مسرحية «قصر الشوق»
يظهر أن حملة النقد التي وُجِّهَتْ إلى المَشاهد الخليعة في مسرحية «بين القصرين» في الموسم الماضي قد كان لها أَثَرُها في التخفيف من مثل هذه المشاهد في الحلقة الثانية من ثلاثية نجيب محفوظ عند إعداد قصر الشوق للمسرح، كما شاهدتها على مسرح الجمهورية منذ أيام، وفرقة المسرح الحر تقدمها لجمهور القاهرة، أو يَظْهَر أن مُخْرِجَنا الشاب المهذب الذوق كمال يس قد خَلَّصَها — كما علمت — من بعض تلك المشاهد الصارخة حرصًا على ذوق المشاهدين، وذلك بالرغم من أنَّ قصة «قصر الشوق» كانت تسمح بتقديم مشاهد فاقعة من أمثال ما انتقدناه في العام الماضي أكثر من قصة «بين القصرين»، وأضْرِبُ لذلك مثلًا بمغامرات أم مريم أيضًا مع ياسين، فقد كنتُ أخشى أن تُسْتَغَلَّ هذه الإشارة في الإعداد لتزيد الطينة بلة، ولكنني حمدت الله لإفلات هذه الإشارة من براثن الإعداد، بل لقد أحسَسْتُ أن هذه المسرحية قد حاوَلَتْ أن تركز الأحداث والحوار حول نقطة ضعف جديدة كانت تنخر في عظام المجتمع عندئذٍ، وهي شدة الإحساس بالفوارق الطبقية، بعد أن رَكَّزَتْ مسرحية بين القصرين على الانحلال الأخلاقي والشراهة الجنسية، فالفوارق الطبقية هي التي نَكَبَت — فيما يبدو — الشابَّ النَّظيف كمال في حياته العاطفية، تلك النكبة التي أوْدَتْ به إلى البارات عندما سَخِرَتْ منه بنت أسرة شداد الأرستقراطية التي لم تكن تقبل نسب أسرة تاجر من أولاد البلد.
وإذا كانت العالمة زبيدة لم تَظْهَر لحسن الحظ في المسرحية لمرضها بالمستشفى، فقد حلَّت محلها زنوبة صبيتها بجدارة وتفوق، وإن تكن أقَلَّ فحشًا، وإذا كانت المشاهد الفاقعة قد انتقلت من بيت العالمة زبيدة إلى عوامة فإنَّ هذا الانتقال لم يَقْضِ على دسامة تلك المشاهد، وإن هَذَّبَها إلى حدٍّ معقول، ومن الممكن أن تُحْمَلَ مَحْمَلَ الفكاهة رقصةُ البطن التي يقوم بها السيد عفت في العوامة وهو سكران، وإذا كان السيد أحمد عبد الجواد قد عَرَفَتْ زنوبة كيف تلعب على غريزته النهمة، حتى تُرْغمه على أن يشتري لها عوامة بأكملها، فإننا قد حمدنا له تَمَاسُكَه عندما رَفَضَ أن يُلَوِّث عرضه بقبول الزَّواج منها في نهاية المسرحية.
وقصة «قصر الشوق» ليس فيها أصلًا مقومات الدراما، وليست فيها قصة موحدة يمكن أن تُبْنَى عليها مسرحية، ولكنها دراسة تحليلية لقطاع من حياتنا في أعقاب ثورة سنة ١٩١٩، وكانت نار تلك الثورة العاتية قد هدأت، ولذلك طغى فيها التحليل الاجتماعي والأخلاقي على مَشَاهد الثورة التي ضمرت عنها في قصة «بين القصرين»، ومع ذلك فمن المؤكَّد أنَّ رُوح الثورة كانت لا تزال حية في قصة نجيب محفوظ، وكان الإعدادُ المسرحي يستطيع أن يركز على مَظاهر تلك الروح قَدْر تركيزه على مظاهر التفسخ الاجتماعي، الذي كان من أسباب فشل تلك الثورة في أن تصل إلى هدفها الكامل من تحرير الوطن.
ومن المؤكد أنه قد كان هناك مجالٌ لتصوير نوع من الصراع بين روح تلك الثورة التي أَخَذَتْ تصهر المجتمع وتُطَهِّره من بعض أدرانه، وبين التحليل الاجتماعي والأخلاقي الذي كان يَنْخَر عندئذٍ في مجتمعنا، أو في القطاع الحضري الذي صَوَّرَه نجيب محفوظ، ولقد أطل علينا بالفعل هذا الصراع في أحد مشاهد المسرحية عندما رأينا الشاب كمال وهو في البار ينشج بالبدء وينسى نكبة غرامه الفاشل ببِنْت شداد بك، أو على الأصح يحسُّ أن نكبته قد تضاعفت وأنه قد فَقَدَ كل شيء عندما سَمِعَ باعة الصحف وهم يتصايحون بموت قائد الثورة عندئذٍ سعد زغلول.
