مأساة «بين القصرين»
لستُ أدري هل شاهد الأستاذ نجيب محفوظ مسرحية بين القصرين المأخوذة عن قصته الشهيرة أم لم يُشاهدها، ولكنه يُخَيَّل إليَّ أنه لو شَهِدَها لما استطاع — رغم كل ما نَعْرِفُه عنه من مُسَالَمة — أن يسكت عن الطريقة التي تُعْرَض بها الآن هذه القصة على خشبة مسرح الأزبكية، وتقدمها فِرقة المسرح الحر التي طالما أثنيت على كفاحها الفني، وطلبتُ لها مزيدًا من التوفيق والتشجيع.
ولقد كان من حُسن التوفيق أَنَّني لم أصحب معي عند مشاهَدَتها أفراد «القبيلة» وإلا لاحمرَّ وجهي خجلًا من أبنائي عندما يسألونني عما شاهدت تلك الليلة، فالمسرحية المعروفة باسم بين القصرين لا تخدش الحياء فحسب، بل تثير الاشمئزاز والغثيان، فضلًا عن أنَّ قصة «بين القصرين» لا تصلح من حيث المبدأ للإعداد المسرحي، بل لعلها هي والثلاثية التي تنتمي إليها من أصلح القصص للاعتماد عليها في توضيح الفروق الفنية الأساسية بين فن القصة وفن المسرحية، «فبين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكريَّة» ثلاثية من نوع القصص، الذي يُسميه الفرنسيون بالقصة «النَّهرية»، أي: القصة التي تتسلسل في عدة حلقات تتابع موضوعًا واحدًا، وهو هنا تاريخ الشعب المصري منذ ثورة ١٩١٩ حتى قُبيل ثورة ١٩٥٢، أي: أنها قصة استعراض لحياة هذا الشعب بما كان فيها من بطولات وانحطاطات وفضائل ورذائل، وهو تاريخٌ لا يستطيعه غير الأدباء الذين يستطيعون استبطان كوامن النفس البشرية، وحقائق المجتمع من أمثال نجيب محفوظ، وعلى هذا الأساس لا تصلح أية حلقة منها لأن تُحَوَّل إلى دراما بمفهومها الفني الذي لا يقوم على العرض، بل يقوم على عقدة درامية أو أزمة مُحَدَّدة تبدأ بعرض خيوطها وشخصياتها وطريقة اشتباك بعضها ببعض، ثم تتطور الأحداث وتتأزم لتنحدر نحو الحل في النهاية، بعد أن يتمخض الصراع الذي يجري بداخلها عن نهايته.
لقد صوَّر نجيب محفوظ في بين القصرين أسرة السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة وأولاده يس وفهمي وكمال الصغير وخديجة وعائشة، والمشاكل الخاصة بكل منهم، وطريقة استجابته للأحداث الكبرى، أحداث ثورة ١٩١٩ التي كانت في عنفوانها عندئذٍ، وكان السيد أحمد رجلًا صارمًا شديد المراس في بيته، بينما كان خارج بيته وفي ندواته الخاصة لا يتورع عن ملذات الحياة الحسية التي تبلغ حد الإسفاف أحيانًا، مثل بحثه عن النِّساء واتخاذهن خليلات، ومن بينهن سلطانة الطرب زبيدة العالمة التي صاحَبَ ابنُه يس زنوبة تابعتها، وكان يحدث أن يجتمع الابن والأب في نفس المنزل، وذلك بينما كان فهمي — ثم الابن الأصغر كمال الذي سيحتل مكانًا بارزًا في الحلقتين التاليتين من القصة — من معدِن يَلُوح مُغَايِرًا لمعدن الأب والأخ يس.
وبمطالعة قصة نجيب محفوظ يُحِسُّ كل قارئ مستقيم الإدراك والإحساس أنَّ تصوير حياة المجون في بيت زبيدة لم يكن قط هدفًا من أهداف المؤلِّف الأساسية، بل صورة لتكملة الصورة حِرْصًا على عدم إغفال الوجه الآخر من الميدالية كما يقولون، وأمَّا هدفه الأصلي فقد كان إظهار مشاكل الحياة وكفاح الشعب — وبخاصة الطبقة الوسطى — خلال تلك الفترة المستمرة الغليان من حياتنا المعاصرة، ثم تطور القيم عند الأجيال الثلاثة المتلاحقة التي قدمها لنا المؤلف في ثلاثيته.
