لعبة الحب
كنتُ قد اطلعت على النَّص الأول لمسرحية «لعبة الحب» لصديقنا الدكتور رشاد رشدي، وذلك عندما قدمها لفرقة المسرح القومي، وأحالتها الفرقة على لجنة القراءة، وأنا عضو فيها، لتبدي رأيها في صلاحيتها للفرقة، ولكنها لم تَرَ فيها هذه الصلاحية، وكان باستطاعتي أن أقنع بذلك ولا أحرص على مُشاهدتها في مسرح الأوبرا نفسه، حيث تقوم فرقة المسرح الحُر بعرضها الآن على الجمهور، ولكنني سمعتُ من أكثر من عضو من أعضاء هذه الفرقة أنَّ النَّص الأصلي قد أُدْخِل عليه من التعديل ما خفَّف وطأته، فقلت لنفسي: لعلَّ الأخ رشاد قد مال إلى مزيد من الرُّشد، وأقنعتها بضرورة مشاهدة هذه المسرحية ولو من باب الصداقة، استخرت الله وشاهَدْتُها فعلًا.
وكان باستطاعتي أن ألزم إزاءها الصمت، وبخاصة وأنني أعلم أنه إذا كان الكلام من فضة فإنَّ السكوت من ذهب، ولكنني رأيتُ من أشبال الجامعة من يَتَحَدَّث عن «الأنغام السيمفونية» في هذه المسرحية، ومَن يتحدث عن «مواصفات مسرح تشيكوف» فيها، ويتساءل: هل يستجيب الجمهور للمسرح الهامس بأفكاره الموسيقية؟ فأحسستُ أنَّ مِن واجبي أن أتكلم، وإن كنتُ في الحقيقة لا أدري بأي لُغَة أُخَاطِبُ مَنْ رأى في «لعبة الحب» أنغامًا سيمفونية أو مَنْ رأى فيها مسرحًا هامسًا بأفكار موسيقية ومُواصفات تشيكوفية، فإنني أحسستُ فيها بفحيح حيواني يصرخ أحيانًا ويخف أحيانًا أُخرى، فيتحول إلى حشرجة بهيمية شهوانية، ابتداء من الطَّبال جريش عندما نفخ حيوانيته في أذن الخادمة عيشة بعد أن خدرها أو أثار شهوانيتها بدقات طبلته المزعجة، حتى الطبيب العم زكي العائد من السعودية بشبق حيواني كشبق الثيران، فلا يرى كل رجل وامرأة إلا حيوانًا وحيوانة …
نعم، لا حيلة لي في الطبائع التي تُحِسُّ في هذا الفحيح أنغامًا مُوسيقية؛ ولذلك أَدَعُ هذا النقد التأثري جانبًا ما دُمت لا أجد مجالًا لأن نلتقي فيه على كلمة سواء، فأنا لم أُحِسَّ بأنَّ في هذه المسرحية فنًّا للفن أو للجمال، بل أحسستُ فيها فنًّا للقبح المؤلم، وأنتقل إلى المناقشة العقلية الواضحة الجادة الجديرة بمستوى صديقنا مؤلفها كأستاذ جامعي، وذلك باعتبار أنَّ العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر، وأنَّ قضاياه تسمح بالمحاجَّة التي تستطيع أن تصل إلى كلمة سواء، وأرتفع بالمناقشة إلى ذروتها الفَلْسَفية تجملًا، فأقولُ: إن المسرحية تنتمي إلى مذهب فكري وفلسفي ليس بجديد ولا سابق لعصره، بل قديم قِدَم النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو المذهب المعروف باسم الطبيعية، وأنا أعرف عن قُربٍ أَدَبَ رائده الكبير «أميل زولا» وكتابه النَّقدي الذي دافع به عن الفكرة الأساسية لهذا المذهب، وهو الكتاب المعروف في العالم كله باسم «القصة التجريبية»، وفيه يتأثر أولًا بتقدم علوم الطب التجريبي في عصره بفضل الطبيب الخالد كلود برنارد على نحو ما نُطَالع في كتابه «المدخل إلى علم الطب التجريبي»، وكان العلم الطبي قد كشف عندئذٍ عَمَّا لحقائق الإنسان البيولوجية والعضوية من تأثير كبير على تكوين النَّفس وتحديد السلوك الشخصي والاجتماعي، مما أوهم زُولَا وجماعَتَه أنَّ الإنسان كائن عضوي أو حيوان تتحكم فيه حقائقه البيولوجية والعضوية وغرائزه ولا شيء غير ذلك.
