«الأرض» على مسرح التليفزيون
في يوم الأربعاء الماضي التقيت مساء بشاعر وأديب من السويد في نادي القصة، وقد جاء هذا الأديب إلى بلادنا ليتعرف على حياتنا الأدبية والفنية المعاصرة استعدادًا للكتابة عنها في مجلة سويدية كبيرة تصدر في استكهولم، وقد قدَّمني أديبُنا الكبير الأستاذ محمود تيمور إلى هذا الضيف، وأخبره أنه يستطيع أن يجد عندي ما يريد، وهذا — بلا ريب — تفضُّل من الأستاذ تيمور، ومع ذلك حرصت على أن أكون عند حُسن ظنه، فأخذتُ أُبَلْوِر للضيف معالِم نهضتنا الأدبية والفنية المعاصرة وأسُسها الفكرية والفنية العامة.
ثم تذكَّرتُ أن في برنامجي في ذلك اليوم مشاهَدةَ مسرحية «الأرض» للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي على مسرح «التليفزيون»، وقفز إلى خاطري أنني أستطيع أن أدعو الضيف إلى مشاهدة هذه المسرحية معي، وأنا مطمَئن إلى أنني سأتيح له فرصة الاتصال المباشر بعمل أدبي فني لا أستحي من أن يراه، ومن المؤكد أنه لو كانت «لعبة الحب» التي سأراها لتردَّدْتُ أشد التردد في أن أدعو ضيفنا الشاعر الأديب برسي باكلند لمشاهدتها؛ لأنني أخشى أن يظن أن ما تَعْرِضه هذه المسرحية يمثل نَظْرتنا إلى المرأة ويُصوِّر علاقة الرجال بها في كل قطاعات حياتنا ومجتمعنا، وبذلك أَظْلِم نفسي عنده وأظلم شعبي، بل وأظلم معنى الإنسانية كلها، وذلك في حين أنَّ مسرحية «الأرض» وإن كانت تُصَوِّر أنواعًا من الظلم والاستبداد التي كان شعبنا يشقى بها قبل الثورة، إلا أنَّ المسرحية تُصَوِّر أيضًا تمرُّد شعبنا على هذه المظالم وسخطه عليها، والانتفاض ضدها انتفاضات إذا كانت لم تستطع أن تنجح فإنها بلا ريب كانت إرهاصات حيةً قوية لثورتنا الكبرى، التي اقتلعت تلك المظالم في سنة ١٩٥٣، وبذلك تُعْتَبَر وثيقةَ شَرَف وحياة بالنِّسبة لشعبنا، لا وثيقة إسفاف وحيوانية كمسرحية «لعبة الحب» بطبلة حريش وكيزان الذرة، وما لهما من «إيحاء وتعبيرية».
وشاهدت مسرحية «الأرض» مع الضيف السويدي وترجمتُ له معظم الحوار لكي أُعِينه على أن يكوِّن فكرة واضحة كاملة عن المسرحية شكلًا ومضمونًا، ولقد سرني أنْ أحسستُ أن ضيفنا قد راقَهُ أن يرى في هذه المسرحية صورة صادقة لريفنا المصري قبل الثورة، وما كان يجيش في قلوب أبنائه من انتفاضات ثورية، وإن يكن قد رأى — كما رأيتُ — أن الأداء التمثيلي قد كان فيه شيء من المبالَغة في الحركة والصوت، كما رأى أنَّ المسرحية محتشدة بالشخصيات الكثيرة فوق خشبة مسرح ضيقة، مما يُوحي بأنَّ الحركة مقيَّدة مخنوقة.
ومسرحية «الأرض» كعدد من سابقاتها في مسرح التليفزيون من مسرحيات الإعداد؛ لأنَّ عبد الرحمن الشرقاوي — كما هو معلوم — قد كتبها في الأصل قصة، والقِصَّة تتسع بطبيعتها للكثير من الأحداث والشخصيات والوصف والتحليل والتفسير، أي: إنها لا تقوم على وحدة الحدث وتطوُّره وتأزُّمه وانفراجه في بناءٍ درامي مُحَدَّد، كما هو الحال بالنسبة للمسرحية، مما يجعل تحويل القصة إلى مسرحية ضربًا من التعسف، ومع ذلك فقد علمتُ أنَّ المخرج الأستاذ سعد أردش قد بَذَلَ كل جهد ممكن لِكي يقترب بهذا المضمون القصصي المسهب من القالب الدرامي، وإن ظلت الطبيعة القصصية تتمرد بين يديه وتغالبه لكي تتجه إلى الطابع الاستعراضي، وهذا هو الخطر الحتمي الذي يواجه صناعة الإعداد باستمرار.
