في بيتنا رجل
تقدم فرقتنا القومية الآن قصة الأستاذ إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» بعد أن أعَدَّها للمسرح الأستاذ أنور فتح الله، وقام بإخراجها عبد الرحيم الزرقاني، واشترك في تمثيلها عدد كبير من أفراد الفرقة الممتازين، وإذا كنا قد شهدنا من قبل قصصًا للأستاذ إحسان تُحَوَّل إلى أفلام فهذه أول مرة تُحَوَّل فيها قصة من قصصه إلى مسرحية، وهي قصة ذات هدف وطني، تُصَوِّر كيف استجاب أفراد الشعب لمشاعرهم الوطنية فأَوَوْا شابًّا ارتكب جريمة قتل في سبيل الوطن، ثم تمكن من الهرب من البوليس بعد القبض عليه، واختار أسرة زميل له في الدراسة ليختفي في منزلها.
وبالرَّغم من أنَّ هذا الزَّميل وأباه لا يريدان الزج بنفسيهما وبأسرتيهما في مثل هذا المأزق، وبخاصة بعد أن أعلنت الحكومة عن مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه لمن يقبض على المجرم الهارب أو يُرشد عنه، فإننا نراهما يستجيبان في النهاية لمشاعرهما الوطنية، ويَقْبَلان إيواء هذا الهارب لبضعة أيام حتى يُدَبِّر أمره مع زملائه في الجهاد الوطني، ويدور صراع عنيف بين البوليس السياسي والمجرم الهارب والأسرة التي آوته، وهو صراع يجمع بين القوة الدرامية والواقعية، التي يستطيعُ أن يُدرك صِدْقَها مَنْ خَبِرَ إجراءات ذلك البوليس المخاتلة القاسية، بل الوحشية في ذلك العهد البغيض.
ويوضح إحسان نفسه هَدَفَهُ من كتابة هذه القصة في التقديم الذي كتبه للمسرحية فيقول: «البطل الفرد مهما توفَّرَتْ فيه مزايا البطولة الفردية لا يمكن أن يصل ببطولته إلى أي هدف أو يُحقق أيَّ أمل، إلا إذا ظهر وسط شَعْب يُساهم في هذه البطولة، ويفسح لها الطريق وينميها ويُساندها بوعيه وإيمانه الوطني، ولا أقصد بالشعب الطبقة الواعية القيادية، ولكنه الشعب العريض الذي يبدو في حياته اليومية شعبًا سلبيًّا يتألف من عائلات منطوية متباعدة عن المعركة الوطنية، تحرِّم على أبنائها الاشتغال بالسياسة، وتحرص على سلامتها وعلى نصيبها من الرِّزق، ومثل هذه العائلات إذا اختبرَتْها الظروف في وطنيتها ذابت سلبيتها وانكشف الغطاء عن قواها الوطنية، وتحركت في اتجاه إيجابي؛ لتساهم في صنع البطل وفي صنع الثورة، وهذا هو موضوع قصة «في بيتنا رجل».»
وفي رأيي أن أسرة زاهر أفندي كما يصورها إحسان عبد القدوس، وهي الأسرة الحريصة على سلامتها المنطوية المتباعدة عن الحركة الوطنية، والتي كان يحرص رَبُّها زاهر على تنحية ابْنِه الطالبِ محيي عن الاشتغال بالسياسة، ثم ذابت سلبيتها وانكشف الغطاء عن عاطفتها الوطنية وتَحَرَّكَتْ في اتجاهٍ إيجابي لتساهم في معارك الوطن، ولو تَعَرَّضَتْ لخطر جسيم، هو السجن الذي أَنْذَرَ به الحاكمُ العسكريُّ عندئذٍ كلَّ من يُؤْوي القاتل إبراهيم حمدي أو يسهل له سبيل الهرب، هذه الأسرة في الصورة التي رسمها لها إحسان عبد القدوس وطور فيها موقفها، أراها أصدق في تصوير حقيقة مثل هذه الأسر المتواضعة، من الصورة التي رسمها الدكتور يوسف إدريس لأسرة الحاج نصار في مسرحية «اللحظة الحرجة».
وأدخل إحسان على هذا الموضوع الأصلي موضوعًا آخر ثانويًّا، هو موضوع الشاب عبد الحميد ابن أخ زاهر أفندي الذي يريد أن يتزوج من ابنة عمه سامية، ولكن أسرة عمه ترفض لفشله في إتمام دراسته واتهامهم له بعدم أخذ الحياة مأخذ الجد، واكتشف عبد الحميد وجود إبراهيم حمدي في منزل عمه لاجئًا ليختفي عن أعين البوليس، فاستغل على هذا الموقف الثانوي في عدة تطورات أسبغت على بعض جوانب هذا الاكتشاف في تهديد الأسرة بالتبليغ عنها إذا لم تُوَافِق على زواجه من سامية، وترتب القصة والمسرحية الطابع البوليسي الذي يتسم بالافتعال، ومجرد الرَّغبة في إثارة عنصر التشويق والمفاجأة، وإن يكن المؤلف قد نَجَحَ في النهاية في أن يربط بين الموضوعين، ويستخدم كلًّا منها في تطوير الحركة الدرامية العامة، بل وفي خدمة الفكرة الأساسية التي اتخذها إحسان محورًا لقصته، وهي فكرة ذوبان السلبية، بل وذوبان روح الشر والانحلال في نفس عبد الحميد إزاء حدث وطني ضخم؛ إذ نراه ينتهي هو الآخر إلى السجن مع ابن عمه محيي، بعد أن داهم البوليس السياسي المنزل وعثر فيه على ما يثبت صلة الأسرة بإبراهيم حمدي.
