قنديل أم هاشم
نشأ إسماعيل ابن الحاج رجب في حي السيدة زينب، حيث «كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات، وكل ما تقع عليه عيناه ولا يراه من الأشباح، لها مقدرةٌ عجيبة على التسلل إلى القلب والنفوذ إليه خُفْيَةً والاستقرار فيه والرسوب في أعماقه». وأرسله أبوه التاجر الصغير الذي تَيَسَّرَتْ حاله إلى إنجلترا؛ حيثُ دَرَسَ طب العيون خلال سبع سنوات، تَغَيَّر فيها تغيرًا كبيرًا «كان عَفًّا فغوى، صاحيًا فسكر، راقَصَ الفتيات وفَسَقَ، هذا الهبوط يكافئه صعودٌ لا يقل عنه حدة وطرافة، تَعَلَّمَ كيف يتذوق جمال الطبيعة ويتمتع بغروب الشمس، كأنْ لم يكن في وطنه غروب لا يقل عنه جمالًا، ويلتذ بلسعة برد الشمال، وبدا له الدينُ خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير، والنفس البشرية لا تجد قوتها ومِنْ ثَمَّ سعادتها إلا إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها، أمَّا الاندماج فضعف ونقمة، وقال يومًا لزميلته الإنجليزية: سأستريح عندما أضع لحياتي برنامجًا أسير عليه؛ فضحكت وأجابته: يا عزيزي إسماعيل، الحياة ليست برنامجًا ثابتًا، بل محاولة متجددة.»
بكل هذا يحدثنا الأديب المرهف «يحيى حقي» عن بطل قصته الرائعة «قنديل أم هاشم»، التي وَقَعَتْ بين براثن أمينة الصاوي، فلم تفهم منها شيئًا، أو فهمت شيئًا سوقيًّا سطحيًّا لا قيمة له، فلفَّقَتْ من هذه القصة الفريدة العميقة مسرحيةً تُصَوِّر وضعًا عارضًا انقرض من مجتمعنا أو كاد، حيثُ لم نَعُدْ نرى شعبنا في حي السيدة زينب أو غيره يُفاضل بين الحلاق والطبيب، والدكتور إسماعيل بعد عودته من إنجلترا لم يدخل في صراع مع حسين الحلاق، بل دخل في صراع عميق عنيف بينه وبين نفسه، وبعبارة أوضح بين عاطفة الإيمان التي تَرَسَّبَتْ منذ الطفولة في أعماقه، وبين التفكير العلمي الذي اكْتَسَبَه من أوروبا، وبعبارة موجزة في صراع بين عاطفته وعقله.
وتتبع يحيى حقي بمجهره الدقيق مراحل هذا الصراع منذ أن بدأ عنيفًا في نفس إسماعيل العائد لتوِّه من أوروبا، حيثُ يصرخ في أهله وبيئته ويُسَفِّهُ — في عنفٍ — معتقداتِهم، بل ويحطم قنديل أم هاشم نفسه ويلقي بزيته — الذي يستخدمونه في شفاء الرَّمد الخبيث — من النافذة، وكأنَّه ألقى قنبلة في حيه كله، حتى ينتهي في النهاية إلى التسليم بعاطفة الإيمان وضَمِّها إلى وسائل علاجه العلمية، كعامل مساعد على الشفاء ما دام لم يَتَنَازَلْ قط عن إيمانه هو الآخر بالعلم وضرورة إقناع قومه بجدواه واعتباره سبيل الخلاص الحق من المرض.
كان الصراع في قصة قنديل أم هاشم صراعًا داخليًّا يجري داخل نفس إسماعيل بطل القصة، وكان صراعًا مرهفًا لا تدركه إلا نفس مرهفة نافذة البصيرة كنفس يحيى حقي، وإذا به ينقلب بين الأيدي السميكة التي أَعَدَّت المسرحية إلى صراع خارجي غليظ بين الدكتور إسماعيل وحسين الحلاق، أو بين العلم والخرافة، وإذا بحسين الحلاق يصبح البطل الحقيقي للمسرحية، ويستطيع الممثل القدير أحمد أباظة أن يجعل منه الشخصية الطاغية المسيطرة.
وما أن ينحصر الصراع بين حسين وإسماعيل حتى تتضاءل أدوار الشخصيات الأُخرى، ونكاد نحسُّ بأنها مُقحَمة على المسرحية، فالحاجة نعيمة كانت في القصة فتاة ساقطة انتشلها الإيمان من وهدتها، واستمع إسماعيل يومًا إليها وهي تضرع لأم هاشم أن تعينها على الخلاص والطهر في عبارات حارة صافية نفذت نبراتها إلى نفسه، فأحسَّ بفيض الأمل الذي يشعه الإيمان على النفوس المنهارة، وعندما تهيأت نفس إسماعيل في نهاية القصة إلى التصالح مع الدين كانت رؤيته للحاجة نعيمة بعد أن تابت وأنابت وتطهرت من الرجس عنصرًا هامًّا في هذه المصالحة، بينما نراها تظهر في المسرحية وتستمر ظاهرة دون أن ندري لماذا، ودون أن نتبين في وضوح طريقة اشتراكها في الصراع الدائر، وإذا كنَّا قد سمعنا عبده أفندي السكير يطلب إلى الله في رحاب أم هاشم أن يشفيه من داء السُّكْر؛ فإننا لم نُلْقِ بالًا إلى هذه الصيحة العابرة، ولم يستطع الإعداد أن يوحي إلينا بأهمية الدين في إنقاذ مثل هذا السكِّير بالرغم من قدرة الممثل الكفء محمد توفيق في أداء هذا الدور داخل الحدود الضيقة التي رُسِمَت له.