فالمسرحية تبتدئ بعرضِ مشكلةِ أراضي صغار المزارعين في القرية أسوةً بأرض الإقطاعي محمود بك، وتمرُّد هؤلاء الفلاحين الصغار على هذا الظلم، ومحاولة رجل الدين الشيخ الشناوي تخدير تمرُّدهم تملقًا للسلطة وللإقطاعيين، بينما عبد الهادي يُزْكي روح الثورة عند إخوانه الريفيين، بل ويقود تلك الثورة علانية، ثم تنتقل المسرحية إلى مُشكلة أخرى وهي مشكلة شق طريق نجح محمود بك في أن يحمل المختصين على رَسْمه عبر قراريط الفلاحين الصغار؛ لكي يلتهمها هذا الطريق ويتجنب أراضيه الواسعة، وعندئذٍ يظهر في القيادة الشعبية شخص جديد هو الشيخ حسونة الذي كان ناظرًا لمدرسة القرية، وأنه قد نُقِلَ منها في شِبْه نفي لمساعدته أنصار الشعب الحقيقيين في الانتخابات، ونحنُ لا نستطيع أن نرى في هذين الحدَثَيْن الكبيرين أيَّ ترابُط تبعيٍّ بحيثُ نعتبر أحدَهما الحدثَ الأساسيَّ والآخر حدثًا تبعيًّا أو فرعيًّا، وبالطبع لا ضيْر في ذلك على القصة، ولكنَّ المسرحية لا غنًى لها عن وحدة الحدث، أو على الأقل لا غنًى لها عن بروز حدث أساسي وانتظام الأحداث الأخرى حوله كأحداث فرعية، وكل ذلك فضلًا عن الأحداث العاطفية الصغيرة المتناثرة في تلافيف المسرحية، وبخاصة العلاقة العاطفية النظيفة التي تقوم بين عبد الهادي والفتاة الريفية وصيفة، وهي الصورة الصادقة للجانب النظيف من حياتنا، وما أَبْعَدَها عن علاقة حريش ونفيسة في لعبة الحب.
هذا، ولقد ابتكر الأستاذ سعد أردش أسلوبًا جديدًا على مسرحنا العربي في إخراج هذه المسرحية باستخدامه المنظر الواحد ذا المستويات المختلفة، وتصويره قَصْر الإقطاعي على ستارة خلفية، وأنه يسيطر على القرية كلها وما فيها ومَن فيها، كما ألغى الستارة وإن يكن قد احتفظ بالحائط الرابع، أي: بالأصل التقليدي السليم لفن التمثيل، فلم نَرَ قط ممثلًا في مسرحية يوجِّه الحديث إلى الجمهور، كما أنني لم أستطع أن أوافق ضيفنا السويدي على أنَّ الحركة والصوت كلها مبالَغ فيهما دائمًا، وأُفَضِّل عدم التعميم، فمِن المؤكَّد مثلًا أن ممثلنا القدير المخضرم عبد الوارث عسر قد أدى دور رجل الدين الشيخ الشناوي في اعتدال وأستاذية ودقة تصل إلى حد الإيهام بالواقع، كما أنَّ الأدوار النِّسائية قد أُدِّيَتْ أيضًا في اتزان وأستاذية يستطيع أي شخص عادي أن يدركهما، وبخاصة إذا قارَنَ أداء كريمة مختار ووداد حمدي وسلوى حسين وعايدة عبد العزيز بأداء برلنتي عبد الحميد المسرف في مسرحية «العش الهادئ».
وأمَّا عن تقيد الحركة واختناقها في هذه المسرحية العريضة الواسعة الأطراف؛ فيُخَيَّل إليَّ أنَّ المخرج لم يكن يستطيع إزاءها شيئًا؛ لأنَّ خشبة المسرح نفسها ضيقة، وقد استخدمها المخرج رغْم ضِيقها على خير وجه ممكن، وما ينبغي أن نَنْسَى أنَّ هذه المسرحية كانت في أصلها قصة كبيرة مُتَرامية الأبعاد، وأنَّ إعدادها للمسرح كان في الواقع ضربًا من المغامرة، وإنني لَأُحَيِّي المخرج الذي استطاع مع ذلك أن ينقذها إلى حد بعيد، كما أحيي الممثلين الذين استطاعوا أن يتقمصوا كل هذه الأدوار على تفاوُتِ أبعادها من العبط إلى الثورة إلى النِّفاق، ومن الشدة إلى المُلاينة ومن التهور إلى الدهاء والمُسَايرة، بحيث خَرَجْتُ وأنا مسرور إذْ أَتَحْتُ لضيفنا السويدي أن يشاهد صورة نظيفة حية نابضة لشعبنا الذي يستحق بجدارةٍ مجدَ ثورتنا الأخيرة.