كلمة أخيرة في مسرحية «صنف الحريم»
تعرض الآن فرقتنا القومية على مسرح حديقة الأزبكية مسرحية جديدة للأستاذ نُعمان عاشور الذي أصابَتْ مسرحياتُه السابقة مثل «الناس اللي تحت» و«الناس اللي فوق» إقبالًا من الجمهور.
ومسرحيات نعمان عاشور تلقى نجاحًا بروحها الفكاهية، وهي روح نابعة من مزاج المؤلف نفسه؛ ولذلك لا نحسُّ فيها جهدًا أو تصنعًا في التأليف، وإن كان المخرج والممثلون قد يميلون أحيانًا إلى المبالَغة؛ لأنهم يُحِسُّون برغبة الجمهور في الضحك الصارخ، ولكننا مع ذلك نحمدُ لممثلينا ولمخرجينا حِرْصَهم الدائم على ألا يصل أداؤهم إلى حد الابتذال أو الإضحاك الرَّخيص الذي يمكن أن يغطي على كل هدف اجتماعي ويَطْمِسَه وسط الضحك الصاخب المبتذل، فبالرَّغم مما يتحدث عنه المؤلف نفسه لأصدقائه مِنْ حِرْصه أولًا وقبل كل شيء على إضحاك الجمهور الذي يُريد أن يضحك ويتسلى، حتى ليقول نعمان عاشور إنه قد أحصى في مسرحيته ثمانين موقفًا أو عبارة تُثير الضَّحك، إلا أنَّ المسرحية لا تخلو مع ذلك من هدف اجتماعي نقدي.
فالمسرحية تُعَالِج مشكلة مزمنة هي مشكلة تعدُّد الزوجات وما تثيره من متاعب داخل الأسرة، ولكن نعمان عاشور يعالجها من زاوية جديدة تتمشى مع منطق المرحلة التي نعيشها اليوم، فهو لا يُحَمِّل الرجال مسئولية هذه المشكلة بقدر ما يُحَمِّلها للنساء، وقد اتخذ نعمان عاشور في إبراز رأيه هذا حيلةً مسرحيةً كان موليير يستخدمها من قبل، وهي اتخاذ إحدى الشخصيات وسيلةً للتعبير عن رأيه الخاص، ويُسمي النُّقاد هذه الشخصية باسم «حامل الرأي».
و«حامل الرأي» في مسرحية نعمان فتاة جامعية من أُسرة عبد العال بك التي نُكبت بداء تعدد الزوجات، فعبد العال متزوج بامرأتين، وابنه يُريد أن يتزوج بامرأة ثانية، وابنته الأُخرى المترملة تُريد أن تتزوج من طبيب متزوج، والفتاة الجامعية نوال تنتقد هذه الأوضاع نقدًا مرًّا، ولا تقتصر في نقدها على الرجال، بل تُوَجِّه معظم النقد إلى النساء أنفسهن، موضحة كيف أن باستطاعتهن أن يحطمن هذه الأوضاع عندما تكتمل ثقافتهن ووعيهن وتمسكهن بحقوقهن، ورفضهن أن يُصبحن دمًى أو لعبًا في أيدي الرجال.
وكم كنت أود لو فَهِم المخرج والممثلة دور الفتاة نوال على حقيقته، فيحتفظان لنوال بالاتزان والوقار اللذين يَبْعُدان بها عن التماس ضحك الجمهور لبعض المبالغات، وفي بقية الأدوار ما يكفي «لزغزغة» الجمهور، وبذلك كان الاختلاف يبدو واضحًا بين نوال الجامعية التي تقوم بأبحاث اجتماعية بتكليف من كلية الزراعة التي تدرس بها، وبين «صنف الحريم» الذي يريد المؤلف أن ينتقده ويُحَمِّله مسؤلية المتاعب الاجتماعية التي تنشأ عن تعدد الزوجات.
ونعمان عاشور يقصد فيما يبدو «بصنف الحريم» نساء الطبقة الوسطى من أمثال أسرة عبد العال، وذلك بدليل أنه يُحَمِّل الطبقة الشعبية الممثلة في حِمِيدة خفير عبد العال الخاص وزوجته مباركة على سلوك آخر فيما يختص بالطلاق وتعدد الزوجات، فحِميدة قد تزوج مباركة عن غرام ريفي، وبالرَّغم من أن حِميدة قد ثارت ثائرتُه عندما جاءت مباركة إلى المدينة ورآها تكشف عن وجهها أحيانًا، وتتلَفَّتُ أحيانًا أخرى يُمْنة ويُسْرة فتَعَارَكَ معها، إلا أنه يرفض مع ذلك رفضًا باتًّا أن يُطَلِّقها عندما غضبت مباركة وطَلَبَتْ في لحظة الغضب منه أن يطلقها طلبًا عابرًا، أحْسَسْنَا أنَّها غيرُ جادة فيه.
