«القضية» والبناء الدرامي
تبين لي أنَّ الأُسْتَاذ لطفي الخولي مؤلف مسرحي خيرًا منه ناقدًا، فقد طالعتُ له رأيًا يقول فيه إن مسرحية «لعبة الحب» جيدة البناء الدرامي؛ لتوفر الوحدات الثلاث، وهي: وحدة الموضوع، والزمان، والمكان. على نحو ما يقول الكلاسيكيون، فالوحدات الثلاث ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة من الوسائل التي قد تُحَقِّق البناء الدرامي السليم على أساس من المعقولية في مُحَاكاة الحياة.
وأهم من الوحدات الثلاث في نظري ارتباط الأحداث بعضها ببعض وترابطها ترابطًا سببيًّا على نحوٍ يجعل كُلَّ حدث في المسرحية مؤثِّرًا أو منتجًا للحدث الآخر، وهذا هو معنى البناء أو التركيب الدرامي، بحيثُ لا نستطيع أن نقول بسلامة البِنَاء الدِّرامي في مسرحية من المسرحيات إذا قام بناؤها على أحداث مُتوازية، يحشد كل حدث منها نفس الفِكرة التي يُريد المؤلف إبرازها، كالعلاقة الجنسية التي تتوازى في لعبة الحب، وكل منها تكرر نفس المعنى دون ترابط بينها ولا سببية ولا تأثير؛ ففي أمثال هذه الحالة لا تستطيع أي وحدات أن تشفع لمثل هذا التفكك النابع عن التكرار الذي يريد المؤلف إبرازه، اللهم إلا أن يكون هدف المؤلف هو تأكيد هذا المعنى بالنِّسبة لجميع طبقات المجتمع، وهو في هذه الحالة يُضَحِّي بأصول البناء الدرامي في سبيل الفكرة المُلِحَّة كالكابوس، وعلى العكس من ذلك رأيت مسرحية أو «قضية» لطفي الخولي لا تتضمن قضية واحدة، بل ثلاث قضايا، وأنا لم أشغل نفسي بالبحث عن الوحدات الثلاث في قضية الخولي؛ مُكتفيًا بأنْ أراه يصل «بالحداقة» إلى البناء السليم لمسرحيته بجعله قضيتين من الثلاث تخدمان القضية الأخرى، التي تعتبر القضيةَ الأساسية في المسرحية، أي: عمودها الفِقَري، والقضيتان الأخريان مجرد تأييد للقضية الأساسية لا تجسيدًا لنفس الفكرة.
فالقضية الأساسية في مسرح «لطفي الخولي» هي: إيمان المؤلف مع الشاب «عبده» طالِب الطب، بأنَّ الأسلوب الثوري هو الوحيد الكفيل بتخليص مُجْتَمَعِ ما قبل الثورة من التخلف والرَّجعية والفقر المذل، النَّاتج عن البطالة وكساد سوق العمل ورخصه، وذلك بينما يرى الأستاذ منْجِد أنَّ الإصلاح الهادئ المستند إلى القوانين والمَحَاكِم يستطيع أن يُحَقِّقَ نفس الهدف، ولكي يُدَلِّل المؤلف على فساد هذا الرأي الأخير؛ نقلنا إلى المحكمة في قضيةٍ نشبت بين أسرة الشاب «عبده» طالب الطب وأسرة الطالبة «نبيلة» بنت الجيران التي تحب عبده وتريد الزواج منه، بينما أهلها يريدون حملها عنوة على الزواج من رجل ثري عجوز هو الأرناؤطي بيه، فيحتال الشاب والشابة للِّقاء سرًّا في غفلة من أسرة نبيلة، التي لا تكاد تكتشف الأمر حتى تثور ضد أسرة عبده، وتشترك معها في معركة كلامية تكاد تصل إلى التماسك باليد، مما ينتهي بالأُسرتين إلى المحكمة، وبالرغم من أنَّ الأُسرتين قد تصافيتا بعد ذلك إلا أن النِّيابة العامة ظلَّت متمسكة بما تسميه حق المجتمع في عقاب الجانين، مما يوضح أنَّ القانون قد يكون عقبة في سبيل التطور الاجتماعي بدلًا من أن يكون أداة له.
