«السبنسة» بين الواقعية والرمزية
خطا سعد الدين وهبة خطوة جديدة في مدارج الفن الدرامي في مسرحية «السبنسة» التي تُقَدِّمها فرقة إحدى شعبتي المسرح القومي الآن في مسرح الأزبكية، وهي خطوة تنم عن نضج درامي وخيال ذكي لا شك فيه؛ وذلك لأنَّ المؤلف لم يقتصر في هذه المسرحية الجديدة على الواقعية الكاريكاتيرية التي اعتمد عليها في مسرحيته الأولى «المحروسة»، بل أضاف إليها الرمزية الشفافة الموحية.
فأحداث المسرحية تجري في «كفر الأخضر»، وكفر الأخضر هو جمهوريتنا كلها بواديها الأخضر اليانع، ونقطة البوليس القائمة في هذا الكفر إنما هي الجهاز الإداري كله في العهد البائد وعلى مشارف ثورتنا الأخيرة.
وإذا كان العسكري صابر قد عثر على قنبلة فوق أحد أكوام السباخ بالكفر، وعلى مقربة من نقطة البوليس، ثم اختفت هذه القنبلة أو سرقت ولم يستطع الجهاز الإداري الفاسد طبعًا العثور عليها أو البحث الجدي عنها؛ لأنه كان جهازًا فاسدًا مستغلًّا، بدليل أنَّ ضابط النقطة نفسه وهو الصول درويش كان مشغولًا بعِجْلَتِه التي شارك عليها عبد الواحد أحد مزارعي الكفر، وقد جُنَّ جنونه عندما جاءه نبأ بمرض العِجْلَة وضرورة الإسراع بذبحها قبل أن تنفُق، فأرسل العسكري الآخر شعبان بالسكين في سرعة إلى الحقل، في نفس الوقت الذي علم فيه بسرقة القنبلة، فمن الواضح أنَّ هذه القنبلة التي اختفت وعجز الجهاز الإداري عن ضبطها إنما هي واحدة من القنابل الكثيرة التي كانت تستعد للانفجار حول مشارف يوليو سنة ١٩٥٢، أي: إنها روح الثورة التي كانت تعج في النفوس، وكان من المستحيل على أي جهاز إداري، فضلًا عن جهاز فاسد معفَّن، أن يضبطها أو يمنعها من أن تحقق أهدافها الكبرى في تخليص الشعب والوطن من المحنة الجاثمة.
وفي ذكاء بارع استخدم المؤلف هذه الفكرة الرمزية، فكرة اختفاء قنبلة الثورة، وعجز الجهاز الإداري الفاسد عن ضبطها، في تعرية الفساد والظلم والحقارة التي كانت مُسَيطرة عندئذٍ على ذلك الجهاز.
وإذا كانت القنبلة الحقيقية قد ضاعت واختفت، فما أسهل أن يضع الصول درويش رئيس النقطة أو ضابطها كما يقول الاصطلاح البوليسي، يضع محلها فوق كوم السباخ قطعة من الحديد الصدئ العتيق.
وبالطبع يعود المؤلف عندئذٍ إلى واقعيته الكاريكاتيرية، وأعني بالكاريكاتيرية هنا تجسيم الواقع الفعلي على نحوٍ يوضِّح الرؤية، وإن لم يُزَوِّر شيئًا على ذلك الواقع الفعلي، فكلنا نعلم أنَّ رجال الإدارة عندئذٍ كانوا يحرصون — مرضاة للهيئة الحاكمة وعلى رأسها الملك نفسه — على ضبط ما كانوا يُسمونه بالجرائم السياسية الكبرى ولو كانت ملفقة، وبالرغم من أنَّ القنبلة قد أصبحت قطعة باردة من الحديد الصدئ، إلا أنَّ الجهاز كله مع ذلك يتحرك، فيأتي مندوب خاص من وزارة الداخلية وخبير في القنابل وحكمدار المديرية، ويُقَرِّر الخبير أنها قنبلة شديدة الانفجار، ويعمل الجهاز كله على القبض على الجناة، وفي مثل تلك الحالات كان يُفْتَرض دائمًا أنَّ الجناة من الشباب المتفتح المستنير كالطلبة وبعض العمال، وبالفعل يُلْقَى القبض على ثلاثة منهم ويُشْحَنون في عربة السبنسة في القطار المسافر إلى القاهرة، وفوق رصيف المحطة يعود المؤلف إلى الرَّمزية من جديد، فعلى هذا الرصيف مكان لركاب الدرجة الأولى وآخر لركاب السبنسة، وثالث لركاب الدرجة الثانية، وهؤلاء هم الانتهازيون الوصوليون، بحيث يمكن أن تتغير أوضاع الطبقة الأولى والثالثة إذا تغير وضع القاطرة بالنسبة للعربات، وأما ركاب الدرجة الثانية فهم وحدهم الذين يستطيعون الاحتفاظ بمكانهم الوسيط في الحالتين.
