«سيد دوريش» على المسرح الحديث
قضيتُ ليلة ممتعة مع فناننا العبقري سيد درويش في مسرحنا «الحديث» عشتُ فيها أحداث حياته الكُبرى ومراحلها الرئيسية، وانفعلت بالمعارك التي خاضها في سبيل فنِّه، وبدافع من موهبته الغلابة، وسمعتُ عددًا من أنغامه التي لا تزال تتردد على أفواه الملايين وتَسْكُن لباب نفوسهم، رأيته عاملًا أو مشرفًا على عمال البناء يُنْشِد لهم الأنغام فيحفز نشاطهم ويجدد حيويتهم فيضاعف إنتاجهم، ولكنَّ بوهيميته كفنان تتعارض مع العمل الرتيب المنظم، فيشتد ضيقه بتعنت صاحب العمل ويتلهف للتطلع إلى فنه، في حين يثنيه عن هذا المعلم محمود صاحب القهوة المجاورة العملي التفكير المتواضع في أسلوب حياته.
وكانت هذه أول معارك سيد درويش، حيث يجري الصراع في نفسه بين موهبته الفنية التي تتطلع إلى الانطلاق، وضرورة الحياة البليدة التي تتعارض تعارضًا جذريًّا مع طبيعته وموهبته، التي ترفض القيود والأغلال والبلادة الرَّتيبة، وولَّد هذا الصراعُ الدفينُ الحركة الدرامية الحية في الفصل الأول من هذه المسرحية الناجحة، كما رطب نفوسنا النشيد الذي غناه سيد درويش مع العمال في هذا الفصل على خير ما تكون أناشيد العمل الجماعية الفنية الإيقاع واللحن.
وانطلقت المسرحية من هذا الصراع الدفين، الذي سيطر على حياة سيد درويش كلها وفنه، لتتحرك في إطار تلك الفترة التاريخية المجيدة التي عاش فيها سيد درويش حياته، التي مرت كالشهاب الخاطف في سمائها، فترة ثورة سنة ١٩١٩ التي نهض بعبئها الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني، واستطاع المؤلف الذكي صلاح طنطاوي أن يُغذي الحركة الدرامية المؤثرة بعدة روافد صبت في الصراع الرئيسي الذي خاضه سيد درويش من أجل الفن ومن أجل موهبته التي ترفض أن تستسلم، وتأبى إلا أن تصل إلى الكمال، لا بالممارسة وحدها، بل بالدراسة العملية العميقة للفن الصعب المعقَّد، فها هو الرجل الطيب المستقيم المعلم محمود تَهْدِم القوات البريطانية قهوته لتَشُقَّ طريقًا واسعًا لها نحو معسكراتها، فيتحول المعلم محمود من صاحب قهوة إلى بائع متجول يصنع الشاي ويطوف به على الحي حاملًا «عدة» الشاي التي لا تقوم بأوده وأود أسرته، فيبيع أيضًا العصي والمذبات.
وفي خلال كل هذه المحن لا يفتر اهتمامه بصديقه سيد درويش، شأنه شأن أولاد البلد من أبناء شعبنا، ويقابل سيد درويش ذو النفس الفنانة الحساسة هذا الودَّ بمثله، بل بخير منه، فلا يكاد يكسب من فنه بعض المال حتى يقدم بعضه إلى صديقه في صورة لطيفة.
ويستخدم المؤلف الذكي صلاح طنطاوي رافدًا آخر من روافد الحركة الدرامية النَّفسية، وهو حب سيد درويش لإحدى بنات الشعب الجميلات «جليلة» حبًّا مثاليًّا … ولكنَّ حب سيد درويش الغلاب لفنِّه وحدبه على من يعول من أمٍّ وزوجة يحمله على قبول العرض الذي جاءه من صاحبي فرقة تمثيلية غنائية شامية، فيقبل هذا العرض ويُسافر إلى الشام لمدة عشرة أشهر، لكنَّه عند عودته يعلم أنَّ جليلة قد تزوجت من سواه، ويَقْبَل أن يعمل كاتب حسابات عند زوج أخته صاحب ورشة النجارة، ولكنه يضيق بهذا العمل ويسافر ثانية إلى الشام، ثم يعود فيعلم أنَّ جليلة طُلِّقَتْ وسافرت من الإسكندرية إلى المحلة الكبرى.
