«جميلة» … مسرحية هدف
ليس من شك في أنَّ الأدب كله أسلوب من أساليب التعبير، والأسلوب هو الذي يتكون منه لحم الأدب ودمه؛ ولذلك تُعْتَبَر الصياغة اللُّغوية عنصرًا أساسيًّا فيه، وتظهر هذه الحقيقة في وضوح عندما ننظر في طبيعة كل فن من فنون الأدب وفي وظيفته في الحياة.
ففنٌّ جماهيريٌّ كفن المسرح نحسُّ دائمًا أنَّ لأسلوب التعبير اللغوي الذي يَخْتَاره المؤلِّفُ أَثَرَهُ البالغ في إقبال الجماهير أو إعراضها، والذين شاهَدوا مسرحيات شوقي أو مسرحيات عزيز أباظة قد هَالَهُمْ — بلا ريب — قلةُ إقبال الجمهور على هذا النَّوع من المسرحيات، رَغم أنَّ مسرحيات شوقي مثلًا تَضُمُّ في حوارها عددًا من المقطوعات التي تعتبر من روائع الشعر الغنائي، ومن المؤكَّد أنه لو أُعْلِنَ عن مهرجان لشوقي فيه بعض قصائده، ومن بينها مقطوعات من مسرحياته، لَأَقْبَلَ على مثل هذا المهرجان جمهورٌ أكبر من الجمهور الذي يُقْبِل على مشاهَدة مسرحية من مسرحياته الشعرية، والسبب في ذلك هو أنَّ الجمهور يُقْبِل على المسرح بروح غير الروح التي يُقْبِل بها على مهرجاناتِ أو ندواتِ الشعر الغنائي.
فالجمهور يُقبل على المسرح ليسمع حوارًا مسرحيًّا، وفكرة المسرح كلها قائمة على مشاكلة الحياة؛ ولذلك كُلَّما ابتعد أسلوب الحوار عن طبيعة الحياة وطريقة محاورة الناس فيها كُلَّما أحس الجمهور بالصنعة والتكلف والبعد عن طبيعة الأشياء، وأنا أعرف في أوروبا أساتذة في الجامعات ورجالًا من كِبار المثقفين ينفرون من فن الأوبرا نفورًا شديدًا، ويفضلون أن يستمعوا إلى الموسيقى كسيمفونيات أو إلى الغناء كأغانٍ، وأمَّا أن يستمعوا إلى حوار يُتَغَنَّى به فذلك ما يبدو لهم تزويرًا على الحياة التي يَزْعُم المسرح أنه مرآة أو مجهر لها، وأنا أخشى أن يكون شعرنا التقليدي — وبخاصة ما كان منه في جزالة شعر شوقي أو الجزالة المسرفة لشعر عزيز أباظة — من العوامل الهامة التي تصرف الجمهور عن هذه المسرحيات الشعرية لشدة إيحائها بالاصطناع.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نُفَسِّر الإقبال الذي تحظى به الآن مسرحية جميلة التي تمثلها اليوم فرقتنا القومية، بعد أن ألَّفَها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي بأسلوب الشعر الجديد الذي نسميه ويسميه العالم كله اليوم بالشعر الحر، وإذا كان شكسبير قد تحرر في مسرحه الذي كتبه كله شعرًا — من احتفاظه بالنسق التقليدي للتفاعيل في كل بيت أو سطر، فسمى شِعْره بالشعر الأبيض أو الشعر المرسل — فإنه يُخَيَّل إلينا أنَّ شعرنا العربي — لكي يَصْلح للحوار المسرحي — لم يكن يكفي أن يتحرر من القافية الموحدة، بل كان لا بدَّ له أن يتحرر أيضًا من القالب التقليدي للبيت بعدد تفاعيله المحددة؛ وذلك لأنَّ البيت من الشعر العربي التقليدي يمتاز من النَّاحية الموسيقية بشدة وضوح الإيقاع فيه، وبخاصة وأنَّ التفعيلة في موسيقى الشعر العربي تقوم هي الأخرى على الحركة والسكون، أي: على عناصر إيقاعية، والشعر الجديد عندما يُسْتَخْدَم في الحوار الدرامي يَتَخَلَّصُ — إلى حد بعيد — من الإيقاع الواضح الرتيب الذي يوحي بالاصطناع، وإن ظلَّ يحتفظ من الشعر باللحن والتنغيم اللذين يُكْسِبَان الحوار رهافة ونفاذًا دون أن يَطْمِسَ فيه طابع الحياة الفعلية، كما أنه من المعلوم أن الشعر الحر لا يتقيد بمعجم شعري محدد، بل يرى أن جميع ألفاظ اللغة وتعابيرها يستطيع الشاعر الموهوب أن يُدْخِلها في شعره الحر دون أن تبدو نابية أو مبتذَلة.
