«الأزمة» وقضية الشرف
لم يُحاول الأستاذ أحمد حمروش في مسرحية «الأزمة» التي تعرضها فرقة الإسكندرية الآن أن يفتعل تجديدًا في الشَّكل أو في الموضوع، فالمسرحية تتخذ الصورة التقليدية المألوفة للمسرحيات، والموضوع ليس بجديد، فكثيرًا ما عُولِجَ موضوع الصراع بين الشرف وإغراء المال، ولكن الجديد في هذه المسرحية هو طريقة معالجة هذا الموضوع الأَبَدِيِّ كغيره من الموضوعات الكبيرة التي تناولها الأدب والفن عبر القرون؛ وذلك لأنَّ المؤلف قد استطاع من خلال هذا الموضوع التقليدي أن يُجَسِّد ويُبْرِز القيم الأخلاقية والاجتماعية لعدة قطاعات في المجتمع، مثل قطاع صغار الموظفين الذين ينهكهم الروتين الحكومي والفزع من الرياسات وضيق ذات اليد.
ومع ذلك لا يمنعهم كل هذا من التعاطف والتعاون على محن الحياة وأرزائها، على نحو ما نرى الموظف القديم عبد المعبود أفندي، والموظف الشاب المرح عباس أفندي، يتعاطفان ويتآزران مع زميلهم الجديد محسن أفندي عندما جاءته زوجته طالبة منه اصطحابها إلى الطبيب، رغم خُلُوِّ جيبه من كل مال، فخف عباس أفندي ليقترض له من بعض الزملاء المجاورين مبلغًا ضئيلًا من المال قد يعينه على أمره، في الوقت الذي لم يكد الموظف الكبير مدير المصلحة يرى زوجة محسن حتى أَخَذَ يدبر لنصب شباكه حولها، ويستخدم في ذلك كافة الوسائل الجريئة المقتحمة حينًا والناعمة المغرية حينًا آخر، كما نراه باسم المروءة الكاذبة يقتحم بيت محسن أفندي ليتصيد زوجته، كما نراه يغري محسن أفندي وزوجته بنقل هذا الزوج إلى الشركة التي اتفق معها على ترك وظيفته الحكومية ليعمل بها، وذلك على أن يُعطيه أضعاف مرتبة الحكومي المتواضع، وخلال كل هذه المحاولات يجري في نفس الزوج المسكين صراع عنيف بين الشرف وإغراء المال.
وإذا كان هذا الإغراء قد أَخَذَ يُدِير رأس الزوجة الطموح طموحًا يُشبه البله الأحمق، فإن حاسة الشرف التي تشَبَّعَتْ بها رأس محسن من نشأته الأولى الرِّيفية النَّقية المعدن تدخل في هذا الصراع بصلابة تنتهي بالانتصار على إغراء المال، وإن يكن هذا النصر لم يستطع محسن أن يحرزه مستقلًّا بذاته، بل آزره في هذا النصر أناس من بيئته الرِّيفية الأولى الشديدة الحرص على القيم الأخلاقية وفي مقدمتها الشرف، وبخاصة خاله الحاج مدبولي الذي فاجأه بالزيارة وأزمة الصراع في أَوْجِها، فأحسَّ هذا الريفي الشريف بمحاولات المدير الجريء الوقح في تمزيق عرض ابن أخته.
ولم تفلح محاولات التضليل والتمويه التي لجأ إلها هذا المدير ورفيق عبثه الدكتور طاهر، الذي صحبه معه هذا المدير إلى بيت محسن بحجة الكشف الطبي على الزوجة، فقد حاول هذان الداعران أن يوهما الحاج مدبولي بأنَّ ما يتناولانه من ويسكي في بيت محسن ليس إلا نوعًا من الدواء، وإذا باحتيالهم هذا يتحول إلى دليلِ يقينٍ على الجريمة التي تُدَبَّر في نظر الحاج مدبولي، الذي لم يلبث أن تَدَخَّل تدخلًا حاسمًا أنهى الصراع الداخلي الذي كان يجري في نفس محسن، وبذلك اتخذ هذا الزوج المسكين قراره بإيثار الفقر على التفريط في عرضه، وفي نفس الوقت أتم المؤلف رسم الخطوط الأخلاقية العريضة التي تُمَيِّز أفراد كلٍّ من هذه القطاعات الاجتماعية الثلاثة — قطاع صغار الموظفين المتعاطفين الشرفاء رغم قسوة الحياة، وقطاع كبار الموظفين المنحلين الانتهازيين، وأخيرًا قطاع أهل الريف الشديدي التمسك بالقيم الأخلاقية السليمة وفي مقدمتها العرض والشرف.