وهكذا استطاع المؤلف أن يجمع في ذكاءٍ بين الرمزية الشفافة والواقعية الكاريكاتيرية، كما استطاع أن يُقيم مُقابَلة واضحة بين شجاعةِ وشرف أبناء الشعب، وبين فساد وانحلال وظلم وعجز الجهاز الإداري في كثير من التفصيل الممتع الموحي، حتى لنرى غازية ترفض — في شَمَمٍ وتصميم — أن تشهد زورًا على الشبان الأبرياء، وكأنها مومس سارتر الفاضلة، وإن كنت قد أسفت، بل وتألمت أيَّما ألم للفلاحة جليلة زوجة الشاب رشوان أحد المقبوض عليهم؛ إذ جعلها المؤلف تسلم عرضها لضابط المباحث عندما رأيناها تتسلل في الظلام إلى سجن النقطة لعلها تلمح زوجها.
ولستُ أدري لماذا استثنى المؤلف هذه البائسة من الموقف الشجاع الشريف الذي وقفه جميع أفراد الشعب في هذه المحنة، وبخاصَّة وأنه لم يُشْعِرنا بأنَّ ضابط المباحث قد اغتصبها أو حتى هددها أو غرر بها، وكل ما علمناه هو أنها قد سقطت، وأنَّ زوجها قد علم بذلك وتوعدها بالطلاق على رصيف المحطة بمجرد أن يُطْلَق سراحه، وكان الموقف لسوء الحظ كالذبابة التي تسقط فوق طعامٍ شهي دسم، ولقد يُقال: إن المؤلف قد أراد بهذه الحادثة الفرعية مزيدًا من الإدانة للجهاز الإداري الفاسد الظالم، ولكن هذا الهدف كان يقتضي إبراز اعتداء ضابط المباحث على تلك الفتاة بوسيلة أو بأخرى، وأمَّا أن يُشار إلى هذا الحادث وكأنه تم برضى جليلة في ظلام الليل ولو ثمنًا لوهم الإفراج عن زوجها فهذا هو النشاز المؤذي في موقف المؤلف كله من أبناء الشعب بما فيهم المومس الفاضلة نفسها.
ومع ذلك؛ فإنَّ هذا الحادث الجانبي الذي أزعجني لم يمنع إعجابي بالمسرحية ككل، وبخاصة بالطريقة الذكية التي استطاع المؤلف أن يجمع فيها بين الواقعية الكاريكاتيرية والرمزية الشفافة، مما أكسب مسرحيته مزيدًا من الغِنى والقُدْرة على الإيحاء، وتصوير واقع حياتنا على مشارف الثورة تصويرًا كاملًا وصادقًا.
وما من شك في أنَّ سعد وهبة بخطوه هذه الخطوة الجديدة قد أثبت قدرة جديدة على التعمق الدرامي، وإن كنتُ أخشى أن يكون الإخراج والتمثيل قد أبرزا الطابع الكاريكاتيري أحيانًا أكثر مما ينبغي، مثل موقف خبير القنابل وهو يقترب من القنبلة فوق كوم السباخ.
ومع ذلك فأنا لا أستطيع إلا أن أُبْدِيَ تقديري وإعجابي بالطريقة التي أخرج بها سعد أردش هذه المسرحية ونحا فيها المنحى الواقعي، باعتبار أنَّ الواقعية هي الطابع الغالب على المسرحية، في حين أنَّ الاتجاه الرَّمزي قد تركه المؤلف في الواقع لفطنة المشاهدين والنقاد؛ لأنه اكتفى فيه بالتلميح السريع، وربما كان من الأفضل لو ضغط المؤلف على هذه التلميحات حتى لا يفوت المشاهدين والنقاد التقاطها، على نحو ما أحسسْتُ من قراءة ما كُتِبَ عن هذه المسرحية حتى اليوم في الصحف، فكل ما كُتِبَ لم يبرز في المسرحية غير جانبها الواقعي، مع أنَّ هذا الجانب ليس هو أعمق وأجمل ما في المسرحية، بل الجانب الرَّمزي الموحي البارع، وإذا كان هناك ممثل قد استحوذ على إعجابي بلا تحفظ؛ فقد كان بلا ريب الممثل الممتاز شفيق نور الدين في دور العسكري صابر العميق المعقد، الذي رسمه المؤلف على نحوٍ يجعل منه شخصية درامية تستحق الخلود.