أزمة التأليف المسرحي
أصبح الموسم المسرحي على الأبواب، وأعلنت الصحف أنَّ الموسم سيكون حافلًا، وأن الفرق الفنية قد أخذت تُدَرِّب أعضاءها على المسرحيات، أو على الأقل المسرحية التي ستفتتح بها موسمها، كفرقة «المسرح القومي» وفرقة «المسرح الحر» وفرقة «أنصار التمثيل والسينما»، بل ونَشَرَت الفرقة القومية البرنامج الذي اعْتُمِدَ لموسمها القادم كله، ولكننا إلى جوار ذلك لم نلحظ حتى اليوم نشاطًا مماثلًا في التأليف المسرحي، ولا زلنا نَتَبَيَّن إقبالًا من جيل الأدباء الجديد على كتابة القصة والأقصوصة أكثر من إقباله على كتابة المسرحية؛ حتى ليصح القول بأنه لا تزال هناك أزمة في التأليف المسرحي، مع أنَّ هذا الفن هو — قَطْعًا — فن المستقبل، وبخاصة في وَطَنٍ ناهض كوطننا.
والمسرح فنٌّ يَستفيدُ — إلى حدٍّ بعيد — من قانون بَشَرِيٍّ خطير وفَعَّال في حياة البشر، وبِخَاصَّة في عصرنا الحاضر الكثير الضغط على الأعصاب، وهو قانون أقل الجهود؛ وذلك لأنه يُقدم الأعمال الأدبية والفكرية المجسدة في المسرحية إلى الجمهور بأقل التكاليف العصبية، وبأيسر السبل على الفهم والتصوير.
فالمسرحية تَعْرِض هي الأُخرى قصة، ولكن التمثيل يُغْنِي الجمهور عن قراءتها، بل ويُقدمها مُفَسَّرة مُجَسَّدة في الحوار والحركة والتعبير، ومُوَضَّحة بكافة الوسائل الفنية التي يملكها المسرح؛ كالديكور والمناظر والإضاءة والأصوات الآلية المعبِّرة، والملابس والأزياء والأجواء الطبيعية المناسبة والمفسرة التي تَنْجَح كل تلك الوسائل في خَلْقِها.
وليست كذلك القصة التي تَتَطَلَّب من القارئ جهدًا عصبيًّا لقراءتها ومتابعتها، وجهدًا ذهنيًّا لِفَهْم مراميها القريبة والبعيدة، ونشاطًا في التصور، لِتَخَيُّل الشخصيات والأجواء والبيئات التي تتحرك فيها أحداثها، ولكل ذلك يستفيد المسرح في المستقبل فائدة أكبر من قانون أقل الجهود التي تزدَادُ سيطرته على البشر يومًا بعد يوم كُلَّمَا ازدادت الحياة تعقيدًا وإرهاقًا للأعصاب، مع كل ذلك لا تزالُ مُلاحظاتنا قائمةً تتطلب تفسيرًا.
فلماذا إذن لا يزال الإقبال على كتابة القصص والأقاصيص أكثر من الإقبال على كتابة المسرحيات؟
وأول جواب يتبادر إلى الذِّهن هو أنَّ كل أديب لا مَفَرَّ له من أن يُفكر في وسيلة إيصال إنتاجه الأدبي إلى الجمهور، فبغير هذا الإيصال بالجمهور يُحِسُّ بالضياع والعبث، فالجمهور هو الذي سيُحقق للأديب ما ينبغي من مجدٍ أدبي أو نَفْع مادي أو هما معًا.
وكل أديب — مهما تَجَرَّدَ وادَّعَى التفاني في الفن لذات الفن — لا يستطيع أن يُسْقِط الجمهورَ من حسابه؛ لأنه يتخلى بذلك عن خاصيةٍ أساسية في الفنان وهي طموحه لأن يُؤَثِّر في الحياة، أي: في الجمهور على نحوٍ ما.
ومن هنا تنبع مشكلة أدبائنا وتفضيلهم فنَّ القِصَّة على فن المسرحية؛ وذلكَ لأنَّ الوسيلة التقليدية في إيصال القِصَّة إلى الجمهور هي الطباعة، وهي ميسورة لكل أديب، إمَّا بواسطة المؤسسات ودُور النشر، وإمَّا على نفقته الخاصة إذا أعياه الأمر.
