في «عيلة الدوغري» نعمان عاشور يعود إلى الأوتشرك
تأخرتُ بسبب سفري إلى النوبة في مشاهدة «عيلة الدوغري» للسيد نعمان عاشور، ومع ذلك فقد تتبعت بسرور استقبالَ النقاد لهذه المسرحية بإعجاب، ولعل في هذا الاستقبال ما يُصْلِح العلاقة التي كانت قد ساءت إلى أبعد الحدود بين نعمان والنقاد، وإن كانت مشاهدتي للمسرحية قد أقنعتني بأنَّ نعمان «بالست دراما» لم تتحسن إطلاقًا، ولا نرجو لها أن تتحسن؛ لأن نعمان قد خلق في مسرحنا العربي المعاصر فنًّا دراميًّا جديدًا على غير وعي منه ولا قصد، وهو بحمد الله «ماحٍ» في النقد، ولكنه بلا شك موهوب في الفن الدرامي.
لذلك استغرقني الضحك عندما قرأتُ في الكلمة التي نشرها في البرنامج الذي وُزِّعَ على المشاهدين قوله عن «عيلة الدوغري» مسرحية ليس فيها إلا كل ما هو دراما، وفي أنضج المفهومات المتطورة للدراما الحديثة المعاصرة حسبما طاوعتني معرفتي العلمية بالقواعد والأصول، ودراستي النَّظرية للأشكال والقوالب والألوان والاتجاهات، وحسبما أعانتني طاقتي ومقدرتي وتجاربي السابقة في الكتابة للمسرح، بل حسبما يجبُ أن تكون رسالتي فيه كأقْوَم وأعمق تعبير يَحْمل أجلَّ الأهداف الاجتماعية والإنسانية.
استغرقني الضحك؛ لأنَّ «عيلة الدوغري» ليست من الدراما بمفهومها التقليدي في شيء، بل وليست تطويرًا لهذا المفهوم التقليدي، أي: ليست تجويدًا أو إحكامًا فيه، بل هي كسابقتيها «الناس اللي تحت» و«الناس اللي فوق» فنٌّ مسرحي جديد نستطيع أن نُرْجع صورته الأولى إلى تشيكوف ثم مكسيم جوركي، ولقد سبق أن نَبَّهْتُ نعمان عاشور إلى حقيقة هذا الفن في ندوة إذاعية ناقشْنا فيها مسرحية «الناس اللي فوق»، بل وكتبت عن هذا الفن الجديد مقالًا ضافيًا في جريدة «الشعب» واستعرت في تسميته الفنية لفظة «الأوتشرك» الروسية، ومعناها الريبورتاج أو التحقيق الصحفي، التي عندما تُطْلَق على فن مسرحي يكون معناها الريبورتاج أو التحقيق الدرامي، أي: الذي يتخذ في عرض نتائجه صورة الدراما.
وإن تكن الدراما ولا «الست دراما» بمعناها التقليدي، فمن المؤكد مثلًا أن تشيخوف لم يكتب في مسرحيته «الأخوات الثلاث» دراما بالمعنى التقليدي، أي: دراما تقوم على وحدة الحدث وعلى الصراع، بل كتب تحقيقًا دراميًّا عن أخوات ثلاث يعشنَ في قرية روسية نائية ويَضِقْنَ بركود الحياة فيها، وبالرَّغم من أنَّ لكل منهن شخصيتها الخاصة وفتات حياتها المتميزة إلا أنَّ حياة ثلاثتهن تنتظمها فكرة عامة واحدة، وهي ركود الحياة وسآمتها في القرية، وتطلُّعهن جميعًا إلى الحياة المدنية الرَّحبة التي تتيح لهنَّ الانطلاق وفرص الحياة المشبعة لنزعاتهن الإنسانية المشروعة.
وإذا كان نعمان قد قدم لنا أوتشركًا رائعًا عن «الناس اللي تحت» وآخر عن «الناس اللي فوق» فها هو اليوم يقدم لنا ثالثًا عن «الناس اللي في الوسط» مُمَثَّلين في «عيلة الدوغري»، وما نزل بها من تفكك وأنانية بعد أن مات عائلها الثري أو الذي كان ثريًّا ثم فقد ثروته، ولم يَبْقَ منها غير بيت بالحلمية القديمة هو كل الميراث، فتؤدي الضائقة المالية، والصراع على الحياة وشدة الأنانية، التي كثيرًا ما تُحَطِّم أُسَرَ الطبقة الوسطى، إلى إظهار جوهر كلٍّ من الأخوة الخمسة الذين تتكون منهم عائلة الدوغري التي كانت تعيش في مودة وسلام أيام الرَّخاء الذي استطاع رب الأسرة أن يُوفره لهم، بدأبه وحرصه، بل وبُخْله الشديد المتمثل في شخصية تابع الأسرة عم «الطواف» الذي خدم هذه الأسرة في المخبز، وفي البيت حتى بلغ السبعين من عمره، وظل حافيًا طوال حياته، بل وينصحه أحد أبناء الأسرة بأن ينهي حياته كما بدأها حافي القدمين.