والظَّاهرُ أنَّ من قام بالإعداد المسرحي ثم من قام بالإخراج والتمثيل لم يَفْهَم حقيقة ما قصد إليه مؤلِّفٌ جادٌّ كنجيب محفوظ، أو تغافَلَ عما قصده، ليقدم إلينا مسرحية فاحشة يمُجُّها كل ذوق سليم، فضلًا عن مبادئ الخلق ومواضعات المجتمع، فالإعدادُ قد التقط من قصة نجيب كل الصور التي صَوَّرَ بها المؤلف بعض المشاهد الجنسية، ثم جسمها وبالغ فيها وركَّز عليها الأضواء، بل وأضاف إليها ما لم يكن في الأصل مما يزيد من اشمئزازنا كالإشارة إلى أنواع من الشذوذ الجنسي بين يس وأحد الجنود الإنجليز وكثير غيرها.
ووَصْفُ نجيب محفوظ لبعض المَشَاهد الجنسية في قصته لا يجرح الذوق العام على نَحْو ما أحسَسْتُ عندما رأيتُ هذه المَشَاهد مجسَّدة على المسرح تجسيدًا قبيحًا مخجلًا، وكم رثيت لمُمَثِّلَتنا الكبيرة فاطمة رشدي عندما شاهَدْتُها على خشبة المسرح في دور الغانية المتبذلة زبيدة مع أنها في القصة الأصلية كانت أقل تبذلًا مما أرادها المخرج وطاوعته ممثلتنا الكبيرة فيه.
وبالرَّغم من أنني شاهدتُ من قَبْل زكريا سُليمان في عدة أدوار أقنعَتْني بقدرته على الأداء وحملَتْنا على التعاطف معه، إلا أنني شاهدته في هذه المسرحية يؤدي دور فهمي على نحوٍ فاتر راكد لم ينجح في جَذْبنا إليه وحَمْلنا على التعاطف معه، بحيث لم نستطع أن ننفعل في نهاية المسرحية باستشهاده في سبيل الوطن على نحو ما نَنْفعل معه عندما نقرأ القصة الأصلية، ويُخَيَّل إليَّ أنَّ زكريا قد كان في هذه المسرحية ضحية لمن أَعَدَّها ولمن أخرجها ولنفسه أيضًا على قدم المساواة.
والممثل الوحيد الذي أقْنَعَني أداؤه في دور الأب السيد أحمد عبد الجواد هو أحمد سعيد، فهو دور استطاع أحمد سعيد أن يلبسه بشكله الجسمي المهيب وبفخامة منظره الذي وصَفَه نجيب محفوظ، ثم بحركاته الرزينة المنسجمة مع هذه الشخصية التي كانت تحتفظ بشيء من جلالها حتى في مواقف الهذر التي استفحلت لسوء الحظ بفعل الإعداد المسرحي والإخراج على السواء.
وإن كنتُ آخذ على بقية الممثلين أنهم لا يُظْهِرون من الفزع والخوف منه ما يُبْرِزُ شخصيته، ويمكنه من عدم المبالغة في نغمات الصوت عند إصداره أوامره لأفراد الأسرة.
وبعد أحمد سعيد يأتي في تقديري الطفل الذي مثَّل دور كمال ثم الممثلة التي أَدَّتْ دور أمينة.
لقد سَمَّيْتُ مسرحية بين القصرين باسم المأساة، لا لأنها تعتبر مأساة من النَّاحية الفنية، فهي من هذه النَّاحية ليست بمسرحية على الإطلاق، بل مجرد استعراض سيئ، وإنما سَمَّيْتُها مأساة؛ لأنني أعتبرها كارثة نَزَلَتْ بقصة نجيب محفوظ فامْتَهَنَتْها وأساءت إليها كأثر أدبي يُعْتَزُّ به في أدبنا المعاصر، بل كارثة نزلت بالجمهور نفسه الذي لا ينبغي أن يحتشد لمشاهدة مثل هذا العرض الجارح لكل خُلُقٍ، بل لكل ذوقٍ سليم، ويؤسفني أن أقرر في النهاية أنها كانت أيضًا في رأيي كارثة على فِرقةٍ نعتز بها كفرقة «المسرح الحر»، وبخاصة إذا ذَكَرْنا أنَّ حركات الممثلين كثيرًا ما كانت تثير الاشمئزاز أكثر من عبارات الحوار نفسها.