«عشان عيونك» وكوميديا الموقف
شهِدْتُ هذا الأسبوع عرضين مسرحيين: أحدهما: لكوميديا «عشان عيونك» التي اقتبسها منذ وقت طويل فناننا الكبير المرحوم سُليمان نجيب، ورأت فرقة أنصار التمثيل والسينما إعادة إخراجها وعرضها على الجمهور؛ تذكيرًا بمؤسسها سُليمان نجيب، وإيمانًا بأنها من نوع الكوميديا، وهو النوع المعروف باسم «كوميديا الموقف»، والمسرحية مُقتبسة من مسرحية إنجليزية كان عنوانها الأصلي «لا شيء غير الصدق».
ومن المعلوم أنَّ فن الكوميديا يمكن أن يقوم على الإضحاك بالنكتة اللفظية أو بالحركة الخارجة عن المألوف، وهذان هما النَّوعان الأقل في المستوى الإنساني والفني، كما أنَّه من الممكن أن ينبعث الفن الكوميدي — أي فن الإضحاك — عن الكشف عن المتناقضات النفسية والأخلاقية، فتأتي المسرحية من النوع المعروف باسم كوميديا الأخلاق، كأن تقوم على الكشف عن ظاهرٍ شجاعٍ وباطنٍ جَبَانٍ أو ما شاكل ذلك.
وأخيرًا يأتي النوع المعروف في تاريخ الآداب العالمية باسم كوميديا المواقف، حيث ينبعث الضحك عن خَلْق موقف غير مألوف في واقع الحياة تَقِفُه شخصيات المسرحية، فترتب عليه نتائج فريدة تُثير ضحكًا، كما تُثير تأملنا الفكريَّ عَمَّا في الحياة من ضروب التزييف التي ألِفْناها، ولا نستطيع الفِطْنَةَ إلى نتائجها الخطرة، ما لم نتخذ موقفًا جديدًا يخرج بنا عما ألفناه، ويختلف عن ظاهر حياتنا اختلافًا كاملًا.
وهذا النَّوع من المسرحيات الكوميدية يُشْبِه إلى حدٍّ بعيد نوعًا من الدِّراما الذهنية التي تقوم على فرض ذهني، على نحو ما فَعَلَ كاتبنا الكبير توفيق الحكيم، الذي بنى الكثير من مسرحياته الذهنية على فرض يفترضه أو يستعيره من التاريخ الديني أو الأسطوري، ليدرس بعد ذلك النتائج التي يُمكن أن تترتب على هذا الفرض في فهمنا للحياة أو سلوكنا فيها، كأن يفترض مثلًا بعث أهل الكهف ليدرس نتائج هذا البعث، وإن كان المبعوثين يمكنهم استئناف الحياة من عَدَمِه وأمثال ذلك.
ومسرحية «عشان عيونك» تقوم هي الأخرى على فرضٍ وَضَعَه كاتبه الإنجليزي مونتجمري في صورة رهان بين شاب وخاله المحامي، على أن يلتزم الشاب الصدق خلال أربع وعشرين ساعة، وقد دبر الشاب هذا الرهان لكي يضاعف مائة جنيه طلبت إليه بنتُ خاله — التي يحبها ويريد الزواج منها — أن يضاعفها، لكي تُقَدِّم المائتي جنيه لجمعية خيرية طلبت إليها هذا المبلغ.
وكأن الشاب قد أقدم على مخاطرة جسمية «عشان عيون فتاته»، وهذه المغامرة هي قول الصدق الكامل خلال أربع وعشرين ساعة، وخاله المحامي وخاله الآخر يُلاحقانه بالأسئلة المحرجة لكي يَفْقِد الرهان، كما أنَّ عددًا من الناس يسألونه أسئلة أُخرى توقعه في مآزِق محرِجة، كما توقع مَنْ حَوْله جميعًا بما فيهم خاله المحامي الطرف الآخر في الرِّهان، فنراه مثلًا يعترف لأحد المتصلين بخاله بأنَّ أسهم شركة الزيت — الموكل خاله المحامي ببيعها — أسهم فاشلة لا يُنْتَظَر منها أي ربح، وإنما هي مجرد مصيدة للمال، ويضطر إلى أن يقول الصدق عن قريبة له تظن أنها جميلة وأنيقة وفنانة موسيقية بارعة ومغنية عذبة الصوت، في حين أنها على النقيض من ذلك في كل شيء، وما كاد يقول لها الشاب الصدق حتى تبكي بكاء مضحكًا.
ولقد برع في هذا النوع من المسرحيات الكاتب الفرنسي الكبير ماريفو في القرن الثامن عشر، ولكنَّ الظاهر أنَّ ماريفو هذا لن تتوفر لكثير غيره القدرة على خَلْق الموقف الكوميدي خلقًا يوهم بإمكان وقوعه في الحياة، بحيثُ لا يبدو مسرفًا في الافتعال، كما يُجيدُ حَبْك الموقف ويجيدُ استخدامه في الكشف عن كثير من وقائع الحياة العميقة الشائعة، بحيثُ يُصبح الموقف قوة كاشفة خطيرة عن حقائق الحياة التي تزيفها أحيانًا كثيرة ضرورات الحياة الاجتماعية، أو ضَعْف الضمائر والأخلاق، وكل ذلك بروح فكاهية مجنحة انتهت باتفاقِ مؤرخي الأدب على تسمية هذا المنهج في التأليف المسرحي باسم «الماريفودية»، وهو المنهج الذي يخلص إلى أعمق الحقائق الجدية في النفس البشرية وفي الحياة الاجتماعية عن طريق الفكاهة الخفيفة، فنراه مثلًا يَحْمِل حبيبين في كوميديا «لعبة الحب والحظ»، على أن يتنكر كل منهما في ثوب الخادم والخادمة؛ ليتحقق كل منهما من أنَّ حبيبه لا يطوي في نفسه وخلف ثياب الأسياد عقلية الخدم.
وبالرَّغم من طرافة الفرض الذي تقوم عليه مسرحية «عشان عيونك» وإمكانيته الضخمة في الكشف عما في الحياة الإنسانية والاجتماعية من زيف، فإنني أخشى ألا يكون الفرض قد تَأَتَّى للمؤلف بصورة محبوكة الخيوط محتملة الظهور في واقع الحياة، كما أنني أخشى ألا تكون النتائج التي استَخْلَصَت من هذا الفرض كُلَّ أو أَهَمَّ ما يستطيع مثلُ هذا الموقف أن يتمخض عنه، وإن كنت قد حمدت لممثلينا الممتازين — وبخاصة الأستاذ محمد توفيق في دور الشاب المراهق — أستاذِيَّتَهُم في إخراج هذا الفرض مَخْرجًا قَرَّبَه أشد القرب من واقع الحياة، وبخاصة بعد أن تخطوا الفصل الأول الذي طال بغير موجب في التمهيد لوضع الفرض، ومع ذلك لم نقتنع تمامًا بمأتاه الطبيعي السهل الممكن، ومنذ أنْ تم الرهان انطلق الأداء التمثيلي على نسق سهل ممتع، بل وناجح في إيهامنا القوي بمشاكلة الحياة، وبذلك جاءت المسرحية نظيفة ممتعة ذهنيًّا وفنيًّا وخالية من الابتذال والإضحاك المجتلب الرخيص.