وواضح من هذا التركيزِ لفكرة المسرحية وعمودها الفقري أنها من فن الأوتشرك، وأنَّ نعمان بكتابتها قد أتمَّ ثلاثيته الرَّائعة التي صوَّر فيها المجتمع المصري بطبقاته الثلاث وسط أحداث الحياة العامة والخاصة، ومع ذلك لستُ أدري لماذا يتشبث نعمان كالغريق «بالست دراما» مع أنَّ موهبته الحقة قد هَدَتْه إلى كشف صورة جديدة بالنسبة لأدبنا العربي في فن المسرح؛ ولقد أحسست بعنفٍ هذا التشبثَ منذ سنوات عندما تحدثْتُ وكتبت عن طابع الأوتشرك في مسرحيته عن «الناس اللي فوق»، فنفى نعمان عن نفسه ما ظنه عندئذٍ تهمةً، وأخذ يُقسم بأغلظ الأيمان أنَّه قد كتب دراما بالمعنى التقليدي، وها هو اليوم يعود فيؤكد أن «عيلة الدوغري» ليس فيها إلا ما هو دراما، وكل ما تنازل عنه يتمثل في قوله إنها دراما في أنضج المفهومات المتطورة للدراما الحديثة المعاصرة، ولستُ أدري ماذا كان يمكن أن يقوله النقاد لو راح برتولد برخت مثلًا يزعم أنَّ مسرحياته الملحمية ليس فيها إلا ما هو دراما في أنضج المفهومات المتطورة، أو لو راح بيكيت أو أونسكو وغيرهم يزعمون أنَّ مسرحيات اللامعقول هي الأخرى ليس فيها إلا كل ما هو دراما متطورة.
ومع ذلك؛ فإننا نُلاحظ أن توثيق اتصالنا بفنون المسرح الجديدة — وبخاصة بفضل مسرح الجيب — قد أحْدَثَ عند النقاد الذين وَقَفَتْ ثقافتهم عند حد ما تَلَقَّنوه في بعض المعاهد منذ سنوات عديدة، ألاحظ أن هذا الاتصال قد أفاد العقلية النقدية العامة بمرونة جديدة وفَهْم أوسع لفنون المسرح، وإنني لَأذكر أنني قوبلْتُ بموجة من التساؤل والاستنكار عندما سَمَّيْتُ مسرحية «الناس اللي فوق» بالأوتشرك، لا من نعمان وحده، بل ومن كثير من النقاد الذين راحوا يزعمون أنني أحاول فلسفة التوافه أو الخروج على الأصول التقليدية «للست دراما»، فجميع مَنْ كتبوا عن تمثيلية «عيلة الدوغري» قد اعترفوا هذه المرة بأنَّ نعمان، وإن يكن قد خرج فيها على الأصول التقليدية للدراما، إلا أنه قد قدم مع ذلك مسرحية ناجحة أُعْجِبوا بها جميعا، وإن يكن قد بقي أن يعترفوا في شجاعة بالاصطلاح الفني الذي أطلقْتُه على هذا النوع من المسرحيات، وهو اصطلاح معروف في الأدب السوفيتي الحديث.
ولقد كان نعمان محظوظًا باختيار الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني لإخراج مسرحيته الجديدة، كما كان محظوظًا باختيار نخبة ممتازة من ممثلي المسرح القومي لتمثيلها، وبخاصة الأستاذ القدير الأستاذ شفيق نور الدين الذي أدى دور عم علي الطواف في عمق وتركيز وأصالة، ولم يحاول قط أن ينتزع إعجاب الجمهور أو عطفه بالمبالغة في حركة أو نبرة صوت.
ولست أدري هل كان من الأفضل أن يلجأ بقية ممثلينا الأفذاذ إلى مثل اتزان وتركيز شفيق نور الدين، أم أن أدوارهم كان من الصعب إخضاعها لنفس النهج، فيما عدا دور الممثلة الممتازة نادية السبع في شخصية كريمة، فقد آثرت نادية أيضًا منهج التركيز ونجحت فيه، وإن يكن الأداء التمثيلي في جملته قد كان ناجحًا فيما عدا بعض الحركات أو النغمات التي لاحت لي مُسْرِفة، حتى خشيت أن تصيب بعض مَشاهد هذه المسرحية العميقة بما يشبه لون «الفارس».