وبالطبع ساق هذا الظنُّ الأدباءَ الطبيعيين إلى تصوير الإنسان في أدبهم القصصي والمسرحي كحيوان تسيطر عليه غرائزه الحيوانية سيطرةً جبرية لا فكاك منها.
ومسرحية «لعبة الحب» تَصْدُر عن نفس الفكرة، فكرةِ أنَّ الحب بين الرجل والمرأة ليس إلا وهمًا أو لعبة، وبالأصح حيلة ينصبها الرَّجل كشرك لصيد الأنثى، وإخواننا الطبيعيون طالَبوا النقاد بألا ينظروا إلى أعمالهم الأدبية من زاوية الخير أو الشر، ولا من زاوية الجمال أو القبح، بل ينظروا إليها من نفس الزاوية التي ننظر منها إلى الحقائق العلمية التي لا تخضع إلا لمقياس واحد هو مقياس الصحة أو الخطأ.
وبالرَّغم من أنَّ المذهب الطبيعي على نحو ما أَجْمَلْتُه قد عفى عليه الزمن، وأصبح الخوض فيه من أعمال المتاحف الأثرية، إلا أَنَّني بدافع من صداقة مؤلف «لعبة الحب» لا أرى مانعًا من أنْ أُنَاقش مسرحيته بنفس المقياس الذي طالب به عمالقة الطبيعية، وهو مقياس الصحة العلمية أو الخطأ العلمي.
ولقد هممتُ أوَّل الأمر أن أرفُضَ الطبيعية في الأدب من جذورها؛ لأنني وإن كنتُ لا أُنْكِر أنَّ الإنسان كائن عضوي بقَدْر ما هو كائن معنوي، إلا أنني أرفض رفضًا باتًّا أن أَجْعَل الكيان المعنوي في الإنسان عبدًا ذليلًا للكيان العضوي، وأُومِن بأنَّ الإنسان — بحكم ثقافته وتراثه المعنوي وحياته في مجتمع — يستطيع دائمًا أن يُسَيطر على كيانه العضوي، ولكنني مع ذلك أتخلى لصديقنا عن هذا الموقف الجذري من فلسفته في الحياة؛ لأتساءل: هل صحيح أن الإنسان في علاقته بالمرأة مجرد حيوان فحسب، وأنَّه لا سبيل له إلى الإفلات من هذه الحيوانية التي لا أقول إنها تؤذي الحسَّ الأخلاقي المذهب، بل أقول إنها تؤذي الحس الذوقي الجمالي ذاته، حتى لَنكاد نُدْخِل هذا النوع من الأدب فيما يمكن أن نُسَمِّيه «بالفن للقبح» بعد أن كنا نرفض «الفن للفن»، أي: الفن للجمال ذاته.
وأنا لن أنقد مسرحية الصديق «من الخارج» حتى لا يغضب، بل سأنقدها من الداخل وباعتبار أن المسرحية «هي ما هي»، فأقول: إن في داخل مسرحيته ذاتها ما ينقض بعضُه بعضًا، فقد رأينا في أول المسرحية الفتاة سوسن تُحِبُّ الشاب المثقف مراد حبًّا شريفًا طاهرًا يهدف إلى الزواج السليم، وذلك إلى جوار الفحيح الحيواني الذي رأيناه ينبعث من أمعاء الطبال حريش ومن حنجرة الطبيب العم زكي، فضلًا عن صراخ الخادمة البلهاء نفيسة طلبًا لزوج.
