اللحظة الحرجة
وأخيرًا رأت «اللحظة الحرجة» للدكتور يوسف إدريس الضوءَ على خشبة مسرح محمد فريد؛ حيثُ أَخَذَتْ تُقَدِّمها لفرقتنا القومية بعد أن أدخلت على هذه المسرحية تعديلات كثيرة، بناء على توصيات لجنة القراءة وغيرها من الجهات المختصة، ولستُ أدري إلى أي حدٍّ أفادت هذه التعديلات المسرحية، وإلى أي حدٍّ أَضَرَّتْ بها، ولكنني أحسسْتُ عند مُشَاهدتي لها أنها لم تستطع أن تقنعني الإقناع الكافي، لا من ناحية مضمونها الإنساني، ولا من ناحية الأصول الفنية للتأليف المسرحي.
تدور هذه المسرحية حول قصة أب هو الحاج نصار الذي ابتدأ حياته نجارًا متجولًا، ثم استطاع بفضل اجتهاده وتدبيره أن يصل لتأسيس ورشة يقوم بإدارتها الآن، وبعد أن طَعَنَ الحاج نصار في السن حلَّ محلَّه ابنه الأكبر مسعد، بينما استطاع الحاج نصار أن يدفع ابنه الثاني سعد إلى مواصلة تعليمه حتى أصبح طالبًا في كلية الهندسة، وأمَّا أولاده الآخرون فلا يزالون صغارًا، وإن تكن له بنت على وشك الزواج، ويَعْتَبِر الحاج نصار هؤلاء الأولاد مع الورشة ثمرةَ جهاده التي يَحْرِصُ عليها حرصًا شديدًا، ولا يقبل أن يُعَرِّضَها لأي خَطَرٍ، حتى ولو كان هذا الخطر ضرورةَ الدِّفاع عن الوطن ضد الغزاة.
وقد نستطيع أن نقبل هذا الوضع من حيثُ المبدأ باعتباره شعورًا إنسانيًّا لا حيلةَ للإنسان فيه، وهو الشعور الغريزي بحب الولد وحب ثمرة جهادنا في الحياة، ولكنه من الواجب أن يَظَلَّ هذا الحب المشروع في حدود المعقول والمقنع، وهي حدود ترسمها طبيعتنا البشرية ذاتها، فإنكار مثل هذا الشعور الإنساني المشروع إنكارٌ لحقيقة واقعة، بل وتَنَكُّر لإنسانيتنا ذاتها، ولكن المبالَغة في هذا الشعور المشروع تعتبر هي الأخرى تزويرًا لطبيعتنا الإنسانية التي لا تستطيع أن تتحجر أمام الأحداث الجسام، وأن تمتنع عن الانفعال بها والتكيف معها، ولو كان في ذلك خطر على أعز ما نملك، ولقد كنَّا نفهم أنْ يضن الحاج نصار بولده سعد على التدريب من أجل الحرب والاستعداد لها، ما دامت تلك الحرب لا تقرع بابَه فعلًا، وأما عندما يقع المحظور وتأخذ الحرب تدق على بابه بيد غليظة مضرجة بالدماء؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور كيف يَظَلُّ — بالرغم من ذلك — الحاج نصار متحجرًا في موقفه مِنْ مَنْع ولديه الكبيرين بكافة السبل من الاشتراك في مثل هذه الحرب العدوانية، التي تُوشِكُ أن تمتهنه هو وأسرته، بل وأن تمتهن وَطَنَه كله.
وتحَجُّر موقف الحاج نصار هو الذي أصاب الفصل الأول والثاني من المسرحية بالجمود والركود، فالفصلان بكاملهما لا يعرضان علينا إلا موقفًا واحدًا مستمرًّا هو موقف الحاج نصار وزوجته من ولديهما، وبخاصة من ابنهما سعد الذي يُظْهِر حماسةً خاوية للحرب والاستعداد لها، ويظل منذ أن تُرْفَع الستار يصيح في أُمِّه صيحات مستمرة مزعجة لا تهدأ لحظة واحدة، بل تستمر بنفس النبرة ونفس الجعجعة حتى تزعجنا بغير مبرر.
ولقد كنَّا نستطيع أن نفهم هذا الوضع، على اعتبار أنَّ المؤلف قد أراد أن يُقْنِعَنَا بأنَّ شدة الحرص على الحياة والخوف من الموت بالنِّسبة لأنفسنا وبالنسبة لمن نُحِب قد لا ينفعنا بشيء في المحافظة على حياتنا وحياة أبنائنا، بدليل أنَّ حِرْص الحاج نصار على المحافظة على ولديه لم يمنع ابنه الأكبر مسعد من أن ينضم إلى الفدائيين ويسير معهم لملاقاة العدو، فيُصاب في ذراعه ويعود إلى المنزل وذراعه معلق بعنقه، بينما استطاع الحاج نصار أن يحتال على ابنه الأصغر سعد ليُدْخِله حجرة ويُقفلها عليه، وإن كنَّا نعلم في النهاية أن رِتَاج هذه الحجرة لم يكن مُحكمًا، ثم نرى جند العدو يقتحمون على الحاج نصار مسكنه ويقتلونه برصاصة وهو يصلي ركعتين لله شكرًا على نجاة ولديه من الموت في الحرب، وبذلك لقي الحاج نصار جزاء جُبْنِه وجموده المتحجر وحِرْصه على الحياة.