وهنا يأتيه عَرْض جديد من الشيخ سلامة حجازي ليعمل معه في القاهرة، ويتغلب الفن عليه في هذه المرة أيضًا ويتردد للحظة بين السفر إلى القاهرة والسفر إلى المحلة الكبرى بحثًا عن جليلة، ولكنَّه يُفَضِّل السفر إلى القاهرة لفترة من الزمن، ثم يُسافر إلى المحلة ليعلم أنَّ جليلة قد تزوجت للمرة الثانية، فيرتد إلى القاهرة كاسِفَ البال ليؤسس فرقةً خاصَّة به لفن الأوبريت، ولكنه كفنان أصيل وكموهبة حقة يحس بأنه في حاجة إلى مزيد من الدراسة العلمية المنظمة حتى يصل بفنه إلى المستوى الذي يرضيه، فيترك القاهرة إلى الإسكندرية استعدادًا للسفر إلى إيطاليا، ولكن الموت المفاجئ يَسْبِق إليه قبل تحقيق هدفه، وبذلك تنتهي مأساة سيد درويش، وإن يكن الفنان، بل الفنانون الثلاثة توفيق الحكيم وحسين فوزي وبديع خيري — في لقائهم به في القاهرة وكما رأينا على خشبة المسرح — قد بذروا في نفسه بذرة الأمل في انتصار الفن الأصيل مهما طال به الصراع.
كما أن اشتراك سيد درويش في استقبال الزعيم سعد زغلول وهو عائد من منفاه الأول في مالطة مع جموع الشعب بنشيده الوطني «بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي»، الذي أعده ومات قبل أن ينشده في استقبال الزعيم، وشاء مؤلف المسرحية إلا أن يسمعنا هذا النشيد الشعبي الخالد في لحظة وفاته، وكأنه أكبر رثاء يمكن أن يشيد بمجده.
قلتُ: إنني قد قضيت ليلة ممتعة، خرجت منها وقد انتعش جسمي بانتعاش روحي، وكل ذلك بالرَّغم من الدموع التي انسابت من عيني على غير وعْي مني عندما سمعتُ جماهير الشعب وهي تردد ذلك النداء الذي طالما ردَّدْتُ معهم في يفاعتي المبكرة، وهو «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وعندما ردَّدَت الجوقة «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» رأيتني أنتفض من مكاني واقفًا تحية وإجلالًا لهذا النشيد الخالد الذي طالما رددناه في مدارسنا أيام الشباب المبكر، وفي اعتقادي أنني مَدِين بهذه اللحظات الحية التي لن تُفارق وجداني وشيكًا للمخرج العبقري الصادق الحس النافذ البصيرة محمد توفيق، الذي مكنني من أن أُحِسَّ بأنني لا أرى تمثيلًا، بل أرى بعثًا فعليًّا لقطاع حي صادق من قطاعات حياتي، ومُساهمتي المتواضعة مع الملايين في مكافحة الاستعمار والمستعمرين، بل حياة شعبنا كله، فضلًا عن حياة سيد درويش الرَّائعة التي ضرب بها المثل لعنادِ وصلابة الموهبة الحقة الصادقة، وبخاصة عندما تختلط تلك الموهبة بكفاح الشعب تستمد منه وتعطيه، ومن المؤكد أن محمد توفيق قد حقق هذا النجاح بالتزام البساطة في العرض والأداء والبُعد الصارم عن التماس النجاح الرخيص.
فقد أحسست أنه ضَبَطَ في دقةٍ شخصيات المسرحية، وتمكَّنَ من النجاح بحسن اختياره للممثلين الذين أدوا تلك الأدوار، فإذا بي أكتشف مواهب جديدة قادرة مثل ممثلنا الشاب محمد نوح في دور سيد درويش، الذي استطاع أن يُوحي إلينا بما كان يضطرم في نفس سيد درويش من صراع عنيف بين الفن ولقمة العيش، وذلك فضلًا عن الفنانين المخضرمين القادرين أمثال أحمد أباظة في دور المعلم محمود، وحسين صبري في دور الشيخ مفرح، وأحمد عبد الهادي وفهمي الخولي في دور أمين وسليم عطا الله صاحبي المسرح الشامي، ووداد حمدي في دور بخاطرها التي برعت في ملاحقتها لسيد درويش بحبها المرفوض.
وأروع ما أحدثه محمد توفيق في إخراج هذه المسرحية استخدامه البارع المنقطع النظير للميكروفون، بحيث أَشْعَرَنَا — رغم الدوبلاج — أنَّ أصوات الغناء لم تكن تأتينا من خارج خشبة المسرح، بل ولا من خارج الممثلين، بل كانت تنبع منهم هم أنفسهم، وكأنه قد وَضَعَ هذا الميكروفون في فمهم أو على الأكثر داخل صدورهم.
وبالجملة؛ كان التوزيع الإذاعي الذي استخدمه محمد توفيق مثلًا يجب أن يدرسه كل من يتصدى للإخراج.
لقد كان صَبُّ سيرة حياة سيد درويش في قالب درامي مغامرةً جسيمة لصعوبة تذليلها لمقتضيات هذا الفن، الذي يقوم أساسًا على التركيز على أزمةٍ أو قطاع مُحدَّد من قطاعات الحياة.
ونجاحها يدلُّ على مقدرة فذة يشترك فيها صلاح طنطاوي ومحمد توفيق والنُّخبة الممتازة من الممثلين والممثلات الذين نهضوا بعبئها فشكرًا لهم جميعًا.