ولعل صديقنا المؤلف قد أحسَّ بما بين هذه المواقف المختلفة من تناقض يُحَطِّم فكرة المسرحية كلها، فأسرع إلى تحويل الفتاة سوسن عن موقفها الإنساني المشرق لمجرد أنَّ أخاها الحيوان عصام قد اتَّهَمَ حبيبها مراد بأنه قد سَرَقَ حب أخته، وعلى نحو غير مُفَسَّر ولا مفهوم، رأينا سوسن تنضم إلى حظيرة الحيوانات التي تضم شخصيات المسرحية الأخرى، فتقع بين براثن الحيوان المتباله وكيل المحامي القميء الشكل «السيسي أفندي» لمجرد أنَّه ذكر، مع أنها فتاة رقيقة مُهَذَّبة متفتحة الروح نضيرة الجمال ولا تزال في ربيع الحياة، وأبعد ما تكون عن الانتحار الجنسي الذي قد يولده يأس العوانس، فضلًا عن أنها فتاة مُدركة مستنيرة في سن العشرين، بحيثُ لم نفهم كيف حدث هذا الانقلاب المسرحي في حياتها، اللهم إلا أن يكون هذا افتعالًا من المؤلف لكي تندرج هذه الفتاة أيضًا في حظيرة الحيوانات لتأييد الفكرة العامة.
وإذا كنتُ قد لاحظتُ أنَّ الأخ رشاد قد جنح — كما قلتُ — إلى مزيد من الرُّشد فعدَّل — بالاتفاق مع فرقة المسرح الحر أو بناءً على طلبها أو طلب غيرها من المستشارين — من النَّص الأصلي، بحيثُ عَرَضَ قَبْل نهاية المسرحية مشهدًا أنعش بعض الشيء مشاعرنا التي أضناها، وهو المشهد الذي أَلْقَتْ فيه نبيلة زوجة الحيوان عصام عليه درسًا في معنويات الحياة النظيفة المهذبة قبل أن تفارق حظيرته؛ لتستنشق في خارجها عبير الحياة الشريفة النظيفة، فإنني قد لاحظت لسوء الحظ أن نبيلة نفسها قد أكدت في درسها هذا أنها ليست امرأة كغيرها من النساء في موقفها هذا، أي: إنها استثناء شاذٌّ من الفكرة العامة التي تقوم عليها المسرحية، والتي تُلِحُّ في تأكيدها بأربع أو خمس علاقات حيوانية جنبًا إلى جنب غير متفاعلة أو متضافرة في بناء الدراما، بل كل هدفها هو الإلحاح المضني على تأكيد هذه الفكرة الطبيعية الحيوانية المؤذية لكل أنواع الحس الإنساني.
ومن المعلوم أنَّ الاستثناء لا ينفي القاعدة، بل يُؤكدها، وهذا هو ما فَعَلَه الإصلاح الذي اضطر صديقنا المؤلف إلى إدخاله على مسرحيته تخفيفًا لفجيعتنا فيها، وتلطيفًا لكابوسها الحيواني المقزز.
هذا، ولقد كان باستطاعتي أن أُنَبِّه إلى أننا لسنا في مرحلة من حياتنا تتسع لمثل هذه الموضوعات النابية، ولمثل هذه المعالَجة المقززة، ولكني أعدل عن كل ذلك لأكتفي — كما فعلت — بمناقشة المسرحية من داخلها، وباعتبارها «هي ما هي»، نزولًا على آراء الصديق النقدية القيمة.
يا سيدي … الحب هو الرابطة الاجتماعية الصلبة، وإنكاره إنكار للحياة الاجتماعية كلها وتقويض لها، كما أنه إنضاب لمنبع الجمال والفن في الحياة.