الأخلاق والسياسة في ثلاثية فتحي رضوان
لم أَقْرَأ في الصحف والمجلات شيئًا كثيرًا عن ثلاثية الأستاذ فتحي رضوان، رغم أنَّ فرقتنا القومية بجلالة قدرها هي التي تقدمها للجمهور منذ أسبوعين أو يزيد، وذلك بالرَّغم مما أذكُره من أنَّ أولى مسرحيات هذا المؤلف وهي مسرحية «دموع إبليس» قد حظيت في حينها باهتمام كبير من النقاد، سواء مَنْ أُعْجِبوا بها أو ناقشوا مضمونها أو صورتها الفنية.
ولستُ أدري سببًا لهذه المفارقة الواضحة، مع أنَّ فتحي رضوان لم يُغَيِّر اتجاهه في الكتابة المسرحية؛ لأنَّه قد ابتدأ وظلَّ ينحو في هذه الكتابة منحًى سياسيًّا أخلاقيًّا، والأساس العام لكتابته هو مُحاولة دائبة لتقريب السياسة من الأخلاق، ونقد السياسة دائمًا من وجهة نظر أخلاقية، سواء استمد موضوعه من واقع حياتنا — كما في مسرحية «شقة للإيجار» — أو استمده من أساطير الأقدمين ليتخذ منها رموزًا لمعالجة القضايا السياسية، أو التجأ إلى الخيال ليتصور أحداثًا تصلح رموزًا لما يُريد التعبير عنه من مشاكل يلوح أنها محور اهتمامه الأول، وكلها تدور حول الصِّلة القائمة أو التي يجبُ أن تقوم بين السياسة والأخلاق.
واستخدام المسرح وغير المسرح من فنون الأدب في مُعَالجة الأُسس الأخلاقية للسياسة شيء له خطره وحتميته، ومن المؤكد أنَّ فلسفة حياتنا الجديدة تهتمُّ أكبر الاهتمام بقضايا الأخلاق كأسس للسياسة، بل وتدرك أنها الأساس المتين الذي يجب أن يقوم عليه العمل الجاد الثوري كله.
ومن الطرائف التي تستحق الذكر أنني أحسست أن القضية الأخلاقية قد كانت في بلادنا منذ أقدم العصور مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالسياسة، وأكبر الظن أنَّ تغلغُل الإحساس الأخلاقي في نفوس مواطنينا منذ الأزل هو الذي عمَّق الطيبة والخير والنفور من العنف والقسوة في قلوب شعبنا، ولقد ابتهجتْ رُوحي أيَّمَا ابتهاج عندما سمعت عالِمَنا الأثري الفنان الدكتور حسن صبحي بكري وهو يقص علينا أمام إحدى اللوحات الحائطية قصة الإله رع عندما أصابته الشيخوخة فاستخف به البشر، فصعد إلى السماء حزينًا، بينما أخَذَتْ ابنته حتحور ثورة الغضب على الشعب، فراحت تسفك دمه لتشربه انتقامًا لأبيها، ولكن أباها الشيخ الحكيم الطيب القلب لا يرضى عن سياسة ابنته العنيفة ولا يطمئن إلى عواقبها … وتَهْديه حِكْمَتُه إلى أن يحتال على الأمر بأن يصنع نوعًا من الجعة الحمراء، ويأمر بسكبها على الأرض، حتى إذا ظنتها حتحور دماء بشرية وشَرِبَتْها سكرت ونسِيَت الثأر وكفَّت عن قتل النَّاس، وكان ما أراد وأُوقِفَت المذابح.
وعدت من مصرنا العليا لأشهد ثلاثيات فتحي رضوان، فأحسُّ أنها تصدر عن نفس الرُّوح الأخلاقية الطيبة وبخاصة مسرحية «الجلاد والمحكوم عليه»، التي تنتهي بشنق الجلاد لنفسه بعد أن تبين أنَّ هذه المهنة التي أُمْلِيَتْ عليه ولبس قناعًا حتى يواري وَجْهَه طوال عمله، هي أعقم مهنة وأقلها نفعًا للبشر، وبخاصة عندما شبَّ حريق في المحطة التي كان ينتظر فيها مع فريسته القطار، فخَفَّ المحكوم عليه إلى المشاركة في إطفائها استجابةً لنداء أهل القرية، عندئذٍ تأكد الجلاد من عقمه ويأس البشر من مُحَاولة الاستفادة به، فنزع عن نفسه القناع واتضحت له تفاهته إذا ما قُورِنَ بالمحكوم عليه المؤمن برسالة إنسانية خيِّرة.