وها أنا أتصفح مسرحية «جميلة» للأستاذ الشرقاوي، فأجده — رغم شاعريته البارزة — لا يخشى إطلاقًا أن يستخدم في شعره الحر ألفاظًا وتعبيرات تبدو قريبة من لغة الحياة في عصرنا، مثل قوله: «صبحية ربنا». أو قول أحمد المصري — أحد شخصيات المسرحية — عن هارون — الشخصية التي تبدو له مريبة — عندما طلب إليه أن يسأل الشاويش جان عن أَمْر من الأمور: «سل أنت … رح به، أما أنا فملافظي لا تستحل ملافظه». فالملافظة التي لا تستحل ملافظ عدوها — أي: لا ترى من الحلال الحديث إلى العدو — تعتبر من التعابير الشعبية أو شبه الشعبية، وإن يكن الشرقاوي يعرف كيف يرتفع بأسلوبه الشعري إلى أرفع مستوًى عندما يتطلب الموقف مثل هذا السمو، كل ذلك مع الاحتفاظ ببساطة اللفظ ودنوه من الحياة، وبذلك أَثْبَتَ الشعرُ الحر قُدْرَته على الحوار الدرامي الذي يستفيد من الشعر بلحنه وتنغيمه، ولكن دون أن يبتعد عن الحياة أو ينبو عن ذوق العصر.
هذا، ولقد قرأت في أحاديث الكتَّاب عن مسرحية جميلة أنها بعيدة عن طبيعة المأساة الدِّرَامية؛ لأنَّ شخصياتها منها ما هو خير خالص ومنها ما هو شر خالص، مما يقربها من طبيعة شخصيات الملاحم.
وأنا لا أدري من أين جاء هذا المبدأ ومتى تَقَرَّرَ، فأبطال المآسي القديمة والكلاسيكية عندما يأتون أعمالًا شريرة إنما يأتونها منساقين لا مختارين، ولا بُدَّ للمؤلف أن يُبَرِّر هذه التصرفات الشريرة عند بطلِ أو أبطالِ مأساته، بل وأن يُشْعِرَنا بأنهم كانوا ضحية للشر لا مُقترفين له، كما حدث لأوديب مثلًا عندما سِيقَ إلى قَتْل أبيه والزواج من أمه على غَيْر عِلْم منه؛ وذلك لأنَّ المأساة لا يمكن أن تُحَقِّق هدفها وعلة وجودها ما لم تَحْمِلْنا على التعاطف مع بطلها والإشفاق عليه والرثاء لمأساته، بل والفزع منها، وكل ذلك فضلًا عن أن مسرحية جميلة لم تُصَوِّر الخير والبطولة والإنسان عند إخواننا الجزائريين كفضائل نقية مُطلقة، كما أنها لم تُصَوِّر جميع الفرنسيين كأشرار مجرمين ميِّتي الضمير، بل حَرَصَتْ على الصدق الإنساني الذي تشهد به الحياة، فإلى جوار الأبطال الجزائريين من أمثال جاسر وعمار وعزام وجميلة وهند وأمينة رأينا هارون الشاب المتعطل الذي يلوح أن الفقر والحاجة قد حطما شخصيته؛ فأصبح عميلًا لجلادي شعبه أو عينًا لهم، كما أنَّه من بين الفرنسيين مَن حَرَّكَتْ ضمائرَهُم فظائعُ الاستعمار والمستعمرين، بل وأثارت هذا الضمير على نحو ما نحسُّ عند الشاويش جان الذي عَذَّبَ ضميرَه ما شاهده من تعذيبٍ للأبطال المجاهدين في سجن بارباروسة الذي عَمِلَ حارسًا فيه، حتى انتهى به الأمر إلى تقديم استقالته من الخدمة في الجيش الفرنسي كله، ليسترد راحة ضميره وصفاء حياته، وعلى نحو ما نرى أيضًا من حماسةِ وإخلاصِ المحامي الفرنسي الذي تَطَوَّع للدفاع عن جميلة.
