«حلاق بغداد» و«حلاق أشبيلية»
قرأتُ في الصحف عما في مسرحية «حلاق بغداد» للأستاذ ألفريد فرج من مرح وجاذبية وجوٍّ شرقي وروح دعابة لطيفة تذكر بجو ألف ليلة وليلة، أو شيطنة وعبقرية كاتب العرب الأكبر أبو عمرو بن بحر الجاحظ في «المحاسن والأضداد». وخُيِّل إليَّ أنني بذهابي لمشاهدتها في المسرح القومي سأقضي ليلة ترويح ممتع من ليالي رمضان، على نحو ما أذهب أحيانًا إلى حي الحسين ومَبَاهِجِه الشعبية اللطيفة.
وبالفعل أخذتُ أوَّلَ الأمر أتلَقَّى مشاهد هذه المسرحية بهذه الروح أوطد النفس على المتعة الخفيفة المرحة في صحبة نخبة ممتازة من ممثلي الكوميديا في فرقتنا العزيزة، أمثال الكوميدي الموهوب عبد المنعم إبراهيم والممثلة البارعة ملك الجمل، وأصحابهم النابهين، ولكني لم ألبث أن رأيت عقلي يتحرك وإحساساتي العميقة تطفو ومعرفتي العريقة بالأدب الدرامي العالمي تطن في رأسي وتمد الخيوط والوشائج، حتى نسيتُ أو كِدْتُ ما كُنْتُ قد وطَّنت عليه النفس من أنني سأشهد حدوته أو حدودتين تداعبان الحواس والخيال ولا شيء غير ذلك.
وكلما استمر العرض وانتقلنا من مشهد إلى آخر ازداد الشعور بالجدية سيطرة على نفسي؛ حتى لم أعد أرى في هذه المسرحية خوارق فانتازيا أو مفاجآت فانتا ستيل، بل أتلقى مضمونًا إنسانيًّا واقعيًّا في صورة مرحة، وروح تجمع بين الفكاهة الساخرة والأسى الشعري النافذ.
وشيئًا فشيئًا أَخَذَتْ كل هذه العناصر تتبلور في نفسي حول شخصية أبو الفضول حلاق بغداد، الذي اكتملت في النهاية صورته أمام ناظري، وأصبحتْ قادرة على أن تثبت للمقارنة مع نموذج بشري آخر خلقه من قبل الكاتب الفرنسي الكبير بومارشيه وهو فيجارو.
- (١)
حلاق أشبيلية.
- (٢)
زواج فيجارو.
- (٣)
الأم الآثمة.
وإذا كان فيجارو قد عمل في ثلاثيته «بومارشيه» حلاقًا أول الأمر ثم خادمًا بعد ذلك، فضلًا عن المهن العديدة التي زاوَلَها من قبل وخَبَرَ من خلالها الحياةَ وذاق مُرَّها، وخرج منها بشحنة ثورية عاتية، هي الشحنة التي تبلورَتْ في نفس المواطن الفرنسي الذي قام بثورة سنة ١٧٨٩ الكبرى، حتى رأينا فيجارو هذا يُفْزِع السلطات الملكية الأرستقراطية الحاكمة عندما انبثق من عقل خالقه بومارشيه قبل اشتعال الثورة الفرنسية بخمس سنوات فقط، مما دفع الملك لويس السادس عشر إلى الأمر بإيقاف تمثيل «زواج فيجارو» والقبض على مؤلفها وإلقائه في سجن الباستيل؛ حيثُ مكث أربعة أيام، ثم أَفْرَجَتْ عنه السلطات الباغية تحت ضغط الشعب الثائر وزمجرته.
فإن أبو الفضول حلاق بغداد الشعبي المنبت كفيجارو سواء بسواء قد قاوَمَ الظلم والطغيان في ثنائية ألفريد فرج، وانتصر للمُستضعفين في الأرض أو الملاحقين لخروجهم على الحواجز العاتية التي كانت تفرضها القيود الاجتماعية البالية، حتى سحبت منه تلك السلطات الباغية رخصة الحلاقة كأعنف جزاء يمكن أن يُعَاقَب به المواطن، بل مجرد إنسان، وهو حرمانه من حق العمل، بل وسحبت بعد ذلك من أبي الفضل حلاق بغداد رخصة العمل كحمال بعد أن اضْطُرَّ إلى مزاولة هذا العمل الشاق رغم تخصصه في مهنة الحلاقة، مما اضطره في النِّهاية إلى أن يحاول الحصول على لقمة العيش عن طريق التسول على نحو ما حدث لفيجارو تمامًا عندما تنقل بين تلك القائمة الطويلة من المهن، حتى انتهى إلى العمل خادمًا في قصر الكونت ألمافيفا على نحو ما أخبرنا هو نفسه في مونولوجه الشهير، الذي لا يزال يُعْتَبر حتى اليوم من أهم وثائق الثورة الفرنسية الكبرى.
وكذلك الأمر في أبي الفضول حلاق بغداد، فهو ابن ثورة ١٩٥٢ العظيمة، وسيحتفظ به التاريخ نموذجًا بشريًّا رائعًا لابن هذه الثورة، الذي قد يُساوره الشك أحيانًا في أنه مخطئ لحشر نفسه فيما لا يعنيه مباشرة من شئون مواطنيه، وبخاصة المستضعفين المستذَلِّين منهم، حتى ليُخَيَّل إليه أنه فضولي يَلْقَى ما يستحق من جزاء، ولكنه مع ذلك لا يدع سبيلًا لهذا الشك والبلبلة على إرادته وضميره الاجتماعي الأخلاقي.
فبالرغم من أنَّ حلاق بغداد قد أفصح غير مرة عن هذه الشكوك بلسانه، فإننا لم نَرَهُ قط يتردد لحظة واحدة في مواصلة العمل لانتصار حق يوسف وياسمينة في الحب والحياة دون يأس أو محاوَلة للانتحار، ثم مغامرته الأخرى من أجل الانتصاف للأرملة البائسة الجميلة زين النساء من الغربان التي تريد أن تَنْقَضَّ عليها بعد وفاة زوجها، وأن تحرمها مما خَلَّفَهُ لها من مال، مُستخدِمِين في ذلك جاهَ المنصب أو سطوة المال، فتَهُزُّ أبا الفضول نخوةُ النَّفس وكرامة الخُلُق لينهض بعبء الدفاع عن هذه المرأة في تلقائية تكاد تُشْبِه المصادفة البحتة، وكأنَّ هذا الثائر العظيم على الظلم والاستغلال والحقارة الاجتماعية لا يعي ما يفعل، بل يلهو بروح خفيفة مرحة مُتفائلة، لا تنضح فيها روح الشك أو البلبلة التي تجري أحيانًا على لسانه، ولكنها لا تنفذ قط إلى إرادته وضميره، وهذه هي قمة الفن الإنساني الرفيع التي استطاع أن يحتفظ بها لهذه المسرحية العظيمة مخرجنا الشاب الجديد المثقف فاروق الدمرداش والنخبة الممتازة من ممثلينا الذين قدموها إلينا، واستحق كل منهم على حسن أدائه قبلة حارة، وإن بطل المسرحية الممثل البارع الممتاز عبد المنعم إبراهيم ليستحق بجدارة على الأقل قبلتين أو ثلاثًا.