه، الذي استطاع أن يُدرك مدى الهوة التي أرداه فيها الانحلال الناتج عن الافتراء المتبطل، وعدم الإحساس بما يضطرم في المجتمع من مشاكل قاسية، وإن يكن تَطَوُّرُه لم يُسْلِمْه منذ استيقاظ ضميره إلى الطريق السوي، فأخذ يُبدد جهده في جمعية إحسان ظاهِرُها خَيِّر وباطنها خاوٍ، بينما كان الجيل الناشئ المكافح المتمثل في ممدوح واعتدال هو الجيل الواعي المدرك لطريق النَّجاة الحقيقي، وهو الدعوة للثورة على تلك الأوضاع الاجتماعية الفاسدة، وإن يكن عزت بك نفسه قد انضم في النهاية إلى تيارهما الواعي السليم بمجرد أن أدركه وأحس به، فبارك زواجهما وانقلب من عربيد مستهتر إلى ما يُشبه الأبَ الطيب المحب لهذا الجيل المكافح.
ولا أحب في النهاية أن تفوتني ملاحظة فنِّية واجبة التسجيل والإبراز، وهي مُلاحظة خاصَّة بشخصية بواب العمارة الشاعر الأديب عبد المغيث الزَّعبلاوي، الذي استحوذ شفيق نور الدين على إعجابنا في أداء دوره، فهذه الشخصية لا تُشارِك مشارَكَةً فعَّالة في حركة المسرحية وفي التفاعل الذي جرى فيها، ولكنَّها قامت بدور له نظائره في أرقى المسرحيات العالمية، وهو دور حامل الرأي، فهو صوت المؤلف الكاشف عن معنى الأحداث في المسرحية، وقد استطاع شفيق نور الدين لحسن الحظ أن يخلق منه شخصية متميزة لها أبعادها الخاصَّة، فلم يَعُدْ مجرَّدَ بوقٍ للمؤلف، وبذلك أنقذ الممثل هذه الشخصية فنيًّا، وبالطبع ساعد المؤلف على ذلك؛ لأنَّ الممثل لا يمكن أن يخلق شيئًا من العدم، بل إن عبد المغيث يمثل الشعب كله، الشعب الواعي الذكي الفؤاد ولكن المشلول الأيدي.