«طالع السلم» والنقد الكاريكاتيري
شاهدتُ مع بعض أفراد قبيلتي فرقةَ أنصار التمثيل والسينما وهي تعرض على مسرح الجمهورية كوميديا «طالع السلم». وقرأتُ في برنامج الفرقة أنَّ الأستاذ كامل يوسف قد اقتبس هذه المسرحية من أستروفسكي، وسمعتُ منه أنَّ المسرحية الأصلية اسمها مذكرات محتال، ثم قرأتُ في مقال لصديقنا عبد الرَّحمن الخميسي أنَّ اسمها كان «لكل جواد كبوة»، واحترت في أمري، وعدتُ إلى ما بين يديَّ من مراجع، فوجدت أنه كان هناك كاتبان باسم أستروفسكي أحدهما بولندي والآخر روسي، وعبثًا حاولتُ أن أعثر عند كليهما على المسرحية الأصلية المقتبس منها، ولم يَبْقَ أمامي إلَّا أن أعتمد على رواية كامل يوسف الشفوية بأن مؤلف الرِّواية الأصلية المترجَمة إلى الإنجليزية هو أستروفسكي الروسي.
وكم كنتُ أَوَدُّ أن لو أغناني برنامج الفرقة عن هذه البلبلة بتعريفٍ ينشره عن المسرحية الأصلية وعن مؤلفها، ثم عن الأسباب التي دعت إلى الاقتباس بدلًا من الترجمة، مع إيضاح التعديلات التي أَدْخَلَها المقتبس على المسرحية الأصلية ومبرراتها.
وبالرَّغم من كل هذه المعميات؛ فقد أحسستُ حتى من خلال الاقتباس بالفن الذي عُرِفَ به إسكندر نيكولافيتش أستروفسكي الروسي المولود سنة ١٨٢٦ والمتوفى سنة ١٨٨٩، فهذا الأديب هو الذي أقر بإنتاجه الضَّخم الأصول الدرامية للمسرح الروسي قبل تشيكوف الذي خلفه وجعل هَمَّه الأول تحطيم تلك الأصول، ويقول كبار المؤرخين للأدب الروسي: إن تلك الأصول كما أقرها أستروفسكي، يمكن أن نُجْمِلَها في أنَّ المسرحية انفعال فقرار فعمل فاصطدام فصراعٌ فنصرٌ أو هزيمة، ومن المؤكد أنَّ هناك فرقًا واضحًا بين هذه الصورة وصورة المسرحية التقليدية عند الغربيين من حيث إنها عَرْضٌ فتطوُّر فنمُوٌّ فتأزُّم فانفراج.
وبالفعل لاحظتُ أنَّ مسرحية «طالع السلم» لا تبدأ بعرض الخيط وتعريف بالشخصيات التي ستشتبك فيه، بل تبدأ بانفعالِ بَطَلها جلال الذي يحسُّ أنه لا جدوى من الشرف في بيئته المنهارة، وأنه إذا التزم أداء عمله كمدرسٍ في شرف وأمانة سيظل شقيًّا خاملًا طوال حياته، وقاده هذا الانفعال إلى قرار اتخذه، وهو أن يستخدم نفس الأسلحة القذرة المتفشية في بيئته ليصل إلى المنصب المرموق في مجتمعه وإلى الثراء العريض والزوجة ذات الحسب والنَّسب، وكأنه أصبح قذرًا كغيره من كبار الأقذار في مجتمعه، مع فارق بسيطٍ هو أنَّه كان يُدَوِّن في مفكِّرته الخاصَّة رأيَه الحقيقي في كل أولئك الأقذار الذين سخَّرَهم بذكائه وحيلته لتحقيق أهدافه، مع مساهمته هو الآخر في تحقيق أهدافهم القذرة، وبالطبع أخذ يصطدم عدة اصطدامات أثناء عمله لتحقيق أهدافه، ولكنه تغلب على كل هذه العقبات قبل أن يدخل في الصراع النِّهائي مع كل تلك الشخصيات القذرة التي استخدمها في طلوع السلم أو في الوصول إلى ما أراد، عندما وَقَعَتْ مذكراته بين أيدي إحدى تلك الشخصيات؛ ففَضَحَتْ رأيه الحقيقي فيهم، وكادوا يبطشون به لولا أنَّه واجههم بالوقاحة التي تليق بمثلهم، وهدَّدَهُم بفضح أمرهم، أي: إنه خرج في النهاية من الصراع منتصرًا، وهكذا مرَّت المسرحية كما قلنا؛ الانفعال إلى القرار فالعمل فالصدام فالانتصار.