نعم، إنَّ الإعداد قد جَسَّدَ في وضوحٍ الصراعَ بين العلم من جهةٍ والخرافة والدجل من جهة أخرى، وأَبْرَزَ في النهاية انتصار العلم، بل وأَجْبَرَ ممثل الدَّجل والشعوذة حسين الحلاق على أن يلتمس شفاء عينيه هو نفسه من الدكتور إسماعيل الطبيب العالم، ولكن هذه القضية كلها قد تخطاها الزَّمن وتخطاها شعبنا بحمد الله أو كاد، وهي على أية حال ليست القضيةَ التي شغلت يحيى حقي ولا تزال تشغله وتشغل الإنسانية كلها، وهي قضية المصالحة بين الإيمان العاطفي والتفكير العلمي الصارم.
فيحيى حقي وغيره من ملايين المثقفين ثقافةً علمية واسعة في العالم كله لا يزالون حائرين مبلْبَلِين بين رواسب الإيمان العميقة وبين التفكير العلمي القاسي، وهذه حقيقة لا يدرك مدى صدقها إلا مَنْ بلاها بنفسه، وبخاصة مِنَّا نحن الشرقيين، الذين نرضع الإيمان في بيئتنا الشرقية، ثم تُبْهِرُنا أضواء العلم الحديث في أوروبا عندما نُوفَد إليها للدراسة، فنحار ونضطرب بين عالَمَيْن؛ إذ نرانا نؤمن بالعلم وقدرته، ومع ذلك لا نلبث عندما نعود أن نحسَّ بإشعاعات الإيمان الغيبي تتخلل أنسجة عقولنا من جديد.
وهذه هي المشكلة الخطيرة التي عالجها كاتب كبير كيحيى حقي الذي يجمع في نفسه بين النَّزعة الدينية المتصوفة الرَّهيفة والثقافة العقلية الواضحة الصلبة، وشتان بين قصته والمسرحية المأخوذة عنها.
وفي الحق، إنَّ هذه المسرحية قد مَزَّقَتْ نفسي، فأنا يسرني أن نُقَدِّم إلى جمهورنا — بوسيلة ناجحة كالمسرح — قصةً رائعة كقصة قنديل أم هاشم؛ حتى تصل معانيها العميقة ولمساتها الإنسانية المرهفة إلى الجمهور، ولكني من جهة أخرى يحزنني أن تقع مثل هذه القصة بين أيدٍ يستحيل أن تفهمها أو أن تعي دقائقها، ويزيدني حزنًا أن يقوم بتمثيل مثل هذه المسرحية فرقة ذات طاقات فنية ضخمة تضفي على هذا الإعداد الغليظ رهافة الفن وقدرته على التعبير، فيظن جمهورنا أنه يرى في المسرحية أديبه الكبير المحبوب يحيى حقي، وإلا فمن يستطيع أن يزعم أن محمد توفيق في دور عبده أفندي السِّكِير بتمثيله الرَّائع أو أحمد أباظة في دور حسين الحلاق، أو كامل يوسف الرزين الهادئ في دور الدكتور إسماعيل، أو جميع ممثلي هذه الفرقة الممتازة، كانت أدوارهم من خَلْق يحيى حقي، الذي يَعْرف ما هو الفن وما هي هندسته، وكيف يَسْتَخْدم هذه الهندسة في خدمة وإبراز جميع العناصر التي تشترك في نسيج مشكلة إنسانية خطيرة خالدة كمشكلة الصراع بين العقل والعاطفة، أو بين العلم والإيمان الغيبي، في صراع عميق عنيد أَرْهَفَ وأَبْعَدَ غورًا من أن تُدْرِكَه صناعة آلية سطحية، كصناعة الإعداد المسرحي، عندما تخلو من الثقافة الفنية الحقة والحس المرهف والذوق السليم المدرِك.
وكم كان محمود السباع مُوَفَّقًا، بل مبتكِرًا خَلَّاقًا في إخراجه لهذه المسرحية؛ حيث رأيناه ينقلنا في خفقة ضوء من ميدان السيدة الصاخب إلى داخل منزل الحاج رجب، وكأنه قد جَمَعَ بذلك بين طرفي الصراع الدرامي في حلبة واحدة، فنشهد لتوِّنا شرارة الاصطدام وهي تنبثق، ويا حبذا لو كانت المسرحية التي شاهدتها هي قصة يحيى حقي، ويا حبذا لو كان هو نفسه الذي نسج خيوطها من حريره المرهف، بدلًا من خيوط الخيش التي لفقها بها الإعداد الذي رأيته.