وبذلك تُقَدِّم هذه المسرحية درسًا أخلاقيًّا دائمَ الجدة بالنسبة لكل مُجْتَمَع سليم، وبخاصة في فترات غليان المجتمعات وتخلخُل أوضاعها التقليدية تمهيدًا لحل غيرها محلها، على نحو ما هو حاصل اليوم في بلادنا.
وأمَّا عن الإخراج والأداء التمثيلي فالمسرحية كما هو واضح من النوع الذي يُسَمِّيه المخرجون عادةً بالنَّوع النَّاعم، أي: النوع الذي يجب أن ينهَضَ به الممثلون، لا النوع الذي يمكن أن ينهض هو بهم، ومن هنا تأتي صعوبة إخراجها وأدائها بواسطة فرقة جديدة حديثة الخبرة كفرقة الإسكندرية، ومع ذلك استطاع فؤاد فهمي أن ينهض بدور عبد المعبود أفندي الموظف الصغير القديم المنهوك القوى الطيب النفس، كما استطاع أحمد فائق أن ينهض بدور المدير الجريء الوقح المقتحم، واستطاعت عائدة حسن إسماعيل أن تنهض بدور سميرة الزوجة الطموح في بلاهة.
وأمَّا الدوران اللذان لم أقتنع بهما رغم أهميتهما في المسرحية فقد كانا دور وحيد سيف في شخصية الموظف الصغير المرح عباس أفندي؛ إذ أَحْسَسْتُ بمبالغة في الحركة والصوت معًا خروجًا على حدود الدور، وقد يكون هذا الخروج مَبْعَثه رغبةُ هذا الممثل المليء بالحيوية في أن يبعث مزيدًا من الحركة في وقائع المسرحية الأميل إلى السكون، وعلى هذا الأساس يمكن فَهْم الطَّريقة التي الْتَجَأَ إليها في الأداء، وأمَّا الدور الذي أَضْعَفَ من المسرحية كلها فقد كان حقًّا دور محسن بطل المسرحية وميدان الصراع فيها، فهو صراع داخلي عميق، ومع ذلك أحسسنا أنَّ الممثل فؤاد المليجي كان يؤدي هذا الدور من أطراف شفتيه، ولم يستطع لسوء الحظ أن ينفعل به ذلك الانفعال الداخلي القوي الذي يُشعرنا بعمق الصراع داخل نفسه ودمدمته الباطنية، خاصة وأنَّ هذا الصراع قد تَدَرَّج به المؤلف من مرحلة الإرهاص الخفي إلى مرحلة الزَّمجرة الداخلية التي انفجرت آخر الأمر في هدوء وتماسك ويقين، عندما أعلن محسن أفندي زوجته في عزم وتصميم أنه لن يوقع عقد العمل في الشركة، وأنه يفضل الفقر مع صون العرض على المال مع ثلم الشرف.
وأما دور الحاج مدبولي فقد أحسست أن أحمد عصر لا يمثله بل يعيشه، وكم كانت دهشتي عندما علمتُ — بعد نهاية العرض من إخواننا الإسكندريين — أن أحمد عصر من نشأة ريفية صميمة لم يكن دور مدبولي غريبًا عليه في حركاته وسكناته وطريقة تكراره للتحية ودهائه الفطري «وتعابطه» عند الضرورة.
وأنا في النِّهاية لا أُحِبُّ أن أُشاكس فرقتنا الناشئة، بل بالعكس أحب أن أَحْمَدَ لها جهدها العظيم، وأن أرجو لها ولمؤلفنا الجديد أحمد حمروش مزيدًا من التوفيق، على نحو ما أحسست فعلًا في المسرحية الجديدة التي قرأتها له منذ أيام دون أن أعرف اسم مؤلفها إلا فيما بعد القراءة وإبداء الرَّأي، وهي مسرحية «الطريق»، التي أرجو أن يُشاهدها جمهورنا قريبًا هي الأخرى على خشبة المسرح.