ونحن لا نستطيع أن نقر نعمان عاشور على هذه النظرة الاجتماعية؛ لأنه من الواضح أنَّ ظاهرة الطلاق وتعدد الزوجات ربما كانت أكثر شيوعًا بين أبناء الشعب منها بين أبناء الطبقة الوسطى، فضلًا عن أنَّ هذه النظرة لا تخلو من تناقُض؛ لأنَّ المرأة في الطبقة الوسطى هي التي أَخَذَتْ تسعى وتستنير وتعرف حقوقها وتحاول ألا تشقى بزواجٍ تَعِسٍ على ضرة، وإذا كان نعمان عاشور قد حاول في مسرحيته أن يُفسر انتشار الطلاق وتعدُّد الزوجات، في الطبقة الوسطى دون الطبقة الشعبية بأنَّ الطبقة الوسطى تعيش في رخاء ولديها من المال ما يسمح لها بمثل هذا العبث، فإنَّ هذا التفسير لا نظنه يستقيم؛ وذلك لأنَّ المشكلة لا ترجع إلى المال أو الرَّخاء، بل ترجع إلى مستوى الوعي الاجتماعي في كل طبقة، وهو بلا ريب أكثر ارتفاعًا بين أبناء الطبقة الوسطى منه بين أبناء الشعب، وإن كانت جودة تمثيل الثنائي المكون من حِميدة ومباركة قد أنسانا التفكير في صحة أو عدم صحة تصوير المؤلف لموقفهما الاجتماعي، كما أنَّ حِميدة ومباركة قد أعطيانا درسًا اجتماعيًّا آخر بالِغَ الصدق، وهو أنَّ الزواج الذي يتم عن تعارُف وتفاهُم وحب أقوى صلابة وأشد قدرة على الصمود أمام أحداث الحياة من زواج يُقرره الآباء رغم أنف أبنائهم، كما حَدَثَ في المسرحية بالنسبة لعادل ابن عبد العال، ومثل هذا الزواج السليم يمكن أن يتحقق في الريف؛ لأنَّ الاختلاط فيه شيء عادي مألوف بحكم مشاركة المرأة للرجل في العمل في الحقول، وعدم التزامها للحجاب المادي أو المعنوي الذي تأخذ به نساء الطبقة الوسطى وإن تحررنَ من نقاب القماش.
وإذا كانت لنا نصيحة نبديها لفرقتنا القومية التي نعتز بها فهي ألا تقدم مسرحية للجمهور قبل أن تُشاهد لجنة القراءة بروفاتها قبل العرض؛ لتشارك المخرج والممثلين في فَهْم النَّص وفي طريقة أدائه، ولتدخل ما تراه من تعديلات تظهر ضروراتها عند التمثيل، وقد تكون تعديلات طفيفة لا تغير كثيرًا في النَّص، ولكنها مع ذلك يمكن أن تُعِين على إبراز هدف المؤلف أو بلورته من خلال المواقف المتعارضة داخل المسرحية.
وأمَّا نصيحتي لصديقنا نعمان عاشور؛ فهي أن يُقلع نهائيًّا عن فكرة التماس النجاح الجماهيري السهل «بزغزغة» الجمهور ثمانين مرة كما قال، ولو أنه فعل لَما رأينا «حاملة الرأي» نوال الجامعية تزغزغ الجمهور بإجهاشها بالبكاء؛ لأنَّ والدها طردها من حجرته بالمصحة، ولَما رأينا نوال أيضًا تتبادل مع أختها السباب والتواثب للأخذ بالتلابيب في حركات مضحكة فارغة تُفْقِدُ نوال الاجتماعية وقارها، وتذهب بقيمة أقوالها الواعية المستنيرة التي تعبر عن رأي المؤلف في مشكلة تعدد الزوجات وتَفَشِّي الطلاق في أسرتها … إلخ.
وما أحبُّ لنعمان عاشور أن يكون ذلك الكاتب العمومي الذي كتب عريضة دعوى لأحد الزَّبائن على باب المحكمة، وعند استلام الأجر رفع الكاتب العمومي من قيمة هذا الأجر، فسأله الزبون عن السبب فأجاب بأنَّ العريضة التي كتبها فيها «خمسة لا سيما» وكل واحدة منها تُساوي خمسة قروش، ومَا أَشْبَه الثمانين زغزغة التي يتحدث عنها نعمان ﺑ «لا سيما» هذه، ومن الواضح أنني لا أرضى لنعمان عاشور ولا يرضى له زملاؤه الأدباء مثل هذه المقارنة، فالنَّجاح السهل يُعْتَبر — كما قال جورج دي هاميل — «قبرًا مذهَّبًا» يجبُ أن يحذره كل أديب صادق معتز بمهنته.