القصة الأصلية إذن قصة اجتماعية تحليلية، وليست قصة درامية تصلح للإعداد المسرحي، وكذلك جاءت المسرحية، إلا أنني أعترف مع ذلك أن عددًا من الممثلين وأن المخرج قد استطاعوا أن يجذبوا انتباه الجمهور وانتباهي لمُتَابَعتها والإعجاب بما نفثوا فيها من حياة، وما أحاطها به المخرج الشاب من إطارٍ وجوٍّ بانورامي، قرَّب الإخراج من الإخراج السينمائي، فكُنَّا نرى قطاعًا كاملًا من الحي الذي تجري فيه أحداث المسرحية، وكأنما كاميرا السينما قد الْتَقَطَتْ هذه المشاهد، مما يُزِيد من إيماننا بأننا نُشاهد واقعًا لا حِيَلًا مسرحية، وإن تكن بعض اللقطات قد صَدَمَتْني، مثل لقطة مريم وهي تنشر الغسيل فوق السطوح في أول المسرحية ويس يغازلها في بجاحة، فما أظنُّ أن مُطَلَّقة كمريم كانت تجرؤ عندئذٍ على أن تظهر فوق سطح المنزل في مثل ما ظهرت به من لباس، ولا أن تأتي بمثل ما أتت به من حركات مثيرة، وإن كنتُ أقر للممثلة التي قامت بهذا الدور بقدرتها على الفهم والتعبير، وبخاصة عندما عادت إلى الظهور على خشبة المسرح في العوامة، حيث ضَبَطَتْ زوجها الألعبان يس مع زنوبة وهو يَدَّعِي أنه قد طلقها لتَقْبل زنوبة الزواج منه.
كما أنني لا أستطيع أن أغفل الإشارة إلى حُسن اختيار أحمد سعيد لدور السيد أحمد عبد الجواد، ولا يَرْجِع حُسن الاختيار إلى لياقة أحمد سعيد البدنية لهذا الدور فحسب، بل يرجع أيضًا إلى براعته في تقمصه، وكم كان رائعًا أداؤه للمشهد الأخير، مشهد غيرته على زنوبة وانهياره أمام مَكْرها الخبيث، بل ولا أستطيع أن أغمط عمر عفيفي حَقَّه بالاعتراف بجودة أدائه التمثيلي، فما ينبغي أن تُغَطِّي طبيعةُ دوره المنفِّر على جودة أدائه، بل يجب أن يُعْتبر التنفير من شخصية يس دليلًا على هذه الجودة، وبخاصة وأنه قد استطاع بخفة حركته وإشاراته أن يخفف بإثارة الضحك أو الابتسام من إثارة تلك الشخصية.
وكم كنتُ أودُّ لو وَضَعَت فرقة المسرح الحر بين أيدينا برنامجًا أستطيع أن أجد فيه اسم الممثلة القديرة التي قامت بدور أمينة؛ زوجة السيد أحمد عبد الجواد وأم المرحوم فهمي الذي مات في مسرحية بين القصرين، وأم كمال أحد أبطال قصر الشوق، فكم كانت سذاجتها رائعة، وكم كانت حركاتها وألفاظها موحية بجوِّ الإرهاب الذي يُشِيعُه السيد أحمد عبد الجواد في منزله، وكذلك الأمر بالنسبة للشاب الذي قام بدور كمال، فبودي لو استطعت أن أَذْكُره هو الآخر؛ لأنه يستحق هذا الذكر، وإذا كانت لي ملاحظة أخرى على الأداء التمثيلي فإنها تنصرف إلى المكياج، فقد فهِمْنا مثلًا أن السيد أحمد عبد الجواد قد وَصَل في هذه المسرحية إلى سن الشيخوخة أو على الأقل الكهولة، ومع ذلك ظل أحمد سعيد شابًّا كما كان في بين القصرين، وكنتُ أودُّ لو لَمَحْتُ على وَجْهِه بعْضَ تجاعيد الحياة، ومع كل هذا فأنا أعتبر هذه المسرحية أكثر نظافةً وجَوْدَة من سابقتها «بين القصرين».