وقد لخص فتحي رضوان نفسُه هَدَفَ مسرحيته تلك بقوله: «وغايتها أن تُبْرِزَ كيف تستطيع الفكرة النَّيرة أن تُعيد الجلاد — المقنَّع المتخشب الذي استحال إلى آلة للقتل — إلى إنسان يَكْفُر بالقوة، وإن لم يجد سبيلًا إلى الإيمان الكامل بحياة جديدة، فيضطرب إلى الحد الذي يصبح معه جَلَّادَ نفسه بعد أن كان جلادًا للغير.»
والمسرحيتان وهما: «إله رغم أنفه» و«المحلل» تدوران أيضًا حول المحور الأخلاقي للسياسة.
فموضوع الأولى مأخوذ عن حادثة هندية معاصرة، هي مُقَاوَمة الزَّعيم «نهرو» لأتباعه الذين أرادوا أن يؤلِّهوه فأبى عليهم ذلك إباء حاسمًا مُطْلقًا، وفضَّل أن يظل إنسانًا كما هو، وأمَّا الثانية فإنها وإن كانت تحمل اسم «المحلل» إلا أنها في الحقيقة تدور حول فكرة أوسع من فكرة المحلل الضيقة؛ لأنها تصور المواطن المسكين المسحوق الذي يتخذه ذوو القوة والثراء مطية لكل هدف مشروع أو غير مشروع، حتى ولو كان هذا الهدف هو استرجاع زوجة طَلَّقَها زوجها الثري القوي طلاقًا بائنًا.
وهي بذلك مسرحية رمزية عميقة في هدفها الاشتراكي والإنساني الخير، وقد أحسسْتُ أنها أعمق وأروع هذه الثلاثية؛ لأنَّها جمعت بين الظاهر الواقعي البسيط والأعماق الرمزية البعيدة، بينما جنحت مسرحية الجلاد والمحكوم عليه إلى رمزية غائرة أخشى أن يكون مدلولها قد فات الكثير من المشاهدين.
وإذا كانت لي مُلاحظات على هذه الثلاثية؛ فهي تنصب في الواقع على الأداء التمثيلي، إذ أحسستُ أنَّ مسرحية «إله رغم أنفه» قد أداها ممثلونا — مع رسوخ قدمهم الذي لا شَكَّ فيه في فن التمثيل — بطريقة شبه آلية لا انفعال فيها، وكأنهم لم يقتنعوا بالنصِّ فلم يُحِسُّوه، كما أنَّ مسرحية «المحلل» قد أداها ممثلنا الكوميدي الفحل سعيد أبو بكر بأسلوب مُحَلًّي كاريكاتيريٍّ أطاح بمرماها البعيد وهدفها العميق، وفي رأيي أنَّ هذه المسرحية كان من الواجب أن تُؤدى فيها شخصية المحلل بأسلوب شارلي شابلن الذي يُضْحِك في ظاهره فحسب، بينما يعطفنا في باطنه على مأساة هذا المواطن المسحوق الممتطى، فعندئذٍ كان الدور يَتَّخِذ أبعاده الحقة التي أرادها المؤلف.
وإن كان واجبي ألا أَغْمِط المخرجين حَقَّهم وبخاصة الأستاذ محمد عبد العزيز الذي نجح في خلق الأسطورة الهندية والأصنام خير نجاح، والأستاذ سعد أردش الذي نجح هو الآخر في خلق الجو الرمزي التجريدي الخالص لمسرحية الجلاد والمحكوم عليه، بينما التزم نور الدمرداش الأسلوبَ الواقعي البحت في إخراجه مسرحية «المحلل»، وكنت أرجو أن يَجِدَ وسيلة للجمع بين الرَّمز والواقع في إخراج مثل هذه المسرحية وتوجيه الممثلين نحو هذا الجمع.
وإن تكن مُحْسِنة توفيق في دور الزَّوجة، وعادل المهيلمي في دور الزَّوج، قد حاولا الاحتفاظ في الأداء باتزانٍ كان من الممكن أن يُفسح المجال أمام سعيد أبو بكر؛ ليأخذ بأسلوب شارلي شابلن في أداء دوره المعقَّد.
وأمَّا في مسرحية «الجلاد والمحكوم عليه» فقد أدى محمد الطوخي دور الجلاد، كما أدى طارق عبد اللطيف دور المحكوم عليه أداء فاهمًا عميقًا لم يخن النص في شيء، بل جسده تمامًا، وإن يكن كما قلتُ قد ظلَّ بعيدَ المنال إلى حدٍّ ما، ولا غرابة في ذلك، فالرَّمز لا بدَّ أنْ يُسَاعد النُّقاد في إيضاحه لعامة المشاهدين، وهذا هو ما لم يفعلوه لسبب لا أعرفه، ولا أضع قَلَمي قبل أن أستثني ممثلنا القدير حسن البارودي في مسرحية «إله رغم أنفه»؛ إذ كان الممثلَ الوحيدَ تقريبًا الذي أحسسْتُ أنه يحسُّ بالنص في دور كبير الكهان.