وعلى العكس من ذلك كنتُ أتمنى أن لو خَلَّصَ الشرقاوي أبطالَه الجزائريين من كل شائبة أو موضع ضَعْف، فأنا مثلًا لم أسْتَسِغْ تَرْك جاسر للمعركة ومكانه في القيادة لمحاولة طائشة لإنقاذ جميلة، وبخاصة بعد أن أحسَسْنا أن عاطفته الشخصية نحوها وحبه الذاتي لها قد كان الدافع الأساسي إلى هذه المغامَرة الحمقاء، التي انتهت بالقبض عليه مع جميلة، في حين كنتُ أُفَضِّل أن تنتهي المسرحية وجاسر لا يزال جاثمًا كالنسر الجارح في قمم جبال أوراس، كما كنتُ أُفَضِّل ألا تَنْطق جميلة في ختام تلك المسرحية بتلك الجملة الهابطة ذات الطابع الشخصي النابي في مثال هذا الموقف، وهي قولها لجاسر «كنت أفضل أن يقبضوا على جميع سكان المدينة ما عداك»، فلا أحسب أن هذه الجملة يمكن أن يَشْفَعَ لها ما أضافته جميلة بعد ذلك من قولها أنها تعتبر جاسرًا رمزًا للجزائر، فأنا أحسب أنَّ هذه الهنات قد أضْعَفَتْ من الهدف النهائي للمسرحية وهو الإشادة ببطولة إخواننا الجزائريين، وإشهاد جمهورنا العربي على فظائع المستعمرين التي صمد لها إخواننا في الجزائر، ولم تُزِدْهُم وحشِيَّتُها إلا قوةً وتصميمًا، كما كنت أرجو أن تَتَخَفَّف هذه المسرحية من تكرار الكثير من المعاني الخطابية، وبخاصة وأننا نعرف عن إخواننا الجزائريين — كما يقول الزعيم بن بيللا — الاقتصاد في القول والتفاني في العمل، ومن المؤكد أن العمل أفصح قولًا من اللسان.
والذي لا شك فيه أن المخرج حمدي غيث قد نفذ إلى أعماق هذه المسرحية الحية، وعرف كيف يحيطها بإطارها الحق، وكيف يوجه ممثليها إلى الأداء الذي أبرز كافة معانيها، بل وظلال تلك المعاني وألوانها العاطفية الحادة، وإن كُنْتُ قد أحسَسْتُ أنَّه وإن كانت ممثلتنا عايدة عبد الجواد قد استطاعت أن تَنْهَضَ بدور البطلة جميلة على ما فيه من ضخامة وعنف، وبخاصة في مشهد التعذيب والصلب في السجن، إلا أنني أحسَسْتُ أن صَوْتَها عندما يرتفع إلى الطبقات العالية تصيبه نَبْرة غير مُسْتَحَبَّة تُضْعِف من تأثيره، وسرَّني أن أكتشف موهبة رائعة في دور هند الذي أَدَّتْه مُحسِنة توفيق على نحوٍ بَالِغ الصدق والتأثير، وذلك فضلًا عن الممثلين من أمثال الزرقاني وحمدي غيث وعبد الله غيث ومحمد السبع وشفيق نور الدين وعلي رشدي، ولا أنسى الطفل الموهوب عادل تكلا في دور سرحان.