ويقول مؤرخو الأدب الرُّوسي: إن هَمَّ إسكندر نيكولافيتش أستروفسكي الأول كان إرساء هذه الأصول الدرامية في الأدب الرُّوسي، وإن تكن هذه الأصول لم تدم طويلًا؛ إذ جاء تشيكوف بعد أستروفسكي مُباشرة يَسْخَر من تلك الأصول ويعمل على تحطيمها، ولا يحتفظ من كل تلك المراحل الدرامية في المسرحية إلا بالمرحلة الأولى تقريبًا، وهي مرحلة الانفعال، غيرَ عابئ لا بالقصة ولا بتطورها وتأزُّمها وصراعها وحلها، حتى قيل: إن تشيكوف قد صاغ مسرحه في فتات الحياة اليومية بأسلوبه الشاعري البالغ الرهافة، فبدأ مسرحه هادئًا بطيء الإيقاع، ولكنه غَنِيٌّ بمحبة الإنسانية وأسلوبه الشعري البالغ البساطة.
ومسرحية «طالع السلم» المقتبسة من أستروفسكي تُعْتَبر من مسرحيات النقد الاجتماعي، أو من مسرحيات الظلمات كما يُسميها أساتذة الأدب الروسي، من المسرحيات التي عملت على إلقاء الضوء على ظلمات الحياة في عهد القيصرية، وفَضْح ما كان فيها من نفاق وفساد في طبقة الأثرياء.
ولكن الظاهر أن أستروفسكي كان يهتم بالقيم الدرامية أكثر من اهتمامه بالمعقولية ومشاكلة الواقع في تصويره له وفضح مفاسده؛ ولذلك يبدو نقده من قبيل النَّقد الكاريكاتيري، أي: يُضَخِّم الشذوذ والمفاسد، على نحو ما نرى أحد الباشوات في هذه المسرحية يغري الشاب جلال، بل ويُحَرِّضه علنًا على مُغازلة زوجته، ويعلمه فعلًا طرائق هذه المغازلة السمجة، ونحن قد نفهم أن يتغاضى مثل هذا المنحل عن مغازلة الغير لزوجته، ولكنْ من الصعب أن نُصَدِّق إغراءه وتحريضه لهذا الشاب على مغازلتها، وكنا نفضل أن لو غير الأستاذ كامل يوسف مثل هذا المشهد في مسرحيته المقتبسة بفرض وجوده في المسرحية الأصلية ما دامت المسرحية كلها قائمة على الاقتباس وليست ترجمة من النص الأصلي.
ومع كل هذا، وبصرف النظر عن الطابع الكاريكاتيري لبعض المشاهد البالغة الجرأة في هذه المسرحية؛ فإنني أعتقد أنَّ فكرتها العامَّة — أو كما يقول لايوس إيجري مُقدمتها المنطقية، أي الفكرة الأساسية التي تنظم جميع أحداثها — بالغة الصدق والعمق، وهي أنَّ فساد البيئة العامَّة كفيلٌ بأنَّ يقتل كل نزعة شريفة خيرة، وأن يغري شابًّا شريفًا واعيًا كجلال بالتحايل والتسلل إلى أهدافه الجشعة الحقيرة، بل إنَّ هذا الانحراف المعيب لم يكن من الممكن أن يصل بصاحبه إلى تلك الأهداف الحقيرة لولا استِعَانَتُه بأهداف الآخرين من علية القوم الذين لا يَقِلُّون حقارةً عنه، بل يفوقونه، فهم يستغلونه في أحقر الغايات كما يستغلهم، وعندما يصطدم الطرفان لا يستطيعان إلا التسليم والمهادنة حتى لا ينفضح الجميع.
ولقد استخدم الأستاذ محمود السباع أسلوبًا جديدًا في إخراج هذه المسرحية، وهو الأسلوب الإيحائي، فكنا مثلًا نرى جزءًا صغيرًا من حائط يمثل بابًا، وذلك لكي تظل مؤخرة المسرح مكشوفة للنظارة حتى يَرَوْا ما يجري فيها هي الأخرى، وبذلك استطاع المخرج القدير أن يستخدم — في وقتٍ واحدٍ — كافةَ مستويات المسرح، وأن يُحَرِّك الممثلين في كل تلك المستويات على النَّحو الذي يخدم الأداء الدرامي — مع مساعدة توزيع الضوء — خيرَ خدمة، وبخاصة وأنَّ الأغلبية العظمى من الممثلين في هذه الفِرقة قد أجادوا دورهم على نحو يؤهلها كلها لرعاية الدولة وتشجيعها.