وأنا أعرف عددًا كبيرًا من هؤلاء الشبان الذي يقتطعون من قُوتِهِم اليومي دراهم معدودة كل يوم؛ لكي يُدَبِّروا نفقات طَبْع قصة أو مجموعة من القصص القصيرة، على أمل أن تلقى رواجًا من الجمهور يستردون بفضله كُلَّ أو بَعْض ما أنفقوا، أو على الأقل تَبْرُز به أسماؤهم إلى الضوء، وبالرَّغم من أنَّ الطباعة مُباحة وميسورة أيضًا لِكُتَّاب القصة، إلا أنَّ أمل الناشرين وأمل الأُدباء في الإقبال على شرائها ضعيف؛ لأن جمهورنا العربي إذا كان قد اعتاد أو أخذ يعتاد مُشاهدة المسرحية ممثلة، فإنَّه لم يَعْتَدْ بَعْدُ شراءَ مسرحية لقراءتها؛ وذلك لأنه لم يتكون لدينا تراث مسرحي يُقرأ إلا منذ زمن قريب لا يكاد يتجاوز الثلث قرن، بينما أَلِفَ جمهورُنا التمثيليات التي لا تُطْبَع ولا تُنْشَر ولا تُقْرَأ منذ أكثر من قرن، أخذ يَأْلَفُ خلاله مشاهدة التمثيل.
وإذن؛ فالمسرحية التي يُؤلفها الأديبُ لا سبيل لإيصالها إلى الجمهور غير التمثيل، وإذا كانت العَاصِمَة قد أصبح فيها اليوم ثلاث فرق مفتوحة لكافة المؤلفين، وفِرْقَتَان فُكَاهِيَّتَان يكادُ يحتكر التأليفَ لهما أديبان لا غير، وهما فرقة الريحاني وفرقة إسماعيل يس، فإنَّ الفرق الثلاثة لا تزال تُعْتَبَر سوقًا ضيقة لجمهور الأدباء من الجيل الجديد، حتى لو أضفنا إليها فِرقة الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، التي لا ندري لماذا لم نسمع حتى اليوم عن استعدادها للموسم الجديد، رغم ما لاقته من نجاح في الموسم السابق.
وفي اعتقادنا أنَّ النَّهضة الواسعة التي تقوم بها وزارة الثقافة والإرشاد القومي الآن لتشجيع إنشاء الفِرق التمثيلية الجديدة، ببناء المسارح في العاصمة وفي المحافظات، سيؤدي إلى حل هذه الأزمة إلى حدٍّ بعيد، وإغراء الأُدَباء على التأليف للمسرح وإزالة مخاوفهم من أن يَصْعُب عليهم إيصالُ مسرحياتهم إلى الجمهور.
وفضلًا عن ذلك؛ فإنَّ فِرق التلفزيون المسرحية طريق جديد واسعٌ لكل أديب يَشْعُر بأنَّ لديه الموهبة والقُدرة على التأليف المسرحي، وأجهزة التليفزيون أصبحت اليوم من أقوى الوسائل في الاتصال بالجمهور، وإنْ كنتُ أرجو المشرفين على تليفزيون القاهرة ألا يغمطوا الأُدباءَ حَقَّهم في تعريف الجمهور بهم وتقديمهم إليه، وهناك ظاهرة يجبُ تلافيها في المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون على السواء، وهي غَمْطُ الأدباء حَقَّهم في إبراز أسمائهم والتعريف بهم لدى الجمهور، فكم من إعلان شاهَدْتُه في رأس البر عن مسرحيات الفِرقة القومية أو فِرقة المسرح الحر، وقد حفلت هذه الإعلانات بأسماء إخواننا الممثلين جميعًا والمخرجين أحيانًا، وهذا من حقهم جميعًا، ولكنه من الواجب أن يَفْطِن كل مسئول إلى أنَّ للأدباء حقًّا مماثلًا على الأقل.