وعندما تنتقل الأحداث إلى سجن الأجانب حيث يقوم اليوزباشي محمود الدباغ بتعذيب محيي لكي يُرشد عن إبراهيم حمدي، كنت أسمع دقات قلوب المخضرمين من أمثالي، وهي تتعرف على هذا الدباغ ورئيسه همام بك في سنوات الجهاد المريرة التي سبقت ثورة ١٩٥٢، ووقع كثير من هؤلاء المخضرمين وبخاصة من أرباب القلم بين براثن الدباغ وهمام وأمثالهما من ضباط البوليس، الذي كان التعفن قد نخر عندئذٍ عظامه، وفي هذا المشهد بلغ الإخراج وبلغ الممثلون الذروة في الإجادة، حتى لكأنهم قد عاشروا فعلًا تلك الأحداث.
كل هذا صِدْق، وأمَّا الشيء الذي أحسست بأنه دخيل على الموضوع بعض الشيء، وأنه مُجرد تَزَيُّد أو تطوع من الأستاذ إحسان عبد القدوس، الذي يَعْتَقِد — فيما يبدو — أنَّ كل قصة لا بدَّ أن تتضمن حبًّا وغرامًا، فقد كان موقف سهير البابلي في دور نوال بنت زاهر أفندي من صلاح سرحان في دور الوطني القاتل إبراهيم حمدي، وهو موقف بدا لنا من أول الأمر ومنذ دخل إبراهيم حمدي في المنزل موقف حب وغرام، ونحن طبعًا نُسَلِّم بأن تُعْجَب الفتاة نوال بهذا البطل على أثر مُطَالَعَتِها لأنباء بطولته في الصحف، ولكننا كنا نفضل أن يطغي شعور الإعجاب في موقفها من إبراهيم على شعور الحب والغرام.
وإذا كان من الطبيعي أن يؤدي الإعجاب إلى الحب فقد كنا نفضل أن يظل هذا الحب خفيًّا لا شعوريًّا، بحيث لا يسوق المسرحية إلى خاتمة ميلودرامية بدت مُتميعة لا تتفق وجلال الموضوع الأصلي وجديته، ففي مثل هذه المواقف العنيفة لا نظن أنَّ النفس البشرية الصادقة الانفعال تنسى جلال هذه المواقف لتتحول مشاعرها إلى الغرام الباكي في إسراف، وإن كنت أَحْرِص على أن أحيي هنا سهير البابلي التي قدمت في هذه المسرحية خير دور شهدناه لها على المسرح، وأمَّا الإخراج فقد أبدع فيه الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني أيما إبداع، حتى أوشكنا أن نؤمن بأن ما نُشاهده ليس مسرحية بل فيلمًا سينمائيًّا، وهو الصورة الفنية التي نَعْتَقِد ملاءمتها لمثل هذه المسرحية العامرة بالأحداث المثيرة، والحركة الدِّرامية العاتية التي تنهض بالمسرحية أكثر مما ينهض بها الحوار.
ففي مسرحية في بيتنا رجل تطغى الأحداث أو تكاد على الحوار، مما يجعلها أصلح للسينما منها للمسرح، ومع ذلك استطاع عبد الرحيم الزرقاني أن يخرجها إخراجًا مسرحيًّا رائعًا يُوهمنا بالطابع السينمائي، مع احتفاظه بخصائص الإخراج المسرحي الأصلية، وعاوَنَتْه في هذا الإخراج الناجح قدرات تمثيلية ممتازة، مثل قدرة ممثلنا الكبيرة فاخر فاخر في دور زاهر أفندي، وصلاح سرحان في دور إبراهيم حمدي، ورفيعة الشال في دور زوجة زاهر أفندي، ونور الدمرداش في دور عبد الحميد، وحسن يوسف في دور محيي، فضلًا عن توفيق الدقن ورجاء حسين في دور سامية التي تلعب دورًا أساسيًّا كبيرًا في المسرحية، وهو دور شاق معقَّد نتيجة لتضارب مشاعرها وتردُّدها في موقفها من عبد الحميد الذي كانت تنفر من الزواج منه لماضيه الفاشل، ثم انتهت بحبه عندما أثبت نبله وترفعه.
وبالجملة نستطيع أن نُقِرَّ لجميع ممثلينا بالإجادة في أداء هذه المسرحية العنيفة إجادة كان من الواضح أن حُسن تعاونهم مع المخرج كان عاملًا فَعَّالًا في تحقيقها.