ويأتي الفصل الثالث الذي قُتِلَ فيه الحاج نصار برصاصة مدوية داخل المنزل، وهي رصاصة كنا نتوقع أن يُثير دَوِيُّها الابن سعد، فيحاول الخروج من حجرته الواقعة على الصالة، حيث أُطْلِقَتْ الرصاصة على أبيه، ولكننا نراه مع ذلك يظل ساكنًا لا يحاول فتح الباب — فضلًا عن كسره — حتى تأتي أخته الصغيرة الطفلة سوسن فتفتح له الباب في سهولة، ويخرج سعد ويرى أباه مضرجًا بالدماء، وكنا نتوقع منه عندئذٍ أن يثور ويهيج ويندفع فورًا للانتقام لأبيه وشعبه ووطنه، ولكنه بدلًا من ذلك يَقِف موقفًا عجيبًا غيرَ مفهوم ولا مُقْنِع على الإطلاق، إذ نراه يسائل نفسه إلى جوار جثة أبية أسئلة عجيبة ليعرف: هل هو شجاع وكان يُريد القتال حقًّا دفاعًا عن الوطن والشرف، أم هو جبان كان يغطي جُبْنه بالجعجعة الفارغة؟ ومثل هذا التساؤل والتردد كان خليقًا بأن يثلم همته ويطفئ حماسة غضبه، ومع ذلك نفاجأ به وهو يَقْبِض على مسدَّس ويندفع به اندفاعًا مصطنعًا غير مقْنِع إلى خارج الشقة، حيث يقابل أحد جنود الأعداء وهو نازل على السلم، فيُطْلِق عليه الرصاصة من مسدسه فتقتله، ثم يَنْزِل عَدْوًا على درجات السلم وأمه تزغرد مِنْ خَلْفه زغردة مصطنعة غير مقنعة؛ لأننا لم نشهد ولم نُحِسَّ بتطور أمه من موقف الجبن والحرص الشديدين السابقين إلى موقف الحماسة والفرح لخروج ابنها لمقاتلة العدو.
وفي رأينا أن قَتْل زوجها لا يكفي وَحْده لتبرير هذا التطور الجذري، فمثل هذه الطبيعة الجبانة الشديدة الحرص على الحياة كانت خليقة بأن تدفعها إلى المزيد من الخوف من أن يَلْحَق ابنُها العزيز سعدٌ أباه إلى الموت، لا أن تفرح بخروجه لتحدي هذا الموت.
والذي لا شكَّ فيه أن رغبة المؤلف أو اضطراره إلى أن يخفف من روح الهزيمة، التي كانت متفشية في النص الأول من المسرحية، هو الذي دفعه إلى إدخال هذه التعديلات التي تبدو مصطَنَعة غير متَّسِقة مع مقدمات المسرحية.
ويُخَيَّل إلينا أنَّ المخرج نور الدمرداش قد زاد الأمور سوءًا بطريقة إخراجه؛ حيث رأيناه يجعل الغرفة التي حَبَسَ فيها الحاج نصار ابنَه سعدًا مفتوحة من أحد أركانها على الصالة التي دَوَّتْ فيها رصاصةُ العدو التي قَتَلَت الحاج نصار، بحيثُ أصبح من المستحيل أن يفترض أحدٌ أن سعدًا لم يسمع دوي هذه الطلقة النارية، وعندئذٍ يزداد عجبنا من سكونه وسكوته داخل هذه الغرفة، وعدم مُحَاوَلَته الخروج منها، وانتظاره حتى تفتح له الطفلة سوسن الباب لمشاهَدة أبيه جثة هامدة، بينما لو كانت هذه الغرفة مُغلقة الجدران لأمكن أن نفترض جدلًا عَدَمَ سماع سعد لدوي الطلقة.
والطريقة التي أدى بها حسن يوسف دَوْر سعد كانت طريقة مُسرفة في الجعجعة التي جاءت كلها على وتيرة واحدة، وفي غير تلوين أو تنويع وِفْقًا للأوضاع التي كان يلتقي فيها مع أمه، وكنَّا نفهم مثلًا أن يبدأ هذا الممثل بنغمة أقل ارتفاعًا وصخبًا، ثم تزداد تلك النغمة بازدياد مُقَاوَمة أمه وأبيه لرغبته في مواصلة التدريب استعدادًا للحرب، ولكن النغمة الصاخبة ابتدأت بمجرد رفع الستار واستمرت على نفس الوتيرة؛ حتى نجح أبوه في حَبْسه داخل الغرفة، وما أظن أن الإيحاء بأنَّ حماسته جوفاء كلها تستدعي هذه النغمة الصاخبة منذ رفع الستارة، وكان يكفي أن تبدأ هادئة بعض الشيء، ثم تزداد صخبًا بازدياد المعارضة لرغبته.
وهكذا أثبَتَتْ هذه المسرحية أنَّ ترقيع النَّص الأصلي لا يضمن استقامته من الناحية الإنسانية، والناحية الفنية، ما دام التصميم الأصلي للمسرحية وفِكْرتها الأساسية لم تكن سليمة واضحة متسقة، وكان من الممكن أن يستطيع مُخْرِج آخر أن يخفف من وضوحِ ما يبدو مفتعلًا بعد التعديلات التي أُدْخِلَت على النص الأصلي، ولكنَّ المسرحية لسوء الحظ لم تجد في نور الدمرداش هذا المخرج.