ووزارة الثقافة والإرشاد القومي سَاهَمَتْ مُساهَمة قوية أخرى في حل أزمة التأليف المسرحي بتحويلها المعهد العالي للفنون المسرحية إلى معهد نهاري واستكمال أقسامه، وهي قسمُ الأدب المسرحي وقسم التمثيل وقسم الديكور، وأصبح قسم الأدب المسرحي لا يقتصر على تدريس الأدب والنقد المسرحيين منذ أقدم العصور حتى اليوم، بل وأضاف في برامجه الجديدة تدريس فن كتابة المسرحية؛ ليبصر طَلَبَتُهُ — شُداةُ هذا الفن — بأصول التأليف الدرامي وتَطَوُّره منذ عهد سوفوكليس وأرسطو حتى عصرنا الحاضر عند برتولد بريخت وإيرك بنتلي … والأمل معقود في أن يُخرِّج المعهد عددًا كبيرًا من القادرين على التأليف، كما أنَّ قسم التمثيل سوف يتخرج منه الممثلون المثقفون المُدَرَّبون الذين يستطيعون العمل في الفِرق التي تُخَطِّط الدولة لإنشائها أو تمكينها من العمل في العاصمة والمحافظات، ويتبعهم بالضرورة إخصائيو الديكور من خريجي القسم الخاص به في المعهد، ويسرني أن أُبَشِّر هواة هذا الفن بأنَّ مجلس إدارة هذا المعهد يبحث الآن الإعدادَ لمشروع قانون يرفع دبلوم المعهد إلى اسمِ ومستوى البكالوريوس أسوةً بالدرجات الجامعية.
كل هذه الوقائع ستعمل — بلا أدنى ريبٍ — على حل أزمة التأليف المسرحي، ولكنها — ككل خططنا القومية — لن تؤتي ثمرها على الفور، بل لا بدَّ لتنفيذها من وقت نرجو أن يكون قصيرًا، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقف أو نسكت في انتظار ثمراتها، ولا أقل من أن ينشط عشرة أو عشرات من جيلنا الجديد للتأليف المسرحي، وتفضيله على التأليف القصصي، وقد زَوَّدَتْ حركةُ الترجمة — المنتعشة الآن انتعاشًا رائعًا — مُحِبِّي الأدب المسرحي بتراث كبير من الآداب العالمية.
كما تُنْشَر أمهات الكتب عن فن الدِّراما وفن التأليف وفنون التمثيل والإخراج، بحيث لم يَبْقَ لأُدبائنا إلا أن يَنْفُضوا عنهم غبار الكسل، وأن يبدءوا في القراءة الجادة الممعنة تمهيدًا للتأليف المسرحي الناجح، وبِوِدِّي لو نَظَّم المعهد العالي للفنون المسرحية دراسات حرة في فن التأليف المسرحي للأدباء النَّاشئين، تتناول الأصول النظرية العامَّة للدراما والتحليلات التطبيقية التفصيلية الدقيقة لروائع المسرحيات العالمية، وبخاصة ما تُرجم منها حتى اليوم إلى العربية — وهو كثير.
وبِوِدِّي أيضًا أن تُنظم عملية توزيع المسرحيات المؤلفة الصالحة للعرض بين فرقنا المختلفة، بدلًا من أن يُرَكِّز أدباؤنا الناشئون طموحهم منذ الخطوة الأولى نحو الفِرقة القومية التي قد تكون أجزل عطاء ماديًّا وأدبيًّا، ولكنَّها على أية حال لا تستطيع أن تعرض إلا القليل من الكثير الذي ينهال عليها، ومن بينها ما قد يكون دون المستوى المطلوب، كما أنَّ من بينها ما قد يكون في المستوى، ولكنها تُضْطَرُّ إلى المفاضَلة بينه وبين غيره، كما أنَّها قد تختار من كل نوعٍ مسرحيةً واحدة لتنويع برنامجها السنوي، فلا يأتي كله أو معظمه من نوع واحد كنوع الكوميديا أو الدراما مثلًا، وفي فرنسا نفسها — وهي من أعرق البلاد في هذا الفن، بل وتعتبر وريثة أثينا القديمة — لا يصل الكاتب عادة إلى فِرقة الدولة وهي الكوميدي فرانسيز إلا بعد أن يكون الجمهور قد عَرَفَه في دُور المسارح الأخرى التي تملأ باريس، ولا يَجِدُ أي كاتب مهما عَظُمَ شأنه غضاضة في ذلك، فالكوميدي فرانسيز تُعْتَبر تتويجًا للإنتاج المسرحي لكل كاتب.