وفي أثناء نَظَر هذه القضية أمام المحكمة نفاجأ بقضية أخرى غير متصلة بالقضية الأولى، ولكن دخولها في مجرى أحداث المسرحية لا يبدو مُفْتَعَلًا ومجرد مصادفة مُقْحَمة؛ لأنه لا غرابة في أن تشهد مع قضية الأسرتين قضية أخرى تؤيد نفس الفكرة عن جمود القانون وعجزه، فالعربجي منصور الطنساوي مُقدَّم للمحاكَمة؛ لأنه فتح شباكًا في بيته بغير تصريح سابق من التنظيم وهذه جنحة، كما أنه مقدَّم للمحاكَمة في جنحة أخرى؛ لأنه أغلق هذا الشباك دون تصريح من التنظيم أيضًا، حتى كاد التطبيق الحرفي للقانون يطير صوابه، فضلًا عن وقوعه في يد اثنين من العرضحالجية يحتالان عليه لابتزاز «لحلوح» منه — أي: جنيه — بِلُغَة تلك الطائفة — بعد إيهامه بأنَّ أحدهما هو مدير التنظيم الذي يستطيع أن يُنْقِذَه من المحكمة، ولما كان الأستاذ منجد صاحب فكرة الإصلاح بواسطة القانون والمَحاكِم قد حضر القضيتين؛ فقد تزعزع إيمانه بفكرته، بينما أَخَذَتْ تنتصر فكرة الجيل الجديد الثورية الممثلة في عبده ونبيلة، بل وتجسد انتصار هذه الفكرة في المجال الاجتماعي على التخلف والرَّجعية، بإبرام عقد زواج شرعي بينهما بمهر أسمي في غير خوف ولا وجل، وبخاصة وأن عبده كان قد نجح في الامتحان النهائي للطب وأصبح قادرًا على أن يتزوج وأن يعول نفسه وزوجته، وبذلك تحققت فكرة المؤلف من كتابة هذه المسرحية الهادفة التي تَدْخُل فيما يُعْرَف عند الأوروبيين باسم: المسرحية ذات الرِّسالة.
مسرحية لطفي الخولي إذن سليمة من حيثُ البناء الدرامي بفضل ترابُط أحداثها وتأثير بعضها في البعض الآخر، ولكن المسرحية ليست بناء دراميًّا فحسب، بل هي أيضًا شخصيات، وإذا كُنْتُ أُذَكِّر أنني قد وَصَفْتُ مسرحية لطفي الخولي وهي «قوة الملوك» بأنها مسرحية شخصيات لنجاحها في تقديم نماذج بشرية، في حين لاحظت تفككًا في بنائها الدرامي، فإني أُلاحظ هذه المرة على العكس أن مسرحية «القضية» قد جاءت أكثر سلامة في بنائها الدرامي منها نجاحًا في تصوير الشخصيات وتحديد أبعادها على نحو دقيق مُقْنع.
وإذا كان المؤلف قد رسم صورة نفسية واجتماعية واضحة لشخصيةٍ مثل شخصية ثابت أفندي الموظف المحالِ إلى المعاش، والمحافظِ المغالي في محافَظته ورجعِيَّته، فإنني على العكس من ذلك لم أتبين أية قسمة اجتماعية لرب الأُسرة الآخر مسعود أفندي والد الطالب عبده، وكل ما عَرَفْتُه هو أنَّه غير قَلِق ولا خائف على ابنه، وهذا طبيعي بالنِّسبة للولد الذكر في مجتمعنا.
وأنا هذه المرة أُحِبُّ أن أُشَاكس بعض الشيء في أجزاء من مضمون هذه المسرحية؛ فقد كان إلى جواري في صالة المسرح أحد كبار رجال القضاء السابقين في بلادنا، وهو القانوني الضليع الأستاذ يحيى مسعود أحد رؤساء محاكم الاستئناف السابقين، فرأيته يميل على أذني ليسألني عما إذا كنتُ أوافق على تصوير القضاء في بلادنا على هذا النحو غير الكريم، فلم أستطع إلا أن أُقره على مغزى سؤاله، بل وأضفت أننا لا نستطيع أن نُحَقِّر القانون في ظلِّ أية فلسفة سياسية، فالقانون هو دائمًا إرادة المجتمع، وهي مقدَّسة يمكن أن تتغير بأسلوب هادئ أو أسلوب ثوري، ولكنه في أية حالة لا بدَّ من احترام القانون وسيادته؛ لأنه ضمان المجتمع والأفراد على السواء، وبدونه يمكن أن تنقلب الثورات ذاتها إلى فوضى وتدمير.
وأمَّا عن الإخراج والتمثيل؛ فإنَّ الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني قد استطاع أن يهيئ لهذه المسرحية المحلية إطارها وجَوَّها الصحيح، وإن كان تفاوُت المؤلف في رسم الشخصيات قد أخل بمستوى الأداء التمثيلي، فبينما كانت مَلَك الجمل في دور الخاطبة سنية ناجحة بل مُكْتَسِحَة، وبينما استطاع شفيق نور الدين في دور الأستاذ منجد، وحسن البارودي في دور ثابت أفندي، أن يقدموا شخصيات نموذجية واضحة الأبعاد؛ بَدَتْ لنا أدوار مسعود أفندي وزوجته مثلًا ممسوخة باهتة، وأما الأستاذ سعيد أبو بكر في دور المحامي فقد أَدْهَشَنا في اصطناع الوقار الخارجي المحبوك والتهريج الداخلي المُتْقَن.